موسوعة الأخلاق والسلوك

حادِيَ عَشَرَ: أخطاءٌ شائعةٌ حولَ الرَّحمةِ


1-الاعتقادُ بأنَّ الرَّحمةَ مَطلوبةٌ في جميعِ الحالاتِ مندوبٌ إليها لجميعِ النَّاسِ، وهذا اعتقادٌ خَطَأٌ؛ فالرَّحمةُ قد لا تُحمَدُ في بعضِ الحالاتِ، ومن ذلك (توجيهُها لمن لا يستحِقُّها، كالرَّحمةِ التي تستدعي كفَّ العِقابِ عن الظَّالِمين الذين يجعَلُهم العَفوُ عنهم يتمادَون في طغيانِهم وظُلمِهم، وكرَحمةِ الأمِّ الرَّعناءِ التي تهمِلُ تأديبَ وَلَدِها مهما أساء، حتى تُفسِدَه، وتجعَلَ منه إنسانًا مجرِمًا؛ ولذلك كانت للرَّحمةِ جوانِبُ خيرٍ وجوانِبُ شَرٍّ) [4161] ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) (2/7). وينظر ما سبق في أقسامِ الرَّحمةِ. .
2- (قد تأخُذُ الرَّحمةُ الحقَّةُ طابَعَ القسوةِ وليست كذلك: إنَّ الأطفالَ عندما يساقون إلى المدارِسِ كُرهًا، ويحفَظون الدُّروسَ زَجرًا، ولو تُرِكوا وأهواءَهم لقَتلَهم اللَّهوُ واللَّعِبُ، ولشبُّوا لا يحسِنون صُنعًا؛ ولذلك قال الشَّاعِرُ:
فقسا ليزدَجِروا ومن يكُ راحِمًا
فليَقْسُ أحيانًا على مَن يَرحَمُ
والطَّبيبُ عندما يُجري بالجِسمِ جراحةً يستخدِمُ مِبضَعةً لتمزيقِ اللَّحمِ، وقد يُضطَرُّ لتهشيمِ العِظامِ وبترِ أعضاءٍ، وما يفعَلُ ذلك إلَّا رحمةً بالمريضِ! فليست الرَّحمةُ حنانًا لا عَقلَ معه، أو شَفَقةً تتنكَّرُ للعَدلِ والنِّظامِ. كلَّا إنَّها عاطفةٌ ترعى هذه الحقوقَ جميعًا) [4162] ((خلق المسلم)) لمحمد الغزالي (ص: 193). .
وقد يظُنُّ البعضُ أنَّ الرَّحمةَ التي في قُلوبِ المُؤمِنين تتعارَضُ مع مظاهِرِ الشِّدَّةِ على الكُفَّارِ، وهذا خطَأٌ، وذلك لأنَّ الغايةَ من هذه الشِّدَّةِ تحقيقُ أهدافِ الرَّحمةِ الحقيقيَّةِ العامَّةِ؛ فالشِّدَّةُ على أهلِ الشَّرِّ تمنَعُ شُرورَهم، ومَنعُ الشُّرورِ هو من أهَمِّ الأمورِ العظيمةِ التي تستدعيها الرَّحمةُ.
أمَّا الرَّحمةُ الحَمقاءُ فقد تُفضي إلى عكسِ ما توجِبُه الرَّحمةُ، إنَّها قد تُسَبِّبُ للمريضِ الهلاكَ، وتُسَبِّبُ للناشئِ الفسادَ، وتُسَبِّبُ للمجتَمَعِ القَلقَ والاضطرابَ والانهيارَ والفسادَ العامَّ.
إذَنْ فلا تَنافيَ مُطلَقًا بَيْنَ الرَّحمةِ العاقِلةِ والشِّدَّةِ في مواضِعِ الضَّرورةِ [4163] ((الأخلاق الإسلامية)) لحبنكة (2/119). .
2- الاعتقادُ بأنَّ الرَّحمةَ غيرُ مُستَحَّقةٍ للعُصاةِ، وأنَّ بُغضَ المعصيةِ لا يستقيمُ معه رحمةُ من عصى وأذنَب، وهذا اعتقادٌ خَطَأٌ، وقد رُوِيَ (أنَّ أبا الدَّرداءِ مَرَّ على رجُلٍ قد أصاب ذنبًا، فكانوا يسبُّونَه، فقال: أرأيتُم لو وجَدتُموه في قَليبٍ، ألم تكونوا مُستخرِجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تَسُبُّوا أخاكم، واحمَدوا اللهَ الذي عافاكم، قالوا: أفلا تُبغِضُه؟ قال: إنَّما أبغِضُ عَمَلَه، فإذا تركَه فهو أخي) [4164] أخرجه معمر في جامعه (20267)، وأبو داود في الزهد (232)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 225). .
وقال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر: 53] قال ابنُ تَيميَّةَ: (فيه نهيٌ عن القُنوطِ مِن رحمةِ اللهِ تعالى وإن عَظُمت الذُّنوبُ وكَثُرت، فلا يحِلُّ لأحَدٍ أن يَقنَطَ من رحمةِ اللهِ وإن عَظُمَت ذنوبُه، ولا أن يُقَنِّطَ النَّاسَ مِن رَحمةِ اللهِ. قال بعضُ السَّلَفِ: إنَّ الفقيهَ كُلَّ الفقيهِ الذي لا يُؤيِسُ النَّاسَ من رحمةِ اللهِ، ولا يجَرِّئُهم على معاصي اللهِ) [4165] ((مجموع الفتاوى)) (16/ 19). .
2- ليست الرَّحمةُ خُلُقَ ضَعفٍ كما يزعُمُ بعضُ الزَّاعمينَ؛ لأنَّ الرَّحمةَ الأصيلةَ هي التي تنبَعِثُ عن قُدرةٍ ذاتيَّةٍ تستطيعُ أن تكونَ حازمةً وصارِمةً، ولكِنَّها تُقدِّرُ الظُّروفَ وتشعُرُ بالمشاركةِ الوجدانيَّةِ، فتتنازَلُ عن بعضِ حَقِّها عن طِيبِ خاطِرٍ، وتترفَّقُ بمن يستحِقُّ التَّرفُّقَ واللِّينَ، فهي في الواقِعِ قوَّتانِ لا قوَّةٌ واحدةٌ: قُوَّةُ الاقتدارِ، ثمَّ قُوَّةُ التَّحكُّمِ في النَّفسِ لحَملِها على أن تَرحَمَ، وقد كانت قادرةً على أن تقسوَ وتُعَنِّفَ [4166] ((أخلاق القرآن)) للشرباصي (1/123). .

انظر أيضا: