موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ


- عن أبي مسعودٍ البَدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ ممَّا أدرك النَّاسُ من كلامِ النُّبُوَّةِ الأولى: إذا لم تستَحِ فاصنَعْ ما شِئتَ)) [3873] رواه البخاري (6120). .
قال الخطَّابيُّ: (معنى قولِه: ((النُّبُوَّة الأُولى)): أنَّ الحَياءَ لم يَزَلْ أمرُه ثابتًا، واستِعمالُه واجبًا منذُ زَمانِ النُّبُوَّةِ الأُولى، وأنَّه ما من نبيٍّ إلَّا وقد نَدَب إلى الحَياءِ وبَعَث عليه، وأنَّه لم يُنسَخْ فيما نُسِخ من شرائِعِهم، ولم يُبَدَّلْ فيما بُدِّل منها) [3874] ((معالم السنن)) (4/109). .
والحديثُ فيه تفسيرانِ: أحَدُهما: أنَّه على التَّهديدِ والوعيدِ، والمعنى: مَن لم يستَحِ فإنَّه يصنَعُ ما شاء من القبائِحِ؛ إذ الحامِلُ على تركِها الحَياءُ، فإذا لم يكُنْ هناك حَياءٌ نزَعَه من القبائِحِ، فإنَّه يواقِعُها، وهذا تفسيرُ أبي عُبَيدةَ. والثَّاني: أنَّ الفِعلَ إذا لم تستَحِ فيه من اللهِ فافعَلْه، وإنَّما الذي ينبغي تركُه ما يُستَحى منه من اللهِ، وهذا تفسيرُ الإمامِ أحمدَ في روايةِ ابنِ هانئٍ؛ فعلى الأوَّلِ: يكونُ تهديدًا، كقولِه: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت:40] ، وعلى الثَّاني: يكونُ إذنًا وإباحةً، فإن قيل: فهل من سبيلٍ إلى حملِه على المعنيَينِ؟ قلتُ: لا، ولا على قولِ من يحمِلُ المشتَرَكَ على جميعِ معانيه؛ لِما بَينَ الإباحةِ والتَّهديدِ من المنافاةِ، ولكِنَّ اعتبارَ أحَدِ المعنيَينِ يوجِبُ اعتبارَ الآخَرِ [3875] ((الجواب الكافي)) (ص: 69-70). .
 - وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الإيمانُ بِضعٌ وسَبعونَ -أو بِضعٌ وسِتُّونَ- شُعبةً، فأفضَلُها قَولُ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ، والحياءُ شُعبةٌ مِنَ الإيمانِ)) [3876] رواه مسلم (35). .
قال الخطَّابيُّ: (معنى قولِه: ((الحَياءُ شُعبةٌ من الإيمانِ)) أنَّ الحَياءَ يقطَعُ صاحِبَه عن المعاصي ويحجُزُه عنها، فصار بذلك من الإيمانِ) [3877] ((معالم السنن)) (4/312). .
و(إنَّما أفرد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذه الخَصلةَ من خِصالِ الإيمانِ في هذا الحديثِ، وخَصَّها بالذِّكرِ دونَ غيرِها من باقي شُعَبِ الإيمانِ؛ لأنَّ الحَياءَ كالدَّاعي إلى باقي الشُّعَبِ؛ فإنَّ صاحِبَ الحَياءِ يخافُ فضيحةَ الدُّنيا والآخرةِ، فيأتَمِرُ وينزَجِرُ، فلمَّا كان الحَياءُ كالسَّبَبِ لفِعلِ باقي الشُّعَبِ خُصَّ بالذِّكرِ ولم يُذكَرْ غَيرُه معه) [3878] ((المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية)) للسفيري (1/365). .
وقال السَّعديُّ: (لعَلَّ ذِكرَ الحَياءِ؛ لأنَّه السَّبَبُ الأقوى للقيامِ بجميعِ شُعَبِ الإيمانِ؛ فإنَّ من استحيا من اللهِ لتواتُرِ نِعَمِه، وسوابِغِ كرَمِه، وتجلِّيه عليه بأسمائِه الحُسنى -والعبدُ مع هذا كثيرُ التَّقصيرِ مع هذا الرَّبِّ الجليلِ الكبيرِ، يظلِمُ نفسَه ويجني عليها- أوجَب له هذا الحَياءُ التَّوقِّيَ من الجرائمِ، والقيامَ بالواجِباتِ والمُستحبَّاتِ) [3879] ((بهجة قلوب الأبرار)) (ص: 179). .
- وعن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الحَياءُ لا يأتي إلَّا بخيرٍ)) [3880] رواه البخاري (6117)، ومسلم (37). .
قال ابنُ بطَّالٍ: (معناه: أنَّ من استحيا من النَّاسِ أن يرَوه يأتي الفُجورَ ويرتَكِبُ المحارِمَ، فذلك داعيةٌ له إلى أن يكونَ أشَدَّ حَياءً من رَبِّه وخالقِه، ومن استحيا من رَبِّه فإنَّ حَياءَه زاجِرٌ له عن تضييعِ فرائِضِه وركوبِ معاصيه؛ لأنَّ كُلَّ ذي فِطرةٍ صحيحةٍ يعلَمُ أنَّ اللهَ تعالى النَّافِعُ له والضَّارُّ والرَّزَّاقُ والمُحيي والمُميتُ، فإذا عَلِمَ ذلك فينبغي له أن يستحييَ منه عزَّ وجَلَّ) [3881] ((شرح صحيح البخاري)) (9/297). .
وقال ابنُ رَجَبٍ: (... "الحَياءُ لا يأتي إلَّا بخيرٍ": فإنَّه يكُفُّ عن ارتكابِ القبائِحِ ودناءةِ الأخلاقِ، ويحُثُّ على استعمالِ مكارِمِ الأخلاقِ ومعاليها) [3882] ((جامع العلوم والحكم)) (1/501). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (إذا صار الحَياءُ عادةً، وتخلَّق به صاحِبُه، يكونُ سَبَبًا يجلِبُ الخيرَ إليه، فيكونُ منه الخيرُ بالذَّاتِ والسَّبَبِ) [3883] ((فتح الباري)) (10/522). .
فالحَياءُ فضيلةٌ من فضائِلِ الفِطرةِ، وهو مادَّةُ الخيرِ والفضيلةِ، وبهذا وصَفه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقولِه: ((الحَياءُ خيرٌ كُلُّه)) [3884] رواه مسلم (37) من حديثِ عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
- وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مرَّ على رجُلٍ، وهو يعاتِبُ أخاه في الحَياءِ، يقولُ: إنَّك لتستحيى حتَّى كأنَّه يقولُ: قد أضَرَّ بك، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: دَعْه؛ فإنَّ الحَياءَ من الإيمانِ)) [3885] رواه البخاري (6118) واللفظ له، ومسلم (36). .
قال ابنُ بطَّالٍ: (معناه: أنَّ الحَياءَ من أسبابِ الإيمانِ وأخلاقِ أهلِه؛ وذلك أنَّه لَمَّا كان الحَياءُ يمنَعُ من الفواحِشِ، ويحمِلُ على الصَّبرِ والخيرِ، كما يمنَعُ الإيمانُ صاحِبَه من الفُجورِ، ويقيِّدُه عن المعاصي، ويحمِلُه على الطَّاعةِ- صار كالإيمانِ لمساواتِه له في ذلك، وإن كان الحَياءُ غريزةً، والإيمانُ فِعلُ المؤمِنِ، فاشتبَها من هذه الجِهةِ) [3886] ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/298). .
- وعن أبي واقدٍ اللَّيثيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بينما هو جالِسٌ في المسجِدِ والنَّاسُ معه إذ أقبل ثلاثةُ نَفَرٍ، فأقبل اثنانِ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وذهَب واحِدٌ، قال: فوقفا على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأمَّا أحَدُهما فرأى فُرجةً في الحَلقةِ فجلس فيها، وأمَّا الآخَرُ فجلس خلْفَهم، وأمَّا الثَّالثُ: فأدبر ذاهِبًا، فلمَّا فرغ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ألا أخبِرُكم عن النَّفَرِ الثَّلاثةِ؟ أمَّا أحدُهم فأوى إلى اللهِ فآواه اللهُ، وأمَّا الآخَرُ فاستحيا فاستحيا اللهُ منه، وأمَّا الآخَرُ فأعرَض فأعرَض اللهُ عنه)) [3887] أخرجه البخاري (66)، ومسلم (2176). .
قال القاضي عِياضٌ: («وأمَّا الآخَرُ فاستحيا»: أي: ترَك المزاحمةَ والتَّخطِّيَ كما فعَل الآخَرُ؛ حَياءً من النَّبيِّ وممَّن حضر، أو استحيا من النَّبيِّ أن يُعرِضَ ويذهَبَ كما فعَل الآخَرُ) [3888] ((إكمال المعلم)) (7/67). .
وقال أبو العبَّاسِ القُرطبيُّ: (قولُه: «وأمَّا الآخَرُ فاستحيا فاستحيا اللهُ منه»، كأنَّ هذا الثَّالِثَ كان متمَكِّنًا من المزاحمةِ؛ إذ لو شرَع فيها لفُسِح له؛ لأنَّ التَّفسُّحَ في المجلِسِ مأمورٌ به مندوبٌ إليه، لكنْ منَعه من ذلك الحَياءُ، فجلس خَلْفَ الصَّفِّ الأوَّلِ، ففاتَتْه فضيلةُ التَّقدُّمِ) [3889] ((المفهم)) (18/13). .

انظر أيضا: