موسوعة الآداب الشرعية

ثالثًا: الاحتِسابُ


مِن أدَبِ الإنفاقِ: أن يَحتَسِبَ المُسلمُ نَفقَتَه [42] قال ابنُ حَجَرٍ: (أصلُ الحِسبةِ -بالكَسرِ- الأُجرةُ. والاحتِسابُ: طَلَبُ الأجرِ مِنَ اللهِ تعالى خالصًا). ((فتح الباري)) (11/ 242، 243). وقال ابنُ الأثيرِ: (الاحتِسابُ في الأعمالِ الصَّالحةِ، وعِندَ المَكروهاتِ هو البِدارُ إلى طَلَبِ الأجرِ وتَحصيلِه بالتَّسليمِ والصَّبرِ، أو باستِعمالِ أنواعِ البرِّ ومُراعاتِها، والقيامِ بها على الوَجهِ المَرسومِ فيها طَلبًا للثَّوابِ المَرجوِّ مِنها. ومِنه يُقالُ: احتَسَبَ فلانٌ ابنًا له: إذا ماتَ كَبيرًا، وافتَرَطَه: إذا ماتَ صَغيرًا، ومَعناه: اعتَدَّ مُصيبَتَه به في جُملةِ بَلايا اللَّهِ التي يُثابُ على الصَّبرِ عليها، وجَعَل أجرَه له عِندَ اللهِ ذَخيرةً). يُنظر: ((النهاية)) (1/ 382)، ((جامع الأصول)) (2/ 583). ؛ ليَنالَ أجرَها.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن عَمرِو بنِ أُمَيَّةَ، قال: مَرَّ عُثمانُ بنُ عَفَّانَ -أو عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ عَوفٍ- بمِرطٍ [43] المِرْطُ: واحِدُ المُروطِ، وهيَ أكسيةٌ مِن صوفٍ أو خَزٍّ أو كَتَّانٍ كان يؤتزَرُ بها، وتَتَلفَّعُ بها المَرأةُ وتَشتَمِلُ كالمِلحَفةِ. يُنظر: ((تَهذيب اللُّغةِ)) للأزهَريِّ (2/ 244)، ((الصِّحاح)) للجَوهَريِّ (3/ 1159)، ((المُعجَم الوسيط)) (2/ 864). فاستَغلاه، فمُرَّ به على عَمرِو بنِ أُميَّةَ فاشتَراه، فكَساه امرَأتَه سُخَيلةَ بنتَ عُبَيدةَ بنِ الحارِثِ بنِ المُطَّلِبِ، فمَرَّ به عُثمانُ -أو عَبدُ الرَّحمَنِ- فقال: ما فَعَل المِرطُ الذي ابتَعتَ؟ قال عَمرٌو: تَصَدَّقَتُ به على سُخَيلةَ بنتِ عُبَيدةَ. فقال: إنَّ كُلَّ ما صَنَعتَ إلى أهلِك صَدَقةٌ؟ قال عَمرٌو: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ ذاكَ، فذُكِر ما قال عَمرٌو لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ((صَدَق عَمرٌو، كُلُّ ما صَنَعتَ إلى أهلِك فهو صَدَقةٌ عليهم)) [44] أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (9140) مُختَصَرًا، وابن حبان (4237)، وأبو يعلى (6877) واللَّفظُ له. حَسَّنه السُّيوطيُّ في ((الجامع الصغير)) (6321)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (4546).  وذَهَبَ إلى تَصحيحِه ابنُ حبان. وأخرجه مِن طَريقٍ آخَرَ: أحمَد (17617) مُختَصَرًا، ولفظُه: عن عَمرِو بنِ أُميَّةَ، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((ما أعطى الرَّجُلُ امرَأتَه فهو صَدَقةٌ)). صَحَّحه لغَيرِه الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (1962)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17617)، وحَسَّنه السُّيوطيُّ في ((الجامع الصغير)) (7808). .
2- عن أبي مَسعودٍ البَدريِّ، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((إنَّ المُسلمَ إذا أنفقَ على أهلِه نَفقةً وهو يَحتَسِبُها، كانت له صَدَقةً)) [45] أخرجه مسلم (1002). .
قال النَّوويُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إنَّ المُسلمَ إذا أنفَقَ على أهلِه نَفَقةً يَحتَسِبُها كانت له صَدَقةً» فيه بَيانُ أنَّ المُرادَ بالصَّدَقةِ والنَّفقةِ المُطلَقةِ في باقي الأحاديثِ إذا احتَسَبَها، ومَعناه أرادَ بها وجهَ اللهِ تعالى، فلا يَدخُلُ فيه مَن أنفقَها ذاهلًا، ولكِن يَدخُلُ المُحتَسِبُ، وطَريقُه في الاحتِسابِ: أن يَتَذَكَّرَ أنَّه يَجِبُ عليه الإنفاقُ على الزَّوجةِ وأطفالِ أولادِه والمَملوكِ وغَيرِهم مِمَّن تَجِبُ نَفقَتُه، على حَسَبِ أحوالِهم واختِلافِ العُلَماءِ فيهم، وأنَّ غَيرَهم مِمَّن يُنفِقُ عليه مَندوبٌ إلى الإنفاقِ عليهم، فيُنفِقُ بنيَّةِ أداءِ ما أُمِر به، وقد أُمِرَ بالإحسانِ إليهم، واللهُ أعلَمُ) [46] ((شرح مسلم)) (7/ 88، 89). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (نَفَقةُ المَرءِ على نَفسِه وعيالِه أفضَلُ مِن نَفقَتِه على مَن لا تَلزَمُه نَفقَتُه؛ لأنَّ ذلك واجِبٌ، وما تَقرَّب العِبادُ إلى اللهِ بمِثلِ أداءِ ما افتَرَضَ عليهم ...
ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ يَفعَلونَ ذلك طَبعًا وعادةً لا يَبتَغونَ به وَجهَ اللهِ تعالى، كما يَفعَلونَ في قَضاءِ الدُّيونِ مِن أثمانِ المَبيعاتِ والقُروضِ وغَيرِ ذلك مِنَ المُعاوَضاتِ والحُقوقِ، وهذه كُلُّها واجِباتٌ، فمَن فعَلها ابتِغاءَ وَجهِ اللهِ كان له عليها مِنَ الأجرِ أعظَمُ مِن أجرِ المُتَصَدِّقِ نافِلةً. لكِن يَتَصَدَّقُ أحَدُهم بالشَّيءِ اليَسيرِ على المِسكينِ وابنِ السَّبيلِ ونَحوِ ذلك لوَجهِ اللهِ تعالى، فيَجِدُ طَعمَ الإيمانِ والعِبادةِ للَّهِ، ويُعطي في هذه أُلوفًا فلا يَجِدُ في ذلك طَعمَ الإيمانِ والعِبادةِ؛ لأنَّه لم يُنفِقْه ابتِغاءَ وَجهِ اللهِ.
فمِن هذا الوَجهِ صارَ في عُرفِهم أنَّ هذه النَّفقاتِ التي لا بُدَّ مِنها ليسَت عِبادةً، وقد لا يَستَشعِرونَ إيجابَ الشَّارِعِ لها، وإنَّما يَستَشعِرُ أحَدُهم ما في تَركِه مِنَ المَضرَّةِ العاجِلةِ، إمَّا في نَفسِه وإمَّا مِن جِهةِ الخَلقِ؛ فإنَّهم لا يَترُكونَ حُقوقَهم، فهو يَفعَلُها لرَغبَتِهم ورَهبَتِهم، وللعادةِ التي هو عليها، وقد يَفعَلُها مَحَبَّةً للحَقِّ ورَغبةً فيه مِن غَيرِ أن يَرجوَ أحَدًا ولا يَخافَه، ومِن غَيرِ أن يَفعَلَها تَعبُّدًا. وهذا حَسَنٌ لا بَأسَ به؛ فإنَّ مَن فَعَل الحَسَناتِ لأنَّها حَسَناتٌ نَفَعه ذلك، كَما يَنفعُ الحَيَوانَ أكلُه وشُربُه، لكِن لا يَكونُ عِبادةً للهِ. بخِلافِ مَن لا يَفعَلُه إلَّا خَوفًا مِنَ الخَلقِ؛ فإنَّ هذا مَذمومٌ.
ولهذا لمَّا قيل للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: الرَّجُلُ يُقاتِلُ شُجاعةً ويُقاتِلُ حَميَّةً ويُقاتِلُ ليُريَ مَكانَه، فأيُّ ذلك في سَبيلِ اللهِ؟ فقال: «مَن قاتَل لتَكونَ كَلِمةُ اللهِ هيَ العُليا فهو في سَبيلِ اللهِ» [47] أخرجه البخاري (7458)، ومسلم (1904) بنحوه. . وهذا يَكونُ في القِتالِ باليَدِ واللِّسانِ وإنفاقِ المالِ، وذلك كُلُّه يَكونُ جِهادًا، لكِن ما ليسَ في سَبيلِ اللهِ مِنه ما لا يُعاقَبُ عليه المَرءُ، ومِنه ما يُعاقَبُ عليه.
والمَقصودُ هنا: أنَّ هذه الأُمورَ العاديَّةَ المُباحةَ تُفعَلُ لمَحَبَّةٍ وهَوًى وإرادةٍ، فإن كان ذلك يُستَعانُ بها على عِبادةِ اللهِ كانت طاعةً وعِبادةً، وإن كان ذلك لمُجَرَّدِ العادةِ والطَّبعِ على الوَجهِ الحَقِّ لم يَكُنْ ذلك مَعصيةً ولا إثمًا، وإن لم يَقصِدْ بها صاحِبُها العِبادةَ للَّهِ) [48] ((جواب الاعتراضات المصرية)) (ص: 94 - 96). .

انظر أيضا: