فوائِدُ ومَسائِلُ:
1-قال ابنُ المُقَفَّعِ: (وِلايةُ النَّاسِ بَلاءٌ عَظيمٌ، وعلى الوالي أربَعُ خِصالٍ هيَ أعمِدةُ السُّلطانِ وأركانُه التي بها يَقومُ وعليها يَثبُتُ: الِاجتِهادُ في التَّخَيُّرِ، والمُبالَغةُ في التَّقدُّمِ، والتَّعَهُّدُ الشَّديدُ، والجَزاءُ العَتيدُ.
فأمَّا التَّخَيُّرُ للعُمَّالِ والوُزَراءِ: فإنَّه نِظامُ الأمرِ، ووَضعُ مَؤونةِ البَعيدِ المُنتَشِرِ؛ فإنَّه عَسى أن يَكونَ بتَخَيُّرِه رَجُلًا واحِدًا قدِ اختارَ ألفًا؛ لأنَّه مَن كان مِنَ العُمَّالِ خِيارًا فسَيَختارُ كَما اختِيرَ. ولَعَلَّ عُمَّالَ العامِلِ وعُمَّالَ عُمَّالِه يَبلُغونَ عَدَدًا كَثيرًا. فمَن تَبَيَّن التَّخَيُّرَ فقد أخَذَ بسَبَبٍ وثيقٍ، ومَن أسَّس أمرَه على غَيرِ ذلك لَم يَجِدْ لبُنيانِه قِوامًا
[14] قِوامُ الأمرِ- بالكَسرِ: نِظامُه وعِمادُه، يُقالُ: فُلانٌ قِوامُ أهلِ بَيتِه وقيامُ أهلِ بَيتِه، وهو الذى يُقيمُ شَأنَهم، وقِوامُ الأمرِ أيضًا: مِلَاكُه الذى يَقومُ به. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (5/ 2017، 2018). .
وأمَّا التَّقديمُ والتَّوكيدُ: فإنَّه لَيسَ كُلُّ ذي لُبٍّ أو ذي أمانةٍ يَعرِفُ وُجوهَ الأُمورِ والأعمالِ، ولَو كان بذلك عارِفًا لَم يَكُنْ صاحِبُه حَقيقًا أن يَكِلَ ذلك إلى عِلمِه دونَ تَوقيفِه عليه وتَبيينِه لَه والِاحتِجاجِ عليه به.
وأمَّا التَّعَهُّدُ: فإنَّ الواليَ إذا فعَلَ ذلك كان سَميعًا بَصيرًا، وإنَّ العامِلَ إذا فعَلَ ذلك به كان مُتَحَصِّنًا حَريزًا.
وأمَّا الجَزاءُ: فإنَّه تَثبيتُ المُحسِنِ، والرَّاحةُ مِنَ المُسيءِ.
لا يُستَطاعُ السُّلطانُ إلَّا بالوُزَراءِ والأعوانِ، ولا يَنفعُ الوُزَراءُ إلَّا بالمَودَّةِ والنَّصيحةِ، ولا المَودَّةُ إلَّا مَعَ الرَّأيِ والعَفافِ.
وأعمالُ السُّلطانِ كَثيرةٌ، وقَليلٌ ما تُستَجمَعُ الخِصالُ المَحمودةُ عِندَ أحَدٍ، وإنَّما الوَجهُ في ذلك والسَّبيلُ الذي به يَستَقيمُ العَمَلُ أن يَكونَ صاحِبُ السُّلطانِ عالِمًا بأُمورِ مَن يُريدُ الِاستِعانةَ به، وما عِندَ كُلِّ رَجُلٍ مِنَ الرَّأيِ والغَناءِ، وما فيه مِنَ العُيوبِ.
فإذا استَقَرَّ ذلك عِندَه عن عِلمِه وعِلمِ مَن يَأتَمِنُ، وَجَّه لكُلِّ عَمَلٍ مَن قد عَرَف أنَّ عِندَه مِنَ الرَّأيِ والنَّجدةِ والأمانةِ ما يَحتاجُ إليه فيه، وأنَّ ما فيه مِنَ العُيوبِ لا يَضُرُّ بذلك. ويَتَحَفَّظُ مِن أن يوجِّهَ أحَدًا وجهًا لا يَحتاجُ فيه إلى مُروءةٍ إن كانت عِندَه، ولا يَأمَنُ عُيوبَه وما يَكرَهُ مِنه.
ثُمَّ على المُلوكِ بَعدَ ذلك تَعَهُّدُ عُمَّالِهم وتَفَقُّدُ أُمورِهم؛ حتَّى لا يَخفى عليهم إحسانُ مُحسِنٍ، ولا إساءةُ مُسيءٍ.
ثُمَّ عليهم بَعدَ ذلك ألَّا يَترُكوا مُحسِنًا بغَيرِ جَزاءٍ، ولا يُقِرُّوا مُسيئًا ولا عاجِزًا على الإساءةِ والعَجزِ. فإنَّهم إن تَرَكوا ذلك تَهاونَ المُحسِنُ، واجتَرَأ المُسيءُ، وفسَدَ الأمرُ، وضاعَ العَمَلُ)
[15] ((الأدب الصغير)) (ص: 34-37). .
2-قال الرَّبيعُ للمَنصورِ: إن لفُلانٍ حَقًّا، فإن رَأيتَ أن تَقضيَه فتُوَلِّيَه ناحيةً. فقال: (يا رَبيعُ، إنَّ لاتِّصالِه بنا حَقًّا في أموالِنا لا في أعراضِ المُسلِمينَ ولا أموالِهم، إنَّا لا نُوَلِّي للحُرمةِ والرِّعايةِ بَل للِاستِحقاقِ والكِفايةِ، ولا نُؤثِرُ ذا النَّسَبِ والقَرابةِ على ذي الدِّرايةِ والكِتابةِ، فمَن كان مِنكُم كَما وصَفنا شارَكناه في أعمالِنا، ومَن كان عُطلًا لَم يَكُنْ لَنا عُذرٌ عِندَ النَّاسِ في تَوليَتِنا إيَّاه، وكان العُذرُ في تَركِنا لَه، وفي خاصِّ أموالِنا ما يَسَعُهـ)
[16] ((نثر الدر)) للآبي (3/ 62). .
3-قال مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ الوهَّابِ الأعرَجُ: (عليه أي السلطان أن يَستَعينَ في الأعمالِ بكفاةِ العُمَّالِ، وفي المُهمَّاتِ الثِّقالِ بأجلادِ الرِّجالِ، فيُفوِّضَ كُلَّ عَمَلٍ إلى مَن قدَّمَته قدَمٌ راسِخةٌ في مَعرِفتِه، وأيَّدَته يَدٌ باسِطةٌ في دِرايَتِه وتَجرِبَتِه، ولا يُفوِّضَ عَمَلَ عالمٍ إلى جاهلٍ، ولا عَمَلَ نَبيهٍ إلى خامِلٍ، ولا عَمَلَ مُتَيَقِّظٍ إلى غافِلٍ، ولا عَمَلَ ذي جِبِلَّةٍ إلى عاطِلٍ، فإن غَفلَ عن ذلك فقد باعَ حَقًّا بباطِلٍ، وسَلَّطَ على دَولَتِه لسانَ كُلِّ قائِلٍ.
ومِنَ الحِكَمِ الباهرةِ: مَنِ استَعانَ في عَمَلِه بغَيرِ كُفُؤٍ أضاعَه، ومَن فوَّضَ أمرَه إلى عاجِزٍ عنه فقد أفسَدَ أوضاعَه.
وليَحذَرْ كُلَّ الحَذَرِ مِن أن يولِّيَ أحَدَ الخَلقِ أمرًا دينيًّا أو دُنيَويًّا بشَفاعةٍ أو رِعايةٍ لحُرمةٍ، أو لقَضاءِ الحَقِّ إذا لَم يَكُنْ أهلًا للوِلايةِ ولا ناهضًا تَحصُلُ بتَقليدِه الكِفايةُ، فإن أحَبَّ مكافأةَ مَن هذه صِفَتُه كافأه بالمالِ والصِّلاتِ، وقَطَعَ طَمَعَه عَمَّا لا يَصلُحُ لَه مِنَ الوِلاياتِ؛ ليَكونَ قاضيًا لحَقِّه بمالِه لا بمَملَكَتِه، قائِمًا بما لا بُدَّ مِنه مِن حُقوقِ وِلايَتِهـ)
[17] ((تحرير السلوك في تدبير الملوك)) (ص: 36). .
4-قال الذَّهَبيُّ في ترجمةِ أبي المعالي هِبةِ اللهِ بنِ الصَّاحِبِ أبي عليٍّ الحسَنِ بنِ هِبةِ اللهِ بنِ الحَسَنِ بنِ الدَّواميِّ البغداديِّ: (وليَ هِبةُ اللهِ واسِطَ، ثمَّ صُرِفَ للِينِه وجَودتِه، فكَتَب فيه الخليفةُ: يُلحَقُ الثِّقةُ العاجِزُ، بالخائِنِ الجَلْدِ! فلَزِمَ دارَه في تعَبُّدٍ وخيرٍ وبِرٍّ)
[18] ((سير أعلام النبلاء)) (23/ 230). .
5- قال ابنُ تَيميَّةَ: (اجتِماعُ القوَّةِ والأمانةِ في النَّاسِ قَليلٌ؛ ولِهذا كان عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه يَقولُ: "اللهُمَّ أشكو إليكَ جَلَدَ الفاجِرِ وعَجزَ الثِّقةِ".
فالواجِبُ في كُلِّ ولايةٍ الأصلَحُ بحسَبِها، فإذا تعيَّن رجلانِ أحَدُهما أعظَمُ أمانةً، والآخَرُ أعظَمُ قُوَّةً؛ قُدِّم أنفَعُهما لتلك الولايةِ وأقَلُّهما ضررًا فيها، فيُقَدَّمُ في إمارةِ الحُروبِ الرَّجُلُ القَويُّ الشُّجاعُ وإن كان فيه فُجورٌ، على الرَّجُلِ الضَّعيفِ العاجِزِ وإن كان أمينًا، كما سُئِل الإمامُ أحمدُ عن الرَّجُلينِ يكونانِ أميرَينِ في الغَزْوِ، وأحَدُهما قويٌّ فاجِرٌ، والآخَرُ صالحٌ ضعيفٌ، مع أيِّهما يُغزى؟ فقال: أمَّا الفاجِرُ القَويُّ فقُوَّتُه للمُسلِمين، وفجورُه على نَفسِه، وأمَّا الصَّالحُ الضَّعيفُ فصلاحُه لنَفسِه، وضَعفُه على المُسلِمين، فيُغزى مع القَويِّ الفاجِرِ، وقد قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هذا الدِّينَ بالرَّجُلِ الفاجِرِ»
[19] أخرجه البخاري (3062)، ومسلم (111) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وإنْ لم يكُنْ فاجِرًا كان أَولى بإمارةِ الحَربِ ممَّن هو أصلَحُ منه في الدِّينِ، إذا لم يَسُدَّ مسَدَّه؛ ولِهذا كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَستَعمِلُ خالِدَ بنَ الوليدِ على الحَربِ مُنذُ أسلَمَ، مَعَ أنَّه أحيانًا قد كان يَعمَلُ ما يُنكِرُه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم... ومَعَ هذا فما زالَ يُقدِّمُه في إمارةِ الحَربِ؛ لأنَّه كان أصلَحَ في هذا البابِ مِن غَيرِه، وفَعَل ما فَعَلَ بنَوعِ تَأويلٍ، وكان أبو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أصلَحَ مِنه في الأمانةِ والصِّدقِ، ومَعَ هذا فقال لَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يا أبا ذَرٍّ، إنِّي أراكَ ضَعيفًا، وإنِّي أُحِبُّ لك ما أُحِبُّ لنَفسي: لا تَأَمَّرَنَّ على اثنَينِ، ولا تَوَلَّيَنَّ مالَ يَتيمٍ» رَواه مُسلِم
[20] أخرجه مسلم (1826). . نهى أبا ذَرٍّ عنِ الإمارةِ والوِلايةِ لأنَّه رَآه ضَعيفًا...
وإذا كانتِ الحاجةُ في الوِلايةِ إلى الأمانةِ أشَدَّ قُدِّمَ الأمينُ، مِثلُ حِفظِ الأموالِ ونَحوِها، فأمَّا استِخراجُها وحِفظُها فلا بُدَّ فيه مِن قوَّةٍ وأمانةٍ، فيولَّى عليها شادٌّ قَويٌّ يَستَخرِجُها بقوَّتِه، وكاتِبٌ أمينٌ يَحفظُها بخِبرَتِه وأمانَتِه، وكذلك في إمارةِ الحَربِ إذا أمَّرَ الأميرَ بمُشاورةِ أهلِ العِلمِ والدِّينِ جَمَعَ بَينَ المَصلَحَتَينِ، وهَكَذا في سائِرِ الوِلاياتِ إذا لم تَتِمَّ المَصلَحةُ برَجُلٍ واحِدٍ جَمَع بَينَ عَدَدٍ؛ فلا بُدَّ مِن تَرجيحِ الأصلَحِ، أو تَعَدُّدِ المُوَلَّى إذا لم تَقَعِ الكِفايةُ بواحِدٍ تامٍّ، ويُقدَّمُ في وِلايةِ القَضاءِ: الأعلَمُ الأورَعُ الأكفأُ...
ومَعَ أنَّه يَجوزُ تَوليةُ غَيرِ الأهلِ للضَّرورةِ إذا كان أصلَحَ المَوجودِ، فيَجِبُ مَعَ ذلك السَّعيُ في إصلاحِ الأحوالِ حتَّى يَكمُلَ في النَّاسِ ما لا بُدَّ لَهم مِنه مِن أُمورِ الوِلاياتِ والإماراتِ ونَحوِها؛ كَما يَجِبُ على المُعسِرِ السَّعيُ في وفاءِ دَينِه وإن كان في الحالِ لا يُطلَبُ مِنه إلَّا ما يَقدِرُ عليه، وكَما يَجِبُ الِاستِعدادُ للجِهادِ بإعدادِ القوَّةِ ورِباطِ الخَيلِ في وقتِ سُقوطِه للعَجزِ، فإنَّ ما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا به فهو واجِبٌ...
وأهمُّ ما في هذا البابِ مَعرِفةُ الأصلَحِ، وذلك إنَّما يَتِمُّ بمَعرِفةِ مَقصودِ الوِلايةِ ومَعرِفةِ طَريقِ المَقصودِ، فإذا عُرِفَتِ المَقاصِدُ والوسائِلُ تَمَّ الأمرُ)
[21] ((مجموع الفتاوى)) (28/ 254-260). .