ثانيًا: القوَّةُ في المَشيِ وتَركُ التَّماوُتِ
يُسَنُّ للقادِرِ أن يَكونَ في مِشيَتِه قوَّةٌ، دونَ تَماوُتِ العاجِزِ والكَسلانِ، وتَباطُؤِ المُتَبَختِرِ المُختالِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:1- عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أزهَرَ اللَّونِ، كَأنَّ عَرَقَه اللُّؤلُؤُ، إذا مَشى تَكفَّأَ
، ولا مَسِستُ ديباجةً ولا حَريرةً أليَنَ مِن كَفِّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا شَمِمتُ مِسكةً ولا عَنبرةً أطيَبَ مِن رائِحةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ))
.
وفي رِوايةٍ:
((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا مَشى كَأنَّه يَتَوكَّأُ))
.
قال عليٌّ القاريُّ: (يَتَكَفَّأُ: أي: يَتَمايَلُ إلى قُدَّامٍ، كالسَّفينةِ في جَريِها. وفي بَعضِ النُّسَخِ: «يَتَوكَّأُ»، أي يَعتَمِدُ، والمُرادُ التَّثَبُّتُ، وهذا لا يُنافي سُرعةَ المَشيِ بَل يُؤَيِّدُها، والحاصِلُ مِنهما أنَّ خُطواتِه كانت مُتَّسِعةً لا مُتَقارِبةً، كخُطواتِ المُختالينَ)
.
وقال أيضًا: (تَكَفَّأَ، بمَعنى: تَقَلَّعَ، أي: تَمايَلَ إلى أمامِه؛ ليَرفَعَه عنِ الأرضِ بكُلِّيَّتِه جُملةً واحِدةً، لا مَعَ اهتِزازٍ وتَكَسُّرٍ وجَرِّ رِجلٍ بالأرضِ على هَيئةِ المُتَماوِتِ أو مِشيةِ المُختالِ)
.
2- عن عليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه وصَف النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال:
((كان عَظيمَ الهامةِ
، أبيَضَ مُشرَبًا حُمرةً، عَظيمَ اللِّحيةِ، ضَخمَ الكَراديسِ
، شَثْنَ الكَفَّينِ والقدَمَينِ
، طَويلَ المَسرُبةِ
، كَثيرَ شَعرِ الرَّأسِ رَجِلَه، يَتَكَفَّأُ في مِشيَتِه كَأنَّما يَنحَدِرُ في صَبَبٍ، لا طَويلٌ ولا قَصيرٌ، لم أرَ مِثلَه قَبلَه ولا بَعدَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم))
.
قال البَغَويُّ: (تَكَفَّأَ: أي: تَمايَلَ إلى قُدَّامٍ، كَما تَتَكَفَّأُ السَّفينةُ في جَريِها. والصَّبَبُ: الحُدورُ، وهو ما انحَدَرَ مِنَ الأرضِ، وجَمعُه أصبابٌ، يُريدُ: أنَّه كان يَمشي مَشيًا قَويًّا، يَرفعُ رِجلَيه مِنَ الأرضِ رَفعًا بائِنًا، لا كَمَن يَمشي اختيالًا، ويُقارِبُ خُطاه تَنَعُّمًا)
.
3- عن سَعيدٍ الجُرَيريِّ، عن أبي الطُّفيلِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: رَأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قُلتُ: كَيف رَأيتَه؟ قال:
((كان أبيَضَ مَليحًا، إذا مَشى كَأنَّما يَهوي في صَبوبٍ))
.
وقَولُه:
((يَهوي)) مَعناه: يَنزِلُ ويَتَدَلَّى، وتلك مِشيةُ القَويِّ مِنَ الرِّجالِ.
قَولُه:
((في صَبوبٍ)) إن فُتِحَت الصَّادُ مِن صَبوبٍ كان اسمًا لِما يُصَبُّ على الإنسانِ مِن ماءٍ ونَحوِه، ومِمَّا جاءَ على وزنِه الطَّهورُ والغَسولُ والفَطورُ لِما يُفطَرُ. وإن ضُمَّتِ الصَّادُ فهو جَمعُ صَبَبٍ، وهو ما انحَدَرَ مِنَ الأرضِ. وقيل: الصَّبَبُ والصُّبوبُ: تَصَوُّبُ نَهرٍ أو طَريقٍ
.
(فالمَعنى كَأنَّما يَنزِلُ مِن عُلوٍ إلى سُفلٍ فإنَّه حينَئِذٍ يَكونُ المَشيُ بقوَّةٍ، لكِن لا بإبطاءٍ ولا بسُرعةٍ)
.
(وعلى جَميعِ التقاديرِ فالمَقصودُ أنَّ مَشيَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان على سَبيلِ القوَّةِ وعلى وَجهِ التَّواضُعِ لا على طَريقِ التَّكَبُّرِ والخُيَلاءِ، قال تعالى:
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان: 63] ، وقال عَزَّ وجَلَّ:
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ [لقمان: 19] ، أي: تَوسَّطْ بَينَ الإسراعِ والتَّواني)
.
فوائِدُ ومَسائِلُ:1- قال الغَزِّيُّ: (الذي تَلخَّص مِنَ الآياتِ والأحاديثِ: أنَّ الأدَبَ في المَشيِ الاقتِصادُ والتَّوسُّطُ بَينَ الإسراعِ الحَثيثِ، وبَينَ التَّماوُتِ والاختيالِ.
وقد يَحسُنُ أحَدُ الطَّرَفينِ كالاختيالِ في الحَربِ، وكالإسراعِ إلى حُضورِ جَنائِزِ الصَّالحينَ خَشيةَ الفَواتِ.
ومِن هذا القَبيلِ قَولُ الشَّيخِ جَلالِ الدِّينِ السُّيوطيِّ رَحِمَه اللهُ تعالى:
حَدَّثَنا شَيخُنا الكِنانيُّ
عن أَبِهِ صاحِبِ الخَطابَهْ
أسرِعْ أخا العِلمِ في ثَلاثٍ
الأكلِ والمَشيِ والكِتابَهْ)
.
2- قال أبو إسماعيلَ الأنصاريُّ الهَرَويُّ: (المُحَدِّثُ يَجِبُ أن يَكونَ سَريعَ المَشيِ، سَريعَ الكِتابةِ، سَريعَ القِراءةِ)
.
3- يُروى عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّه كان يُسرِعُ في المَشيِ
، ويَقولُ: (هذا أبعَدُ مِنَ الزَّهوِ، وأسرَعُ في الحاجةِ)
.