فَوائِدُ مُتَفَرِّقةٌ
لا يَعبُرُ الرُّؤيا كُلُّ أحَدٍلا يَنبَغي أن يَعبُرَ الرُّؤيا جاهلٌ بها؛ فإنَّ الرُّؤيا جُزءٌ مِن أجزاءِ النُّبوَّةِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:1- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((إذا اقتَرَبَ الزَّمانُ لم تَكَدْ رُؤيا المُسلمِ تَكذِبُ، وأصدَقُكُم رُؤيا أصدَقُكُم حَديثًا، ورُؤيا المُسلمِ جُزءٌ مِن خَمسٍ وأربَعينَ جُزءًا مِنَ النُّبوَّةِ...)) الحديثَ
.
وفي رِوايةٍ:
((إنَّ رُؤيا المُؤمِنِ جُزءٌ مِن سِتَّةٍ وأربَعينَ جُزءًا مِنَ النُّبوَّةِ))
.
وفي رِوايةٍ:
((رُؤيا الرَّجُلِ الصَّالحِ جُزءٌ مِن سِتَّةٍ وأربَعينَ جُزءًا مِنَ النُّبوَّةِ))
.
2- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((رُؤيا المُؤمِنِ جُزءٌ مِن سِتَّةٍ وأربَعينَ جُزءًا مِنَ النُّبوَّةِ))
.
3- عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((الرُّؤيا الصَّالحةُ جُزءٌ مِن سبعينَ
جُزءًا مِنَ النُّبُوَّةِ))
.
قيل لمالكٍ: أيَعبُرُ الرُّؤيا كُلُّ أحَدٍ؟ فقال: (أبالنُّبوَّةِ يُلعَبُ؟!)
.
وقال مالِكٌ: (لا يَعبُرُ الرُّؤيا إلَّا مَن يُحسِنُها، فإن رَأى خَيرًا أخبَرَ به، وإن رَأى مَكروهًا فليَقُلْ خَيرًا أو ليَصمُتْ، قيل: فهَل يَعبُرُها على الخَيرِ وهيَ عِندَه على المَكروهِ؛ لقَولِ مَن قال: إنَّها على ما أُوِّلَت عليه؟ فقال: لا، ثُمَّ قال: الرُّؤيا جُزءٌ مِنَ النُّبوَّةِ، فلا يُتَلاعَبُ بالنُّبوَّةِ)
.
4- عن أبي رَزينٍ العُقيليِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((رُؤيا المُؤمِنِ جُزءٌ مِن أربَعينَ جُزءًا مِنَ النُّبوَّةِ، وهيَ على رِجلِ طائرٍ ما لم يُحَدِّثْ بها، فإذا حَدَّثَ بها سَقَطَت ))
.
وفي رِوايةٍ:
((الرُّؤيا على رِجلِ طائِرٍ ما لم تُعبَرْ، فإذا عُبِرَت وقَعَت))
.
قال المظهَريُّ: (قَولُه: «وهيَ على رِجلِ طائِرٍ ما لم يُحَدِّثْ بها» هذا مَثَلٌ، يَعني: الطَّائِرُ إذا كان يَطيرُ في الهَواءِ لا قَرارَ له، يَعني: الرُّؤيا قَبلَ التَّعبيرِ لا يَثبُتُ شَيءٌ مِن تَعبيرِها على الرَّائي، ولا يَلحَقُه مِنها ضَرَرٌ، بَل تَحتَمِلُ تلك الرُّؤيا أشياءَ كَثيرةً، فإذا عُبِّرَت ثَبَتَ للرَّائي حُكمُ تَعبيرِها خَيرًا كان أو شَرًّا.
وهذا تَصريحٌ مِنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ التَّعبيرَ لا يَنبَغي لكُلِّ أحَدٍ، بَل يَنبَغي لعالمٍ بالتَّعبيرِ؛ لأنَّه إذا عَبَّرَ يَلحَقُ الرَّائيَ حُكمُ تَعبيرِه، فإن كان جاهلًا رُبَّما يُعَبِّرُ على وَجهٍ قَبيحٍ، فيَلحَقُ مِن تَعبيرِه ضَرَرٌ بالرَّائي.
قَولُه: «وقَعَت» أي: وقَعَت تلك الرُّؤيا على الرَّائي، يَعني: يَلحَقُه حُكمُها)
.
وقال الألبانيُّ: («على رِجلِ طائِرٍ» أي: أنَّها لا تَستَقِرُّ ما لم تُعَبَّرْ، كَما قال الطَّحاويُّ والخَطَّابيُّ وغَيرُهما.
والحَديثُ صَريحٌ بأنَّ الرُّؤيا تَقَعُ على مِثلِ ما تُعَبَّرُ؛ ولذلك أرشَدَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى ألَّا نَقُصَّها إلَّا على ناصِحٍ أو عالمٍ؛ لأنَّ المَفروضَ فيهما أن يَختارا أحسَنَ المَعاني في تَأويلِها، فتَقَعَ على وَفقِ ذلك.
لكِنْ مِمَّا لا رَيبَ فيه أنَّ ذلك مُقَيَّدٌ بما إذا كان التَّعبيرُ مِمَّا تَحتَمِلُه الرُّؤيا ولو على وَجهٍ، وليسَ خَطَأً مَحضًا، وإلَّا فلا تَأثيرَ له حينَئِذٍ. واللَّهُ أعلمُ.
وقد أشارَ إلى هذا المَعنى الإمامُ البخاريُّ في "كِتاب التَّعبير" مِن "صحيحِه" بقَولِه: "بابُ: مَن لم يَرَ الرُّؤيا لأوَّلِ عابرٍ إذا لم يُصِبْ"
، ثُمَّ ساقَ حَديثَ الرَّجُلِ الذي رَأى في المَنامِ ظُلَّةً وعَبَّرها أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ، ثُمَّ قال: فأخبِرْني يا رَسولَ اللهِ -بأبي أنتَ- أصَبتُ أم أخطَأتُ؟ قال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: «أصَبتَ بَعضًا، وأخطَأتَ بَعضًا»
.
آدابٌ عامَّةٌ تَتَعَلَّقُ بالمُعَبِّرِ:(قال ابنُ قُتَيبةَ: يَجِبُ على العابرِ التَّثَبُّتُ فيما يَرِدُ عليه، وتَركُ التَّعَسُّفِ، ولا يَأنَفُ مِن أن يَقولَ لِما يُشكِلُ عليه: لا أعرِفُه، وقد كان مُحَمَّدُ بنُ سِيرينَ إمامَ النَّاسِ في هذا الفنِّ، وكان ما يُمسِكُ عنه أكثَرَ مِمَّا يُفسِّرُ...
وتَفهَّمْ كَلامَ صاحِبِ الرُّؤيا وتَبَيَّنْه ثُمَّ اعرِضْه على الأُصولِ، فإن رَأيتَه كَلامًا صحيحًا يَدُلُّ على مَعانٍ مُستَقيمةٍ يُشبِهُ بَعضُها بَعضًا، عَبَرتَ الرُّؤيا بَعدَ مَسألتِك اللَّهَ تعالى أن يوفِّقَك للصَّوابِ، وإن وجَدتَ الرُّؤيا تَحتَمِلُ مَعنيَينِ مُتَضادَّينِ نَظَرتَ أيُّهما أَولى بألفاظِها وأقرَبُ مِن أُصولِها، فحَمَلتَها عليه،
وإن رَأيتَ الأُصولَ صحيحةً وفي خِلالِها أُمورٌ لا تَنتَظِمُ، ألقَيتَ حَشوَها، وقَصَدتَ الصَّحيحَ مِنها، وإن رَأيتَ الرُّؤيا كُلَّها مُختَلِطةً لا تَلتَئِمُ على الأُصولِ عَلِمتَ أنَّها مَنِ الأضغاثِ، فأعرِضْ عنها، وإنِ اشتَبَهَ عليك الأمرُ سَألتَ اللَّهَ تعالى كَشْفَه، ثُمَّ سَألتَ الرَّجُلَ عن ضَميرِه في سَفَرِه إن رَأى السَّفرَ، وفي صَيدِه إن رَأى الصَّيدَ، وفي كَلامِه إن رَأى الكَلامَ، ثُمَّ قَضَيتَ بالضَّميرِ، فإن لم يَكُنْ هناكَ ضَميرٌ أخَذتَ بالأشياءِ على ما بَيَّنتُ لك، وقد تَختَلفُ طَبائِعُ النَّاسِ في الرُّؤيا ويَجرونَ على عادةٍ فيها فيَعرِفونَها مِن أنفُسِهم، فيَكونُ ذلك أقوى مِنَ الأصلِ، فيَنزِلُ على عادةِ الرَّجُلِ، ويَترُكُ الأصلَ، وقد تُصرَفُ الرُّؤيا عن أصلِها مِنَ الشَّرِّ بكَلامِ الخَيرِ والبِرِّ، وعن أصلِها مِنَ الخَيرِ بكَلامِ الرَّفَثِ والشَّرِّ.
فإن كانتِ الرُّؤيا تَدُلُّ على فاحِشةٍ وقَبيحٍ سَتَرتَ ذلك ورَوَيتَ عنه بأحسَنِ ما تَقدِرُ على ذلك مِنَ اللَّفظِ، وأسرَرتَه إلى صاحِبِها... فإنَّك لستَ مِنَ الرُّؤيا على يَقينٍ، وإنَّما هو حَدسٌ وتَرجيحُ الظُّنونِ، فإذا أنتَ أخبَرتَ السَّائِلَ بقَبيحٍ ألحَقتَ به شائِبةً لعَلَّها لم تَكُنْ، ولعَلَّها إن كانت مِنه أن يرعَويَ ولا يَعودَ)
.
وقال أبو سَعيدٍ الواعِظُ: (وأمَّا آدابُ المُعَبِّرِ فمِنها: أن يَقولَ إذا قَصَّ عليه أخوه رُؤيا: خَيرًا رَأيتَ...
ومِنها: أن يُعَبِّرَها على أحسَنِ الوُجوهِ، ومِنها: أن يُحسِنَ الاستِماعَ إلى الرُّؤيا، ثُمَّ يُفهِمَ السَّائِلَ الجَوابَ، ومِنها: أن يَتَأنَّى في التَّعبيرِ ولا يَستَعجِلَ به، ومِنها: أن يَكتُمَ عليه رُؤياه فلا يُفشيَها فإنَّه أمانةٌ.
ومِنها: أن يُمَيِّزَ بَينَ أصحابِ الرُّؤيا فلا يُفسِّرَ رُؤيا السُّلطانِ حَسَبَ رُؤيا الرَّعيَّةِ؛ فإنَّ الرُّؤيا تَختَلفُ باختِلافِ أحوالِ صاحِبِها.
ومِنها: أن يَتَفَكَّرَ في رُؤيا تُقَصُّ عليه، فإن كانت خَيرًا عَبَّرَها وبَشَّرَ صاحِبَها قَبلَ تَعبيرِها، وإن كانت شَرًّا أمسَكَ عن تَعبيرِها أو عَبَّرها على أحسَنِ مُحتَمَلاتِها، فإن كان بَعضُها خَيرًا وبَعضُها شَرًّا عارَضَ بَينَهما، ثُمَّ أخَذَ بأرجَحِهما وأقواهما في الأُصولِ)
.
وقال خَليلُ بنُ شاهين: (يَنبَغي أن يَكونَ المُعَبِّرُ ذا حَذاقةٍ وفِطنةٍ، صَدوقًا في كَلامِه، حَسَنًا في أفعالِه، مُشتَهِرًا بالدِّيانةِ والصِّيانةِ، بحَيثُ لا يُنكرُ عليه فيما يُعَبِّرُه لشُهرةِ صِدقِه؛ ولذلك سَمَّى اللَّهُ يوسُفَ بالصِّدِّيقِ.
وأن يَكونَ عارِفًا بالأُصولِ في عِلمِ التَّعبيرِ، وأن يُمَيِّزَ رُؤيا كُلِّ أحَدٍ بحَسَبِ حالِه وما يَليقُ به وما يُناسِبُه، ولا يُساويَ النَّاسَ فيما يَرَونَه، ويَعتَبرَ في تَعبيرِه على ما يَظهَرُ له مِن آياتِ القُرآنِ وتَفسيرِه، ومِن حَديثِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وما يَنقُلُه المُتَقدِّمونَ في كُتُبِهم، وقد يَقَعُ نَوادِرُ ويَعتَمِدُ على تَعبيرِها مِنَ الألفاظِ الجَليَّةِ الظَّاهرةِ بَينَ النَّاسِ، وما نُقِل عنِ الأُدَباءِ في أشعارِهم وغَيرِ ذلك مِن أشياءَ تُناسِبُ في المَعنى... ولوِ اعتَمَدَ المُعَبِّرونَ على ما ضُبِطَ في الكُتُبِ خاصَّةً لعَجَزوا عن أشياءَ كَثيرةٍ لم تُذكَرْ في الكُتُبِ؛ لأنَّ عِلمَ التَّعبيرِ واختِلافَ رُؤيا النَّاسِ كبَحرٍ ليسَ له شاطِئٌ)
.
فائِدةٌ في اختيارِ المُعَبِّرِ اللَّفظَ الحَسَنَ والمَعنى الجَميلَ:رُويَ أنَّ بَعضَ الخُلفاءِ قال لمُعَبِّرٍ: إنِّي رَأيتُ جَميعَ أسناني سَقَطَت، فقال: جَميعُ أقارِبِ مَولانا أميرِ المُؤمِنينَ يَموتونَ، فتَغَيَّرَ مِن ذلك واستَدعى بعابرٍ غَيرِه وقَصَّ عليه الرُّؤيا، فقال له: إن صَدَقَت رُؤيا مَولايَ أميرِ المُؤمِنينَ فإنَّه يَكونُ أطولَ عُمرًا مِن أقارِبِه، فأقبَل عليه وأحسَنَ إليه، والمَعنى واحِدٌ، والعِبارةُ مُتَفاوِتةٌ
.
سُؤالُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصحابَه بَعدَ صَلاةِ الصُّبحِ عَمَّن رَأى مِنهم رُؤيا:عن سَمُرةَ بنِ جُندُبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا صَلَّى الصُّبحَ أقبَلَ عليهم بوَجهِه، فقال: هَل رَأى أحَدٌ مِنكُمُ البارِحةَ رُؤيا ؟))
.
وفي رِوايةٍ:
((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا صَلَّى صَلاةً أقبَلَ علينا بوَجهِه، فقال: مَن رَأى مِنكُمُ اللَّيلةَ رُؤيا؟ قال: فإن رَأى أحَدٌ قَصَّها فيَقولُ ما شاءَ اللهُ، فسَألَنا يَومًا فقال: هَل رَأى أحَدٌ مِنكُم رُؤيا؟ قُلنا: لا، قال: لكِنِّي رَأيتُ اللَّيلةَ رَجُلينِ أتَياني فأخَذا بيَديَّ، فأخرَجاني إلى الأرضِ المُقدَّسةِ... )) الحديثَ
.
وفي رِوايةٍ:
((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِمَّا يُكثِرُ أن يَقولَ لأصحابِه: هَل رَأى أحَدٌ مِنكُم مِن رُؤيا؟ قال: فيَقُصُّ عليه مَن شاءَ اللَّهُ أن يَقُصَّ، وإنَّه قال ذاتَ غَداةٍ: إنَّه أتاني اللَّيلةَ آتيانِ، وإنَّهما ابتَعَثاني، وإنَّهما قالا لي: انطَلِقْ، وإنِّي انطَلقتُ مَعَهما...)) الحَديثَ
.
هذا الحَديثُ أورَدَه البخاريُّ في آخِرِ كِتابِ "التَّعبيرِ" مِن
((صحيحِهـ))، وتَرجَمَ عليه: (بابُ تَعبيرِ الرُّؤيا بَعدَ صَلاةِ الصُّبحِ)
.
قال ابنُ المُلقِّنِ: (مَعنى التَّرجَمةِ -كَما نَبَّهَ عليه المُهَلَّبُ في سُؤالِه عنِ الرُّؤيا عِندَ صَلاةِ الصُّبحِ- أنَّه أولى مِن غَيرِه مِنَ الأوقاتِ؛ لحِفظِ صاحِبِه لها، وقُربِ عَهدِه بها، وأنَّ النِّسيانَ قَلَّما يَعرِضُ عليه فيها، ولجَمامِ فَهمِ العابِرِ، وقِلَّةِ ابتِدائِه بالفِكرةِ في أخبارِ مَعاشِه، ومُداخَلتِه للنَّاسِ في شعبِ دُنياهم، وليَعرِفَ النَّاسُ ما يَعرِضُ لهم في يَومِهم ذلك، فيَستَبشِرونَ بالخَيرِ، ويَحذَرونَ مَوارِدَ الشَّرِّ، ويَتَأهَّبونَ لوُرودِ الأسبابِ السَّماويَّةِ عليهم، فرُبَّما كانتِ الرُّؤيا تَحذيرًا عن مَعصيةٍ لا تَقَعُ إن حُذرَت، ورُبَّما كانت إنذارًا بما لا بُدَّ مِن وُقوعِه، فهذه كُلُّها فوائِدُ، ورُبَّما كانتِ البُشرى بالخَيرِ سَبَبًا لسامِعِها إلى الازديادِ مِنه، وقَويَت فيه نيَّتُه، وانشَرَحَت له نَفسُهـ)
.
مِنَ الرُّؤى التي عَبرَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:1- عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((بَينَا أنا نائِمٌ رَأيتُ النَّاسَ يُعرَضونَ عليَّ وعَليهم قُمُصٌ، مِنها ما يَبلُغُ الثُّدِيَّ
، ومِنها ما دونَ ذلك، وعُرِض عليَّ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ وعَليه قَميصٌ يَجُرُّه. قالوا: فما أوَّلتَ ذلك يا رَسولَ اللهِ؟ قال: الدِّينُ ))
.
قال ابنُ المُلقِّنِ: (قال أهلُ التَّعبيرِ: القَميصُ في النَّومِ: الدِّينُ، وجَرُّه يَدُلُّ على بَقاءِ آثارِه الجَميلةِ، وسُنَنِه الحَسَنةِ في المُسلِمينَ بَعدَ وفاتِه ليُقتَدى به. قال القاضي
: أخذوه من قَولِه تعالى:
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 4] يُريدُ نَفسَك، وإصلاحَ عَمَلِك ودينِك، على تَأويلِ بَعضِهم؛ لأنَّ العَرَبَ تُعَبِّرُ عنِ العِفَّةِ بنَقاءِ الثَّوبِ والمِئزَرِ، وجَرُّه عِبارةٌ عَمَّا فضَل عنه وانتَفعَ النَّاسُ به، بخِلافِ جَرِّه في الدُّنيا للخُيَلاءِ؛ فإنَّه مَذمومٌ)
.
وقال أيضًا: (أصلُ عِبارَتِه للقَميصِ بالعِلمِ في قَولِه تعالى:
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 4] يُريدُ صَلاحَ العَمَلِ وتَطهيرَ الأحوالِ التي كانت أهلُ الجاهليَّةِ تَستَبيحُها، هذا قَولُ ابنِ عبَّاسٍ، والعَرَبُ تَقولُ: فُلانٌ نَقيُّ الثَّوبِ: إذا كان صالحًا في دينِه.
وفيه دَليلٌ على أنَّ الرُّؤيا لا تَخرُجُ كُلُّها على نَصِّ ما رُئيَت عليه، وإنَّما تَخرُجُ على ضَربِ الأمثالِ، فضَربُ المَثَلِ على الدِّينِ بالقَميصِ، وعلى الإيمانِ والعِلمِ باللَّبَنِ
مِن أجلِ اشتِراكِ ذلك في المَعاني، وذلك أنَّ القَميصَ يَستُرُ العَوراتِ كَما يَستُرُ الدِّينُ سَيِّئَ الأعمالِ التي كان النَّاسُ في حالِ الكُفرِ يَأتونَها، وفي حالِ الجَهلِ يَقتَرِفونَها، وقد سَلف أنَّ اللَّبَنَ حَياةُ الأجسامِ كَما أنَّ بالعِلمِ حَياةَ القُلوبِ.
هذا وَجهُ اشتِباهِ المَعاني في هذه الأمثالِ التي لها ضُرِبَت؛ لأنَّ المَثَلَ يَقتَضي المُماثَلةَ، فإذا كان مَثَلٌ لا يُماثِلُه فيه لم يَصِحَّ التَّعبيرُ)
.
وقال ابنُ حَجَرٍ: (قالوا: وَجهُ تَعبيرِ القَميصِ بالدِّينِ أنَّ القَميصَ يَستُرُ العَورةَ في الدُّنيا، والدِّينَ يَستُرُها في الآخِرةِ ويَحجُبُها عن كُلِّ مَكروهٍ، والأصلُ فيه قَولُه تعالى:
وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف: 26] الآية، والعَرَبُ تُكَنِّي عنِ الفَضلِ والعَفافِ بالقَميصِ، ومِنه قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعُثمانَ: «إنَّ اللَّهَ سَيُلبِسُك قَميصًا فلا تَخلَعْه»
.
واتَّفقَ أهلُ التَّعبيرِ على أنَّ القَميصَ يُعَبَّرُ بالدِّينِ، وأنَّ طولَه يَدُلُّ على بَقاءِ آثارِ صاحِبِه مِن بَعدِه.
وفي الحَديثِ: أنَّ أهلَ الدِّينِ يتفاضَلون في الدِّينِ بالقِلَّةِ والكَثرةِ، وبالقوَّةِ والضَّعفِ.
وهذا مِن أمثِلةِ ما يُحمَدُ في المَنامِ ويُذَمُّ في اليَقَظةِ شَرعًا
، أعني جَرَّ القَميصِ؛ لِما ثَبَتَ مِنَ الوعيدِ في تَطويلِه
،وعَكسُ هذا ما يُذَمُّ في المَنامِ ويُحمَدُ في اليَقَظةِ، وفي الحَديثِ مَشروعيَّةُ تَعبيرِ الرُّؤيا وسُؤالِ العالمِ بها عن تَعبيرِها، ولو كان هو الرَّائيَ، وفيه الثَّناءُ على الفاضِلِ بما فيه لإظهارِ مَنزِلتِه عِندَ السَّامِعينَ، ولا يَخفى أنَّ مَحَلَّ ذلك إذا أُمِنَ عليه مِنَ الفِتنةِ بالمَدحِ كالإعجابِ، وفيه فضيلةٌ لعُمَرَ)
.
2- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((رَأيتُ ذاتَ ليلةٍ فيما يَرى النَّائِمُ كَأنَّا في دارِ عُقبةَ بنِ رافِعٍ، فأُتِينا برُطَبٍ مِن رُطَبِ ابنِ طابٍ
، فأوَّلتُ الرِّفعةَ لنا في الدُّنيا، والعاقِبةَ في الآخِرةِ، وأنَّ دينَنا قد طابَ ))
.
قال ابنُ الجَوزيِّ: (هذا الحَديثُ أصلٌ في تَعبيرِ الرُّؤيا على الأسماءِ والأحوالِ)
.
قال ابنُ هُبَيرةَ: (في هذا الحَديثِ مِنَ الفِقهِ أن يُستَفادَ تَعَلُّمُ عَبرِ الرُّؤيا مِن هذا الأُسلوبِ، وهو أُسلوبٌ مِن أساليبِ عَبرِ الرُّؤيا واستِخراجِها مِنَ النُّطقِ والتَّسميةِ، وهو أن يَذكُرَ العاقِبةَ بعُقبةَ، والرِّفعةَ بذِكرِ رافِعٍ، والطِّيبةَ بذِكرِ طابٍ، وعلى هذا في كُلِّ الأسماءِ، إلَّا أنَّ هذا مَهما عَبَرَ الإنسانُ به الرُّؤيا فيما يَكونُ بُشرى وإيذانٌ بالخَيرِ، فهو في مَوضِعِه، فأمَّا إن عَبَرَه بما يَكونُ مُحزِنًا لقُلوبِ المُؤمِنينَ أو ذاهبًا إلى طِيَرةٍ أو إنذارٍ بسوءٍ، فلا يقطَعنَّ به؛ فإنَّ ذلك مِنَ الشَّيطانِ، ويُدفَعُ بذِكرِ اللهِ والصَّلاةِ)
.
وقال عِياضٌ في شَرحِ هذا الحَديثِ: (وُجوهُ عِبارةِ الرُّؤيا أربَعةٌ:
فمِنها هذا البابُ، وهو ما يُشتَقُّ مِنَ الأسماءِ، ويَدُلُّ عليه معاني الألفاظِ.
ومِنها: ما يُعتَبَرُ بمِثالِه ويُفسَّرُ بشَكلِه، كدَلالةِ مَعلَمِ الكِتابِ على القاضي والسُّلطانِ، وصاحِبِ السِّجنِ وراسي السَّفينةِ، وعلى الوَصيِّ والوالِدِ.
ومِنها: ما يُعَبَّرُ بالمَعنى المَقصودِ مِن ذلك الشَّخصِ المَرئيِّ، كدَلالةِ فِعلِ السَّفَرِ على السَّفَرِ، وفِعلِ السُّوقِ على المَعيشةِ، وفِعلِ الدَّارِ على الزَّوجةِ والخادِمِ.
ومِنها: ما يُعَبَّرُ بما تقدَّمَ له في القُرآنِ والسُّنَّةِ، أوِ الشِّعرِ، أو في كَلامِ العَرَبِ وأمثالِها، وكَلامِ النَّاسِ، أو خَبَرٍ مَعروفٍ للمَرئيِّ، فيُعَبَّرُ بذلك كُلِّه، كعِبارةِ الخُشُبِ بالمُنافِقِ والكافِرِ؛ لقَولِه:
كَأنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون: 4]، ويُعَبَّرُ الغُرابُ بالفاسِقِ؛ لتَسميَتِه عليه السَّلامُ إيَّاه بذلك
... وكاعتِبارِنا رُؤيةَ الأنبياءِ والخُلفاءِ بما كان في أيَّامِهم وخاصِّ قِصَصِهم.
ومَعنى: «دينُنا قد طابَ» أي: قارَبَ الاستِقامةَ وتَناهى صَلاحُه، كقَولِه:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] . قيل: ولعَلَّه بهذه الرُّؤيا سَمَّى المَدينةَ طابةَ. واللَّهُ أعلَمُ)
.
3- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال:
((كان الرَّجُلُ في حَياةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا رَأى رُؤيا قَصَّها على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتَمَنَّيتُ أن أرى رُؤيا فأقُصَّها على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكُنتُ غُلامًا شابًّا، وكُنتُ أنامُ في المَسجِدِ على عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فرَأيتُ في النَّومِ كَأنَّ مَلكَينِ أخَذاني، فذَهَبا بي إلى النَّارِ، فإذا هيَ مَطويَّةٌ كَطَيِّ البئرِ
وإذا لها قَرنانِ
،وإذا فيها أُناسٌ قد عَرَفتُهم، فجَعَلتُ أقولُ: أعوذُ باللهِ مِنَ النَّارِ، قال: فلَقِيَنا مَلَكٌ آخَرُ، فقال لي: لم تُرَعْ
.
فقَصَصتُها على حَفصةَ، فقَصَّتها حَفصةُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: نِعمَ الرَّجُلُ عَبدُ اللَّهِ لو كان يُصَلِّي مِنَ اللَّيلِ! فكان بَعدُ لا يَنامُ مِنَ اللَّيلِ إلَّا قَليلًا ))
.
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (إنَّما فَهِمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن رُؤيةِ عَبدِ اللَّه للنَّارِ أنَّه مَمدوحٌ؛ لأنَّه عُرِضَ على النَّارِ ثُمَّ عوفيَ مِنها، وقيل له: لا رَوعَ عليك، وهذا إنَّما هو لصَلاحِه وما هو عليه مِنَ الخَيرِ، غَيرَ أنَّه لم يَكُنْ يَقومُ مِنَ اللَّيلِ؛ إذ لو كان ذلك ما عُرِضَ على النَّارِ ولا رَآها، ثُمَّ إنَّه حَصَل لعَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه مِن تلك الرُّؤيةِ يَقينُ مُشاهَدةِ النَّارِ، والاحتِرازُ مِنها، والتَّنبيهُ على أنَّ قيامَ اللَّيل مِمَّا يُتَّقى به النَّارُ؛ ولذلك لم يَترُكْ قيامَ اللَّيلِ بَعدَ ذلك رَضِيَ اللهُ عنهـ)
.
وقال ابنُ حَجَرٍ: (ويُؤخَذُ مِنه أنَّ الرُّؤيا الصَّالحةَ تَدُلُّ على خَيرِ رائيها... وأشارَ المُهَلَّبُ إلى أنَّ السِّرَّ في ذلك كَونُ عَبدِ اللَّهِ كان يَنامُ في المَسجِدِ، ومِن حَقِّ المَسجِدِ أن يُتَعَبَّدَ فيه، فنُبِّهَ على ذلك بالتَّخويفِ بالنَّارِ)
.
وعن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال:
((رَأيتُ في المَنامِ كَأنَّ في يَدي قِطعةَ إستَبرَقٍ
، وليسَ مَكانٌ أُريدُ مِنَ الجَنَّةِ إلَّا طارَت إليه، قال: فقَصَصتُه على حَفصةَ، فقَصَّته حَفصةُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أرى عَبدَ اللَّهِ رَجُلًا صالحًا ))
.
رُؤيا الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في النَّومِ:5- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((تَسَمَّوا باسمي ولا تَكتَنوا بكُنيَتي، ومَن رَآني في المَنامِ فقد رَآني؛ فإنَّ الشَّيطانَ لا يَتَمَثَّلُ في صورَتي، ومَن كَذَبَ عليَّ مُتَعَمِّدًا فليَتَبَوَّأْ مَقعَدَه مِنَ النَّارِ ))
.
وعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن رَآني في المَنامِ فقد رَآني؛ فإنَّ الشَّيطانَ لا يَتَخَيَّلُ بي، ورُؤيا المُؤمِنِ جُزءٌ مِن سِتَّةٍ وأربَعينَ جُزءًا مِنَ النُّبوَّةِ ))
.
عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن رَآني في النَّومِ فقد رَآني؛ إنَّه لا يَنبَغي للشَّيطانِ أن يَتَمَثَّلَ في صورَتي ))
.
وعن أبي قتادةَ رَضِيَ اللهُ عنه: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن رَآني فقد رَأى الحَقَّ))
.
وعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه سَمِعَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((مَن رَآني فقد رَأى الحَقَّ؛ فإنَّ الشَّيطانَ لا يتكَوَّنُني
)
.