موسوعة الفرق

المَطلبُ الخامِسُ: مَراسيمُ وطُقوسُ الدُّخولِ في عَقيدةِ النُّصَيريَّةِ


لمَّا كانتِ العَقيدةُالنُّصَيريَّةُ مِن أردَأِ المَذاهِبِ وأشَدِّها توغُّلًا في الباطِلِ، لم يأنَسوا مِن إظهارِ مَذهَبِهم صَراحةً حتَّى مِن بَعضِهم لبَعضٍ إلَّا بَعدَ تَعقيداتٍ واختِباراتٍ شَديدةٍ يُذَلَّلُ مِن خِلالِها التَّابعُ ويتَجَرَّعُ أشَدَّ أنواعِ الإهانةِ.
إذ يتِمُّ دُخولُه في المَذهَبِ بطَريقةٍ فاحِشةٍ يتِمُّ مِن خِلالِها القَضاءُ على كُلِّ عِرقٍ يَنبضُ بالرُّجولةِ والشَّهامةِ فيه، وتُداسُ كرامَتُه ويُنتَهَكُ عِرضُه.
فحينَما يحضُرُ التِّلميذُ يختارُ الشَّيخَ الذي سَيُلازِمُه مِن بَينِ مَجموعةِ المَشايِخِ المَوجودينَ، ويُسَمُّونَه الوالدَ الرُّوحيَّ أوِ الوالدَ الدِّينيَّ، ثُمَّ يغرِسونَ في نَفسِ التِّلميذِ تَقديسَ شَيخِه والتَّواضُعَ له تواضُعًا مُطلقًا أشبَهَ ما يكونُ بالقاعِدةِ الصُّوفيَّةِ (كالمَيِّتِ بَينَ يَدَي الغاسِلِ).
ومِنَ الطُّرُقِ التي يتَوسَّلونَ بها إلى إذلالِ الشَّخصِ أنَّه حينَما يدخُلُ يقِفُ في ناحيةٍ وهو ساكِتٌ لا يتَكلَّمُ بشَيءٍ، وأحذيةُ المَشايِخِ مَرفوعةٌ فوقَ رَأسِه، ثُمَّ يتَكلَّمُ شَيخُه لبَقيَّةِ المَشايِخِ ويتَوسَّلُ إليهم أن يقبَلوا هذا الشَّخصَ الماثِلَ أمامَهم ويُدخِلوه في زُمرَتِهم، فإذا قَبِلَه المَشايِخُ أُنزِلَتِ الأحذيةُ مِن فوقِ رَأسِه، ثُمَّ يأخُذُ في تَقبيلِ أيدي وأرجُلِ الحاضِرينَ مِنَ المَشايِخِ.
ثُمَّ يقِفُ في مَكانِه ويوضَعُ على رَأسِه خِرقةٌ بَيضاءُ، ثُمَّ يأخُذُ الشَّيخُ في قِراءةِ العَقدِ الذي سَيتِمُّ بَينَ التِّلميذِ وبَينَ المَشايِخِ، وهو أشبَهُ ما يكونُ بعَقدِ الزَّواجِ، ويعتَبرونَ هذا بمَثابةِ الخِطبةِ، ويعتَبرونَ الكلامَ الذي يسمَعُه بمَثابةِ النِّكاحِ، وما يتَحَمَّلُه مِنَ العِلمِ عنهم بمَثابةِ الحَملِ، فإذا عَلمَ وأرادَ التَّعليمَ فإنَّ ذلك يكونُ بمَثابةِ الوضعِ!
وبَعدَ أن تَتِمَّ هذه المَرحَلةُ يُقالُ للتِّلميذِ: يجِبُ عليك أن تُكرِّرَ في اليومِ خَمسَمِائةِ مَرَّةٍ: بحَقِّ (ع. م. س) [3642] المراد بـ (ع. م. س) ثالوثٌ مُؤَلَّفٌ مِن عَليٍّ ومُحَمَّدٍ وسَلمانَ الفارِسيِّ، ويتَّخِذونَ مِن ذلك شعارًا يتَكوَّنُ مِنَ الحُروفِ الثَّلاثةِ (ع. م. س) أو ما يُسَمَّى (سِرَّ عَقدِ ع م س). وهذا الثَّالوثُ يُفسِّرُ عِندَهم: المَعنى، والاسمَ، والبابَ؛ والمَعنى هو الغَيبُ المُطلَقُ، أي: اللهُ الذي يُرمَزُ إليه بحَرفِ ع. والاسمُ هو صورةُ المَعنى الظَّاهرِ، ويُرمَزُ إليه بحَرفِ م. والبابُ هو طَريقُ الوُصولِ للمَعنى، ويُرمَزُ إليه بحَرفِ س. يُنظر: ((إسلام بلا مذاهب)) للشكعة (ص: 332). لمُدَّةٍ يُحَدِّدونَها، ثُمَّ بَعدَ ذلك يأتي إليهم ليَتِمَّ تَعليمُه المَذهَبَ بَعدَ اختِباراتٍ قاسيةٍ يرضى فيها بكُلِّ شَيءٍ حتَّى ولو بإهدارِ رُجولتِه [3643] يُنظر: ((الحركات الباطنية في العالم الإسلامي)) للخطيب (ص: 374، 375). .
وفيما يلي إشارةٌ إلى أهَمِّ الشُّروطِ في تَعليمِ المَذهَبِ النَّصيريِّ، فيشتَرِطونَ فيمَن يُلقى إليه تَعليمُ المَذهَبِ أن يجتازَ سِنَّ التَّاسِعةَ عَشرةَ [3644] يُنظر: ((العلويون أو النصيرية)) للعسكري (ص: 57). ، وأن يمُرَّ بالمَراحِلِ الآتيةِ على التَّدريجِ:
المرحلةُ الأولى: مَرحَلةُ الجَهلِ
وفيها يُهَيِّئونَ مَن يقَعُ عليه الاختيارُ مِن أبناءِ الطَّائِفةِ لقَبولِ وحَملِ أسرارِ المَذهَبِ.
المرحَلةُ الثَّانيةُ: مَرحَلةُ التَّعليقِ
وفي هذه المَرحَلةِ يُلقِّنونَه شيئًا مِن تَعاليمِ المَذهَبِ، ويبقى مُدَّةَ سَنةٍ إلى سَنَتَينِ تَحتَ إشرافِ شَيخٍ مِن شُيوخِ الطَّائِفةِ ليُطلِعَه على شَيءٍ مِن أسرارِ المَذهَبِ بالتَّدريجِ، فإذا تَوسَّموا فيه القَبولَ والنَّجابةَ نَقَلوه إلى المَرحَلةِ الثَّالثةِ الآتيةِ وإلَّا طَرَدوه.
المرحَلةُ الثَّالثةُ: مَرحَلةُ السَّماعِ
وهي الدَّرَجةُ العُليا، ويُطلِعونَه فيها على أكثَرِ أُصولِ المَذهَبِ النُّصَيريِّ، ثُمَّ يعقِدُ الرُّؤَساءُ الرُّوحيُّونَ للطَّائِفةِ مجمَعًا خاصًّا لتَلقينِه بَقيَّةَ أسرارِ المَذهَبِ، ثُمَّ ينقُلونَه إلى دَرَجةٍ أعلى يُطلِقونَ عليه دَرَجةَ الشَّيخِ أو صاحِبِ العهدِ.
ويتِمُّ ذلك بحُضورِ الكُفَلاءِ، والشُّهودُ يشهَدونَ باستِعدادِ الرَّجُلِ لقَبولِ السِّرِّ ومُحافظَتِه عليه، ثُمَّ يحلفُ اليمينَ المُقَرَّرةَ عِندَهم أن يُحافِظَ على السِّرِّ ولو أُريقَ دَمُه. وبَعدَ حُصولِه على هذه الدَّرَجةِ يُصبحُ شيخًا مِن شُيوخِ الطَّائِفةِ [3645] يُنظر: ((طائفة النصيرية)) للحلبي (ص: 45، 46). ويُنظر: ((العلويون)) للعسكري (ص: 57). .
ومِمَّا يجدُرُ التَّنبيهُ إليه أنَّ التِّلميذَ دائمًا وهو بَينَ أيدي المَشايِخِ لا يُلقى إليه شَيءٌ مِن تَعاليمِ المَذهَبِ المُلتَويةِ إلَّا في غيابِ عَقلِه وتَفكيرِه عنه؛ ليقبَلَ تلك العَقائِدَ التي تَشمَئِزُّ منها النَّفسُ ويمُجُّها العَقلُ وتَأنَفُ منها الفِطرةُ السَّليمةُ.
وقد وصَف سُليمانُ الأدَنيُّ -الذي كان نُصَيريًّا ثُمَّ اعتَنَقَ الدِّيانةَ النَّصرانيَّةَ- إجراءاتِ دُخولِه في العَقيدةِ النُّصَيريَّةِ، فمِمَّا قاله في ذلك: (في اليومِ المُحَدَّدِ اجتَمَعَ مِنَ المَشايِخِ وأهلِ القَريَّةِ والقُرى المُجاوِرةِ جُمهورٌ كثيرٌ، واستَدعَوني إليهم وناولني قدَحَ خَمرٍ ثُمَّ وقَف أحَدُ المَشايِخِ، وهو برُتبةِ النَّقيبِ في الدِّيانةِ النُّصَيريَّةِ، ووقَف بجانِبي وقال لي: قُلْ: بسِرِّ إحسانِك يا عَمِّي وسَيِّدي وتاجَ رَأسي، أنا لك تِلميذٌ وحِذاؤُك على رَأسي، ولم أجِدْ بُدًّا مِن شُربِ الخَمرِ لأوَّلِمَرَّةٍ في حَياتي، فلمَّا شَرِبتُ الكأسَ التَفتَ إليَّ الإمامُ قائلًا: هل تَرضى أن تَرفعَ أحذيةَ هؤلاء الحاضِرينَ على رَأسِك إكرامًا لسَيِّدِك؟ فقُلتُ: كَلَّا، بَل حِذاءَ سَيِّدي فقَط، فضَحِك الحاضِرونَ لعَدَمِ قَبولي القانونَ، ثُمَّ أمَروا الخادِمَ فأتى بحِذاءِ السَّيِّدِ المَذكورِ فكشَفوا رَأسي ووضَعوه عليه، وجَعَلوا على الحِذاءِ خِرقةً بَيضاءَ.
ثُمَّ أخَذَ النَّقيبُ يُصَلِّي على رَأسي وأوصَوني بالكِتمانِ وانصَرَفوا، إلى أن يقولَ: ثُمَّ بَعدَ أربَعينَ يومًا اجتَمَعَ جُمهورٌ آخَرُ واستَدعَوني إليهم ووقَف الشَّيخُ الكبيرُ بجانِبي وبيَدِه كأسُ خَمرٍ فسَقاني الكأسَ وأمَرَني بأن أقولَ: سِرُّ «ع. م. س»، ثُمَّ بَعدَ ذلك قال لي الإمامُ: إنَّه فرضٌعليك أن تَتلوَ هذه اللَّفظةَ، وهي سِرُّ «ع. م. س» كُلَّ يومٍ خَمسَمِائةِ مَرَّةٍ، ثُمَّ أوصَوني بالكِتمانِ وانصَرَفوا.
ثُمَّ بَعدَ سَبعةِ أشهُرٍ- والمُدَّةُ للعامَّةِ تِسعةُ أشهُرٍ- اجتَمَعَ جُمهورٌ آخَرُ أيضًا واستَدعَوني حَسَبَ عادَتِهم وأوقَفوني بعيدًا عنهم، ثُمَّ قامَ هؤلاء بمَهازِلَ أمامَه وطُقوسٍ، ثُمَّ قامَ وكيلٌ مِن بَينِ الجَماعةِ وقال للإمامِ: نَعم نَعَم نَعم يا سَيِّدي الإمامَ. فقال له الإمامُ: ما مُرادُك وماذا تُريدُ؟ فأجابَه أنَّه تَراءى لي شَخصٌ بالطَّريقِ، إلى أن قال: هذا الشَّخصُ اسمُه مَخلوفٌ، وقد أتى ليتَأدَّبَ أمامَكم.
فقال: مَن دَلَّه عَلينا؟ فأجابَ: المَعنى المَعنى والاسمُ العَظيمُ والبابُ الكريمُ وهي لفظةُ «ع. م. س»، فقال الإمامُ: ائتِ به لنَراه، فأخَذَ المُرشِدُ بيدي وذَهَب بي إلى الإمامِ، فلمَّا دَنَوتُ منه مَدَّ لي رِجليه فقَبَّلتُهما، ويدَيه أيضًا، وقال لي: ما حاجَتُك وماذا تُريدُ أيُّها الغُلامُ؟ ثُمَّ نَهَضَ النَّقيبُ ووقَف بجانِبي وعَلَّمَني أن أقولَ: «بسِرِّ الذي فيه أنتُم يا مَعاشِرَ المُؤمِنينَ».
ثُمَّ نَظَرَ إليَّ بعُبوسةٍ وقال: ما الذي حَملَك أن تَطلُبَ مِنَّا السِّرَّ المُكَلَّلَ باللُّؤلُؤِ والدُّرِّ ولم يحمِلْه إلَّا كُلُّ مَلاكٍ مُقَرَّبٍ أو نَبيٍّ مُرسَلٍ؟ اعلَمْ يا ولدي أنَّ المَلائِكةَ كثيرونَ ولا يحمِلُ هذا السِّرَّ إلَّا المُقَرَّبونَ، والأنبياءَ كثيرونَ وليسَ منهم مَن يحمِلُ هذا السِّرَّ إلَّا المُمتَحَنونَ، أتَقبَلُ قَطعَ الرَّأسِ واليدَينِ والرِّجلَينِ ولا تُبيحُ بهذا السِّرِّ العَظيمِ؟ فقُلتُ له: نَعَم. فقال لي: أُريدُ مِنك مِائةَ كفيلٍ، فقال الحاضِرونَ: القانونُ يا سَيِّدَنا الإمامَ، فقال: إكرامًا لكم ليكُنِ اثنا عَشَر كفيلًا. ثُمَّ قامَ المُرشِدُ الثَّاني وقَبَّل أيدي الاثنَي عَشَرَ كفيلًا وأنا أيضًا قَبَّلتُ أيديَهم.
ثُمَّ نَهَضَ الكُفَلاءُ وقالوا: نَعَم نَعَم نَعَم يا سَيِّدي الإمامَ. فقال الإمامُ: ما حاجَتُكم أيُّها الشُّرَفاءُ؟ قالوا: أتَينا لنَكفُلَ مخلوفًا. فقال: إذا باحَ بهذا السِّرِّ أتأتوني به نُقَطِّعُه تقطيعًا ونَشرَبُ دَمَه؟ فقالوا: نَعَم. فأجابَ وقال: لستُ أكتَفي بكفالتِكم فقَط، بَل أُريدُ اثنَينِ مُعتَبرَينِ يَكفُلانِكم.
فجَرى واحِدٌ مِنَ الكُفلاءِ وأنا وراءَه، وقَبَّل أيديَ الكفيلينِ المَطلوبينِ، وقَبلَّتُهما أنا أيضًا، ثُمَّ نَهَضا قائِمَينِ وأيديهما مَوضوعةٌ على صَدرَيهما، فالتَفتَ إليهما الإمامُ وقال: اللهُ مُمسِّيكما بالخَيرِ أيُّها الكفيلانِ المُعتَبرانِ الطَّاهرانِ أهلَ البُرشِ والكِرشِ، فماذا تُريدانِ؟ فأجابا أنَّنا قد أتَينا لنَكفُلَ الاثنَي عَشرَ كفيلًا وهذا الشَّخصَ أيضًا، فقال: إذا هَرَبَ قَبل أن يُكمِلَ حِفظَ الصَّلواتِ أو باحَ بهذا السِّرِّ هل تَأتياني به لتُعدَمَ حَياتُه، فقالا: نَعَم، قال الإمامُ: إنَّ الكُفلاءَ يفنَونَ وكُفلاءُ الكُفلاءِ يفنَونَ، وأنا أُريدُ منه شيئًا لا يفنى. فقالا له: افعَلْ ما شِئتَ فالتَفتَ إليَّ وقال: ادنُ يا مَخلوفُ، فدَنَوتُ منه، وحينَئِذٍ استَحلفني بجَميعِ الأجرامِ السَّماويَّةِ بأنِّي لا أبوحُ بهذا السِّرِّ، ثُمَّ ناوَلني كِتابَ المَجموعِ في يدي اليُمنى وعَلَّمَني النَّقيبُ الواقِفُ بجانِبي أن أقولَ: تَفضَّلْ حَلِّفْني يا سَيِّدي الإمامَ على هذا السِّرِّ العَظيمِ، وأنتَ بَريءٌ مِن خَطيئَتي. فأخَذَ كِتابَ المَجموعِ مِنِّي وهو مَكتوبٌ بالخَطِّ اليدَويِّ... إلى أن يقولَ: ثُمَّ قال الإمامُ: اعلَمْ يا ولدي أنَّ الأرضَ لا تَقبَلُك فيها مدفونًا إن أبَحْتَ بهذا السِّرِّ، ولا تَعودُ تَدخُلُ القُمصانَ البَشَريَّةَ، بَل حينَ وفاتِك تَدخُلُ قُمصانَ المُسوخيَّةِ، وليسَ لك منها نَجاةٌ أبدًا.
ثُمَّ أجلسوني بَينَهم وكشَفوا رَأسي ووضَعوا عليه غِطاءً. ثُمَّ إنَّ الكُفلاءَ وضَعوا أيديَهم على رَأسي وأخَذوا يُصَلُّونَ فقرؤوا أولًا سورةَ الفتحِ والسُّجودِ والعَينِ، ثُمَّ شَرِبوا الخَمرَ، وقرؤوا سورةَ السَّلامِ، ورَفعوا أيديَهم عن رَأسي.
وأخَذَني عَمُّ الدُّخولِ وسَلَّمَني إلى مُرشِدي الأوَّلِ، ثُمَّ أخَذَ بيدِه كأسَ الخَمرِ وسَقاني وعَلَّمَني أن أقولَ: «بسمِ اللهِ وباللهِ وسِرِّ السَّيِّدِ أبي عَبدِ اللهِ العارِفِ بمَعرِفةِ اللهِ، سِرِّ تَذكارٍ والصَّالحُ سِرُّه أسعَدَه اللهُ».
ثُمَّ انصَرَفتِ الجَماعةُ وأخَذَني السَّيِّدُ إلى بَيتِه واسمُه أحمَد أفندي بنُ رِضوان أغا مِن أعيانِ مَدينةِ أدَنَة، والمُرشِدُ الثَّاني اسمُه الشَّيخُ صالحٌ الجَبَليُّ رَئيسُ الرَّمَّالينَ. ثُمَّ ابتَدَأ السَّيِّدُ يعلِّمُني أوَّلًا التَّبَرِّيَ وهو سورةُ الشَّتائِمِ الآتي ذِكرُها في البابِ الثَّاني في بداءةِ صلوةِ أعيادِهم، وحينَئِذٍ أطلَعَني على صَلاتِهمُ المَشهورةِ فيها عِبادةُ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ، وهي سِتَّةَ عَشَرَ سُورةً) [3646] يُنظر: ((الباكورة السليمانية)) (ص: 2-7). .
المراتِبُ والدَّرَجاتُ عِندَالنُّصَيريَّةِ:
العالَمُ عِندَالنُّصَيريَّةِ ينقَسِمُ إلى قِسمَينِ: العالَمُ العُلويُّ، والعالَمُ السُّفليُّ، ولكُلِّ واحِدٍ منهما رُتَبُه ودَرَجاتُه.
والعالَمُ العُلويُّ هو العالَمُ النُّورانيُّ الذي تَعيشُ فيه الرُّتَبُ النُّورانيَّةُ التي تَنتَهي برُتبةِ البابيَّةِ، وتَفيضُ بالنُّورِ على العالمِ السُّفليِّ، الذي لا يزالُ ينتَقِلُ في الصُّورِ البَشَريَّةِ، ولم يصِلْ إلى مُستَوى الإيمانِ الكامِلِ [3647] العالمُ السُّفليُّ في نظَرِهم يتكوَّنُ من (119) ألفَ نَسَمةٍ. يُنظر: مخطوطة ((كتاب تعليم الديانة النصيرية)) ورقة 14/ أ. عن ((الحركات الباطنية في العالم الإسلامي)) للخطيب (ص: 366). .
والعالَمانِ العُلويُّ والسُّفليُّ في نَظَرِهم همُ النُّصَيريُّونَ عاقِلُهم وجاهِلُهم [3648] العُقَلاءُ هم العالَمُ العُلويُّ، وهم مشايخُ النُّصَيريَّةِ، والجُهَّالُ هم العوامُّ من النُّصَيريِّينَ الذين لا يزالون يترقَّون في درَجاتِ العالمِ السُّفليِّ، ولم يعرِفوا عن دينِهم الشَّيءَ الكثيرَ. ، فغَيرُ النُّصَيريِّ لا يكونُ في الصُّورةِ البَشَريَّةِ؛ لأنَّه مَمسوخٌ بالصُّورِ الأُخرى، مِثلُ صورةِ المَرأةِ والحَيوانِ والجَمادِ.
أمَّا دَرَجاتُ العالَمِ العُلويِّ فهي للمُؤمِنِ، وتَتَكوَّنُ مِن سَبعِ دَرَجاتٍ لا يرتَقي الشَّخصُ مِن دَرَجةٍ إلى دَرَجةٍ إلَّا بمِقدارِ عِلمِه وعَمَلِه، فهي تَرتَبطُ ارتِباطًا مُباشِرًا بالبابِ والأيتامِ الخَمسةِ؛ لأنَّ مِن جُملةِ هذه الرُّتَبِ: اليتيمَ والبابَ.
وأوَّلُ دَرَجةٍ يرتَقي إليها المُؤمِنُ مِنَ العالَمِ السُّفليِّ إلى العُلويِّ هي دَرَجةُ المُمتَحَنِ،تَليها دَرَجةُ المُخلصِ، فدَرَجةُ المُختَصِّ، ثُمَّ النَّجيبِ، ثُمَّ النَّقيبِ، فاليتيمِ، وأخيرًا البابُ، وهذه الدَّرَجاتُ في نَظَرِهم عَقَباتٌ، فكُلما تَجاوزَ المُؤمِنُ دَرَجةً كأنَّه بذلك تَجاوزَ عَقَبةً مِنَ العَقَباتِ [3649] يُنظر: ((كتاب الصراط)) للمفضل الجعفي - مخطوطة-(ورقة 95أ، ب). .
فإذا أصبَحَ الشَّخصُ أوِ المُؤمِنُ في الرُّتبةِ السَّابعةِ وهي رُتبةُ البابيَّةِ، فعِندَ ذلك يدخُلُ: (المَحَلَّ الأعلى، ويتَخَلَّصُ مِن هذه الصُّورِ ليُصبِحَ نورانيًّا فيظهَرُ له الاسمُ -أي: الحِجابُ- فيُعايِنُه ويُشاهدُه ويُطلِعُه على عِلمِ تَكوينِه) [3650] يُنظر: ((كتاب الصراط)) للمفضل الجعفي - مخطوطة-(ورقة 98أ). .
ويستَدِلُّونَ على تَقسيمِ هذه الدَّرَجاتِ بقَولِ اللهِ تعالى على لسانِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى [البقرة:260] .
ويُؤَوِّلُ الخصيبيُّ هذه الآيةَ بقَولِه: (إنَّ البابَ هو الذي قال: ليَطمئِنَّ قَلبي، وكان إرادَتُه في ذلك استِئذانَ مَولاه أن يُرَتِّبَ أربَعةً يكونوا مَعَ المِقدادِ في الرُّتبةِ [3651] أي: رُتبةُ اليتيمِ. . قال له اللهُ «وهو الاسمُ»: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 260] ،فالطُّيورُ الأربَعةُ همُ الأيتامُ، والجِبالُ همُ الخَمسُ مَراتِبَ: النُّقَباء، والمُختَصِّينَ، والمُخلصينَ، والمُمتَحَنينَ... فتَولى المِقدادُ مَرتَبةَ النُّقَباءِ، وتَولَّى أبو الذَّرِّ مَرتَبةَ النُّجَباءِ، وتَولَّى عَبدُ اللهِ مَرتَبةَ المُختَصِّينَ، وتَولَّى عُثمانُ مَرتَبةَ المُخلصينَ، وتَولَّى قَنْبَرٌ مَرتَبةَ المُمتَحَنينَ... فالنُّقَباءُ تَمُدُّ النُّجَباءَ بالنُّورِ، وهَكذا تَمُدُّ كُلُّ مَرتَبةٍ الأُخرى بالنُّورِ... أمَّا المَرتَبةُ الأخيرةُ أي -المُمتَحَنينَ- فإنَّها تَمُدُّ مَراتِبَ العالمِ السُّفليِّ السَّبعةَ البَشَريَّةَ، فتَمُدُّ المُقَرَّبينَ، والمُقَرَّبينَ تَمُدُّ الكَروبيِّينَ، والكَروبيِّينَ تَمُدُّ الرُّوحانيِّينَ، والرُّوحانيِّينَ تَمُدُّ المُقدَّسينَ، والمُقدَّسينَ تَمُدُّ السَّائِحينَ، والسَّائِحينَ تَمُدُّ المُستَمِعينَ، والمُستَمِعينَ تَمُدُّ اللَّاحِقينَ) [3652] ((مخطوطة مسائل عن المراتب)) (ورقة 57أ، ب). .
والمَراتِبُ السَّبعةُ السُّفليَّةُ لا تَرتَفِعُ إلى العالمِ العُلويِّ ومَراتِبِه السَّبعِ إلَّا بارتِقاءِ الدَّرَجاتِ السَّابقةِ الذِّكرِ مِن دَرَجاتِ العالَمِ السُّفليِّ، حتَّى تَصِلَ إلى دَرَجةِ (الكَروبيِّين)، وهي الدَّرَجةُ التي يُرفعُ فيها عنِ الشَّخصِ كُرَبُ البَشَريَّةِ؛ لأنَّه عَرفَ باريَه واسمَه وبابَه [3653] ((مخطوطة مسائل عن المراتب)) (ورقة 58أ، ب). ،فيكونُ بذلك قَريبًا مِن دَرَجةِ المُقَرَّبينَ التي تَستَمِدُّ نورَها مِنَ العالمِ العُلويِّ.
والشُّعَراءُ النُّصَيريُّونَ أنشَدوا هذه المَراتِبَ في قَصائِدَ، منهمُ المُنتَجَبُ العاني الذي وصَفَهم بقَولِه:
فتلك الأبوابُ والأيتامُ تَتبَعُهم
وخَلْفَهم نُقَباءُ سادةٌ نُجُبُ
وإثرَهم نُجَباءُ كُلُّهم سَلكوا
نَهجَ الهدى وإلى نَيلِ العُلا وثَبوا
وبَعدَ ذلك مُختَصُّونَ تَرفعُهم
ومُخلِصونَ إلى مَولاهم قَرُبوا
فهذه سَبعةٌ عُلويَّةٌ ظَهَرَت
دونَ الأوائِلِ منها السَّبعةُ الشُّهُبُ
وبَعدَهم سَبعةٌ سُفليَّةٌ نُسِبوا
إلى التُّرابِ ما وارَتهمُ التُّربُ [3654] يُنظر: ((فن المنتخب العاني وعرفانه)) (ص: 52، 53). .
والدَّرَجةُ النِّهائيَّةُ للمُؤمِنِ -كما مَرَّ- هي دَرَجةُ البابِ، وفيها يُصبحُ المُؤمِنُ مَلاكًا، ويُرفَعُ عنه الأكلُ والشُّربُ ويستَطيعُ أن يصعَدَ للسَّماءِ وينزِلَ للأرضِ، مِثلَما يُريدُ، وكيفما شاءَ؛ لأنَّه يتَصَوَّرُ بالصُّورةِ التي يُريدُها [3655] يُنظر: ((الهفت)) للمفضل الجعفي (ص: 61، 62). .
وفي كِتابِ (الباكورةِ السُّليمانيَّةِ في كشفِ أسرارِ الدِّيانةِ النُّصَيريَّةِ) أنَّ رُتَبَ المَشيخةِ ثَلاثةٌ، هي: الإمامُ، ثُمَّ النَّقيبُ، وتَليها رُتبةُ النَّجيبِ، ولكُلِّ واحِدٍ مِن هؤلاء سُلطانُه وحُدودُه وحُقوقُه.. وفي الكِتابِ المَذكورِ: أنَّ هذه الرُّتَبَ افتَقدَت في الوقتِ الحاضِرِ المُؤَهِّلاتِ، ولعَلَّ المُؤَهِّلَ الغالبَ هو قوَّةُ شَخصيَّةِ صاحِبِ الرُّتبةِ بغَضِّ النَّظَرِ عن تَأهيلِه العِلميِّ والدِّينيِّ [3656]يُنظر: ((الباكورة السليمانية)) للأدني (ص: 36). .وهذا الأمرُ يُؤَكِّدُه البَيانُ الذي أصدَره أحَدُ مَشايِخِالنُّصَيريَّةِ بَعدَ هَزيمةِ حزَيران عامَ 1967م، والذي فضَحَ فيه بَعضَ أعمالِهم، ومنها إعطاءُ الرُّتَبِ إلى بَعضِ ضُبَّاطِ الجَيشِ السُّوريِّ النُّصَيريِّينَ تَعبيرًا عن جُهودِهم في الخِدمةِ الطَّائِفيَّةِ أمثالَ صَلاح جَديد، ومُحَمَّد عمران، وغَيرِهم [3657] يُنظر: ((كتاب مجتمع الكراهية)) لسعد جمعة (ص: 62- 75). .

انظر أيضا: