موسوعة الفرق

المَطلبُ الثَّاني: عَقيدَتُهم في الثَّوابِ والعِقابِ واليومِ الآخِرِ


تُؤمِنُ النُّصَيريَّةُ بتَناسُخِ الأرواحِ، وأنَّ الرُّوحَ عِندَما تُفارِقُ الجِسمَ بالمَوتِ تَتَقَمَّصُ ثَوبًا آخَرَ، وهذا الثَّوبُ يكونُ على حَسَبِ إيمانِ هذا الشَّخصِ بديانَتِهم أو كُفرِه بها، وعلى هذا فهم يرَونَ أنَّ الثَّوابَ والعِقابَ ليسا في الجَنَّةِ والنَّارِ، وإنَّما في هذه الدُّنيا على حَسَبِ التَّراكيبِ والتَّقَمُّصاتِ النَّاسوتيَّةِ والمُسوخيَّةِ التي تُصيبُ الرُّوحَ.
وهم إضافةً إلى ذلك يُؤمِنونَ بعالمٍ روحانيٍّ تَسكُنُه المَخلوقاتُ العُليا أوِ النُّجومُ، وهذه المَخلوقاتُ تَفيضُ بالنُّورِ بشَكلٍ مُتَسَلسِلٍ وَفقَ تَرتيبِ السَّمَواتِ السَّبعِ، وهؤلاء يُشَكِّلونَ العالمَ النُّورانيَّ الكبيرَ، وتَتَكوَّنُ السَّمَواتُ السَّبعُ مِن أهلِ المَراتِبِ والكواكِبِ، ويعتَقِدُ النُّصَيريُّونَ أنَّ عَدَدَ العالمِ البشريِّ (119) ألفًا، ويتَكوَّنُ مِنَ المُقَرَّبينَ والكَروبيِّينَ والرُّوحانيِّينَ والمُقدَّمينَ والسَّائِحينَ والمُستَمِعينَ واللَّاحِقينَ، وجَميعُ هذه المَراتِبِ مِنَ العالمِ النُّورانيِّ الذي هَبَطَ مِنَ السَّماءِ النُّورانيَّةِ على سَبعِ مَراحِلَ، وأمَّا عالمُ الظُّلمةِ فيضُمُّ الأرواحَ التي لبسَت قُمصانَ المُسوخيَّةِ في كُلِّ أدوارِ مَسخِها، ومنها المَسخُ بصورةِ امرأةٍ [3617] يُنظر: ((دائرة المعارف الإسلامية)) مادة نصيري، ((مخطوط تعليم الديانة النصيرية)) (ورقة: 14 أ)، ((الهفت)) للمفضل الجعفي (ص: 32). .
وذلك لأنَّهم يعتَقِدونَ أنَّ المَرأةَ لا تَستَحِقُّ أن تَكونَ مُؤمِنةً، فإذا قُدِّرَ لها ذلك فإنَّها بَعدَ مَوتِها تُرَدُّ بصورةِ رَجُلٍ مُؤمِنٍ؛ لأنَّ صورةَ المَرأةِ هي هبوطٌ مِنَ الدَّرَجةِ التي سَما لها المُؤمِنُ، أمَّا الرَّجُلُ الكافِرُ بدينِهم فيعتَقِدونَ أنَّه عِندَما يموتُ تُرَدُّ رُوحُه في صورةِ امرَأةٍ كافِرةٍ؛ لأنَّ الشَّياطينَ -كما يقولونَ- مِنَ المَرأةِ، والإنسانُ إذا ارتَقى في كُفرِه صارَ إبليسًا ووردَ في صورةِ امرَأةٍ [3618] يُنظر: ((الهفت)) للمفضل الجعفي (ص: 142- 144). .
ويجري على هذا الاعتِقادِ قَولُهم:إنَّه كان قَبلَنا سَبعةُ أدوارٍ وسَبعةُ أوادمَ، وفي كُلِّ دَورٍ كان يُبعَثُ فيهم آدَمُ، ونَحنُ في الدَّورِ الثَّامِنِ، وسيبقى الكونُ والوُجودُ هَكذا، وإلَّا يَبطُلُ سُلطانُ اللهِ وقُدرتُه [3619] يُنظر: ((الهفت)) للمفضل الجعفي (ص: 80). .
وتَقَمُّصُ الأرواحِ بالنِّسبةِ للمُؤمِنِ في نَظَرِهم هو ارتِقاؤُه في الدَّرَجاتِ والمَراتِبِ حتَّى يخرُجَ مِن هذه القُمصانِ اللَّحميَّةِ ويلبَسَ قُمصانَ الأنواعِ، وهي النُّجومُ [3620] يُنظر: ((تعليم الديانة النصيرية))  - مخطوط - (ورقة 16 ب)، ((كتاب الصراط)) للمفضل الجعفي- مخطوط - (ورقة 95 ب - 98 أ). .فالنُّجومُ همُ المُؤمِنونَ والصَّالحونَ.
أمَّا الكافِرُ فيحِلُّ عليه المَسخُ والنَّسخُ، فيبقى كذلك على مَرِّ الأكوارِ والأدوار يأتي بقُمصانٍ رَديئةٍ دَنيئةٍ كالحَيواناتِ، أو يأتي بصورةٍ جامِدةٍ مِن مَعدِنٍ أو حَجَرٍ، فيُذاقُ بذلك حَرَّ الحَديدِ وبَردَه [3621] يُنظر: ((تعليم الديانة النصيرية))  ((مخطوط - ورقة 17 أ). .
ويرى المُفضَّلُ الجعفيُّ أنَّ الحَجَرَ والشَّجَرَ والماءَ والمِلحَ وغَيرَ ذلك مِمَّا لا يدِبُّ ولا يمشي ولا يطيرُ، يتَحَلَّلُ مِن أبدانِ المُؤمِنِ والكافِرِ، فكُلُّ ما كان مِن هذه الأشياءِ ذا طَعمٍ طَيِّبٍ ورائِحةٍ لذيذةٍ أو مُلامَسةٍ ليِّنةٍ أو مَشرَبٍ صافٍ فإنَّه يكونُ مِمَّا يتَحَلَّلُ مِن أبدانِ المُؤمِنينَ، وأمَّا الأشياءُ التي لها رائِحةٌ نَتِنةٌ وطَعمُها مُرٌّ ونَحوُ ذلك، فإنَّه يتَحَلَّلُ مِن أبدانِ الكافِرينَ [3622] يُنظر: ((الهفت)) (ص: 76). .
والكافِرُ في اعتِقادِهم يُمسَخُ في كُلِّ شَيءٍ ما عَدا الصُّورةَ البَشَريَّةَ، وذلك لِما سَبَقَه مِنَ الكُفرِ والجُحودِ والإنكارِ لأهلِ الحَقِّ -وهمُ النُّصَيريَّةُ- فيُعاقَبُ ويُعَذَّبُ بتَركيبِه بكُلِّ شَيءٍ مِن بَقرٍ وغَنَمٍ وإبلٍ وطَيرٍ وهَوامَّ وكُلِّ ذي رُوحٍ مِن قِرَدةٍ وخَنازيرَ مِمَّا يُؤكَلُ ولا يُؤكَلُ، عَدا الصُّورةَ البَشَريَّةَ، وهذا في نَظَرِهم هو المَسخُ والنَّسخُ، فالذي يُؤكلُ منه هو نَسخٌ، والذي لا يُؤكَلُ هو مَسخٌ، وهذا كُلُّه -كما يزعُمونَ- عَدلٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ لهؤلاء الجاحِدينَ لأهلِ الحَقِّ؛ لقَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 6-11]، فمَسخهمُ اللهُ لتَكذيبِهم بالدِّينِ؛ لأنَّ الدِّينَ المَذكورَ في الآيةِ الكريمةِ -كما يزعُمونَ- هو عَليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه [3623] يُنظر: ((الهفت)) (ص: 74، 75). .
والتَّناسُخُ الذي يقَعُ على الكافِرِ بديانَتِهم تَجري عليه ألفُ مَوتةٍ وألفُ ذَبحةٍ، وذلك عن طَريقِ المَسخِ والنَّسخِ، ويستَدِلُّونَ على ذلك بآياتٍ، منها قَولُه تعالى: عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ [الواقعة: 61-62] ، وقولُه تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار: 8]، وقولُه جَلَّ وعلا: قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا [الإسراء: 50-51] ، ويعتَبرونَ (الخَلقَ الذي يكبُرُ في الصُّدورِ) الذَّهَبَ والفِضَّةَ باعتِبارِهما مِن مَعادِنِ الجِبالِ؛ لقَولِه تعالى: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ [فاطر: 27] ؛ فالجِبالُ في نَظَرِهم همُ الجَبابرةُ والطَّواغيتُ الذين ظَلموا أهلَ الحَقِّ -أي: النُّصَيريَّةَ بزَعمِهم- فمُسِخوا على هذه الحالةِ، حتَّى ينتَهيَ هذا الدَّورُ، فيُمسَخون مَرَّةً أُخرى حَيواناتٍ تُؤكلُ وتُشرَبُ [3624] يُنظر: ((الصراط للمفضل))  للجعفي ((مخطوط - ورقة 53أ، ب). .
ويبقى عَذابُ المَسخِ والنَّسخِ على الكافِرِ بدينِهم في جَميعِ الأدوارِ إلى أن يظهَرَ القائِمُ الغائِبُ والمَهديُّ المُنتَظَرُ -وهو مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ العَسكريِّ- فيَرُدُّ هؤلاء في صورةِ الإنسانيَّةِ، ثُمَّ يقتُلُهم مِن جَديدٍ، فتَجري الأوديةُ بدِمائِهم كما يجري الماءُ [3625] يُنظر: ((الصراط)) للمفضل الجعفي ((مخطوط - ورقة 53أ، ب). .
والكافِرُ قَبلَ ظُهورِ القائِمِ يُنادي ويصرُخُ أن يُخرِجَه اللهُ مِنَ العَذابِ الواقِعِ عليه بالمَسخِ والنَّسخِ، وأن يُعيدَه إلى الصُّورةِ الإنسانيَّةِ ليُؤمِنَ بدينِهم ويعمَلَ صالحًا، ويستَدِلُّونَ على ذلك بقَولِه تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: 37] ، فالكافِرونَ يقولونَ لرَبِّهم: أخرِجْنا مِنَ الأبدانِ المسوخيَّةِ ومِن هذا العَذابِ إلى الأبدانِ النَّاسوتيَّةِ؛ لكي نَعمَلَ صالحًا [3626] يُنظر: ((الهفت)) للجعفي (ص: 66). .
والواقِعُ أنَّ اعتِقادَ التَّناسُخِ بكُلِّ صورِه وأشكالِه يهدِمُ رُكنًا هامًّا مِن أركانِ الإيمانِ في الإسلامِ وهو الإيمانُ باليومِ الآخِرِ بما فيه مِن ثَوابٍ وعِقابٍ وجَنَّةٍ ونارٍ، وعَدَمُ الإيمانِ بالآخِرةِ يُخرِجُ الإنسانَ مِن طَريقِ الإسلامِ، وهذا واضِحٌ في كثيرٍ مِن آياتِ القُرآنِ الكريمِ، منها قَولُ اللهِ تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة: 177] ، وقولُ اللهِ سُبحانَه: وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء: 136] ووصَف اللهُ هذا اليومَ بوصفٍ دَقيقٍ في كثيرٍ مِنَ الآياتِ والسُّوَرِ، كقَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 6-8] ، أمَّا الآياتُ التي يستَدِلُّون بها على هذا الاعتِقادِ الفاسِدِ فهو نَوعٌ مِنَ المُغالطةِ والتَّأويلِ بالرُّموزِ والألغازِ، والإسلامُ بَريءٌ مِن ذلك.
ويُمكِنُ القَولُ بكُلِّ تَأكيدٍ إنَّ التَّناسُخَ مُرتَبطٌ باعتِقاداتٍ كثيرةٍ كانت سائِدةً قَبلَ الإسلامِ في فارِسَ والهندِ واليونانِ؛ فإنَّ لهذه العَقيدةِ عَلاقةً بمَذهَبِ التَّناسُخِ في الدِّيانةِ البُوذيَّةِ، والدِّيانةِ الهِندوكيَّةِ؛ ففي الدِّيانةِ البوذيَّةِ زَعَموا ظُهورَ بوذا على هَيئةِ حَيواناتٍ وطُيورٍ وشَجَرٍ وصُوَرٍ إنسيَّةٍ حَوالَي ألفِ مَرَّةٍ، وفي الدِّيانةِ الهِندوكيَّةِ زَعَموا ظُهورَ شيفا على صورٍ إنسانيَّةٍ عَديدةٍ. كذلك ظَهَرَ مَذهَبُ التَّناسُخِ عِندَ فلاسِفةِ اليونانِ، وكانوا يعتَقِدونَ بظُهورِ آلهَتِهم بصورةٍ مُختَلفةٍ، وكان فيثاغورسُ أحَدَ فلاسِفتِهم يُدَرِّسُ هذه الفِكرةَ لأتباعِه، بَل إنَّه كان يُؤمِنُ بوُجودِ قَرابةٍ بَينَ الإنسانِ والحَيوانِ [3627] يُنظر: ((البوذية وتأثيرها في الفكر والفرق الإسلامية المتطرفة)) للزعبي وزيعور (ص: 147-149)، ((طائفة الدروز)) لحسين (ص: 109)، ((هيراقليطس فيلسوف التغير وأثره في الفكر الفلسفي)) للنشار ورفاقه (ص: 249). .

انظر أيضا: