موسوعة التفسير

سورةُ الإسراءِ
الآيات (49-52)

ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ

غريب الكلمات:

وَرُفَاتًا: أي: تُرابًا وفُتاتًا، وأصلُ (رفت): يدُلُّ على فَتٍّ [682] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 257)، ((تفسير ابن جرير)) (14/614)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 244)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/420)، ((المفردات)) للراغب (ص: 359). .
يَكْبُرُ: أي: يَعْظُمُ، يقال: كَبُر الأمرُ والشيءُ: إذا عظُم، وأصلُ (كبر): يدلُّ على خلافِ الصغرِ [683] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 393)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/153)، ((البسيط)) للواحدي (11/258)، ((المفردات)) للراغب (ص: 696)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 155). .
فَسَيُنْغِضُونَ: أي: يُحَرِّكونَ رُؤوسَهم تكذيبًا واستِهزاءً، والإنغاضُ: تحريكُ الرَّأسِ نحوَ الغيرِ كالمتعجِّبِ منه، وأصلُ (نغض): يدُلُّ على هَزٍّ وتَحريكٍ [684] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 257)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/453)، ((المفردات)) للراغب (ص: 816)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 204). .

المعنى الإجمالي:

يحكي الله تعالى بعضَ أقوالَ المشركينَ المنكرينَ للبعثِ والحسابِ يومَ القيامةِ، ثم يردُّ عليها، ومِن ذلك قولُهم: أئِذا بَلِيَت أجسادُنا، وصِرْنا عِظامًا وتُرابًا نُبعَثُ مِن جديدٍ؟! قُلْ لهم -يا مُحمَّدُ- على جِهةِ التَّعجيزِ: كونوا حِجارةً أو حديدًا، فإنَّ اللهَ يَبعثُكم أيضًا، أو كونوا خَلقًا يَعظُمُ ويُستَبعَدُ في عُقولِكم قَبولُه للبَعثِ، فاللهُ تعالى يبعَثُكم، فسيَقولونَ مُنكِرينَ: مَن يرُدُّنا إلى الحياةِ بعد الموتِ؟ قل لهم: يُعيدُكم ويَرجِعُكم اللهُ الذي خلقَكم من العَدَمِ أوَّلَ مَرَّةٍ. وعند سَماعِهم هذا الرَّدَّ فسيُحرِّكون رُؤوسَهم ساخِرينَ، ويَقولونَ مُستبعدينَ: متى يقَعُ هذا البَعثُ؟ قل: هو قَريبٌ، سيأتيكم -لا مَحالةَ- يومَ يُناديكم ربُّكم للخُروجِ مِن قُبورِكم للحِسابِ، فتَستَجيبونَ، وتَنقادونَ لِدَعوتِه بحَمدِه، وتظنُّونَ أنَّكم لم تمكثوا في الدنيا إلَّا زَمَنًا قليلًا.

تفسير الآيات:

وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لما استأصَل الله تعالى ضلالتَهم بادِّعاءِ آلهةٍ معَ الله بالحجةِ القاطعةِ بقولِه: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ... الآية [الإسراء: 42] ؛ قصَد استئصالَ ضلالةٍ أُخرَى من ضلالاتِهم بالحجةِ الدامغةِ، وعلى ذلك تكونُ جملةُ: وَقَالُوا أَإِذَا... معطوفةً على جملةِ: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ باعتبارِ ما تشتملُ عليه مِن قولِه: كَمَا يَقُولُونَ، ويكونُ ما بينَ الآيتين بمنزلةِ الاعتراضِ. ويجوزُ أن تكونَ هذه الآيةُ عطفًا على جملةِ: إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [الإسراء: 47] ، فيكون هذا القولُ مما تناجَوا به بينَهم، ثم يجهرون بإعلانِه ويعُدُّونَه حجَّتَهم على التكذيبِ [685] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/123). ، فالقَومُ وَصَفوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بكَونِه مَسحورًا فاسِدَ العَقلِ، فذَكَروا مِن جُملةِ ما يستدلُّون به على ذلك أنَّه يدَّعي أنَّ الإنسانَ بعد ما يصيرُ عِظامًا ورُفاتًا، فإنَّه يعودُ حَيًّا كما كان [686] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/352). .
وأيضًا لَمَّا جَرَت عادةُ القُرآنِ بإثباتِ التَّوحيدِ والنبُوَّةِ والمعادِ، وقدَّمَ الدَّلالةَ على الأوَّلَينِ، وختَمَ بإثباتِ جَهلِهم في النبُوَّةِ مع ظُهورِها؛ أتبَعَ ذلك أمرًا جَليًّا في ضَلالِهم عن السَّبيلِ في أمرِ المَعادِ، وقَرَّرَه غايةَ التَّقريرِ، وحَرَّره أتمَّ تحريرٍ، فقال تعالى مُعَجِّبًا منهم [687] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/438). :
وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49).
أي: وقال هؤلاءِ المُشرِكونَ الذين لا يُؤمِنونَ بالآخرةِ إنكارًا للبَعثِ يومَ القيامةِ: أئِذا صِرْنا عِظامًا وتُرابًا، وقد بَلِيَت أجسادُنا في قُبورِنا، فهل يَبعَثُنا اللهُ أحياءً مِن جديدٍ كما كنَّا قبل مَوتِنا؟! هذا أمرٌ مُحالٌ لا يُمكِنُ وُقوعُه [688] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/614،615)، ((تفسير السمرقندي)) (2/314)، ((تفسير القرطبي)) (10/273)، ((تفسير ابن كثير)) (5/84)، ((تفسير السعدي)) (ص: 459)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/123،124). .
كما قال تعالى: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً [النازعات: 10، 11].
وقال سُبحانَه: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 78- 79].
قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50).
أي: قلْ -يا مُحمَّدُ- لهؤلاء المُنكِرينَ للبَعثِ بعد المَوتِ: إنْ كُنتُم تَعجَبونَ مِن قُدرةِ اللهِ على إحيائِكم، فكُونوا -إن استطعتُم- حِجارةً أو حديدًا؛ فسيَبعَثُكم أيضًا [689] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/615)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 240)، ((تفسير ابن كثير)) (5/85)، ((تفسير الثعالبي)) (3/478). وذهب بعضُ المُفسِّرينَ إلى أنَّ المعنى: استشْعِرُوا وتوهَّموا وقدِّروا في أنفُسِكم أنَّكم حِجارةٌ أو حديدٌ، فلا بدَّ مِن بَعثِكم كما خُلِقتُم أوَّلَ مرَّة. وممَّن ذهب إلى ذلك: الزَّجَّاج، واستحسنه النَّحاسُ، وقال به ابنُ عطية، وابنُ جُزَيٍّ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (3/244)، ((معاني القرآن)) للنحاس (4/163)، ((تفسير ابن عطية)) (3/462)، ((تفسير ابن جزي)) (1/448). قال ابنُ القَيِّم: (وبينَ المَعنَيينِ فرقٌ لطيفٌ؛ فإنَّ المعنى الأوَّلَ يقتَضي أنَّكم لو قَدرتُم على نَقلِ خِلقتِكم مِن حالةٍ إلى حالةٍ هي أشَدُّ منها وأقوى، لنَفَذَت مَشيئتُنا وقُدرتُنا فيكم ولم تُعجِزونا، فكيف وأنتم عاجِزون عن ذلك؟! والمعنى الثاني يقتضي أنَّكم صوِّروا أنفُسَكم وأنزِلوها هذه المَنزِلةَ، ثمَّ انظُروا أتفوتُوننا وتُعجِزوننا، أم قُدرتُنا ومَشيئتُنا مُحيطةٌ بكم، ولو كنتم كذلك؟). ((إعلام الموقعين)) (1/111). .
أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51).
أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ.
أي: أو كُونوا -أيُّها المُنكِرونَ للبَعثِ- خَلْقًا مِمَّا يَعظُمُ في نُفوسِكم -إنِ استَطعتُم- مِمَّا تَستبعِدونَ معه قُدرةَ اللهِ على إحيائِكم؛ فاعلَمُوا أنَّه لا بُدَّ مِن بَعثِكم على أيِّ خِلقةٍ كنتُم، مهما بلَغَت مِنَ القوَّةِ والشدَّةِ [690] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/615)، ((تفسير القرطبي)) (10/274)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/111)، ((تفسير ابن كثير)) (5/85)، ((تفسير السعدي)) (ص: 460). قال ابنُ جرير: (جائِزٌ أن يكونَ عنى به الموتَ؛ لأنَّه عَظيمٌ في صدورِ بني آدمَ، وجائِزٌ أن يكونَ أراد به السَّماءَ والأرضَ، وجائِزٌ أن يكونَ أراد به غيرَ ذلك، ولا بيانَ في ذلك أبيَنُ ممَّا بيَّنَ جَلَّ ثناؤه، وهو كُلُّ ما كَبُرَ في صُدورِ بني آدَمَ مِن خَلْقِه؛ لأنَّه لم يَخْصُصْ منه شيئًا دونَ شَيءٍ). ((تفسير ابن جرير)) (14/619). .
فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا عَلِمَ القَومُ صِحَّةَ هذا البُرهانِ وأنَّه ضروريٌّ، انتَقَلوا إلى المُطالَبةِ بمَن يُعيدُهم، فقالوا [691] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/111). :
فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا.
أي: فسيَقولُ المُنكِرونَ للبَعثِ: مَن يَبعَثُنا بعدَ مَوتِنا إنْ كُنَّا حِجارةً أو حديدًا أو خَلقًا مِمَّا يَكبُرُ في صُدورِنا [692] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/619)، ((تفسير البغوي)) (3/138)، ((تفسير ابن كثير)) (5/85). قال ابنُ القَيِّم: (سواءٌ كان سؤالًا منهم عن تَعيينِ المُعيدِ، أو إنكارًا منهم له؛ فهو مِن أقبَحِ التعَنُّتِ وأبيَنِه). ((إعلام الموقعين)) (1/111). ؟!
قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
أي: قُلْ لهم- يا مُحمَّدُ: سيُعيدُكم اللهُ الذي ابتدأَ خَلقَكم أوَّلَ مرَّةٍ مِن العَدَمِ على غيرِ مِثالٍ سبَقَ؛ فالذي قدَرَ على البُداءةِ قادِرٌ على الإعادةِ [693] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/619)، ((تفسير ابن كثير)) (5/85)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/439)، ((تفسير السعدي)) (ص: 460). .
كما قال تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104] .
وقال سُبحانَه: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] .
فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ.
أي: فإذا أجبتَهم بذلك -يا مُحمَّدُ- فسيُحَرِّكونَ إليك رُؤوسَهم برَفعٍ وخَفضٍ؛ استهزاءً منهم [694] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/619)، ((تفسير القرطبي)) (10/274)، ((تفسير ابن كثير)) (5/85)، ((تفسير السعدي)) (ص: 460)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/128). .
كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ: 7] .
وقال سُبحانَه: فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: 2، 3].
وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا عَلِمَ القَومُ أنَّ هذا جوابٌ قاطِعٌ، انتَقَلوا إلى بابٍ آخَرَ مِن التعَنُّتِ [695] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/111). :
وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ.
أي: ويقولُ هؤلاء المُنكِرونَ للبَعثِ تعنُّتًا واستِبعادًا منهم لوُقوعِه: متى يقَعُ هذا البَعثُ الذي تَزعُمُه [696] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/621)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 637)، ((تفسير القرطبي)) (10/275)، ((تفسير ابن كثير)) (5/85)، ((تفسير السعدي)) (ص: 460). ؟
كما قال سُبحانَه: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الملك: 23 - 26].
قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا.
أي: قل لهم-يا مُحمَّدُ-: هو قريبٌ، سيأتيكم لا مَحالةَ؛ فاحذَروا ذلك [697] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/621)، ((تفسير القرطبي)) (10/275)، ((تفسير ابن كثير)) (5/86). .
كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ [الشورى: 17- 18] .
وقال سُبحانَه: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب: 63] .
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52).
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ.
أي: وذلك البَعثُ الذي تُنكِرونَه -أيُّها المُشرِكونَ- واقِعٌ يومَ يَدعوكم ربُّكم [698] قال القرطبي: (قَولُه تعالى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ الدُّعاءُ: النِّداءُ إلى المَحشَرِ بكلامٍ تَسمَعُه الخلائِقُ، يدعوهم اللهُ تعالى فيه بالخُروجِ. وقيل: بالصَّيحةِ التي يَسمَعونَها، فتَكونُ داعيةً لهم إلى الاجتِماعِ في أرضِ القيامةِ). ((تفسير القرطبي)) (10/275). وذكر غيرُ واحدٍ مِن المفسِّرين أنَّ النَّاس يُدْعَون يوم القيامةِ بالنفخِ في الصُّورِ، ومنهم: ابنُ عطيةَ، وابنُ الجوزي، وأبو حيان، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/463)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/30)، ((تفسير أبي حيان)) (7/63)، ((تفسير السعدي)) (ص: 460). للحِسابِ والجَزاءِ يومَ القيامةِ، فتَستَجيبونَ كُلُّكم لله بالخُروجِ فَورًا مِن قُبورِكم أحياءً، وتَنقادونَ لِدَعوتِه بحَمدِه [699] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/621، 622)، ((تفسير القرطبي)) (10/275، 276)، ((تفسير ابن كثير)) (5/86)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/440)، ((تفسير السعدي)) (ص: 460). قال ابن الجوزي: (وفي معنى بِحَمْدِهِ أربعةُ أقوالٍ: أحدُها: بأمْرِه، قاله ابنُ عباسٍ، وابنُ جريج، وابن زيد. والثاني: يَخرُجون مِن القُبورِ وهم يقولون: سُبحانَك وبحَمدِك، قاله سعيدُ بنُ جُبير. والثالث: أنَّ معنى بِحَمْدِهِ: بمَعرفتِه وطاعته، قاله قتادة. قال الزجَّاج: تستجيبون مُقرِّين أنَّه خالِقُكم. والرابع: تُجيبون بحَمدِ الله لا بحَمدِ أنفُسِكم، ذكره الماوَردي). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/30). ممن اختار أنَّ معنى بِحَمْدِهِ أي: بأمرِه: مقاتلُ بنُ سليمان، والسمرقندي، وأبو القاسم النيسابوري، والعليمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/535)، ((تفسير السمرقندي)) (2/315)، ((إيجاز البيان)) لأبي القاسم النيسابوري (2/502)، ((تفسير العليمي)) (4/107). وممن اختار أنَّ معنى بِحَمْدِهِ أي: حامدين: السمعاني، والزمخشري، والرسعني، والبيضاوي، والنسفي، وابنُ جزي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/248)، ((تفسير الزمخشري)) (2/672)، ((تفسير الرسعني)) (4/184)، ((تفسير البيضاوي)) (3/258)، ((تفسير النسفي)) (2/ 261)، ((تفسير ابن جزي)) (1/448)، ((تفسير الشوكاني)) (3/279). قال الزمخشري: (وقوله: بِحَمْدِهِ حال منهم، أى حامدين، وهي مبالغةٌ في انقيادِهم للبَعثِ، كقولك لِمن تأمرُه بركوب ما يشقُّ عليه فيتأبَّى ويتمنَّع: ستركبُه وأنت حامِدٌ شاكِرٌ!). ((تفسير الزمخشري)) (2/672). وقال الرسعني: (وهو تقريرٌ لمعنى انقيادِهم، كأنهم ألجأهم القَهرُ والقسرُ إلى الحمدِ والثَّناءِ على الله؛ إظهارًا للرغبة في إجابته حيث لا ينفَعُهم ذلك). ((تفسير الرسعني)) (4/184). وقال ابن عاشور: (والباءُ في بِحَمْدِهِ للملابَسة، فهي في معنى الحال، أي حامدين، فهم إذا بُعِثوا خُلق فيهم إدراكُ الحقائقِ، فعلموا أنَّ الحق لله!). ((تفسير ابن عاشور)) (15/130). وقيل: معنى الآيةِ: تستجيبونَ مقرِّينَ بأنَّه خالِقُكم. واختاره الزجاجُ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) (3/245). وقال ابن عطية: (وقوله: بِحَمْدِهِ، حكى الطبري عن ابن عباس أنَّه قال: معناه: بأمرِه، وكذلك قال ابن جريج. وقال قتادة معناه: بطاعتِه ومعرفته. وهذا كلُّه تفسيرٌ لا يعطيه اللفظُ، ولا شكَّ أنَّ جميع ذلك بأمرِ الله تعالى، وإنما معنى بِحَمْدِهِ: إمَّا أن جميع العالمين -كما قال ابن جبير- يقومون وهم يَحمَدون الله؛ ويحمدونه لِما يظهر لهم من قدرتِه. وإمَّا أن قولَه بِحَمْدِهِ هو كما تقولُ لرجل خصَمْتَه وحاوَرْتَه في علمٍ: قد أخطأتَ بحمد الله. فكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول لهم في هذه الآيات: عسى أنَّ الساعةَ قريبةٌ يوم تدعون فتقومون بخلافِ ما تعتقدون الآن، وذلك بحَمدِ الله على صِدقِ خبري؛ نحا هذا المنحى الطبري ولم يخلِّصْه). ((تفسير ابن عطية)) (3/463). قال ابن جرير: (وأولى الأقوال في ذلك بالصوابِ أن يقال: معناه: فتستجيبون لله من قبوركم بقدرته، ودعائِه إياكم. ولله الحمدُ في كل حال، كما يقول القائل: فعلتُ ذلك الفِعلَ بحمد الله، يعني: لله الحمدُ عن كلِّ ما فعلْتُه). ((تفسير ابن جرير)) (14/622-623). وقال ابن عاشور: (ويجوز أن يكونَ بِحَمْدِهِ متعلقًا بمحذوف على أنَّه من كلام النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. والتقدير: انطِقْ بحمدِه، كما يقال: باسم الله، أي: أبتدئُ، وكما يقال للمعرِّس: باليُمن والبركة. أي: احمَدِ الله على ظهور صدقِ ما أنبأتُكم به، ويكون اعتراضًا بين المتعاطفات. وقيل: إنَّ قوله: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ استئنافُ كلامٍ خطابٌ للمؤمنين؛ فيكونُ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ متعلِّقًا بفعل محذوف، أي: اذكروا يوم يدعوكم. والحمدُ على هذا الوجهِ محمولٌ على حقيقتِه، أي: تستجيبون حامدينَ الله على ما منحكم من الإيمان، وعلى ما أعدَّ لكم مما تشاهدون حين انبعاثِكم من دلائل الكرامةِ والإقبال). ((تفسير ابن عاشور)) (15/130). .
كما قال تعالى: ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الروم: 25] .
وقال سُبحانَه: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ [ق: 41 - 44] .
وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا.
أي: وتَظُنُّونَ [700] قال ابن عطية: (قَولُه تعالى: وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا يحتمل معنيين: أحدُهما: أنه أخبر أنَّهم لما رجَعوا إلى حالة الحياة، وتصَرُّف الأجساد، وقع لهم ظنٌّ أنهم لم ينفصلوا عن حال الدنيا إلَّا قليلًا لمغيبِ علمِ مقدار الزمنِ عنهم؛ إذ مَن في الآخرةِ لا يقَدِّرُ زمن الدنيا؛ إذ هم لا محالة أشَدُّ مفارقةً لها من النائمين، وعلى هذا التأويلِ عَوَّل الطبري، واحتج بقولِه تعالى: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [المؤمنون: 112، 113]. والآخر: أن يكون الظنُّ بمعنى اليقين، فكأنَّه قال لهم: يوم تُدعَون فتستجيبون بحمدِ الله، وتتيقَّنون أنَّكم إنَّما لَبِثتُم قليلًا، من حيث هو مُنقَضٍ منحَسِرٌ، وهذا كما يقال في الدنيا بأسرِها: متاعٌ قليل، فكأنَّه قِلَّة قَدرٍ، على أن الظنَّ بمعنى اليقين يقلق هاهنا؛ لأنَّه في شيء قد وقع، وإنما يجيءُ الظن بمعنى اليقين فيما لم يخرُجْ بعدُ إلى الكون والوجود). ((تفسير ابن عطية)) (3/463). ويُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/30). -أيُّها النَّاسُ- حين تُبعَثونَ يومَ القيامةِ أنَّكم لم تَمكُثوا في الدنيا [701] ممَّن قال بأنَّ المرادَ لُبثُهم في الدنيا: ابنُ أبي زمنين، والسمعاني، والزمخشري، والرسعني، وابنُ كثير، والعليمي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (3/214)، ((تفسير السمعاني)) (3/494)، ((تفسير الزمخشري)) (2/672)، ((تفسير الرسعني)) (4/184)، ((تفسير ابن كثير)) (5/86)، ((تفسير العليمي)) (4/498)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/362). قال ابن جرير: (وقولُه: وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا يقول: وتحسَبون عند موافاتِكم القيامةَ مِن هولِ ما تعاينون فيها ما لَبِثتُم في الأرض إلا قليلًا؛ كما قال جل ثناؤه: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ [المؤمنون: 112، 113]. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل... عن قتادة، وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا أي: في الدنيا، تحاقَرَت الدنيا في أنفُسِهم وقَلَّت حين عاينوا يومَ القيامة). ((تفسير ابن جرير)) (14/623). وقال ابن الجوزي: (أين يظنُّون أنَّهم لبثوا قليلًا؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدُها: بين النفختينِ، ومقداره أربعون سنة، ينقَطِعُ في ذلك العذابُ عنهم، فيرون لُبثَهم في زمان الراحةِ قليلًا، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: في الدُّنيا؛ لعِلمِهم بطول اللُّبثِ في الآخرة، قاله الحسن. والثالث: في القبورِ، قاله مقاتل). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/30). وممن اختار أنَّ المرادَ لبثُهم في القبورِ: مقاتل بن سليمان، والبقاعي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/535)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/440)، ((تفسير الشوكاني)) (3/279). وممَّن قال بأنَّ المرادَ: مدةُ لبثِهم بينَ النفختينِ: القرطبي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/276). إلَّا وَقتًا يَسيرًا [702] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/623)، ((تفسير القرطبي)) (10/276)، ((تفسير البيضاوي)) (3/258)، ((تفسير ابن كثير)) (5/86)، ((تفسير السعدي)) (ص: 460)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/130). .
كما قال تعالى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون: 112 - 114].
وقال سُبحانَه: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا [طه: 102 - 104] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الروم: 55- 56] .
وقال جلَّ جلالُه: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [النازعات: 46] .

الفوائد التربوية:

.

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قولِه: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا جعَلَ سُؤالَهم هنا عن المُعيدِ لا عن أصْلِ الإعادةِ؛ لأنَّ البحثَ عن المُعيدِ أدخَلُ في الاستحالةِ من البحثِ عن أصْلِ الإعادةِ، فهو بمنزلةِ الجوابِ بالتَّسليمِ الجدليِّ بعدَ الجوابِ بالمنْعِ؛ فإنَّهم نَفَوا إمكانَ إحياءِ الموتى، ثمَّ انتَقلوا إلى التَّسليمِ الجدليِّ؛ لأنَّ التَّسليمَ الجدليَّ أقوى في مُعارضةِ الدَّعوى من المنْعِ [704] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/128). .
2- قول الله تعالى: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا، فيه سؤالٌ: إن قالوا: كيف يكونُ قريبًا وقد انقرضَ زمنٌ طويلٌ، ولم يظهرْ؟
الجواب: إذا كان ما مضَى أكثرَ مما بقِي، كان الباقي قريبًا قليلًا [705] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/354). ، وأيضًا فإنَّ كلَّ ما هو آتٍ فهو قريبٌ [706] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/275). .
3- في قَولِه تعالى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا دَليلٌ على أنَّ الميِّتَ بعدَ المُساءَلةِ -وما يُصيبُه معها- لا يَشعُرُ بطولِ مُكْثِه في البَرزَخِ حتى يبعَثَه اللهُ يومَ القيامةِ، فلو كانوا يَشعُرونَ لعَلِموا أنَّهم أقاموا طويلًا، ليس قليلًا [707] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (1/184). ، وذلك على أحدِ أوجُهِ تأويلِ الآيةِ.

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا
- قولُه: وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا استفهامُ تَعجُّبٍ وإنكارٍ مُفيدٌ لكَمالِ الاستبعادِ والاستنكارِ للبعثِ بعدما آلَ الحالُ إلى هذا المآلِ؛ لِمَا بين غَضاضةِ الحيِّ ويُبوسةِ الرَّميمِ من التَّنافي، كأنَّ استحالةَ الأمْرِ من الظُّهورِ بحيث لا يقدِرُ المُخاطَبُ على التَّكلُّمِ به [708] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/257)، ((تفسير أبي حيان)) (7/59)، ((تفسير أبي السعود)) (5/177)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/123). .
- قولُه: أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا فيه تَقديمُ الظَّرفِ أَإِذَا للاهتمامِ به؛ لأنَّ مضمونَه هو دليلُ الاستحالةِ في ظَنِّهم؛ فالإنكارُ مُتسلِّطٌ على جُملةِ أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. وقُوَّةُ إنكارِ ذلك مُقيَّدٌ بحالةِ الكونِ عِظامًا ورُفاتًا، وتَقديرُ الجُملةِ: أإنا لمَبْعوثونَ إذا كنَّا عِظامًا ورُفاتًا؟! وليس المقصودُ من الظَّرفِ التَّقييدَ؛ لأنَّ الكونَ عِظامًا ورُفاتًا ثابتٌ لكلِّ من يَموت فيُبعَثُ [709] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/123). .
- قولُه: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا كُرِّرتِ الهمزةُ في قولِهم: أَإِنَّا؛ لتأكيدِ النَّكيرِ. وتَحليةُ الجُملةِ بـ (إنَّ) واللَّامِ؛ لتأكيدِ الإنكارِ لا لإنكارِ التَّأكيدِ [710] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/177). .
- قولُه: خَلْقًا جَدِيدًا حالٌ من ضَميرِ (مَبْعوثون)، وذُكِرَ الحالُ لتَصويرِ استحالةِ البعثِ بعدَ الفَناءِ؛ لأنَّ البعثَ هو الإحياءُ، فإحياءُ العِظامِ والرُّفاتِ مُحالٌ عندهم، وكونُهم خلقًا جديدًا أدخَلُ في الاستحالةِ [711] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/124). .
- قولُه: وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا فيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث أعاد هذه الجُملةَ بعينِها من غيرِ زيادةٍ ولا نُقصانٍ آخرَ السُّورةِ في قولِه: ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا [الإسراء: 98] ، وليس هذا تَكرارًا؛ لأنَّ الأُولى من كلامِهم في الدُّنيا حين جادلوا الرَّسولَ، وأنْكَروا البعثَ، والثَّانيةَ من كلامِ اللهِ تَعالى حين جازاهم على كُفْرِهم وقولِهم وإنكارِهم البعثَ، فقال: مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [712] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 165)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 326). [الإسراء: 97] .
2- قَولُه تعالى: قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا
- قولُه: قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا فيه حُسنُ تَرتيبٍ؛ حيث بدَأَ أوَّلًا بالصُّلبِ، ثمَّ ذكَرَ على سبيلِ التَّرقي الأصلَبَ منه، ثمَّ الأصلَبَ من الحديدِ [713] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/63). .
- قولُه: قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فيه ما يُعْرَفُ بالتَّخييرِ، وهو أنْ يُؤْتَى بقطعةٍ من الكلامِ جُملةً، وقد عُطِفَ بعضُها على بعضٍ بأداةِ التَّخييرِ، وأنْ يتضمَّنَ صِحَّةَ التَّقسيمِ؛ فيَستوعِبَ كلامُه أقسامَ المعنى الَّذي أخَذَ المُتكلِّمُ فيه؛ فاشتملَتْ هاتانِ الآيتانِ على التخييرِ، وصِحَّةِ التَّقسيمِ، وحُسْنِ التَّرتيبِ في الانتقالِ -على طريقِ البلاغةِ- من الأدنَى إلى الأعلَى، حتَّى بلَغَ سُبحانَه النِّهايةَ في أوجَزِ إشارةٍ، وأعذَبِ عِبارةٍ، حيث قال بعدَ الانتقالِ من الحجارةِ: أَوْ حَدِيدًا؛ فانتقَلَ من الحجارةِ إلى ما هو أصلَبُ منها وأقوى، ثمَّ قال بعدَ ذلك: أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ غيرَ حاصرٍ لهم في صِنْفٍ من الأصنافِ [714] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (5/457). ، فلم يُعيِّنْه؛ بل ترَك ذلك إلى أفكارِهم وجولانِها فيما هو أصلبُ مِن الحديدِ [715] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/62-63). .
3- قَولُه تعالى: أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا
- قولُه: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا الاستفهامُ في مَنْ يُعِيدُنَا تَهكميٌّ. ولمَّا كان قولُهم: مَنْ يُعِيدُنَا مُحقَّقَ الوُقوعِ في المُستقبلِ أمَرَ النَّبيَّ بأنْ يُجيبَهم عندما يقولونَه -جوابَ تَعيينٍ لمَن يُعيدُهم؛ إبطالًا للازمِ التَّهكُّمِ، وهو الاستحالةُ في نظَرِهم- بقولِه: قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؛ إجراءً لظاهرِ استفهامِهم على أصْلِه، بحمْلِه على خِلافِ مُرادِهم؛ لأنَّ ذلك أجدَرُ على طريقةِ الأُسلوبِ الحكيمِ لزيادةِ المُحاجَّةِ [716] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/128). .
- قولُه: الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ جِيءَ بالمُسنَدِ إليه موصولًا الَّذِي فَطَرَكُمْ؛ لقصْدِ ما في الصِّلةِ من الإيماءِ إلى تَعليلِ الحُكْمِ بأنَّ الَّذي فطَرَهم أوَّلَ مرَّةٍ قادرٌ على إعادةِ خلْقِهم [717] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/128). .
- وارتباطُ رَدِّ مقالتِهم بقولِه: قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا... غامِضٌ؛ لأنَّهم إنَّما استَبْعَدوا أو أحالوا إرجاعَ الحياةِ إلى أجسامٍ تفرَّقَت أجزاؤها، وانخرَمَ هيكَلُها، ولم يُعلِّلوا الإحالةَ بأنَّها صارت أجسامًا ضعيفةً، فيُرَدُّ عليهم بأنَّها لو كانت مِن أقوَى الأجسامِ لأُعِيدَت لها الحياةُ، وفي بيانِ وجْهِ هذا الارتباطِ في ذلك ثلاثةُ وُجوهٍ:
أحدُها: أنْ تكونَ صِيغَةُ الأمرِ في قولِه: كُونُوا مُستعملةً في معنى التَّسويةِ، ويكون دليلًا على جوابٍ مَحذوفٍ تَقديرُه: إنَّكم مَبْعوثون، سَواء كنتُم عِظامًا ورُفاتًا، أو كنتُم حِجارةً أو حديدًا؛ تَنبيهًا على أنَّ قُدرةَ اللهِ تعالى لا يَتعاصى عليها شَيءٌ. وذلك إدماجٌ يجعَلُ الجُملةَ في معنى التَّذييلِ.
الوجْهُ الثَّاني: أنْ تكونَ صِيغَةُ الأمْرِ في قولِه: كُونُوا مُستعملةً في الفرضِ، أي: لو فُرِضَ أنْ يكونَ الأجسادُ من الأجسامِ الصُّلبةِ، وقيل لكم: إنَّكم مَبْعوثون بعدَ الموتِ لأحَلْتُم ذلك واستبْعَدْتم إعادةَ الحياةِ فيها. وعلى كِلا الوجهينِ يكونُ قولُه: مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ نِهايةَ الكلامِ، ويكونُ قولُه: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا مُفرَّعًا على جُملةِ وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا... تَفريعًا على الاستئنافِ.
الوجْهُ الثَّالثُ: أنْ يكونَ قولُه: قُلْ كُونُوا حِجَارَةً كلامًا مُستأنفًا ليس جوابًا على قولِهم: أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا...، وتكون صِيغَةُ الأمْرِ مُستعملةً في التَّسويةِ. وفي هذا الوجْهِ يكونُ قولُه: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا مُتَّصلًا بقولِه: كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا...، ومُفرَّعًا على كلامٍ مَحذوفٍ يدُلُّ عليه قولُه: كُونُوا حِجَارَةً [718] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/125 - 126). .