الفرعُ الأوَّلُ: قاعِدةُ الأصلُ بَراءةُ الذِّمَّةِ
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "الأصل بَراءةُ الذِّمَّةِ"
[265] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (1/281)، ((عيون الأدلة)) لابن القصار (2/78)، ((البرهان)) (2/173)، ((غياث الأمم)) (ص: 504)، ((نهاية المطلب)) (1/330) و(3/274، 413) جميعها للجويني، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/218). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِالأصلُ أن تَكونَ ذِمَّةُ كُلِّ شَخصٍ بَريئةً، أي: غَيرَ مَشغولةٍ بحَقٍّ؛ لأنَّ كُلَّ شَخصٍ يولَدُ وذِمَّتُه بَريئةٌ، وشَغلُها يَحصُلُ بالمُعامَلاتِ التي يُجريها فيما بَعدُ، فكُلُّ شَخصٍ يَدَّعي خِلافَ هذا الأصلِ يُطلبُ مِنه بُرهانٌ على ذلك
[266] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/25). ويُنظر أيضًا: ((التلخيص)) للجويني (3/129). .
قال ابنُ القَصَّارِ: (الأصلُ بَراءةُ الذِّمَّةِ، فلا نُعَلِّقُ عليها شَيئًا إلَّا بدَلالةٍ)
[267] ((عيون الأدلة)) (4/164). .
وقال الباجيُّ: (الأصلُ بَراءةُ الذِّمَّةِ، وطَريقُ اشتِغالها الشَّرعُ، فمَنِ ادَّعى شَرعًا يوجِبُ ذلك فعليه الدَّليلُ، وهذه طَريقةٌ صحيحةٌ مِنَ الاستِدلالِ)
[268] ((الإشارة)) (ص: 323). .
وتَصلُحُ هذه القاعِدةُ لبناءِ كَثيرٍ مِنَ القَواعِدِ الأُصوليَّةِ عليها، مِثلُ قاعِدةِ: (القَولُ بأقَلِّ ما قيل) وهو أن يَختَلِفَ الفُقَهاءُ في حادِثةٍ على قَولينِ أو ثَلاثةٍ، فقَضى بَعضُهم فيها بقَدرٍ، وقَضى بَعضُهم فيها بأقَلَّ مِن ذلك القَدرِ، فيُقالُ: الأصلُ بَراءةُ الذِّمَّةِ، والأقَلُّ قد ثَبَتَ بالإجماعِ، وما زادَ فلا دَليلَ عليه، فلا يَلزَمُ إلَّا بأمرٍ ثابتٍ ودَليلٍ صحيحٍ
[269] يُنظر: ((اللمع)) للشيرازي (ص: 123)، ((التمهيد)) للكلوذاني (4/267)، ((الواضح)) لابن عقيل (2/317). .
وقاعِدةُ (الأصلُ بَراءةُ الذِّمَّةِ) مُتَفرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، فهيَ أخَصُّ مِنها؛ إذِ الأصلُ بَراءةُ الذِّمَّةِ، فلا يَثبُتُ شَغلُها بشَيءٍ إلَّا بيَقينٍ، فهيَ تُمَثِّلُ جانِبًا مِن جَوانِبِ هذه القاعِدةِ الكَبيرةِ، أو تَطبيقًا لها في مَجالاتٍ مُعَيَّنةٍ
[270] يُنظر: ((فقه النوازل)) لمحمد يسري (2/784). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِدَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ، والسُّنَّةُ، والإجماعُ:
1- مِنَ القُرآنِ:قَولُ اللهِ تعالى:
مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 91] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ هذا النَّصَّ يَقتَضي بعُمومِه أنَّ الأصلَ في حالِ كُلِّ مُسلِمٍ بَراءةُ الذِّمَّةِ، وعَدَمُ تَوجُّهِ مُطالبةِ الغَيرِ عليه في نَفسِه ومالِه، فيَدُلُّ على أنَّ الأصلَ في نَفسِه حُرمةُ القَتلِ، إلَّا لدَليلٍ مُنفصِلٍ، والأصلُ في مالِه حُرمةُ الأخذِ، إلَّا لدَليلٍ مُنفصِلٍ، وأن لا يَتَوجَّهَ عليه شَيءٌ مِنَ التَّكاليفِ إلَّا لدَليلٍ مُنفصِلٍ، فتَصيرُ هذه الآيةُ بهذا الطَّريقِ أصلًا مُعتَبَرًا في الشَّريعةِ، في تَقريرِ أنَّ الأصلَ بَراءةُ الذِّمَّةِ إلى أن يَرِدَ نَصٌّ خاصٌّ، فإن وَرَد نَصٌّ خاصٌّ يَدُلُّ على وُجوبِ حُكمٍ خاصٍّ في واقِعةٍ خاصَّةٍ، قَضَينا بذلك النَّصِّ الخاصِّ تَقديمًا للخاصِّ على العامِّ، وإلَّا فهذا النَّصُّ كافٍ في تَقريرِ البَراءةِ الأصليَّةِ
[271] يُنظر: ((مفاتيح الغيب)) للرازي (16/121)، ((اللباب)) للنعماني (10/172). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((البَيِّنةُ على المُدَّعي، واليَمينُ على المُدَّعى عليهـ)) [272] أخرجه من طرق: الشافعي في ((الأم)) (8/208) مختصرًا، والبيهقي (21245) واللفظ له من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. حسَّن إسنادَه ابنُ الملقن في ((خلاصة البدر المنير)) (2/449)، وذكر ثبوته الشافعي في ((الأم)) (8/27)، وابن المنذر في ((الأوسط)) (7/24). وقَوله: ((واليَمينُ على المُدَّعى عليهـ)) أخرجه البخاري (2514)، ومسلم (1710)، ولفظُ البخاريِّ: عن ابنِ أبي مليكةَ، قال: كَتَبتُ إلى ابنِ عبَّاسٍ، فكَتَبَ إليَّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَضى أنَّ اليَمينَ على المُدَّعى عليه. .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ المَقصودَ بالذِّمَّةِ: ذِمَّةُ المُدَّعى عليه، ولمَّا كانت بَراءةُ ذِمَّةِ الإنسانِ أصلًا، فالمُتَمَسِّكُ بالبَراءةِ مُتَمَسِّكٌ بالأصلِ، وهو الظَّاهرُ، وهو المُدَّعى عليه، والمُتَمَسِّكُ بخِلافِ الأصلِ هو المُدَّعي؛ ولذلك لا يُقبَلُ في دَعوى شَغلِ الذِّمَّةِ إلَّا شاهدانِ؛ ولذلك كان القَولُ للمُدَّعى عليه مَعَ يَمينِه -عِندَ عَدَمِ البَيِّنةِ- لأنَّه مُتَمَسِّكٌ بالأصلِ
[273] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (1/2/108). .
3- مِنَ الإجماعِ:أجمَعَ العُلماءُ على أنَّ الأصلَ بَراءةُ الذِّمَّةِ، ومِمَّن نَقَله القَرافيُّ
[274] قال: (الأصلُ بَراءةُ الذِّمَّةِ حتَّى يَتَحَقَّقَ الموجِبُ، هذا هو القاعِدةُ الشَّرعيَّةُ المَجمَعُ عليها). ((الفروق)) (3/38). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِمِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- عَدَمُ إيجابِ الكَفَّارةِ بالفِطرِ في نَهارِ رَمَضانَ بالأكلِ والشُّربِ؛ لأنَّ الأصلَ بَراءةُ الذِّمَّةِ، فلا يَثبُتُ شَغلُها إلَّا بدَليلٍ مِن نَصٍّ أو إجماعٍ أو قياسٍ، ولم يوجَدْ واحِدٌ مِنها، وأمَّا القياسُ على الجِماعِ فإنَّه مَمنوعٌ؛ لأنَّه أفحَشُ، فالحاجةُ إلى الزَّجرِ عنه أبلغُ
[275] يُنظر: ((شرح عمدة الفقهـ)) لابن تيمية (3/214)، ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (2/587). .
2- لو أقَرَّ شَخصٌ بمَبلَغٍ لآخَرَ قائِلًا: أظُنُّ أنَّه يوجَدُ لك بذِمَّتي كَذا مَبلغًا. فإقرارُه هذا لا يَتَرَتَّبُ عليه حُكمٌ؛ لأنَّ الأصلَ بَراءةُ الذِّمَّةِ، والأصلُ هو المُتَيَقَّنُ، فما لم يَحصُلْ يَقينٌ يَشغَلُ ذِمَّتَه لا يَثبُتُ المبلَغُ عليه للمُقِرِّ له؛ إذ إنَّ إقرارَه لم يَنشَأْ عن يَقينٍ، بَل عن شَكٍّ وظَنٍّ، وهذا لا يُزيلُ اليَقينَ ببَراءةِ ذِمَّةِ المُقِرِّ
[276] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/23). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِالتَّعارُضُ بَينَ القاعِدةِ وبَينَ أدِلَّةِ النَّقلِ عنِ الأصلِ:
إذا وقَعَ التَّعارُضُ بَينَ قاعِدةِ (الأصلُ بَراءةُ الذِّمَّةِ) وبَينَ الأدِلَّةِ النَّاقِلةِ عنِ الأصلِ، قُدِّمَت أدِلَّةُ النَّقلِ عنِ الأصلِ؛ لأنَّها تُثبِتُ شَرعًا زائِدًا على المَعهودِ، فكانت أولى.
قال ابنُ حَزمٍ في تَرجيحِ أحاديثِ الوِلايةِ: (هذا القَولُ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو الزَّائِدُ على مَعهودِ الأصلِ؛ لأنَّ الأصلَ -بلا شَكٍّ- أن تَنكِحَ المَرأةُ مَن شاءَت بغَيرِ وَليٍّ، فالشَّرعُ الزَّائِدُ هو الذي لا يَجوزُ تَركُه؛ لأنَّه شَريعةٌ وارِدةٌ مِنَ اللهِ تعالى، كالصَّلاةِ بَعدَ أن لم تَكُنْ، والزَّكاةِ بَعدَ أن لم تَكُنْ، وسائِرِ الشَّرائِعِ، ولا فَرقَ)
[277] ((المحلى)) (9/36). .