موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّالِثُ: الاختِلافُ في تَطبيقِ القاعِدةِ والتَّخريجِ عليها


القَواعِدُ الفِقهيَّةُ كَثيرًا ما تَكونُ مَحَلَّ اتِّفاقٍ بَينَ الفُقَهاءِ، لكِنَّهم قد يَختَلِفونَ في كَيفيَّةِ استِعمالِها وتَخريجِ الفُروعِ عليها.
ومِن أمثِلةِ ذلك:
قاعِدةُ (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، مِنَ القَواعِدِ الكُبرى المُتَّفَقِ عليها لدى جَميعِ المَذاهِبِ، لكِن وقَعَ خِلافٌ شَهيرٌ في تَطبيقِها بَينَ المَذهَبِ المالِكيِّ وبَقيَّةِ المَذاهِبِ. فعِندَ الجُمهورِ مَثَلًا: مَن تَيَقَّنَ أنَّه تَطَهَّرَ، ثُمَّ شَكَّ في انتِقاضِ طَهارَتِه، فهو على طَهارَتِه، ولا يَلتَفِتُ إلى الشَّكِّ الطَّارِئِ [489] يُنظر: ((فتح القدير)) لابن الهمام (4/ 35)، ((مختصر الخرقي)) (ص: 14)، ((الجمع والفرق)) لأبي محمد الجويني (1/ 147). . وهيَ مَسألةٌ يَظهَرُ فيها خِلافٌ مَذهَبيٌّ بَعدَ الاتِّفاقِ على القاعِدةِ [490] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لعلي الندوي (ص: 328). .
وعِندَ المالِكيَّةِ يَجِبُ التَّطَهُّرُ، وقيلَ: يُستَحَبُّ؛ لكَونِ طَهارَتِه أصبَحَت مَوضِعَ شَكٍّ، والمَطلوبُ مِنه -لتَبرَأَ ذِمَّتُه- طَهارةٌ يَقينيَّةٌ لا طَهارةٌ مَشكوكٌ فيها [491] يُنظر: ((التبصرة)) للخمي (6/ 2622)، ((عيون المسائل)) للقاضي عبد الوهاب (ص: 78). .
فقد نَجَمَ الخِلافُ هنا عَن تَعارُضِ أصلَينِ، وهما: أصلُ الطَّهارةِ وبَراءةِ الذِّمَّةِ؛ فإنَّ الجُمهورَ يُعمِلونَ أصلَ الطَّهارةِ، فإذا صَلَّى في هذه الحالةِ سَقَطَ الفَرضُ عَنه. والمالِكيَّةُ ذَهَبوا إلى وُجوبِ الوُضوءِ عليه إعمالًا لأصلٍ آخَرَ، وهو تَرَتُّبُ الصَّلاةِ في ذِمَّتِه، فلا تَسقُطُ عَنه إلَّا بطَهارةٍ مُتَيَقَّنةٍ. فهذا الخِلافُ ليس إبطالًا لإعمالِ الأصلِ، بَل حَدَثَ لمُعارَضةِ الأصلَينِ، وهما: بَراءةُ الذِّمَّةِ، والأصلُ بَقاءُ ما كانَ على ما كانَ [492] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لعلي الندوي (ص: 328-331). .
والفَرقُ بَينَ هذا السَّبَبِ وبَينَ السَّبَبِ الأوَّلِ: أنَّ السَّبَبَ الأوَّلَ في الاختِلافِ في الفُروعِ، أمَّا هذا السَّبَبُ ففي الاختِلافِ في كَيفيَّةِ تَخريجِ الفُروعِ على القاعِدةِ.

انظر أيضا: