الفرعُ الثَّاني: تَعريفُ المُشتَرَكِ اصطِلاحًا
المُشتَرَكُ في اصطِلاحِ الأُصوليِّينَ: هو اللَّفظُ الواحِدُ الدَّالُّ على مَعنَيَينِ مُختَلِفينِ أو أكثَرَ دَلالةً على السَّواءِ عِندَ أهلِ اللُّغةِ، سَواءٌ أكانتِ الدَّلالَتانِ مُستَفادَتَينِ مِنَ الوضعِ الأوَّلِ، أو مِن كَثرةِ الاستِعمالِ، أو كانت إحداهما مُستَفادةً مِنَ الوضعِ، والأُخرى مِن كَثرةِ الاستِعمالِ
.
وقيلَ: هو ما وُضِعَ لمَعنَيَينِ مُختَلِفينِ، أو لمَعانٍ مُختَلِفةِ الحَقائِقِ
.
وقيلَ: هو كُلُّ لَفظٍ يَشتَرِكُ فيه مَعانٍ أو أسامٍ، لا على سَبيلِ الانتِظامِ، بَل على احتِمالِ أن يَكونَ كُلُّ واحِدٍ هو المُرادَ به على الانفِرادِ، وإذا تَعَيَّنَ الواحِدُ مُرادًا به انتَفى الآخَرُ
.
وقيلَ: ما يَحتَمِلُ الأشياءَ المُختَلِفةَ احتمالًا على السَّواءِ، مِن غَيرِ أن يَسبِقَ إلى الأفهامِ بَعضُها
.
شَرحُ التَّعريفِ المُختارِ وبَيانُ احتِرازاتِه
:- عِبارةُ: "اللَّفظُ الواحِدُ": احتِرازٌ عنِ الأسماءِ المُتَبايِنةِ والمُتَرادِفةِ؛ لأنَّ المُتَبايِنةَ والمُتَرادِفةَ تَحتاجُ إلى لَفظَينِ فأكثَرَ.
- عِبارةُ: "على مَعنَيَينِ مُختَلِفينِ": احتِرازٌ عنِ الأسماءِ المُفرَدةِ، وعنِ اللَّفظِ المُتَواطِئِ؛ فإنَّه يَتَناولُ الماهيَّةَ، وهيَ مَعنى واحِدٌ وإنِ اختَلَفت محالُّها.
- عِبارةُ: "عِندَ أهلِ تلك اللُّغةِ...." إلى آخِرِه: إشارةٌ إلى أنَّ المُشتَرَكَ قد يَكونُ بَينَ حَقيقَتَينِ لُغَويَّتَينِ، أو عُرفِيَّتينِ، أو عُرفيَّةٍ ولُغَويَّةٍ.
ومِمَّا يَلتَحِقُ بالمُشتَرَكِ أنَّ اللَّفظَ قد يوضَعُ في أصلِ اللُّغةِ لمَعنًى واحِدٍ، ثُمَّ يُستَعمَلُ في غَيرِ ذلك تَجَوُّزًا، وذلك مِثلُ (اللَّمسِ) حَقيقةٌ في اللَّمسِ باليَدِ، ثُمَّ استُعمِلَ مَجازًا في الوَطءِ. وكذلك (النِّكاحُ) حَقيقةُ الوَطءِ في أصلِ اللُّغةِ، ثُمَّ غَلَبَ استِعمالُه في إرادةِ العَقدِ
.
المُرادُ بالمُشتَرَكِ هنا
:
المُشتَرَكُ نَوعانِ: مَعنَويٌّ، ولَفظيٌّ.
فالمُشتَرَكُ المَعنَويُّ: هو أن يَكونَ اللَّفظُ مَوضوعًا لقدرٍ مُشتَرَكٍ بَينَ الأفرادِ، كالإنسانِ؛ فإنَّه مَوضوعٌ للقدرِ المُشتَرَكِ بَينَ أفرادِه، وهو الحَيَوانُ النَّاطِقُ، وليس هذا النَّوعُ مِنَ المُشتَرَكِ مَوضوعَ البَحثِ هنا.
والمُشتَرَكُ اللَّفظيُّ: سَبَقَ ذِكرُ تَعريفِه.
وعِندَ إطلاقِ (المُشتَرَكِ) مِن غَيرِ تَقييدٍ باللَّفظيِّ؛ فإنَّ المَعهودَ بَينَ أهلِ العِلمِ انصِرافُه إلى المُشتَرَكِ اللَّفظيِّ.
أمثِلةٌ للمُشتَرَكِ
:1- لَفظُ (العَينِ)؛ فإنَّه وُضِعَ للعَينِ الباصِرةِ، ولعَينِ الماءِ، ولعَينِ الشَّمسِ، وللميزانِ، وللنَّقدِ مِنَ المالِ، وللشَّيءِ المُتَعَيِّنِ في نَفسِه.
ولا يَكونُ جَميعُ ذلك مُرادًا بمُطلَقِ لَفظِ (العَينِ)، ولَكِن على احتِمالِ كَونِ كُلِّ واحِدٍ مرادًا بانفِرادِه عِندَ الإطلاقِ؛ وهذا لأنَّ الاسمَ يَتَناولُ كُلَّ واحِدٍ مِن هذه الأشياءِ باعتِبارِ مَعنًى غَيرِ المَعنى الآخَرِ.
2- لَفظُ (القُرءِ) فقدِ اتَّفقَ العُلَماءُ على أنَّه يَحتَمِلُ الأطهارَ، ويَحتَمِلُ الحَيضَ، وأنَّه غَيرُ مُنتَظِمٍ لهما، بَل إذا حَمَلناه على الحَيضِ لدَليلٍ في اللَّفظِ، وهو أنَّ المَرأةَ لا تُسَمَّى ذاتَ القُرءِ إلَّا باعتِبارِ الحَيضِ، فيَنتَفي كَونُ الأطهارِ مُرادًا عِندَ الحَنَفيَّةِ.
وإذا حَمَلَه الشَّافِعيَّةُ على الأطهارِ لدَليلٍ في اللَّفظِ، وهو الاجتِماعُ، أُخرِجَ الحَيضُ مِن أن يَكونَ مُرادًا باللَّفظِ.
ففي هَذَينِ المِثالَينِ وغَيرِهما نَجَدَ أنَّ مُطلَقَ اللَّفظِ المُشتَرَكِ لا يَنتَظِمُ المَعانيَ كُلَّها، ولَكِن يَحتَمِلُ كُلُّ واحِدٍ منها أن يَكونَ مُرادًا على سَبيلِ البَدَلِ؛ ولهذا يُسَمَّى (مُشتَرَكًا)؛ فالِاشتِراكُ عِبارةٌ عنِ المُساواةِ، وفي الاحتِمالِ وُجِدَتِ المُساواةُ بَينَها؛ فبَقيَ المُرادُ به مجهولًا لا يُمكِنُ العَمَلُ بمُطلَقِه في الابتِداءِ.