موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الثَّاني: تَعريفُ الذَّريعةِ وسَدِّ الذَّرائِعِ اصطِلاحًا


أوَّلًا: تَعريفُ الذَّريعةِ اصطِلاحًا
الذَّريعةُ اصطِلاحًا لها مَعنَيانِ: عامٌّ، وخاصٌّ
1- المَعنى العامُّ للذَّريعةِ:
أي: المَدلولُ العامُّ الذي يُؤخَذُ مِنَ المَعنى اللُّغَويِّ للذَّريعةِ.
والذَّريعةُ بهذا المَعنى هيَ ما كان وسيلةً وطَريقًا إلى الشَّيءِ، وهيَ بهذا المَعنى تَشمَلُ ما كان طَريقًا إلى المَصلحةِ وما كان طَريقًا إلى المَفسَدةِ، فيُتَصَوَّرُ فيها الفَتحُ، ويُتَصَوَّرُ فيها السَّدُّ .
2- المَعنى الخاصُّ للذَّريعةِ:
وهو تَخصيصُ عُمومِه بقَصرِ مُصطَلحِ الذَّريعةِ على ما يُؤَدِّي إلى مَحظورٍ، فصارَتِ الذَّريعةُ حَقيقةً عُرفيَّةً في كُلِّ ما هو ظاهرُ الجَوازِ، ويُتَوصَّلُ به إلى فِعلِ مُحَرَّمٍ.
والذَّريعةُ بهذا المَعنى هيَ المَسألةُ التي ظاهِرُها الإباحةُ، ويُتَوصَّلُ بها إلى فِعلِ المَحظورِ .
وقيل: هيَ أمرٌ غَيرُ مَمنوعٍ لنَفسِه يُخافُ مِنِ ارتِكابِه الوُقوعُ في مَمنوعٍ .
وقيل: هيَ التَّوسُّلُ بما هو مَصلحةٌ إلى مَفسَدةٍ .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (الذَّريعةُ ما كان وسيلةً وطَريقًا إلى الشَّيءِ، لكِن صارَت في عُرفِ الفُقَهاءِ عِبارةً عَمَّا أفضَت إلى فِعلِ مُحَرَّمٍ، ولو تَجَرَّدَت عن ذلك الإفضاءِ لم يَكُنْ فيها مَفسَدةٌ؛ ولهذا قيل: الذَّريعةُ الفِعلُ الذي ظاهِرُه أنَّه مُباحٌ، وهو وسيلةٌ إلى فِعلِ المُحَرَّمِ) .
وكان بَعضُ الفُقَهاءِ المُتَقدِّمينَ يُطلِقُ عليها لَفظَ الشُّبهةِ، وفي ذلك قال ابنُ العَرَبيِّ: (وأمَّا المَعنى فإنَّ مالكًا زادَ في الأُصولِ مُراعاةَ الشُّبهةِ، وهيَ التي يُسَمِّيها أصحابُنا الذَّرائِعَ) .
وقال أيضًا: (وأمَّا الشُّبهةُ فهيَ في ألسِنةِ الفُقَهاءِ عِبارةٌ عن كُلِّ فِعلٍ أشبَهَ الحَرامَ، فلم يَكُنْ مِنه ولا بَعُدَ عنه، ويُسَمِّيها عُلماؤُنا الذَّرائِعَ، ومَعناه: كُلُّ فِعلٍ يُمكِنُ أن يُتَذَرَّعَ به -أي: يُتَوصَّلُ به- إلى ما لا يَجوزُ) .
ثانيًا: تَعريفُ سَدِّ الذَّرائِعِ اصطِلاحًا
المَقصودُ بسَدِّ الذَّرائِعِ: حَسمُ مادَّةِ وسائِلِ الفَسادِ دَفعًا لها .
أو: إبطالُ الأعمالِ التي تَؤولُ إلى فسادٍ مُعتَبَرٍ، وهيَ في ذاتِها لا مَفسَدةَ فيها .
أو: مَنعُ ما يَجوزُ لئَلَّا يُتَطَرَّقَ به إلى ما لا يَجوزُ . أو: مَنعُ الجائِزِ لئَلَّا يُتَوسَّلَ به إلى المَمنوعِ .
وقيل: مَنعُ الوسائِلِ المُباحةِ في ظاهِرِها والمُفضيةِ غالبًا إلى مَفاسِدَ راجِحةٍ .
ومِمَّا سَبَقَ يُستَخلَصُ أنَّ مَعنى سَدِّ الذَّرائِعِ له ثَلاثةُ قُيودٍ يَنضَبطُ بها:
الأوَّلُ: أنَّ الوسيلةَ المُتَوسَّلَ بها في أصلِها مُباحةٌ، ولأجلِ أنَّها مُباحةٌ جَرى الخِلافُ في سَدِّها، ولو كانت مَمنوعةً أو مُحَرَّمةً لما وقَعَ خِلافٌ في سَدِّها .
الثَّاني: أن تُفضيَ إلى فِعلِ مُحَرَّمٍ ، فالمَنعُ عن هذه الوسيلةِ ليس لذاتِها حينَئِذٍ لكَونِها مُباحةً، بَل المَنعُ عنها لِما اشتَمَلت عليه مِنَ الإفضاءِ إلى مَفسَدةٍ.
الثَّالثُ: أن يَكونَ الإفضاءُ إلى مَفسَدةٍ راجِحةٍ غالبًا؛ لأنَّ العِبرةَ بغالِبِ الظَّنِّ، وغالِبُ الظَّنِّ يجري مَجرى العِلمِ في الأحكامِ، فإذا كانتِ الوسيلةُ تُفضي نادِرًا إلى مَفسَدةٍ فإنَّها لا تُمنَعُ؛ لأنَّ النَّادِرَ لا حُكمَ له ، قال الشَّاطِبيُّ: (ما يَكونُ أداؤُه إلى المَفسَدةِ نادِرًا، فهو على أصلِه مِنَ الإذنِ) .
الفَرقُ بَينَ الحِيَلِ والذَّرائِعِ :
1- أنَّ الحِيَلَ أعمالٌ يَأتيها بَعضُ النَّاسِ في خاصَّةِ أحوالِه للتَّخَلُّصِ مِن حَقٍّ شَرعيٍّ عليه بصورةٍ مُعتَبَرةٍ شَرعًا، حتَّى يُظَنَّ أنَّه جارٍ على حُكمِ الشَّرعِ. وأمَّا الذَّرائِعُ فهيَ ما يُفضي إلى فسادٍ، سَواءٌ قَصَدَ النَّاسُ به إفضاءَه إلى فسادٍ أم لم يَقصِدوا، وذلك في الأحوالِ العامَّةِ.
فحَصَل الفرقُ بَينَ الذَّرائِعِ وبَينَ الحِيَلِ مِن جِهَتَينِ: جِهةِ العُمومِ والخُصوصِ، وجِهةِ القَصدِ وعَدَمِه.
2- أنَّ الحِيَلَ لا تَكونُ إلَّا مُبطِلةً لمَقصَدٍ شَرعيٍّ، والذَّرائِعُ قد تَكونُ مُبطِلةً لمَقصَدِ الشَّارِعِ مِنَ الصَّلاحِ، وقد لا تَكونُ مُبطِلةً.

انظر أيضا:

  1. (1) يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (6/172)، ((أثر الأدلة المختلف فيها)) لمصطفى البغا (ص:566).
  2. (2) يُنظر: ((الإشارة)) لأبي الوليد الباجي (ص:80). ويُنظر أيضًا: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (2/331).
  3. (3) يُنظر: ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (2/58،57).
  4. (4) يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (5/183).
  5. (5) ((الفتاوى الكبرى)) (6/172).
  6. (6)   ((القبس)) (2/779).
  7. (7)   ((القبس)) (2/785).
  8. (8) يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (2/32).
  9. (9) يُنظر: ((مقاصد الشريعة الإسلامية)) لابن عاشور (3/335).
  10. (10) يُنظر: ((شرح التلقين)) للمازري (2/317).
  11. (11) يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (3/564).
  12. (12) يُنظر: ((الاجتهاد في مناط الحكم الشرعي)) لبلقاسم الزبيدي (ص: 459).
  13. (13) يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (6/173،172)، ((سد الذرائع)) للبرهاني (ص:79،78)، ((الاجتهاد في مناط الحكم الشرعي)) لبلقاسم الزبيدي (ص: 460).
  14. (14) قال ابنُ تيميَّةَ عنِ الذَّريعةِ: (عِبارةٌ عَمَّا أفضَت إلى فِعلِ مُحَرَّمٍ، ولو تَجَرَّدَت عن ذلك الإفضاءِ لم يَكُنْ فيها مَفسَدةٌ؛ ولهذا قيل: الذَّريعةُ: الفِعلُ الذي ظاهِرُه أنَّه مُباحٌ وهو وسيلةٌ إلى فِعلِ المُحرَّمِ، أمَّا إذا أفضَت إلى فسادٍ ليسَ هو فِعلًا، كإفضاءِ شُربِ الخَمرِ إلى السُّكْرِ، وإفضاءِ الزِّنا إلى اختِلاطِ المياهِ، أو كان الشَّيءُ نَفسُه فسادًا كالقَتلِ والظُّلمِ، فهذا ليسَ مِن هذا البابِ؛ فإنَّا نَعلمُ أنَّما حُرِّمَتِ الأشياءُ لكَونِها في نَفسِها فَسادًا، بحَيثُ تَكونُ ضَرَرًا لا مَنفعةَ فيه، أو لكَونِها مُفضيةً إلى فسادٍ بحَيثُ تَكونُ هيَ في نَفسِها فيها مَنفَعةٌ، وهيَ مُفضيةٌ إلى ضَرَرٍ أكثَرَ مِنها فتَحرُمُ، فإن كان ذلك الفسادُ فِعلَ مَحظورٍ سُمِّيَت ذَريعةً، وإلَّا سُمِّيَت سَبَبًا ومُقتَضيًا ونَحوَ ذلك مِنَ الأسماءِ المَشهورةِ). ((الفتاوى الكبرى)) (6/173،172).
  15. (15) يُنظر: ((الاجتهاد في مناط الحكم الشرعي)) لبلقاسم الزبيدي (ص: 460).
  16. (16) ((الموافقات)) (3/74).
  17. (17) يُنظر: ((مقاصد الشريعة الإسلامية)) لابن عاشور (3/336).