المَطلَبُ الثَّالثُ: حُكمُ الاستِدلالِ بالاستِحسانِ
قَبلَ الشُّروعِ في بَيانِ حُكمِ الاستِدلالِ بالاستِحسانِ يَحسُنُ ذِكرُ مَواطِنِ الاتِّفاقِ، وهيَ على النَّحوِ التَّالي:
1- أنَّ إطلاقَ لَفظِ الاستِحسانِ ليس فيه مَحظورٌ شَرعيٌّ؛ لأنَّه وإن وقَعَ عن شَهوةٍ وتَلذُّذٍ فهو أيضًا قد يَقَعُ على العِلمِ بحُسنِ الشَّيءِ لدَليلٍ يَدُلُّ عليه، فيُقالُ: استَحسَنتُ كَذا مِن أجلِ كَذا، وقد ورَدَ الشَّرعُ بذلك في قَولِ اللهِ تعالى:
فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 17-18] ، وقال اللهُ تعالى:
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر: 55] .
وقال عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه:
((ما رَآه المُسلِمونَ حَسَنًا فهو عِندَ اللهِ حَسَنٌ))
، وقدِ استَعمَل هذا اللَّفظَ أبو حَنيفةَ ومالِكٌ والشَّافِعيُّ وأحمدُ؛ فهو مَحَلُّ وِفاقٍ
.
2- أنَّ الاستِحسانَ الذي هو القَولُ بالتَّشَهِّي والهَوى، وإثباتُ حُكمٍ مِن غَيرِ دَليلٍ مِنَ الشَّارِعِ على ذلك الحُكمِ: لم يَقُلْ به أحَدٌ، ولا يُجيزُه أحَدٌ
.
3- أنَّ العَمَلَ بالنَّصِّ أوِ الإجماعِ أوِ القياسِ الخَفيِّ إذا وقَعَ في مُقابَلةِ قياسٍ جَليٍّ، أوِ العَمَلَ بأقوى الدَّليلينِ: مَحَلُّ وِفاقٍ بَينَ العُلماءِ، ولا يُتَصَوَّرُ فيه خِلافٌ كما قال التَّفتازانيُّ
.
وأشارَ إليه الشِّيرازيُّ؛ حيثُ قال: (وإن كان تَخصيصَ بَعضِ الجُملةِ مِنَ الجُملةِ بدَليلٍ يَخُصُّها أوِ الحُكمِ بأقوى الدَّليلينِ، فهذا مِمَّا لا يُنكِرُه أحَدٌ، فيَسقُطُ الخِلافُ في المَسألةِ، ويَحصُلُ الخِلافُ في أعيانِ الأدِلَّةِ التي يَزعُمونَ أنَّها أدِلَّةٌ خَصُّوا بها الجُملةَ، أو دَليلٌ أقوى مِن دَليلٍ)
.
وقال القَرافيُّ عنِ الاستِحسانِ: (قد قال به مالِكٌ -رَحِمَه اللهُ- في عِدَّةِ مَسائِلَ)
.
وقال ابنُ قُدامةَ: (قال القاضي يَعقوبُ: القَولُ بالاستِحسانِ مَذهَبُ أحمَدَ رَحِمَه اللهُ، وهو: أن تَترُكَ حُكمًا إلى حُكمِ هو أَولى مِنه.
وهذا مِمَّا لا يُنكَرُ، وإنِ اختُلف في تَسميَتِه، فلا فائِدةَ في الاختِلافِ في الاصطِلاحاتِ مَعَ الاتِّفاقِ في المَعنى)
.
وقال السَّمعانيُّ: (اعلَمْ أنَّ مَرجِعَ الخِلافِ مَعَهم في هذه المَسألةِ إلى نَفسِ التَّسميةِ؛ فإنَّ الاستِحسانَ على الوَجهِ الذي ظَنَّه بَعضُ أصحابِنا مِن مَذهَبِهم لا يَقولونَ به، والذي يَقولونَه لتَفسيرِ مَذهَبِهم به العُدولُ في الحُكمِ مِن دَليلٍ إلى دَليلٍ هو أقوى مِنه، وهذا لا نُنكِرُه، لكِنَّ هذا الاسمَ لا نَعرِفُهـ)
.
وقال أيضًا: (وأمَّا تَفسيرُهمُ الذي يُفسِّرونَه فنَحنُ قائِلونَ بذلك، وليسَ مِمَّا يَتَحَصَّلُ فيه خِلافٌ، وقد ذَكَرَ الشَّافِعيُّ لفظَ الاستِحسانِ في مَراسيلِ ابنِ المُسَيِّبِ)
.
وبَعدَ هذا البَيانِ يَظهَرُ أنَّ الخِلافَ المَذكورَ في حُجِّيَّةِ الاستِحسانِ لم يَرِدْ على مَحَلٍّ واحِدٍ، وعِندَ التَّحقيقِ يَتَبَيَّنُ أنَّ ما يَمنَعُه الشَّافِعيَّةُ مِنَ الاستِحسانِ لا يَقولُ به الحَنَفيَّةُ ولا غَيرُهم مِنَ المالكيَّةِ والحَنابلةِ، وأنَّ ما يَقولُ به الحَنَفيَّةُ ومَن وافقَهم لا يَمنَعُه الشَّافِعيَّةُ، وإنَّما خِلافُهم في التَّسميةِ فقَط، فيَظهَرُ أنَّ سَبَبَ الخِلافِ في حُجِّيَّةِ الاستِحسانِ مَرَدُّه إلى عَدَمِ تَحقيقِ مَقصودِ الفريقَينِ
.
قال تاجُ الدِّينِ السُّبكيُّ: (لا يَتَحَقَّقُ استِحسانٌ مُختَلَفٌ فيه؛ لأنَّ الخِلافَ لم يُقطَعْ في إطلاقِ لَفظةِ الاستِحسانِ)
.
وقال الماوَرْديُّ: (أمَّا الاستِحسانُ فيما أوجَبَته أدِلَّةُ الأُصولِ، واقتَرَن به استِحسانُ العُقولِ؛ فهو حُجَّةٌ مُتَّفَقٌ عليها، يَلزَمُ العَمَلُ بها)
.
الأدِلَّةُ على حُجِّيَّةِ الاستِحسانِ:أوَّلًا: مِنَ القُرآنِ الكَريمِ1- قَولُ اللهِ تعالى:
فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 17-18] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ نَدَبَ إلى اتِّباعِ أحسَنِ القَولِ، وأوجَبَ الهدايةَ لفاعِلِه، وقد ورَدَتِ الآيةُ في مَعرِضِ الثَّناءِ والمَدحِ لمُتَّبِعِ أحسَنِ القَولِ، ولولا أنَّه حُجَّةٌ لما كان كذلك؛ فدَلَّ على صِحَّةِ الاحتِجاجِ به
.
2- قَولُ اللهِ تعالى:
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر: 55] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ تعالى أمَرَنا باتِّباعِ أحسَنِ ما أُنزِل، ولولا أنَّه حُجَّةٌ لما أمَرَ به
.
ثانيًا: الإجماعُوذلك أنَّ المُسلمينَ قد أجمَعوا على أحكامٍ عَدَلوا عنِ الأُصولِ فيها إلى الاستِحسانِ
.
وقد نَقَل التَّفتازانيُّ
، والشِّيرازيُّ
، وغَيرُهما أنَّ الاستِحسانَ -الذي هو العُدولُ عن قياسٍ إلى ما هو أقوى لنَصٍّ أو إجماعٍ أو قياسٍ أو نَحوِها مِنَ الأدِلَّةِ التي تَقتَضي ذلك- مِمَّا لا يُنكِرُه أحَدٌ مِنَ العُلماءِ
.