موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الأوَّلُ: استِصحابُ العَدَمِ الأصليِّ


ويُطلَقُ عليه أيضًا استِصحابُ البَراءةِ الأصليَّةِ ، واستِصحابُ بَراءةِ الذِّمَّةِ ، أو عَدَمُ الدَّليلِ ، ويُقصَدُ به: الحُكمُ ببَراءةِ ذِمَّةِ المُكَلَّفِ مِنَ التَّكاليفِ الشَّرعيَّةِ والحُقوقِ الماليَّةِ حتَّى يَدُلَّ الدَّليلُ على شَغلِها، والتَّكاليفُ لا تَثبُتُ إلَّا بالسَّمعِ، وما لم يَأتِ دَليلٌ يَدُلُّ على شَغلِ الذِّمَّةِ فإنَّ الذِّمَّةَ تَبقى على الأصلِ، وهي البَراءةُ مِنَ التَّكاليفِ حتَّى يَرِدَ دَليلٌ سَمعيٌّ؛ إذ لا مَدخَلَ للعَقلِ في إثباتِ التَّكاليفِ، فما كان طَريقُ وُجودِه السَّمعَ فهو على العَدَمِ مَحمولٌ حتَّى يَرِدَ غَيرُ ذلك .
والتَّمَسُّكُ باستِصحابِ البَراءةِ الأصليَّةِ بَعدَ وُرودِ الشَّرعِ؛ مِنه ما يَرجِعُ إلى العِلمِ بالعَدَمِ، ومِنه ما يَرجِعُ إلى الظَّنِّ بالعَدَمِ، والظَّنُّ في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ وفي وُجوبِ الاعتِمادِ عليه كالعِلمِ .
ومِثالُه:
1- إذا أوجَبَ الشَّارِعُ صَومَ رَمَضانَ بَقيَ صَومُ شَوَّالٍ على ما كان عليه .
2- إذا أوجَبَ عِبادةً في وَقتٍ بَقيَتِ الذِّمَّةُ بَعدَ خُروجِ الوَقتِ على البَراءةِ الأصليَّةِ .
3- إذا أوجَبَ على قادِرٍ بَقيَ العاجِزُ على ما كان .
4- الحُكمُ ببَراءةِ ذِمَّةِ الشَّخصِ مِنَ الدُّيونِ التي لم يَقُمْ دَليلٌ على تَعَلُّقِها بها .
وهذا النَّوعُ حُجَّةٌ، وهو مَذهَبُ جُمهورِ العُلماءِ، وقد حُكيَ فيه اتِّفاقُ العُلماءِ، ومِمَّن حَكى ذلك: الباقِلَّانيُّ ، وابنُ التِّلِمسانيِّ ، وأبو يُعلى ، وهيَ دَعوى مَحَلُّ نَظَرٍ ؛ لمُخالَفةِ بَعضِ الحَنَفيَّةِ في ذلك، ومِنهم عَلاءُ الدِّينِ السَّمَرقَنديُّ .
واستَدَلَّ الجُمهورُ على حُجِّيَّتِه بما يَلي:
1- قَولُ اللهِ سُبحانَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [المائدة: 101].
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ تعالى نَهانا أن نَسألَ عَمَّا لم يُبدَ لنا؛ لأنَّه مِمَّا عَفا اللهُ عنه، فدَلَّ على أنَّ ما لم يَذكُرْه اللهُ لنا فهو مِمَّا عَفا اللهُ عنه، وهذا عَينُ الاستِصحابِ .
2- قولُ اللهِ تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذَّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الأُمَّةَ مُجمِعةٌ على أنَّه لا تَكليفَ قَبلَ مَجيءِ الأنبياءِ، ولا تَكليفَ بَعدَ المَجيءِ إلَّا بَعدَ نَصبِ دَليلٍ، فكُلُّ حُكمٍ لم يَنصِبِ اللَّهُ للمُكَلَّفينَ دَليلًا عليه فهو غَيرُ ثابتٍ عليهم؛ فنَحنُ على ذلك حتَّى يَرِدَ التَّغييرُ على ألسِنةِ الأنبياءِ .

انظر أيضا:

  1. (1) يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/ 526)، ((المستصفى)) للغزالي (ص:159)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/ 458)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص:447).
  2. (2) يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/ 526)، ((المستصفى)) للغزالي (ص:159)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/ 458)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص:447).
  3. (3) يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص:159)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/462)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/158).
  4. (4) يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص:159، 160)، ((التمهيد)) للكلوذاني (1/31).
  5. (5) يُنظر: ((الورقات)) لإمام الحرمين (ص:27)، ((الجامع)) لعبدالكريم النملة (ص: 375).
  6. (6) يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص:159، 160). قال ابنُ تَيميَّةَ: (ومِمَّا يُشبِهُه [أي: الاستِصحابَ] الاستِدلالُ بعَدَمِ الدَّليلِ السَّمعيِّ على عَدَمِ الحُكمِ الشَّرعيِّ، مِثلُ أن يُقالَ: لو كانتِ الأُضحيَّةُ أوِ الوِترُ واجِبًا لنَصَبَ الشَّرعُ عليه دَليلًا شَرعيًّا؛ إذ وُجوبُ هذا لا يُعلَمُ بدونِ الشَّرعِ، ولا دَليلَ فلا وُجوبَ؛ فالأوَّلُ يبقى على نَفيِ الوُجوبِ والتَّحريمِ المَعلومِ بالعَقلِ حتَّى يَثبُتَ المُغَيِّرُ له، وهذا استِدلالٌ بعَدَمِ الدَّليلِ السَّمعيِّ المُثبِتِ على عَدَمِ الحُكمِ؛ إذ يَلزَمُ مِن ثُبوتِ مِثلِ هذا الحُكمِ ثُبوتُ دَليلِه السَّمعيِّ). ((مَجموع الفتاوى)) (11/ 342).
  7. (7) يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/458).
  8. (8) يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص:159)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/152).
  9. (9) يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص:159)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/152).
  10. (10) يُنظر: ((التحقيق والبيان)) للأبياري (4/181).
  11. (11) يُنظر: ((أصول الفقهـ)) لعياض السلمي (ص: 199).
  12. (12) قال الزَّركَشيُّ: (قال أبو الطَّيِّبِ [الباقِلَّانيُّ]: وهذا [أي: استِصحابُ العَدَمِ الأصليِّ المَعلومِ بدَليلِ العَقلِ في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ] حُجَّةٌ بالإجماعِ، أي: مِنَ القائِلينَ بأنَّه لا حُكمَ قَبلَ الشَّرعِ). ((البحر المحيط)) (8/18). وقال العُكبَريُّ: (يُقالُ: إنَّه مُستَراحُ الذِّمَمِ، ودَليلُ مَن لا دَليلَ له، إذا كان مُطالبةً لا استِدلالًا، وهذا الاحتِجاجُ به صحيحٌ سائِغٌ عِندَ أهلِ العِلمِ). ((رسالة العكبري في أصول الفقهـ)) (ص:79).
  13. (13) قال: (هذا هو القِسمُ الأوَّلُ مِنَ الاستِصحابِ: وهو استِصحابُ البَراءةِ الأصليَّةِ، وهو مُتَّفقٌ عليهـ). ((شرح المعالم)) (2/462).
  14. (14) قال: (وهذا [أي: استِصحابُ بَراءةِ الذِّمَّةِ مِنَ الوُجوبِ حتَّى يَدُلَّ دَليلٌ شَرعيٌّ عليه] صحيحٌ بالإجماعِ مِن أهلِ العِلمِ، والاحتِجاجُ به سائِغٌ). ((العدة)) (4/ 1262).
  15. (15) جاءَ في المُسَوَّدةِ: (وأمَّا دَعوى الإجماعِ على نَفي الواجِباتِ بالاستِصحابِ ففيه نَظَرٌ). ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 488).
  16. (16) قال: (إذا ثَبَتَ هذا فكان التَّمَسُّكُ باستِصحابِ حالِ العَقلِ في انتِفاءِ الأحكامِ وبَراءةِ الذِّمَمِ عنِ الشَّغلِ بالوُجوبِ تَمَسُّكًا بالجَهلِ الثَّابتِ بعَدَمِ الدَّليلِ، مَعَ وُرودِ الدَّليلِ الشَّرعيِّ بَعدَ المَبعَثِ، وإنَّه فاسِدٌ). ((ميزان الأصول)) (ص: 664). ويُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/381). قال الزَّركَشيُّ: (والمَنقولُ في كُتُبِ أكثَرِ الحَنَفيَّةِ أنَّه لا يَصِحُّ حُجَّةً على الغَيرِ، ولكِنْ يَصلُحُ للعُذرِ والدَّفعِ. وقال صاحِبُ الميزانِ مِنَ الحَنَفيَّةِ: ذَهَبَ بَعضُ أصحابِنا إلى أنَّه ليسَ بحُجَّةٍ لإبقاءِ ما كان، ولا لإثباتِ أمرٍ لم يَكُنْ. وقال أكثَرُ المُتَأخِّرينَ: إنَّه حُجَّةٌ يَجِبُ العَمَلُ به في نَفسِه لإبقاءِ ما كان حتَّى لا يورَثَ مالُه، ولا يَصلُحُ حُجَّةً لإثباتِ أمرٍ لم يَكُنْ، كحَياةِ المَفقودِ؛ لمَّا كان الظَّاهِرُ بَقاءَها صَلَحَت حُجَّةً لإبقاءِ ما كان حتَّى لا يَرِثَ مِنَ الأقارِبِ، والثَّابتُ لا يَزولُ بالشَّكِّ. وغَيرُ الثَّابتِ لا يَثبُتُ بالشَّكِّ). ((البحر المحيط)) (8/ 15).
  17. (17) يُنظر: ((الواضح)) لابن عقيل (2/311).
  18. (18) يُنظر: ((التحقيق والبيان)) للأبياري (4/180). ويُنظر أيضًا: ((التمهيد)) للكلوذاني (4/253).