الفرعُ الثَّاني: الإنكارُ في المَسائِلِ التي يَسوغُ فيها الخِلافُ
المَسائِلُ التي يَسوغُ فيها الخِلافُ هيَ المَسائِلُ التي لا نَصَّ فيها مِن كِتابٍ أو سُنَّةٍ أو إجماعٍ، أو ورَدَ فيها النَّصُّ لكِنَّه ليسَ خاليًا مِنَ المُعارِضِ القَريبِ له في القوَّةِ مِن حَيثُ الثُّبوتُ أوِ الدَّلالةُ، فيَكونُ الخـِلافُ قَويًّا فيـه، ويُطلِقُ عليها العُلَماءُ مَسائِلَ الاجتِهادِ
.
قال السَّمعانيُّ في بَيانِ الذي يَسوغُ فيه الاختِلافُ: (فُروعُ الدِّياناتِ إذا استُخرِجَت أحكامُها بأماراتِ الاجتِهادِ ومَعاني الاستِنباطِ)
.
والإنكارُ في هذه المَسائِلِ له حالاتٌ:الحالةُ الأولى: أن يَعتَقِدَ مَن يُريدُ الإنكارَ التَّحريمَ، ويَعتَقِدُ الفاعِلُ الإباحةَ.
فهذه المَسائِلُ لا يُنكَرُ فيها على المُخالِفِ، وهو مَذهَبُ جُمهورِ العُلَماءِ
، واختارَه مِنهم: النَّوَويُّ
، وابنُ تَيميَّةَ
، والقَرافيُّ
.
قال الشَّافِعيُّ: (وما كان مِن ذلك يَحتَمِلُ التَّأويلَ، ويُدرَكُ قياسًا، فذَهَبَ المُتَأوِّلُ أوِ القايِسُ إلى مَعنًى يَحتَمِلُه الخَبَرُ أوِ القياسُ، وإن خالَفه فيه غَيرُه، لم أقُلْ: إنَّه يُضَيَّقُ عليه الخِلافُ في المَنصوصِ)
.
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (الأقوالُ والأفعالُ التي لم يُعلَمْ قَطعًا مُخالَفتُها للكِتابِ والسُّنَّةِ، بَل هيَ مِن مَوارِدِ الاجتِهادِ التي تَنازَع فيها أهلُ العِلمِ والإيمانِ؛ فهذه الأمورُ قد تَكونُ قَطعيَّةً عِندَ بَعضِ مَن بَيَّن اللهُ له الحَقَّ فيها، لكِنَّه لا يُمكِنُه أن يُلزِمَ النَّاسَ بما بانَ له ولم يَبِنْ لهم... وقد تَكونُ اجتِهاديَّةً عِندَه أيضًا، فهذه تُسَلَّمُ لكُلِّ مُجتَهِدٍ ومَن قَلَّدَه طَريقَهم تَسليمًا نَوعيًّا، بحَيثُ لا يُنكَرُ ذلك عليهم)
.
الأدِلَّةُ:1- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لنا لمَّا رَجَعَ مِنَ الأحزابِ:
((لا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصرَ إلَّا في بَني قُرَيظةَ، فأدرَكَ بَعضُهمُ العَصرَ في الطَّريقِ، فقال بَعضُهم: لا نُصَلِّي حتَّى نَأتيَها، وقال بَعضُهم: بَل نُصَلِّي، لم يُرِدْ مِنَّا ذلك، فذُكِرَ ذلك للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَم يُعنِّفْ واحِدًا مِنهم))
.
فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يُنكِرْ على أيٍّ مِنَ الطَّائِفتَينِ؛ لكَونِهم مُجتَهِدينَ، والنَّصُّ يَحتَمِلُ الأمرَ.
قال النَّوويُّ في فوائِدِ هذا الحَديثِ: (لا يُعنَّفُ المُجتَهِدُ فيما فعَلَه باجتِهادِه إذا بَذَلَ وُسعَه في الاجتِهادِ)
.
2- أنَّ مَسائِلَ الاجتِهادِ ليسَ فيها حُجَّةٌ مُلزِمةٌ، فلَيسَ أحَدُ القَولَينِ بأَولى مِنَ الآخَرِ، فلا يُقطَعُ ببُطلانِ قَولِ المُخالِفِ، ومِن ثَمَّ لم يَجُزِ الإنكارُ عليه، وإذا لم يَكُنْ للمُنكِرِ سِوى رَأيِه واجتِهادِه فلا يَسوغُ الإنكارُ؛ لأنَّه لا يَجِبُ على غَيرِه المَصيرُ إليه والأخذُ به، بخِلافِ الكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ
.
قال ابنُ قُدامةَ: (مَسائِلُ الاجتِهادِ مَظنونةٌ، فلا يُقطَعُ ببُطلانِ مَذهَبِ المُخالِفِ)
.
وقيلَ: إنَّه يُنكَرُ على المُقَلِّدِ دونَ المُجتَهِدِ. وهو رِوايةٌ عن أحمَدَ
.
الحالةُ الثَّانيةُ: أن يَتَّفِقَ اعتِقادُ مَن يُريدُ الإنكارَ والمُلابِسِ على تَحريمِ فِعلٍ أو وُجوبِه، وذلك كأن يَكونَ الفِعلُ مختَلَفًا في تَحريمِه اختلافًا قويًّا، وأقدَمَ على ارتكابِـه مـن يَعتَقِدُ تَحريمَه، فهَل يَسوغُ أن يُنكِرَ عليه غَيرُه مِمَّن يَعتَقِدُ التَّحريمَ؟ وكذلك الحالُ فيها إذا كان يَعتَقِدُ وُجوبَ فِعلٍ وتَركِه، فالذي يَتَحَصَّلُ مِن كَلامِ أهلِ العِلمِ أنَّه يُنكَرُ على مَن هذه حالُه؛ وذلك لأنَّه مُنتَهِكٌ للحُرمةِ مِن جِهةِ ما يَعتَقِدُه، فيَتَوجَّهُ الإنكارُ عليه
.
قال العِزُّ بنُ عبدِ السَّلامِ: (فمَن أتى شَيئًا مُختَلَفًا في تَحريمِه مُعتَقِدًا تَحريمَه، وجَبَ الإنكارُ عليه؛ لانتِهاكِ الحُرمةِ، وذلك مِثلُ اللَّعِبِ بالشِّطرَنجِ)
.
وقال الغَزاليُّ: (لو رَأى الشَّافِعيُّ شافِعيًّا يَشرَبُ النَّبيذَ ويَنكِحُ بلا ولـيٍّ ويَطَـأُ زَوجَتَه، فهذا مَحَلُّ نَظَرٍ، والأظهَرُ أنَّ له الحِسبةَ والإنكارَ)
.
الحالةُ الثَّالِثةُ: أن يَرى مَن يَعتَقِدُ إباحةَ فِعلٍ شخصًا آخَرَ يَفعَلُه، وهذا الشَّخصُ يَعتَقِدُ تَحريمَه، فهَل له أن يُنكِرَ عليه؟
هذه المَسألةُ وَصَفها الغَزاليُّ بأنَّها مَسألةٌ دَقيقةٌ، والاحتِمالاتُ فيها مُتَعارِضةٌ
. وقد ذَكَرَ فيها احتِمالَينِ:
الاحتِمالُ الأوَّلُ: أنَّه يُنكِرُ عليه؛ لأنَّ الفِعلَ وإن كان في نَظَرِ الرَّائي صوابًا لكِنَّه ليسَ كذلك في حَقِّ الفاعِلِ؛ لأنَّ الفاعِلَ يَعتَقِدُ التَّحريمَ، ومُخالَفةُ اعتِقادِه مَعصيةٌ في حَقِّه.
الاحتِمالُ الثَّاني: أنَّه لا يُنكِرُ عليه؛ لأنَّ الفِعلَ في نَظَرِ الرَّائي ليسَ منكَرًا، فلا يَمنَعُ منه، وإلى هذا مال الغَزاليُّ
.
والظَّاهرُ أنَّ ذلك على جِهَتَينِ:1- جِهةٍ تَتَعَلَّقُ بالفِعلِ نَفسِه: فلا إنكارَ عليه مِن هذه الجِهةِ؛ لأنَّ المُنكِرَ يَعتَقِدُ أنَّ الفِعلَ جائِزٌ، فلا يَصِحُّ إنكارُ ما هو جائِزٌ.
2- جِهةٍ تَتَعَلَّقُ بمُخالَفةِ الفاعِلِ لاعتِقادِه: فإنَّه يُنكِرُ على الفاعِلِ فيها -أي: مُخالَفةِ فِعلِه لاعتِقادِه- لأنَّه إنَّما يَعتَقِدُ التَّحريمَ باعتِبارٍ شَرعيٍّ باجتِهادٍ أو تَقليدٍ سائِغٍ، ثُمَّ هو خالَف هذا الاعتِقادَ بغَيرِ مُسَوِّغٍ شَرعيٍّ، وإنَّما اتِّباعًا للهَوى، فهو على هذا مَذمومٌ مُستَحِقٌّ للإنكارِ
.
الحالةُ الرَّابِعةُ: أن لا يَعتَقِدَ الفاعِلُ إباحةً ولا تحريمًا
والذي يَنبَغي في حَقِّ مِثلِ هذا أن يُعلِمَه المُنكَرَ ويوجِّهَه ويُرشِدَه برِفقٍ إلى ما يَراه صوابًا
.