المَطلَبُ الرَّابِعُ: مُقتَضى النَّهيِ مِن جِهةِ الفَورِ والتَّكرارِ
اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ
، والرَّاجِحُ: أنَّ النَّهيَ يَقتَضي المُبادَرةَ إلى تَركِ المَنهيِّ عنه على الفَورِ، ويَقتَضي التَّكرارَ، وهو قَولُ جُمهورِ الأُصوليِّينَ
، ومِنهمُ القاضي أبو يَعلى
، وابنُ عَقيلٍ
، وابنُ العَرَبيِّ
. وقال القَرافيُّ: (وهو المَشهورُ مِن مَذهَبِ العُلَماءِ)
، وصَحَّحه الأبياريُّ، وابنُ جُزيٍّ
، ووَصَف الآمِديُّ القَولَ الآخَرَ بأنَّه شاذٌّ
.
قال المازَريُّ: (إنِّي رَأيتُ في تَصانيفَ مِنَ الأُصولِ لا تُحصى كَثرةً حِكايةَ الاتِّفاقِ على أنَّ النَّهيَ المُطلَقَ يُحمَلُ على الاستيعابِ للأزمِنةِ بالِاجتِنابِ؛ فمِن مُصَرِّحٍ يَذكُرُ الاتِّفاقَ على ذلك، ومِن مُشيرٍ إليهـ)
.
الأدِلَّةُ:1- أنَّ النَّهيَ يَقتَضي عَدَمَ الإتيانِ بالفِعلِ، وعَدَمُ الإتيانِ لا يَتَحَقَّقُ إلَّا بتَركِ الفِعلِ في جَميعِ أفرادِه في كُلِّ الأزمِنةِ، وبذلك يَكونُ تَركُ الفِعلِ مُستَغرِقًا جَميعَ الأزمِنةِ، ومِن جُملَتِها الزَّمَنُ الذي يَلي النَّهيَ مُباشَرةً، فيَكونُ النَّهيُ مُفيدًا للتَّكرارِ كما هو مُفيدٌ للفَورِ
.
2- أنَّ التَّركَ المَطلوبَ إذا تَراخى عن صيغةِ النَّهيِ تَراخيًا يَخرُجُ عنِ المُبادَرةِ بالتَّركِ؛ فإنَّه يَعني استِدامةَ الفِعلِ المَطلوبِ تَركُه، ومَن قيلَ له: لا تَفعَلْ، فاستَدامَ ما نُهيَ عنه مَعَ إمكانِ الخُروجِ مِنه والكَفِّ عنه، سُمِّي عاصيًا، كما أنَّه إذا بادَرَ بالتَّركِ سُمِّيَ طائِعًا
.
وعلى هذا فلَو قال رَجُلٌ لخادِمِه: "لا تَدخُلْ هذه الدَّارَ"؛ فإنَّ ذلك يَقتَضي أن لا يَدخُلَ الدَّارَ على الفورِ وعلى التَّكرارِ والمُداوَمةِ، وإن تَركَ المَأمورُ دُخولَها ساعةً ثُمَّ دَخَلَها، استَحَقَّ الذَّمَّ عِندَ سائِر العُقَلاءِ؛ فدَلَّ على أنَّه يَقتَضي التَّكرارَ، ولَو لَم يَكُنْ مُقتَضيًا لذلك لَما استَحَقَّ مُخالِفُه الذَّمَّ والعُقوبةَ
.
3- أنَّ النَّهيَ عن شَيءٍ يُشبِهُ مَنعَ الإنسانِ نَفسَه باليَمينِ عن فِعلِ شَيءٍ، فلَو حَلَف أن لا يَفعَلَ، لَم يَختَلِفِ العُلَماءُ أنَّه مَتى لم يُبادِرْ بالكَفِّ والِامتِناعِ حَنِثَ، وكان مُخالِفًا بفِعلِه قَولَه، واليَمينُ على التَّركِ مَنعٌ لنَفسِه بالقَسَمِ، فإذا كان مَنعُه لنَفسِه يوجِبُ الفَورَ والتَّكرارَ، ومَن خالَف حَنِثَ، فأمرُ اللهِ سُبحانَه له بالكَفِّ أَولى أن يَقتَضيَ البِدارَ والفَورَ
.
وقيلَ: إنَّ النَّهيَ لا يَقتَضي الفورَ ولا التَّكرارَ. وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ
، واختارَه الرَّازيُّ
.
والخِلافُ في هذه المَسألةِ لَفظيٌّ لا تَتَرَتَّبُ عليه ثَمَرةٌ؛ لأنَّ أصحابَ المَذهَبَينِ قدِ اتَّفقوا على المَعنى، وإنِ اختَلَفوا في اللَّفظِ والِاصطِلاحِ؛ إذ لا يُمكِنُ لأحَدٍ أن يَقولَ: إنَّ النَّهيَ يَقتَضي الانتِهاءَ عنِ المَنهيِّ عنه بَعدَ صُدورِ صيغةِ النَّهيِ بفترةٍ، ولا يُمكِنُ لأحَدٍ أن يَقولَ: يَجِبُ الانتِهاءُ عنِ المَنهيِّ عنه مَرَّةً واحِدةً، ثُمَّ يَعودُ لفِعلِه
.