في ربيع الأول تكامل فتح إياس (من بلاد الأرمن على ساحل البحرِ) ومعامَلتها وانتزاعُها من أيدي الأرمن، وأُخِذَ البرج الأطلس- وهو أحدُ ثلاثة أبراج وهي الأطلس والشمعة والإياس- بينه وبينها في البحر رميةٌ ونصف، فأخذه المسلمونَ بتوفيق الله وخَرَّبوه، وكانت أبوابُه مَطليَّةً بالحديد والرصاص، وعَرضُ سُورِه ثلاثة عشر ذراعًا، وغنم المسلمونَ غنائِمَ كثيرةً جدًّا، وحاصروا كوارَه فقوي عليهم الحَرُّ والذباب، فرسم السلطانُ بعَودِهم، فحرقوا ما كان معهم من المجانيقِ وأخذوا حديدَها وأقبلوا سالمين غانمينَ، وكان معهم خلقٌ كثيرٌ من المتطوعين.
في يوم الخميس الخامس عشر جمادى الآخرة من هذه السنة أمسك السلطان الأشرف إينال الأمير زين الدين الأستادار، واستقرَّ عِوَضَه في الأستادارية سعد الدين فرج بن النحال الوزير، فلمَّا سمعت المماليك الأجلاب بهذا العزل والولاية نزلوا من وقتهم غارةً إلى بيت الأستادار لينهبوه، فمنعهم مماليك زين الدين، وقاتلوهم وأغلقوا الدروبَ، فلما عجزوا عن نهب بيت زين الدين نهبوا بيوت الناسِ من عند بيت زين الدين فأخذوا ما لا يدخُلُ تحت حصر كثرةً، واستمرُّوا في النهب من نهار الغد إلى قريب العصر، وفعلوا بالمسلمين أفعالًا لا تفعلها الكفَرةُ ولا الخوارجُ، فكانت هذه الحادثةُ من أقبح الحوادث الشنيعة، ومن ثمَّ دخل في قلوب الناس من المماليك الأجلاب من الرجيف والرعب أمرٌ لا مزيد عليه؛ لعلمهم أنه مهما فعلوا جاز لهم، وأنَّ السلطان لا يقوم بنصرِ من قُهِرَ منهم، وفي يوم الأربعاء الثالث والعشرين رمضان نودي بالقاهرة من قبل السلطان بعدم تعرُّض المماليك الأجلاب إلى الناس والباعة والتجار، فكانت هذه المناداة كضرب رباب أو كطنين ذباب، واستمرُّوا على ما هم عليه من أخذِ أموال الناس والظلمِ والعنف حتى غلت الأسعارُ في سائر الأشياء من المأكول والملبوس والغلال والعلوفات، وصاروا يخرجون إلى ظواهر القاهرة، ويأخذون ما يريدون بأبخس الأثمان، إن أعطوا ثمنًا، وإن شاؤوا أخذوه بلا ثمنٍ، ثم شرعوا في نهب حواصل البطيخ الصيفي وغيره، ثم تزايد أمرُهم، فغلت جميع الأسعار مع كثرتِها عند أربابها، فضرَّ ذلك بحال الناس قاطبة؛ رئيسِها وخسيسِها.
دخل أبو طاهر القرمطيُّ الكوفةَ، وكان سببُ ذلك أنَّ أبا طاهر أطلقَ مَن كان عنده من الأسرى الذين كان أسَرَهم من الحُجَّاج، وفيهم ابنُ حمدان وغيره، وأرسل إلى المقتَدِر يطلُبُ البصرة والأهواز، فلم يجِبْه إلى ذلك، فسار من هَجَر يريد الحاجَّ، وكان جعفرُ بن ورقاء الشيبانيُّ متقلِّدًا أعمالَ الكوفة وطريق مكَّة، فلمَّا سار الحُجَّاج من بغداد سار جعفر بين أيديهم خوفًا من أبي طاهر، ومعه ألف رجلٍ من بني شيبان، وسار مع الحُجَّاج من أصحاب السلطانِ القائِدُ ثَمل الخادِمُ صاحب البحر، وجنِّي الصفوانيُّ، وطريف السبكريُّ وغيرهم، في ستَّة آلاف رجل، فلقيَ أبو طاهر القرمطيُّ جعفرًا الشيبانيَّ، فقاتله جعفر، فبينما هو يقاتلُه إذ طلع جمعٌ من القرامطة عن يمينه، فانهزم من بين أيديهم، فلقِيَ القافلةَ الأولى وقد انحدرت من العَقَبة، فردَّهم إلى الكوفة ومعهم عسكرُ الخليفة، وتبعهم أبو طاهرٍ إلى باب الكوفة، فقاتلهم فانهزم عسكرُ الخليفة، وقَتَلَ منهم، وأسَرَ جنِّيًّا الصفوانيَّ، وهرب الباقون والحُجَّاج من الكوفة، ودخلها أبو طاهر، وأقام ستَّة أيَّام بظاهر الكوفة يدخُلُ البلد نهارًا فيقيمُ في الجامع إلى الليل، ثمَّ يخرج يبيتُ في عسكره، وحمل منها ما قدَرَ على حَملِه من الأموال والثِّياب وغير ذلك، وعاد إلى هَجَر، ودخل المنهزمون بغداد، فتقدَّم المقتَدِر إلى مؤنسٍ المظفَّر بالخروج إلى الكوفة، فسار إليها، فبلغها وقد عاد القرامطةُ عنها، فاستخلف عليها ياقوتًا، وسار مؤنِسٌ إلى واسط خوفًا عليها من أبي طاهرٍ، وخاف أهلُ بغداد، وانتقل الناسُ إلى الجانب الشرقيِّ، ولم يحجَّ في هذه السنة من الناسِ أحدٌ.
نزل مرزه شاه بن تيمورلنك على مدينة حماة بكرة يوم الثلاثاء رابع عشر ربيع الأول، وأحاط بسورها، ونهب المدينة، وسبى النساء والأطفال، وأسر الرجال، ووقع أصحابه على النساء يطؤونهن ويفتضُّون الأبكارَ جهارًا من غير استتار وخرَّبوا جميعَ ما خرج عن السور، وقد ركب أهل البلد السور، وامتنعوا بالمدينة، وباتوا على ذلك، فلما أصبحوا يوم الأربعاء فتحوا بابًا واحدًا من أبواب المدينة، ودخل ابنُ تيمورلنك في قليلٍ من أصحابه ونادى بالأمان، فقَدَّمَ الناس إليه أنواع المطاعم فقَبِلَها، وعزم أن يقيم رجلًا من أصحابه على حماة، فقيل له: إن الأعيان قد خرجوا منها، فخرج إلى مخيمه، وبات به، ودخل يوم الخميس ووعد الناس بخير وخرج، ومع ذلك فإن القلعة ممتنعة عليه، فلما كان ليلة الجمعة نزل أهل القلعة إلى المدينة وقتلوا من أصحاب مرزه شاه رجلين كانا أقرَّهما بالمدينة، فغضب من ذلك وأشعل النار في أرجاء البلد، واقتحمها أصحابه يقتلون ويأسرون وينهبون، حتى صارت كمدينة حلب: سوداء، مغبرة، خالية من الأنيس!
عن جابرٍ قال: (مكث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمكَّةَ عشرَ سِنينَ يَتْبَعُ النَّاسَ في منازلِهم بعُكاظٍ ومَجَنَّةَ، وفي المَواسمِ بمِنًى، يقول: مَن يُؤْوِيني؟ مَن يَنصُرني حتَّى أُبَلِّغَ رسالةَ رَبِّي وله الجَنَّةُ. حتَّى إنَّ الرَّجلَ لَيخرُجُ مِنَ اليمنِ أو مِن مُضَرَ، فيأتيه قومُه فيقولون: احْذرْ غُلامَ قُريشٍ لا يَفْتِنُكَ. ويمشي بين رجالِهم وهُم يُشيرون إليه بالأصابعِ حتَّى بعثنا الله إليه مِن يَثْرِبَ فآوَيناهُ وصدَّقناهُ، فيخرُج الرَّجلُ مِنَّا فيُؤمِنُ به ويُقرِئُهُ القُرآنَ فيَنقلِبُ إلى أهلهِ فيُسلِمون بإسلامهِ، حتَّى لمْ يَبْقَ دارٌ مِن دورِ الأنصارِ إلَّا وفيها رَهطٌ مِنَ المسلمين يُظهِرون الإسلامَ، ثمَّ ائْتَمروا جميعًا فقُلنا: حتَّى متى نَترُك رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يُطْرَدُ في جبالِ مكَّةَ ويخافُ. فرحل إليه مِنَّا سبعون رجلًا حتَّى قَدِموا عليه في المَوسمِ فَواعَدناهُ شِعْبَ العَقبةِ، فاجتمَعنا عليه مِن رجلٍ ورَجُلَينِ حتَّى تَوافَينا فقُلنا: يا رسولَ الله، نُبايِعُك. قال: تُبايِعوني على السَّمعِ والطَّاعةِ في النَّشاطِ والكَسلِ، والنَّفقةِ في العُسرِ واليُسرِ، وعلى الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكرِ، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لَوْمَةَ لائمٍ، وعلى أن تَنصُروني فتَمنَعوني إذا قَدِمتُ عليكم ممَّا تمنَعون منه أنفسَكُم وأَزواجَكُم وأبناءَكُم ولكم الجنَّةُ. قال فقُمنا إليه فبايَعناهُ، وأخذ بيدِهِ أَسعدُ بنُ زُرارةَ وهو مِن أَصغرِهم، فقال: رُويدًا يا أهلَ يَثْرِبَ، فإنَّا لمْ نَضرِبْ أَكبادَ الإبلِ إلَّا ونحن نعلمُ أنَّه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وإنَّ إخراجَهُ اليومَ مُفارقةُ العربِ كافَّةً، وقَتْلُ خِيارِكُم، وأنْ تَعَضَّكُم السُّيوفُ، فإمَّا أنتم قومٌ تَصبِرون على ذلك وأَجرُكم على الله، وإمَّا أنتم قومٌ تخافون مِن أَنفُسِكُم جَبِينَةً فَبَيِّنوا ذلك فهو عُذْرٌ لكم عند الله. قالوا أَمِطْ عنَّا يا أَسعدُ، فَوَالله لا نَدَعُ هذه البَيعةَ أبدًا، ولا نَسْلُبُها أبدًا. قال فقُمنا إليه فبايَعناهُ فأخذ علينا وشَرَطَ ويُعطينا على ذلك الجنَّةَ)
خرجت سَريَّةٌ من طرسوسَ إلى بلادِ الرومِ، فوقع عليها العدوُّ، فاقتتلوا فاستظهَرَ الرُّومُ وأسَروا من المُسلمين أربعمائة رجل، فقُتِلوا صبرًا، وفيها سار الدُّمُسْتُق في جيشٍ عظيمٍ من الروم إلى مدينة دَبيل، وفيها نصر السُّبكيُّ في عسكرٍ يحميها، وكان مع الدُّمُستُق دَبَّابات ومجانيقُ معه مِزراقٌ يزرقُ بالنَّارِ عدَّةَ اثنى عشر رجلًا، فلا يَقِرُّ بين يديه أحدٌ من شدَّةِ نارِه واتِّصاله، فكان من أشدِّ شيءٍ على المسلمين، وكان الرامي به مباشِرُ القتالِ مِن أشجَعِهم، فرماه رجلٌ من المسلمين بسَهمٍ فقَتَله، وأراح اللهُ المسلمين من شرِّه، وكان الدُّمُسْتُق يجلِسُ على كرسي عالٍ يُشرِفُ على البلد وعلى عسكَرِه، فأمَرَهم بالقتالِ على ما يراه، فصبَرَ له أهل البلد، وهو ملازِمٌ القتال، حتى وصلوا إلى سور المدينة، فنَقَبوا فيه نقوبًا كثيرةً، ودخلوا المدينة، فقاتلهم أهلُها ومَن فيها من العسكرِ قتالًا شديدًا، فانتصر المسلمونَ، وأخرجوا الرومَ منها، وقتلوا منهم نحوَ عشرة آلاف رجلٍ.
خرج في جبل غمارة بإفريقيَّة رجلٌ يُعرَفُ بالعبَّاس ادَّعى النبوَّةَ واتَّبَعَ نعيقَه الأرذَلونَ مِن سفهاءِ تلك القبائلِ وأعمارِهم، وزحف إلى بادس من أمصارِهم ودخَلَها عَنوةً, فلمَّا سمع يوسُفُ بلكين بن زيري الصنهاجي به وباتِّباعِ أهل غمارة له، سار إليهم وغزاهم وظَفِرَ بهم، وأخَذَ العبَّاسَ- الذي كان يدَّعي النبُوَّةَ- أسيرًا، وأحضَرَ الفُقَهاءَ فقَتَله لأربعينَ يومًا من ظهورِ دَعوتِه.
حجَّ الإمام سعود الحجَّةَ الرابعة بجميعِ نواحي رعاياه، حَجَّ معه أكثر من 100 ألف, ودخل مكَّةَ بجميع تلك الجموع واعتَمَروا وحَجُّوا بأحسن حال, وزار الشريفُ غالب الإمامَ سعودًا مرارا وصار معه كالشقيقِ فيزورُه أحيانًا وحده ومعه رجل أو رجلين، وأحيانًا بخيله ورجالِه, وكثيرًا ما يدخل سعود الحرم ويطوف بالبيتِ ويجلس فوقَ زمزم ومعه خواصُّه، وبَثَّ في مكة الصدقات والعطاء لأهلها وضعفائها شيئًا كثيرًا، وكسا الكعبةَ كسوةً فاخرةً، وجعل إزارَها وكسوة بابها حريرًا مطرَّزًا بالذهب والفضة، وأقام فيها نحوًا من ثمانية عشر يومًا, ثم رحل منها وقصد المدينة وأقام فيها عدة أيام ورتب مرابِطةً في ثغورِها، وأخرج مَن في القلعة من أهلِها، وجعل فيها مرابِطةً مِن أهل نجدٍ.
سار المَلِكُ أَلب أَرسلان بن داودَ ابن أخي طُغرلبك من مدينةِ مَرو بخُراسان، وقَصَد بِلادَ فارس في المَفازَة، فلم يَعلَم به أحدٌ، ولا أَعلَم عَمَّهُ طُغرلبك، فوَصَل إلى مَدينةِ فَسا، فانصرف النَّائِبُ بها من بين يديه، ودَخلَها أَلبُ أَرسلان فقَتَل من الدَّيلم بها ألفَ رَجُل، وعددًا كثيرًا من العامَّةِ، ونَهبوا ما قَدرُه ألف ألف دينار، وأسروا ثلاثةَ آلافِ إنسانٍ، وكان الأمرُ عظيمًا. فلمَّا فَرغوا من ذلك عادوا إلى خُراسان، ولم يَلبَثوا خَوفًا من طُغرلبك أن يُرسِل إليهم، ويأخُذ ما غَنموهُ منهم.
غزا بشر الأفشينيُّ بلاد الروم، فافتتح عدَّة حُصونٍ، وغَنِم وسَلِمَ؛ وغزا ثملٌ الخادِمُ في بحر الروم، فغنم وسبى وعادَ، وكان على المَوصِل أبو أحمد بن حماد الموصليُّ، وفيها دخلَ جنِّي الصفوانيُّ بلادَ الروم، فنهب وخرَّب، وأحرق وفتَحَ وعاد، فقُرِئَت الكتب على منابرِ بغداد بذلك.
في ثالث عشر ربيع الآخر قُتِلَ المركيس الفرنجي، صاحِبُ صور، وهو أكبَرُ شياطينِ الفرنج، وقيل في سبب قتله: إن صلاح الدين راسل مُقَدِّمَ الإسماعيلية، وهو سنان، وبذَلَ له أن يُرسِلَ مَن يقتُلُ مَلِك الإنكليز، وإن قَتَل المركيسَ فله عشرةُ آلاف دينار، فلم يمكِنْهم قتلُ ملك الإنكليز، ولم يَرَه سنان مصلحةً لهم؛ لئلَّا يخلو وجه صلاح الدين من الفرنجِ ويتفَرَّغ لهم، وطَمِعَ في أخذ المال، فعَدَل إلى قتل المركيس، فأرسل رجلينِ في زي الرُّهبان، واتَّصَلا بصاحب صيدا وابن بارزان، صاحِبِ الرملة، وكانا مع المركيس بصور، فأقاما معهما ستة أشهُرٍ يُظهِرانِ العبادة، فأنِسَ بهما المركيس، ووَثِقَ بهما، ثمَّ عَمِلَ الأسقف بصور دعوةً للمركيس فحَضَرَها، وأكل طعامَه، وشَرِبَ مُدامَه، وخرج من عنده، فوَثَب عليه الباطنيَّان, فجَرَحاه جراحًا وثيقةً، وهرب أحدُهما، ودخل كنيسةً يختفي فيها، فاتَّفَق أن المركيس حمل إليها ليشدَّ جراحه، فوثب عليه ذلك الباطنيُّ فقتله، وقُتِلَ الباطنيَّان بعده، وقيل: بل قتله ملك الإنكليز وضع له هذان الرجلانِ فقتلاه لينفرد بمُلْك الساحل الشامي، فلما قُتِلَ المركيس وَلِيَ بعده مدينة صور كند- قائد- من الفرنج، من داخل البحر، يقال له الكند هري، وتزوج بالملكة في ليلته، ودخل بها وهي حامل، وليس الحَملُ عندهم ممَّا يمنع النكاح، وهذا الكند هري هو ابنُ أخت ملك الإنكليز من أمِّه، ومَلَكَ الكند هري هذا بلاد الفرنج بالساحل بعد عودة ريتشارد ملك الإنكليز.
ظهر بصعيد مصر إنسانٌ ذكَرَ أنه إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن أبي طالب العَلَوي، ويُعرَف بابن الصوفي، وملك مدينة أسنا ونهبها وعَمَّ شَرُّه البلاد. فسير إليه أحمد بن طولون جيشًا فهزَمه العَلويُّ، وأسرَ المقَدَّم على الجيش، فقطع يديه ورجليه وصَلَبه؛ فسيَّرَ إليه ابنُ طولون جيشًا آخر فالتقوا بنواحي إخميم، فاقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم العَلَوي، وقُتِل كثيرٌ من رجاله، وسار هو حتى دخل الواحات.
خَرَج عبدُ اللَّه بنُ أُنيسٍ رَضي اللهُ عنه من المدينةِ يومَ الإثنَينِ لخمسٍ خَلَونَ من المُحرَّمِ على رأس خمسةٍ وثلاثين شهرًا من مُهاجَرِ رسولِ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبَلَغَ رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ سُفيانَ بنَ خالِدِ بن نُبَيحٍ الهُذليَّ ثم اللِّحيانيَّ -وكان يَنزِل عُرْنةَ وما والاها في أُناسٍ من قومِه وغيرِهم- يُريد أن يَجمَعَ الجُموعَ إلى رسولِ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فضَوَى إليه بَشَرٌ كثيرٌ من أفناءِ الناسِ.
قال عبدُ اللَّه بنُ أُنيسٍ رضي اللَّه تعالى عنه: دَعاني رسولُ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: "إنَّه بَلَغني أنَّ سفيانَ بنَ خالدِ بنِ نُبَيحٍ يَجمَع لي الناسَ ليَغزوَني وهو بنَخلةَ أو بعُرْنةَ فأْتِه فاقْتُلْه". فقلتُ: يا رسول اللَّه، صِفْهُ لي حتى أعرِفَه. فقال: "آيةُ ما بَينَك وبَينَه أنَّك إذا رَأيتَه هِبتَه وفَرِقْتَ منه، ووَجَدْتَ له قُشَعْريرةً، وذَكَرْتَ الشَّيطانَ". قال عبد اللَّه: كنتُ لا أهابُ الرِّجالَ، فقلت: يا رسول اللَّه، ما فَرِقتُ من شيءٍ قطُّ. فقال: "بَلَى؛ آيةُ ما بَينَك وبَينَه ذلك: أن تَجِدَ له قُشَعْريرةً إذا رَأيتَه". قال: واستَأذَنتُ رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن أقولَ. فقال: "قُلْ ما بَدا لَكَ". وقال: "انتَسِبْ لخُزاعةَ". فأخَذتُ سَيفي ولم أزِدْ عليه وخرجتُ أعتَزي لخُزاعةَ حتى إذا كنتُ ببَطنِ عُرْنةَ لَقيتُه يمشي ووراءه الأحابيشُ. فلمَّا رَأيتُه هِبتُه وعَرَفتُه بالنَّعتِ الذي نَعَت لي رسولُ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقلتُ: صَدَقَ اللَّهُ ورسولُه، وقد دخل وقتُ العَصرِ حين رَأيتُه، فصَلَّيتُ وأنا أمشي أُومي برَأسي إيماءً. فلمَّا دَنَوتُ منه قال: "مَنِ الرَّجلُ؟". فقلتُ: "رجلٌ من خُزاعةَ سَمِعتُ بجَمعِكَ لمُحمَّدٍ فجِئتُكَ لأكونَ مَعَك عليه". قال: "أجلْ؛ إنِّي لَفي الجَمعِ له". فمَشَيتُ معه وحدَّثتُه فاستَحلَى حديثي وأنشَدتُه وقلتُ: "عَجَبًا لِمَا أحدَثَ مُحمَّدٌ مِن هذا الدِّينِ المُحدَثِ، فارَقَ الآباءَ وسَفَّه أحلامَهم". قال: "لم ألْقَ أحَدًا يُشبِهُني ولا يُحسِنُ قِتالَه". وهو يتوكَّأُ على عصًا يَهُدُّ الأرضَ، حتى انتَهَى إلى خِبائِه وتفرَّق عنه أصحابُه إلى منازِلَ قَريبةٍ منه، وهم يُطيفون به. فقال: هَلُمَّ يا أخا خُزاعةَ. فدَنَوتُ منه. فقال: اجلِسْ. فجَلَستُ معه حتى إذا هَدَأ الناسُ ونامَ اغتَرَرْتُه. وفي أكثرِ الرِّواياتِ أنه قال: فمَشَيتُ معه حتَّى إذا أمكَنني حَمَلتُ عليه السَّيفَ فقَتَلتُه وأخذتُ رأسَه. ثم أقبلتُ فصَعِدتُ جَبَلًا، فدَخَلتُ غارًا وأقبَلَ الطلبُ من الخيلِ والرجالِ تَمعَجُ في كلِّ وجهٍ وأنا مُكتَمِنٌ في الغارِ، وأقبل رجلٌ معه إداوَتُه ونعلُه في يدِهِ وكنتُ خائفًا، فوضع إداوَتَه ونعلَه وجلس يَبولُ قَريبًا من فَمِ الغارِ، ثم قال لأصحابِه: ليس في الغارِ أحدٌ، فانصَرَفوا راجِعين، وخرجتُ إلى الإداوةِ فشَرِبتُ ما فيها وأخذتُ النَّعلَين فلَبِستُهما. فكنتُ أسير الليلَ وأكمُنُ النهارَ حتى جِئتُ المدينة، فوَجَدتُ رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المسجد، فلمَّا رآني قال: "أفلَحَ الوَجهُ". فقلت: وأفلَحَ وَجهُكَ يا رسول اللَّه". فوَضَعتُ الرَّأسَ بين يَدَيه وأخبَرتُه خَبَري، فدَفَع إليَّ عصًا وقال: "تَخَصَّرْ بِها في الجَنَّةِ؛ فإنَّ المُتخَصِّرين في الجَنَّةِ قَليلٌ".
فكانتِ العصا عند عبدِ اللَّه بن أُنَيسٍ حتى إذا حضَرَته الوفاةُ أوصى أهلَه أن يُدرِجوا العصا في أكفانِه. ففَعَلوا ذلك. قال ابنُ عُقبةَ: "فيَزعُمون أنَّ رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ بقتلِ عبدِ اللَّه بنِ أُنيسٍ سُفيانَ بنَ خالِدٍ قبلَ قُدومِ عبدِ اللَّه بنِ أُنَيسٍ رضي اللَّه تعالى عنه".
ثار رجُلٌ من البربر، يقالُ له حبيبٌ البرنسي، بجبال الجزيرة؛ فتجَمَّع إليه جماعةٌ من أهل الشَّرِّ والفساد في الأرضِ، فشَنَّ بهم الغارةَ على قُرى رية وغيرها، فأشاع الأذى، ونهبَ وقتَل وسَبى،، فأخرج إليه عبدُ الرحمن الأجنادَ، فلما وصلوا إليه ألْفَوُا البربرَ قد قَصَدوا حبييًا ومن تجمَّعَ إليه، فتغَلَّبوا على المعقل الذي كان انضوى إليه، وأخرجوه عنه، وقتلوا عدةً كثيرةً من أصحابه. وافتَرَق بقيَّتُهم عنه، ودخل حبيبٌ في غِمارِ النَّاسِ. وطُفِئَت ثائِرتُه، فكتب الأميرُ عبد الرحمن إلى عمَّالِ الكور بالبَحثِ عنه, وطُلِبَ دهرًا فلم يُظفَرْ به.
جَرَت فتنةٌ بين الديلم والأتراكِ الذين مع شَرَفِ الدولة ببغداد، وسبَبُها أنَّ الدَّيلمَ اجتمعوا مع شَرَفِ الدولة في خَلق كثيرٍ بَلَغَت عِدَّتُهم خمسةَ عشر ألف رجل، وكان الأتراكُ في ثلاثةِ آلاف، فاستطال عليهم الدَّيلمُ، فجرت منازعةٌ بين بعضهم في دار وإصطبل، ثمَّ صارت إلى المُحاربة، فاستظهر الديلمُ لكَثرتِهم، وأرادوا إخراجَ صمصامِ الدَّولة وإعادته إلى مُلكِه، وبلغ شرفَ الدَّولةِ الخبَرُ، فوكَلَ بصمصام الدولة من يقتُلُه إنْ هَمَّ الديلم بإخراجه، ثم إنَّ الديلم لَمَّا استظهروا على الأتراكِ تَبِعوهم، فتشَوَّشَت صفوفُهم، فعادت الأتراكُ عليهم من أمامِهم وخَلفِهم، فانهزموا، وقُتِلَ منهم زيادةٌ على ثلاثة آلاف، ودخل الأتراكُ البلَدَ، فقتلوا مَن وجدوه منهم، ونَهَبوا أموالهم، وتفَرَّقَ الديلم؛ فبعضُهم اعتصم بشَرَف الدولة، وبعضُهم سار عنه، فلمَّا كان الغدُ دخل شَرَفُ الدولة بغدادَ والديلمُ المعتَصِمونَ به معه، فخرج الطائِعُ لله ولَقِيَه وهَنَّأه بالسلامة، وحَمَل صمصام الدولة إلى فارس، فاعتُقِل في قلعةٍ هناك.