بعدَ أنِ اشْتدَّ المرضُ على أبي طالبٍ عَمِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو الذي كفله صغيرًا، وآزرَهُ كبيرًا، وناصرَهُ على دَعوتهِ، وحَماهُ من عَوادي المشركين، دخل عَليهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وعندهُ أبو جَهْلٍ، فقال: ( أي عَمِّ، قُلْ: لا إلَه إلَّا الله، كلمةً أُحاجُّ لك بها عندَ الله). فقال أبو جَهْلٍ وعبدُ الله بنُ أبي أُمَيَّةَ: يا أبا طالبٍ، تَرغبُ عن مِلَّةِ عبدِ المُطَّلبِ؟ فلم يَزالا يُكلِّماهُ حتَّى قال آخرَ شيءٍ كَلَّمهُم بهِ: على مِلَّةِ عبدِ المُطَّلبِ. فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (لأَستَغفِرَنَّ لك ما لمْ أُنْهَ عنهُ). فنزلتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}ونزلتْ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}. وقد كان أبو طالبٍ الحِصْنَ الذي احتَمى بهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من هَجماتِ الكُبراءِ والسُّفهاءِ، ولكنَّه بَقِيَ على مِلَّةِ الأَشياخِ من أَجدادهِ، فلمْ يُفلِحْ.
في هذه الحادثةِ العظيمةِ رأى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الأنبياءَ، ورأى سِدرةَ المُنتهى وغيرَ ذلك مِنَ الآياتِ العظيمةِ، وفيها فُرِضتْ الصَّلواتُ الخمسُ، وهو أمرٌ تتَّفِقُ عليه رِواياتُ الصَّحيحينِ، وقد كذَّبتْ قُريشٌ وقوعَ حادثةِ الإسراءِ والمِعراجِ، وهذا أمرٌ اتَّفقتْ عليه رِواياتُ الصَّحيحينِ أيضًا، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لقد رأيتُني في الحِجْرِ وقُريشٌ تسألُني عن مَسْرايَ، فسألَتني عن أشياءَ مِن بيتِ المَقدسِ لم أُثْبِتْها، فكُرِبْتُ كُربةً ما كُرِبْتُ مِثلَهُ قَطُّ». قال: " فرفعهُ الله لي أنظرُ إليه، ما يسألوني عن شيءٍ إلَّا أنبأتُهم به، وقد رأيتُني في جماعةٍ مِنَ الأنبياءِ، فإذا موسى قائمٌ يُصلِّي، فإذا رجلٌ ضَرْبٌ، جَعْدٌ كأنَّه مِن رجالِ شَنُوءَةَ، وإذا عيسى ابنُ مريمَ عليه السَّلامُ قائمٌ يُصلِّي، أقربُ النَّاسِ به شَبَهًا عُروةُ بنُ مَسعودٍ الثَّقفيُّ، وإذا إبراهيمُ عليه السَّلامُ قائمٌ يُصلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ به صاحبُكم - يعني نَفْسَهُ - فحانتِ الصَّلاةُ فأَمَمْتُهُم، فلمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلاةِ قال قائلٌ: يا محمَّدُ، هذا مالكٌ صاحبُ النَّارِ، فَسلِّمْ عليه، فالتفَتُّ إليه، فبدأَني بالسَّلامِ ".
هو كعبُ بن زُهيرِ بن أبي سُلْمَى المُزَنِيُّ، أبو المُضَرَّبِ, الشَّاعرُ ابنُ الشَّاعرِ، وأَبُوهُ أَشْعَرُ منه، كان كعبٌ في الجاهِليَّة شاعرًا مَعروفًا ولمَّا ظهَر الإسلامُ هَجا النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وشَبَّبَ بنِساءِ المسلمين، فأَهْدَر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم دَمَهُ، فجاء مُسْتَأْمِنًا إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فأَمَّنَهُ وقَبِلَ منه، فأَنشَدهُ لامِيَّتَهُ المشهورة التي مَطلَعُها: بانَتْ سُعادُ فقلبي اليومَ مَتْبولُ، ويُقالُ: إنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَعطاهُ البُردَةَ التي اشتراها بعدَ ذلك مُعاويةُ مِن بعضِ وَلَدِه فصارت للخُلفاءِ بعدَ ذلك يَتَوارَثُونَها.
ركِب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم راحِلتَه مِن قُباءٍ فسار يمشي معه النَّاسُ حتَّى برَكتْ عند مسجدِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ، وهو يُصلِّي فيه يَومئذٍ رجالٌ مِنَ المسلمين، وكان مِرْبَدًا للتَّمرِ، لِسُهيلٍ وسَهلٍ غُلامَينِ يَتيمَينِ في حَجْرِ أَسعدَ بنِ زُرارةَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين بَركتْ به راحِلتُه: «هذا إن شاء الله المنزِلُ». ثمَّ دَعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغُلامَينِ فَساوَمَهُما بالمِرْبَدِ، لِيَتَّخِذَهُ مسجدًا، فقالا: لا، بل نَهَبُهُ لك يا رسولَ الله، فأبى رسولُ الله أن يَقبلَهُ منهُما هِبَةً حتَّى ابتاعَهُ منهُما، ثمَّ بناهُ مسجدًا، وطَفِقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَنقُلُ معهم اللَّبِنَ في بُنيانِهِ ويقولُ، وهو يَنقُلُ اللَّبِنَ: "هذا الحِمالُ لا حِمالَ خَيبرْ، هذا أَبَرُّ رَبَّنا وأَطهرْ. ويقول: اللَّهمَّ إنَّ الأجرَ أجرُ الآخِرهْ، فارْحَمِ الأنصارَ، والمُهاجِرهْ" وعن أنسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ فنزل أعلى المدينةِ في حَيٍّ يُقالُ لهم: بنو عَمرِو بنِ عَوفٍ. فأقام النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فيهِم أربعَ عشرةَ ليلةً، ثمَّ أرسل إلى بني النَّجَّارِ، فجاءوا مُتَقَلِّدي السُّيوفِ كأنِّي أنظرُ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على راحِلتِهِ، وأبو بكرٍ رِدْفُهُ ومَلَأُ بني النَّجَّارِ حولَه حتَّى أَلقى بفِناءِ أبي أيُّوبَ، وكان يُحِبُّ أن يُصلِّيَ حيث أدركتهُ الصَّلاةُ، ويُصلِّي في مَرابضِ الغَنَمِ، وأنَّه أَمَرَ ببِناءِ المسجدِ، فأرسل إلى مَلإٍ مِن بني النَّجَّارِ فقال: «يا بَني النَّجَّارِ ثامِنوني بحائِطِكُم هذا». قالوا: لا والله لا نطلبُ ثَمَنَهُ إلَّا إلى الله. فقال أنسٌ: فكان فيه ما أقولُ لكم: قُبورُ المشركين، وفيه خَرِبٌ وفيه نَخلٌ، فأَمَر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقُبورِ المشركين فنُبِشَتْ، ثمَّ بالخَرِبِ فسُوِّيَتْ، وبالنَّخلِ فقُطِعَ، فصَفُّوا النَّخلَ قِبلةَ المسجدِ، وجعلوا عِضادَتَيْهِ الحِجارةَ، وجعلوا يَنقُلون الصَّخرَ وهُم يَرتَجِزون والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم معهم، وهو يقول: «اللَّهمَّ لا خيرَ إلَّا خيرُ الآخرهْ، فاغْفِرْ للأنصارِ والمُهاجِرهْ». قال عبدُ الله بنُ عُمَرَ، " إنَّ المسجدَ كان على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مَبْنِيًّا باللَّبِنِ، وسَقْفُهُ الجَريدُ، وعُمُدُهُ خَشبُ النَّخلِ.
كتب الأنصارُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بعدَ بَيعةِ العَقبةِ الأولى أن يبعثَ لهم مَن يُصلِّي بهم ويُقريهِم القُرآنَ، فبعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لهم مُصعبَ بنَ عُميرٍ, فكان في ضِيافةِ أَسعدَ بنِ زُرارةَ, وأخذ يدعو إلى الإسلامِ، وانتشر الإسلامُ في أهلِ يَثْرِبَ حتَّى لمْ يَبْقَ بيتٌ في يَثْرِبَ إلَّا وفيه مُسلمٌ أو مُسلمةٌ، وكان ممَّن أَسلمَ على يدِهِ سَيِّدا الأَوسِ سعدُ بنُ مُعاذٍ، وأُسيدُ بنُ الحُضيرِ.
هو جابرُ بن عبدِ الله بن حَرامٍ الأنصاريُّ، أَحدُ المُكْثِرين في الرِّوايةِ عن النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، شَهِدَ العَقَبَة الثَّانيَة مع أَبيهِ، فكان آخرَ مَن تُوفِّي في المدينةِ مِن أَصحابِ العَقَبَة، عَمِيَ في آخرِ عُمُرهِ، لم يَسْتَطِع أن يَشْهَدَ بدرًا ولا أُحُدًا، فلمَّا اسْتُشْهِد أبوهُ في أُحُدٍ لم يَتَخلَّفْ بعدها عن مَشهَدٍ بعدَ ذلك، تُوفِّي في المدينةِ سَنَة أربعٍ وسبعين، وقِيلَ: سبع وسبعين. وقِيلَ غيرَ ذلك، وصلَّى عليه أَبانُ بن عُثمان، وكان أميرَ المدينةِ، وكان عُمُرهُ أربعًا وتِسعين سَنَة.
وقعَت هذه الغَزوةُ بعدَ غَزوةِ الأحزابِ مُباشرةً، وكان سببُها نقضَ بني قُريظةَ العهدَ الذي بينهم وبين النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بتَحريضٍ مِن حُيَيِّ بنِ أَخطبَ النَّضْريِّ. وكان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد أَرسلَ الزُّبيرَ لِمعرفةِ نِيَّتِهم، ثمَّ أَتبَعهُ بالسَّعدَيْنِ –سَعدِ بنِ عُبادةَ وسَعدِ بنِ مُعاذٍ- وابنِ رَواحةَ، وخَوَّاتِ بنِ جُبيرٍ لِذاتِ الهدفِ ليَتأكَّدَ مِن غَدرِهم. وقد أمَر الله تعالى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم، بقِتالِهم بعدَ عَودتِه مِنَ الخَندقِ ووَضْعِهِ السِّلاحَ، فأَوْصى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أصحابَهُ أن يَتوجَّهوا إلى بني قُريظةَ، وقال لهم: (لا يُصَلِّيَنَّ أَحدُكم العَصرَ إلَّا في بني قُريظةَ). كما في رِوايةِ البُخاريِّ، أو (الظُّهرَ) كما في رِوايةِ مُسلمٍ. فضرَب الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم الحِصارَ على بني قُريظةَ لمُدَّةِ خمسٍ وعِشرين ليلةً على الأرجحِ، حتَّى نزلوا على حُكمِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، فأَحَبَّ أن يَكِلَ الحُكمَ عليهم إلى واحدٍ مِن رُؤساءِ الأَوْسِ؛ لأنَّهم كانوا حُلفاءَ بني قُريظةَ، فجعل الحُكمَ فيهم إلى سعدِ بنِ مُعاذٍ، فلمَّا دَنا مِنَ المسلمين قال الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم للأنصارِ: قوموا إلى سَيِّدِكُم -أو خَيرِكُم- ثمَّ قال: إنَّ هؤلاءِ نزلوا على حُكمِك. قال -أي سعدُ بنُ مُعاذٍ-: تُقْتَلُ مُقاتِلَتُهم، وتُسْبى ذَرارِيُّهُم، وتُقْسَمُ أَموالُهم. فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: قَضيتَ بحُكمِ الله تعالى. ونَفَّذَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم هذا الحُكمَ فيهم، وكانوا أَربعمائةٍ على الأرجحِ. ولم يَنْجُ إلَّا بعضُهم، ثمَّ قَسَّمَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم أَموالَهم وذَراريَّهُم بين المسلمين.
كان سببُها أنَّ المشركين نقَضوا العهدَ الذي بينهم وبين رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأَغاروا على إحدى القَبائلِ المُحالفةِ للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهي قَبيلةُ خُزاعةَ، ولمَّا عَلِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالأَمرِ أَمَرَ النَّاسَ بالتَّجَهُّزِ دون أن يُخبِرَهُم بوِجْهَتِه، ثمَّ مضى حتَّى نزَل بمَرِّ الظَّهرانِ وهو وادٍ قَريبٌ مِن مكَّةَ. فعنِ ابنِ عبَّاسٍ رضِي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خرَج في رَمضانَ مِنَ المدينةِ ومعه عشرةُ آلافٍ، وذلك على رأسِ ثمانِ سِنين ونِصفٍ مِن مَقْدَمِه المدينةَ، فسار هو ومَن معه مِنَ المسلمين إلى مكَّةَ، يَصومُ ويَصومون، حتَّى بلَغ الكَدِيدَ، وهو ماءٌ بين عُسْفانَ، وقُدَيْدٍ أَفطَر وأَفطَروا. وكان أبو سُفيانَ قد رَأى جيشَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قبلَ دُخولِه مكَّةَ، فهالَهُ ما رَأى، ثمَّ أَسلَم في أثناءِ ذلك، ثمَّ جاء إلى قومِه وصرَخ فيهم مُحذِّرًا لهم بأن لا قِبَلَ لهم بِجيشِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وقال لهم ما قاله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: مَن دخَل دارَ أبي سُفيانَ فهو آمِن، ومَن أَغلَق عليه دارَهُ فهو آمِن، ومَن دخَل المسجِدَ فهو آمِن. فتَفرَّقَ النَّاسُ إلى دورِهِم وإلى المسجِدِ.
وعن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم دخَل عامَ الفتحِ مِن كَداءٍ التي بأعلى مكَّةَ. وقد أَهدَر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم دَمَ بعضِ المشركين يومَ الفتحِ، ووجَد عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حولَ البيتِ ثلاثمائةٍ وسِتِّين نُصُبًا، فجعل يَطعنُها بِعودٍ في يَدِه ويقولُ: (جاء الحقُّ وزَهَقَ الباطلُ، جاء الحقُّ، وما يُبْدِئُ الباطلُ وما يُعيدُ). وقد تَفاوَتت الرِّواياتُ في مُدَّةِ إقامتِه صلى الله عليه وسلم عامَ الفتحِ، و الأرجحُ -والله أعلم- أنَّها كانت تِسعةَ عشرَ يومًا.
هي هِندُ بنتُ أبي أُمَيَّة سُهيلِ بن المُغيرَةِ بن عبدِ الله، وأُمُّها عاتِكَةُ بنتُ عامرِ بن رَبيعَة، كانت تحت أبي سَلمةَ عبدِ الله بن عبدِ الأَسَدِ بن هِلالٍ، كانت أوَّلَ مَن هاجَر إلى الحَبشةِ هي وزَوجُها، ويُقالُ أيضًا: إنَّ أُمَّ سَلَمةَ أوَّلُ ظَعينَة هاجَرَت إلى المدينةِ، تَزوَّجها النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعدَ بدرٍ، وقِيلَ: بعدَ أُحُدٍ. وقِصَّتُها يومَ الحُديبيَة حيث أشارَت على النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بأن يَحْلِقَ هو ويَنْحَرَ دون أن يُكَلِّمَ أَحَدًا، فلمَّا فعَل تَسارَع الصَّحابةُ إلى فِعْلِ ما كانوا قد أَحْجَموا قبلُ عن فِعْلِه لمَّا أَمرَهُم به النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، توفِّيت في المدينةِ، وقيل كانت وفاتها عام 61 للهجرة.
استأذن الوزيرُ عليُّ بنُ عيسى الخليفةَ المُقتَدِر في مكاتبةِ رأسِ القرامطة أبي سعيدٍ الحسَنِ بن بهرام الجنابي فأذِنَ له، فكتب كتابًا طويلًا يدعوه فيه إلى السَّمع والطاعة، ويوبِّخُه على ما يتعاطاه مِن تَركِ الصَّلاة والزكاةِ وارتكاب المُنكَرات، وإنكارِهم على من يذكُرُ اللهَ ويُسَبِّحُه ويحمده، واستهزائِهم بالدين واسترقاقِهم الحرائرَ، ثمَّ توعَّده الحربَ وتهَدَّده بالقتل، فلما سار بالكتابِ نحوه قُتِلَ أبو سعيدٍ قبل أن يَصِلَه، قتَلَه بعضُ خَدَمِه، وعَهِدَ بالأمرِ مِن بعده لولِده سعيد، فلما قرأ سعيدٌ كتابَ الوزير أجابه بما حاصِلُه: إنَّ هذا الذي تنسُبُ إلينا ممَّا ذكرتم لم يَثبُت عندَكم إلَّا مِن طريقِ مَن يُشَنِّعُ علينا، وإذا كان الخليفةُ يَنسُبنا إلى الكُفرِ بالله، فكيف يدعونا إلى السَّمعِ والطاعة له؟
في منتصف محرم - 1 فبراير قامت مظاهراتٌ تطالب بإسقاط الحكومة بعد أن ظهر أنَّها توالي الإنجليز، وصادف ذلك هوًى في نفس فاروق الملك، فأقال الحكومةَ، وكلَّف علي ماهر بتشكيل وزارة جديدة، واستمَرَّت المظاهرات، وفي 17 محرم اتصل السفيرُ الإنجليزي مايلز لامبسون بالملك فاروق، وأخبره أنَّ الحكومة البريطانية تصِرُّ على تغيير الوزارة القديمة، وتشكيل حكومة وفدية برئاسة مصطفى النحاس، واجتمع المَلِكُ بالشخصيات السياسية، وبينها مصطفى ماهر، وفي صبيحة يوم الثامن عشر سلَّم السفير الإنجليزي لمكتب أحمد حسنين رئيس الديوان الملكي إنذارًا إنجليزيًّا خطيرًا، وينص: إذا لم أسمع قبل الساعة السادسة مساء هذا اليومَ أنَّ مصطفى النحاس قد دُعِيَ لتشكيل الوزارة فإن جلالة الملك فاروق يجِبُ أن يتحَمَّل ما يترتب على ذلك من نتائِجَ، فاجتمع الملك ثانية بزعماء مصر السياسيين، وقرأ عليهم الخطاب الذي أشعرهم بالإهانة جميعًا، فقَرَّروا إرسال احتجاج للسفير ووقَّعوه جميعًا، وأجمعوا على تشكيل وزارة وطنية برئاسة مصطفى النحاس الذي أصَرَّ أن تكون وفديةً خالصةً (يعني: كلهم من حزب الوفد) وهذا ما تريدُه إنجلترا؛ لثقتها بالنحاس كما كانت تثِقُ قبله بسعد زغلول فهي تتظاهَرُ في الظاهر بمخالفتِهم ليكبَروا في أعيُنِ الشَّعبِ ويُصبِحوا أبطالًا قوميِّين!! وفي الشدة تستعينُ بهم للاستفادة من زعامتهم، ورفض السفيرُ ذلك الاحتجاج وأخطر رئيسَ الديوان الملكي أنَّه سيزور الملك بنفسِه في التاسعة مساء، وقبل نصف ساعة من الموعد تحرَّكت دبابات بريطانيا وطوَّقت قصر عابدين والزعماء ما يزالون مجتَمِعين فيه، وجاء السفير ودخل كأنَّه مَلِكُ العالَم لا كأنَّه سفير دولة، دخل متغطرسًا فوثب الجميع وقوفًا وسلَّموا عليه، فجلس، وخَيَّرَ الملك فاروق بين أمرين لا ثالثَ لهما إمَّا التوقيع على وثيقة تنازُلِه عن العرش، وإما التوقيع على تكليف مصطفى النحاس بتشكيلِ الوزارة فورًا، فاختار الملك الخيار الثاني فشَكَّلها من أعضاء حزب الوفد، وأرسل مصطفى النحاس خطابَ شكر للسفير الذي بادله برسالةٍ مماثلة!! وبعد تأليف الوزارة في اليوم نفسِه ذهب السفير وهنَّأ النحاس بين هتافاتِ أفراد حزب الوفد بحياة بريطانيا!!
عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: أنَّ رِعْلًا، وذَكْوانَ، وعُصَيَّةَ، وبني لَحْيانَ، اسْتمَدُّوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على عَدُوٍّ، فأَمدَّهُم بسبعين مِنَ الأنصارِ، كُنَّا نُسمِّيهم القُرَّاءَ في زمانِهم، كانوا يَحْتَطِبون بالنَّهارِ، ويُصلُّون باللَّيلِ، حتَّى كانوا ببِئرِ مَعونةَ قَتلوهُم وغَدَروا بهم، فبلَغ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقَنَتَ شهرًا يَدعو في الصُّبحِ على أَحياءٍ مِن أَحياءِ العربِ، على رِعْلٍ، وذَكْوانَ، وعُصَيَّةَ، وبني لَحْيانَ. قال أنسٌ: فقَرأنا فيهم قُرآنًا، ثمَّ إنَّ ذلك رُفِعَ: بَلِّغوا عَنَّا قَومَنا أَنَّا لَقِينا رَبَّنا فَرَضِيَ عَنَّا وأَرضانا. وجاء في ِروايةٍ عند البُخاريِّ: أنَّ أولئك السَّبعين مِنَ الأنصارِ قُتِلوا ببِئرِ مَعونةَ. وعن أنسِ بنِ مالكٍ، قال: جاء ناسٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أَنِ ابْعَثْ معنا رجالًا يُعلِّمونا القُرآنَ والسُّنَّةَ، فبعَث إليهم سبعين رجلًا مِنَ الأنصارِ، يُقالُ لهم: القُرَّاءُ، فيهم خالي حَرامٌ، يَقرءون القُرآنَ، ويَتدارَسون باللَّيلِ يَتعلَّمون، وكانوا بالنَّهارِ يَجيئون بالماءِ فيضَعونَهُ في المسجدِ، ويَحْتَطِبون فَيَبيعونَهُ ويَشْتَرون به الطَّعامَ لأَهلِ الصُّفَّةِ وللفُقراءِ، فبعثَهُم النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إليهم، فعَرَضوا لهم فقَتَلوهُم قبلَ أن يَبلُغوا المكانَ، فقالوا: اللَّهمَّ، بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنا أَنَّا قد لَقِيناك فَرَضينا عنك، ورَضيتَ عَنَّا. قال: وأَتى رجلٌ حَرامًا -خالَ أنسٍ- مِن خَلفِه، فطَعنَهُ برُمحٍ حتَّى أَنْفَذَهُ، فقال حَرامٌ: فُزْتُ ورَبِّ الكعبةِ. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأصحابِه: إنَّ إخوانَكُم قد قُتِلوا، وإنَّهم قالوا: اللَّهمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنا أَنَّا قد لَقِيناك فَرَضينا عنك، ورَضيت عَنَّا.
إبراهيمُ ابنُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأمُّهُ مارِيَةُ القِبْطِيَّةُ، وقد كان جَميعُ أَولادِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن خَديجةَ رضي الله عنها، ما عَدا إبراهيمَ فمِن مارِيَةَ القِبطيَّةِ المِصريَّةِ رضي الله عنها، قال أنسُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه: «ما رَأيتُ أحدًا كان أَرحمَ بالعِيالِ مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. قال: كان إبراهيمُ مُسْتَرْضِعًا له في عَوالي المَدينةِ، فكان يَنطلِقُ ونحن معه فيَدخُلُ البيتَ وإنَّه لَيُدَخَّنُ، وكان ظِئْرُهُ قَيْنًا، فيَأخُذهُ فيُقَبِّلُهُ، ثمَّ يَرجِع. قال عَمرٌو: فلمَّا تُوفِّيَ إبراهيمُ قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّ إبراهيمَ ابْنِي، وإنَّه مات في الثَّدْيِ، وإنَّ له لَظِئْرَيْنِ تُكَمِّلانِ رَضاعَهُ في الجنَّةِ». عن المُغيرةِ بنِ شُعبةَ قال: كَسَفتِ الشَّمسُ على عَهدِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يَومَ مات إبراهيمُ، فقال النَّاسُ: كَسَفتِ الشَّمسُ لِمَوتِ إبراهيمَ. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الشَّمسَ والقَمرَ لا يَنْكَسِفانِ لِمَوتِ أَحدٍ ولا لِحَياتِه، فإذا رَأيْتُم فصَلُّوا، وادْعوا الله». عن أبي بَكرةَ قال: خَسَفتِ الشَّمسُ على عَهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فخرَج يَجُرُّ رِداءَهُ حتَّى انْتَهى إلى المسجدِ، وَثابَ النَّاسُ إليه، فصلَّى بهم رَكعتينِ، فانْجَلتِ الشَّمسُ، فقال: «إنَّ الشَّمسَ والقَمرَ آيتانِ مِن آياتِ الله، وإنَّهما لا يَخْسِفانِ لِمَوتِ أَحدٍ، وإذا كان ذاك فصَلُّوا وادْعوا حتَّى يُكْشَفَ ما بكم». وذاك أنَّ ابْنًا للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مات يُقالُ له: إبراهيمُ. فقال النَّاسُ في ذاك. وُلِدَ له إبراهيمُ بالمدينةِ مِن سُرِّيَّتِهِ مارِيَةَ القِبطيَّةِ، سَنَةَ ثَمانٍ مِن الهِجرةِ، وبَشَّرَهُ به أبو رافعٍ مَولاهُ، فوَهَبَ له عَبدًا، ومات طِفلًا قَبلَ الفِطامِ، واخْتُلِف هل صلَّى عليه أم لا؟ على قَولين.
وكان سببُ نُزولِها أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كان يَقولُ لِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: لو أَمرتَ نِساءَك أن يَحْتَجِبْنَ، فإنَّه يُكلِّمُهُنَّ البَرُّ والفاجرُ، فنزَل قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ... إلى قوله تعالى:..وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ".
هو الإمامُ الكبيرُ، شَيخُ المَشرِق، سيِّدُ الحُفَّاظ، أبو يعقوب: إسحاق بن إبراهيم بن مَخلَد الحنظلي التيميُّ المروزي، المعروف بابنِ راهَوَيه، ولد بمرو عام 161هـ كان مِن أهل مرو، وسكن نيسابور، أحدُ الأئمَّة الحُفَّاظ، شيخ البخاريِّ وأحمد ومسلم وغيرهم، فكُلُّهم روى عنه، قال الحسن بن عبد الصمد: سمعتُ إسحاقَ بن إبراهيم يقول: أحفَظُ سبعينَ ألف حديثٍ كأنَّها نُصبَ عيني. اجتمع فيه الحديثُ والفِقهُ، والحِفظُ والدِّينُ والوَرَعُ، ولإسحاقَ تصانيفُ، وكان صاحِبَ فقهٍ كالإمام أحمد، وله مسائل مشهورة، قال إسحاقُ: قال لي عبدُ الله بن طاهر أميرُ خراسان: لمَ قيلَ لك: ابنُ راهَوَيه؟ وما معنى هذا، وهل تكرهُ أن يقال لك هذا؟ قلتُ: اعلَمْ- أيُّها الأميرُ- أنَّ أبي وُلِدَ في الطريقِ، فقالت المراوزة: راهَوَيه؛ لأنَّه وُلِدَ في الطريق، وكان أبي يكرهُ هذا، وأمَّا أنا فلستُ أكرهُ ذلك.