هو الحاجُّ محمد أمين بنُ محمد طاهر بن مصطفى الحُسيني مفتي القدس. وُلد في القدسِ سنة 1897م، تربَّى في بيت والدِه الشيخِ طاهر الحسينيِّ مفتي القدس، عُرِف بالحاج أمين الحسينيِّ بعد أن حجَّ برفقة والدتِه. تلقَّى علومه الابتدائيَّة والثانوية في مدارسِ القدسِ، ثم التحق بكلية الفرير بالقدس لتعلُّم اللغةِ الفرنسية، بعدها التحق بجامعة الأزهر، وكان يتردَّد على (دار الدعوة والإرشاد) التي أنشأها الشيخُ محمد رشيد رضا حيث تأثَّر به وبفكره الإصلاحيِّ، ومن خلال معرفته به عرف الكثير عنِ الصهيونية وأطماعِها في فلسطين، وبعدَ نُشوب الحرب العالمية الأولى التحق بكلية الأستانةِ العسكرية وتخرَّج منها ضابطًا، والتحق بالجيش العثماني في ولاية أزمير، وعمل فيه حتى نهاية الحرب؛ مما أكسبه خبرة جيِّدة كان لها الأثرُ الأكبر في شخصيتِه وحياتِه. بعدَ نهاية الحرب عاد الحسينيُّ إلى القدس وهو برتبة ضابطٍ، ملِمًّا بالفكر الإسلاميِّ، والعلوم المفيدةِ، والخبرة العسكريةِ، ويعرفُ منَ اللغات الأجنبية التركيةَ والفرنسيةَ، بالإضافة إلى ذلك كلِّه كان بحكم انتمائه إلى أسرة آل الحسيني مهيَّأً ليكون زعيمًا وداعيةً مسموع الكلمةِ. عندما احتلَّ الإنجليز فلسطين انصرف الحُسينيُّ إلى تنظيم الفلسطينيين في حركة وطنية شاملة ضدَّ الاستعمار والصهيونية، فكوَّنوا في القدس أوَّل منظمة سياسيَّة عرفتها فلسطين هو (النادي العربي)، وانتُخب الحسينيُّ رئيسًا له، وكان لهذا النادي أثر كبير في انطلاق الحركة الوطنية الفلسطينية، وقيام المظاهرات ضد الاحتلالِ. تسلَّم الحسينيُّ منصبَ الإفتاء رسميًّا، فأعاد تنظيم المحاكم الشرعية، واختار لها القضاة، ونظَّم الأوقاف، وأخذ يعمل على تقوية المدارس الإسلامية وتنظيم أمورها، كما شارك في تأسيس مجلس شرعي إسلامي لفلسطين تألَّف من مجموعة من العلماء، وعُين الحسيني رئيسًا لهذا المجلس الذي سُمي (المجلس الإسلامي الأعلى) الذي أصبح على مرِّ الأيام أقوى قوة وطنية إسلامية فلسطينية. كان الحاج أمين القوة الدافعة للحركة الوطنية، ومركز الثقل في المقاومة الفلسطينية؛ مما حفَّز الإنجليز واليهود إلى مقاومته والتخلُّص منه، فخرج الحاجُّ من فلسطين إلى لبنانَ بعد رفضه لقرار التقسيم 1937م وتحريضه للفلسطينيين ضدَّ الاحتلالِ، ومكث في لبنان عامين، ثم فرَّ منها إلى العراق، ولما سمع الحاج بالمآسي التي حلَّت بالشعب البوسني المسلم اجتمع بزعماءِ البوسنة والهرسك في ألمانيا؛ للعمل على منع وقوع المذابحِ فيهم، فحصَل على موافقةِ الحكومة الألمانية على تجنيدِ الشبَّان منهم وتسليحِهم للدفاع عن أنفسهِم وعائلاتهم، وكذلك اتَّفق مع السلطات الألمانية على إنشاء معهد للأئمة؛ لتوزيعِهم على وَحدات الفرق البوسنيَّة الذين زاد عددُهم عن 100 ألف مقاتل مع دول المحورِ، ولما زحف الحلفاء على ألمانيا عام 1945م انتقل الحاج أمين إلى باريس، ومنها إلى مصر، وفي مصر شكَّل الهيئة العربية العليا لفلسطين برئاسته؛ حيثُ نظَّم الحركة الوطنية الفلسطينية تنظيمًا حديثًا، بل ومدَّ نشاطه إلى الدائرة الإسلامية؛ حيث كان يرأس مؤتمرات إسلامية في مكة نشأت عنها مؤسسة دائمة باسم (مؤتمر العالم الإسلامي) برئاسته، وظل يشغل هذا المنصب طيلة حياته إلى أن تُوفي رحمه الله في بيروت ودُفن في مقبرة الشهداء بالحرج.
هو الخليفةُ الشهيد أمير المؤمنين المستعصِم بالله أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله منصور بن الظاهر محمد بن الناصر أحمد بن المستضيء الهاشمي، العباسي، البغدادي. ولد: سنة 609, واستُخلِفَ سنة أربعينَ يومَ مَوتِ أبيه في عاشر جمادى الآخرة، وكان فاضلًا تاليًا لكتاب الله، كان مليحَ الخَطِّ، قرأ القرآن على الشيخ علي بن النيار الشافعي، ويوم خَتَمَه خلع على الشَّيخِ، وأعطي ستة آلاف دينار. ويوم خلافته بلغت الخِلَع ثلاثة عشر ألف خلعة وسبعمائة وخمسين خلعة, وكان كريمًا حليمًا، سليمَ الباطن، حَسَن الديانة. قال الشيخ قطب الدين: "كان المستعصمُ بالله متدينًا مُتمَسِّكًا بالسنَّة كأبيه وجَدِّه، ولكنه لم يكن على ما كان عليه أبوه المستنصر وجده الناصر من التيقُّظ والحزم وعلُوِّ الهمة؛ فإن المستنصر بالله كان ذا همة عالية، وشجاعةٍ وافرة، ونفسٍ أبيَّة، وعنده إقدامٌ عظيم, وكان له أخٌ يُعرَف بالخفاجي يزيدُ عليه في الشهامة والشجاعة، وكان يقول: إن ملَّكني الله الأمرَ لأعبُرَنَّ بالجيوش نهر جيحون وأنتزع البلاد من التتار واستأصلهم, فلما توفِّيَ المستنصر لم يَرَ الدويدار والشرابي والكبار تقليد الخفاجي الأمرَ، وخافوا منه، وآثروا المستعصِمَ لِمَا يعلمون من لينِه وانقياده وضَعفِ رأيه؛ ليكونَ الأمر إليهم. فأقاموا المستعصم، ثم ركَنَ إلى وزيره ابن العلقمي، فأهلك الحَرثَ والنَّسلَ، وحَسَّنَ له جمع الأموال، والاقتصارَ على بعض العساكر، وقطَعَ الأكثر, فوافقه على ذلك, وكان فيه شُحٌّ، وقلة معرفة، وعدم تدبيرٍ، وحُبٌّ للمال، وإهمالٌ للأمور. وكان يتَّكِلُ على غيره، ويُقدِمُ على ما لا يليق وعلى ما يُستقبَحُ". قال الذهبي: "كان يلعب بالحَمام، ويُهمِلُ أمر الإسلام، وابنُ العلقمي يلعَبُ به كيف أراد، ولا يُطلِعُه على الأخبار. وإذا جاءته نصيحةٌ في السر أطلع عليها ابنَ العلقمي؛ ليقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا. حكى جمال الدين سليمان بن عبد الله بن رطلين قال: "جاء هولاكو في نحو مائتي ألف، ثم طلب الخليفةَ، فطلع ومعه القُضاة والمدرِّسون والأعيان في نحو سبعمائة نفس، فلما وصلوا إلى الحربية جاء الأمرُ بحضور الخليفة ومعه سبعة عشر نفسًا، فاتفق أن أبي كان أحدهم، فحدثني أنهم ساقوا مع الخليفة، وأنزلوا مَن بَقِيَ عن خيلهم، وضَرَبوا رقابَهم. ووقع السيف في بغداد، فعَمِلَ القتل أربعين يومًا. وأنزلوا الخليفةَ في خيمةٍ صغيرة، والسبعة عشر في خيمة. قال أبي: فكان الخليفةُ يجيء إلى عندنا كل ليلة ويقول: ادعُوا لي. قال: فاتفَقَ أنَّه نزل على خيمته طائرٌ، فطلبه هولاكو وقال: أيش عَمَلُ هذا الطائر؟ وأيش قال لك؟ ثم جرت له محاوراتٌ معه ومع ابن الخليفةِ أبي بكر. ثم أمَرَ بهما فأُخرِجا، ورفسوهما في غرارة -كيس كبير من صوف أو شعر- حتى ماتا، وكانوا يسمُّونه: الأبْلَه. توفي الخليفةُ في أواخر المحرم، وما أظنه دُفِنَ، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكان الأمرُ أعظم من أن يوجَدَ مؤرخ لموته، أو موارٍ لجَسَدِه. وراح تحت السيف أممٌ لا يحصيهم أحَدٌ إلا الله، فيقال: إنَّهم أكثرُ من ألف ألف، واستغنت التتارُ إلى الأبد، وسَبَوا من النساء والولدان ما ضاق به الفَضاءُ. وقيل: إن الخليفة بقي أربعة أيام عند التتار، ثم دخل بغداد ومعه أمراء من المغول ونصير الطوسي، فأخرج إليهم من الأموال والجواهر والزركش والثياب والذخائر جملةً عظيمة، ورجَعَ ليَومِه، وقُتِلَ، وقُتِلَ ابناه أحمد وعبد الرحمن، وبَقِيَ ابنه الصغير مبارك، وأخواته فاطمة، وخديجة، ومريم، في أَسْرِ التتار"، وقُتِلَ عدد من أعمام الخليفة وأقاربه, وقيل كانت المغول بقيادة هولاكو قد أخذوه وكانوا أولًا يهابون قَتْلَه، ثم هون عليهم ابن العلقمي والطوسي قَتْلَه فقُتل, وكان عمره يومئذ ستًّا وأربعين سنة وأربعة أشهر، ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر، به انتهت الخلافة العباسية وانقضت أيامُها، وبقي الناسُ بلا خليفة فكانت أيامُ الدولة العباسية جملةً خمسمائة سنة وأربع وعشرون سنة.
لَمَّا قَتَل بدر الدين بيدرا السلطانَ الأشرفَ بن قلاوون عاد بمن معه من الأمراء، ونزل بالدهليزِ وجلس في دست السلطة، وقام الأمراءُ فقَبَّلوا الأرضَ بين يديه وحلفوا له، وتلقَّب بالملك الأوحد وقيل المعظَّم، وقيل المَلِك القاهر، ثمَّ قبض بيدرا على الأميرِ بيسري والأميرِ بكتمر السلاح دار أمير جاندار، وقصد قتْلَهما ثم تركهما تحت الاحتياطِ لشفاعةِ الأمراء فيهما، وركب إلى الطرانة فبات بها وقد سار الأمراءُ والمماليكُ السلطانية ومعهم الأميرُ برغلي، وهم الذين كانوا بالدهليز والوطاق، ورَكِبوا في آثار بيدرا ومَن معه يريدون القبضَ عليه، فبلغ الأميرَ كتبغا ومن معه مقتلُ السلطانِ وسَلطنة بيدرا، فلَحِقَ بمن معه الأميرُ برغلي ومن معه من الأمراء والمماليك، وجدُّوا بأجمَعِهم في طلب بيدرا ومَن معه، وساقوا في تلك الليلة إلى الطرانة وقد لحِقَ بيدرا بسيف الدين أبي بكر بن الجمقدار نائبِ أمير جاندار، والأمير صارم الدين الفخري، والأمير ركن الدين بيبرس أمير جاندار، ومعهم الزردخاناه- خزينة الأسلحة- عند المساءِ من يوم السبت الذي قُتِلَ فيه السلطان الأشرف، فعندما أدركهم تقَدَّم إليه بيبرس أمير جاندار وقال له: يا خوند، هذا الذي فعلته كان بمشورة الأمراء؟ فقال: نعم، أنا قتلتُه بمشورتهم وحضورِهم، وهاهم كلهم حاضرون، ثم شرع يعَدِّدُ مساوئَ الأشرف ومخازيَه واستهتارَه بالأمراء ومماليكِ أبيه، وإهماله لأمور المسلمين، ووزارته ابن السلعوس، ونفور الأمراء منه لمَسكِه عز الدين الأفرم، وقتل سنقر الأشقر وطقصوا وغيره، وتأميره مماليكَه، وقِلَّة دينه وشُربه الخمرَ في شهر رمضان، وفِسْقه بالمردان، ثمَّ سأل بيدرا عن الأمير كتبغا فلم يَرَه، فقيل له: هل كان عند كتبغا من هذه القضية عِلمٌ؟ قال: نعم، هو أول من أشار بها، فلما كان يوم الأحد ثاني يومٍ من قَتْلِ الأشرفِ وافى الأميرُ كتبغا في طلبٍ كبيرٍ من المماليك السلطانية عِدَّتُه نحو الألفي فارس، وجماعة من الحلقة والعسكر ومعهم الأمير حسام الدين لاجين الأستادار الطرانة وبها بيدرا يريدون قتالَه، وميز كتبغا أصحابَه بعلائِمَ حتى يُعرَفوا من جماعة بيدرا، وهم أنَّهم جعلوا مناديلَ مِن رقابِهم إلى تحت آباطِهم فأطلق بيدرا حينئذ الأميرينِ بيسري وبكتمر السلاح دار، ليكونا عونًا له فكانا عونًا عليه، ورتَّبَ كتبغا جماعةً ترمي بالنشاب، وتقَدَّمَ بمن معه وحملوا على بيدرا حملةً منكرة، وقصد الأميرُ كتبغا بيدرا، وقال: يا بيدرا أين السلطان؟ ورماه بسَهمٍ وتبعه البقيَّةُ بسهامهم، فولى بيدرا بمَن معه وكتبغا في طلبِه حتى أدركه، وقُتِلَ بيدرا بعدما قُطِعَت يدُه ثمَّ كَتِفُه كما فَعَل بالأشرف، وحُمِلَت رأسُه على رمحٍ وبُعِثَ بها إلى قلعة الجبل، فطِيفَ بها القاهرة ومصر، ووُجِدَ في جيب بيدرا ورقةٌ فيها: ما يقول السادةُ الفقهاءُ في رجلٍ يَشرَبُ الخمرَ في شَهرِ رَمَضانَ، ويَفسُق بالمردان ولا يصلِّي، فهل على قاتِلِه ذَنبٌ أو لا؟ فكُتِبَ جوابُها: يُقتَلُ ولا إثمَ على قاتِلِه، وعندما انهزم بيدرا هرب لاجين وقرا سنقر، ودخلا القاهرةَ فاختفيا، وكان الذي وصل إلى قلعة الجبل بخبر مقتل السلطان الأشرف سيف الدين سنكو الدوادار، ولَمَّا بلغ الأميرَ علم الدين سنجر الشجاعي قتلُ السلطانِ، ضَمَّ الحراريقَ والمعادي وسائِرَ المراكِبِ إلى برِّ مِصرَ والقاهرة، وأمَرَ ألا يعدى بأحدٍ من الأمراء والمماليك إلا بإذنه، موصل الأمير زين الدين كتبغا ومَن معه من الأمراء والمماليك، بعد قتل بيدرا وهزيمة أصحابه، فلم يجدوا مركبًا يعدونَ به النيل، فأشار على من معه من الأمراء وهم حسام الدين لاجين الأستادار، وركن الدين بيبرس الجاشنكير، وسيف الدين برلغي وسيف الدين طغجي، وعز الدين طقطاي، وسيف الدين قطبة، وغيرهم أن ينزلوا في برِّ الجيزة بالخيام حتى يراسلوا الأميرَ سنجر الشجاعي، فوافقوه وضربوا الخيامَ وأقاموا بها، وبعثوا إلى الشجاعي فلم يمكِّنْهم من التعدية، وما زالت الرسل بينهم وبينه حتى وقع الاتفاقُ على إقامة المَلِك الناصِرِ محمَّد بن قلاوون، فبعَث عند ذلك الحراريقَ والمراكِبَ إليهم بالجيزة، وعدوا بأجمعهم وصاروا إلى قلعة الجبل في رابع عشر المحرم.
بعد أن هرب السلطانُ العادِلُ كتبغا من حسام الدين لاجين وأمرائِه الذين حاولوا قتْلَه، كان قد قَدِمَ قبله إلى دمشق أميرُ شكاره وهو مجروح، ليُعلِمَ الأمير أغرلو نائب دمشق بما وقع، فوصَلَ في يوم الأربعاء آخر المحرم، فكثُرَ بدمشق القالُ والقيل، وألبس أغرلو العسكرَ السلاح ووقفوا خارجَ باب النصر، فوصل كتبغا في أربعةِ أنفس قبل الغروبِ وصَعِدَ القلعة، وحضر إليه الأمراءُ والقُضاة وجُدِّدَت له الأيمان، ثم أوقَعَ الحوطة على أموالِ لاجين، وقَدِمَ في أول صفر الأمير زين الدين غلبك العادلي بطائفةٍ مِن المماليك العادليَّة، وجلس شهابُ الدين الحنفي وزير الملك العادل كتبغا في الوزارة بالقلعةِ، ورتَّبَ الأمور وأحوال السلطنةِ، فاشتهرت بدمشقِ سلطنةُ الملك المنصور حسام الدين لاجين في اليومِ الثالث عشر من محرَّم، وأنَّ البشائِرَ دُقَّت بصفد ونابلس والكرك، فصار كتبغا مقيمًا بقلعة دمشق لا ينزِلُ منها، وبعث الأميرُ سيف الدين طقصبا الناصري في جماعةٍ لكشف الخبر، فعادوا وأخبروا بصِحَّةِ سلطنة لاجين، فأمر كتبغا جماعةً من دمشق، وأبطل عدَّةَ مكوس في يومِ الجمعة السادس عشر صفر، وكتب بذلك توقيعًا قُرِئَ بالجامع، فبعث المَلِكُ المنصور لاجين من مصرَ الأمير سنقر الأعسر وكان في خدمتِه، فوصل إلى ظاهِرِ دمشق في الرابع عشر صفر، وأقام ثلاثةَ أيام، فرَّقَ عِدَّةَ كُتُبٍ على الأمراء وغيرهم وأخذ الأجوبةَ عنها، وحلف الأمراءُ، وسار إلى قارا وكان بها عِدَّةُ أمراء مجرَّدين فحَلَّفَهم وحلَّف عدَّةً من الناس، وكتب بذلك كلِّه إلى مصر، وسار إلى لد، فأقام بها في جماعةٍ كبيرة لحفظ البلاد، ولم يعلَمْ كتبغا بشيءٍ من ذلك، وكان قد وصل الأميرُ سيف الدين كجكن وعِدَّةٌ من الأمراء كانوا مجرَّدينَ بالرَّحبة، فلم يدخلوا دمشق، ونزلوا بميدان الحصا قريبًا من مسجد القدم، فأعلنوا باسم السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين، وراسلوا الأمراءَ بدمشق فخرجوا إليهم طائفةً بعد طائفة، وانحَلَّ أمر كتبغا، فتدارك نفسَه وقال للأمراء: السلطانُ الملك المنصورُ لاجين خوشداشي- زميل مهنتي- وأنا في خِدمتِه وطاعتِه، وأنا أكونُ في بعض القاعات بالقلعةِ إلى أن يكاتِبَ السُّلطانَ ويَرِدَ جوابُه بما يقتضيه في أمري فأدخله الأميرُ جاغان الحسامي مكانًا من القلعة، واجتمع الأمراءُ بباب الميدان، وحَلَفوا للملك المنصور وكتبوا إليه بذلك، وحفظ جاغان القلعةَ ورَتَّبَ بها من يحفَظُ كتبغا، وغُلِّقَت أبواب دمشق كلُّها إلا باب النصر، ورَكِبَ العسكر بالسلاح ظاهِرَ دمشق، وأحاط جماعةٌ بالقلعةِ خَوفًا من خروج كتبغا وتحيُّزه في جهةٍ أخرى، وكثُرَ كلام الناس واختلفت أقوالُهم، وعظم اجتماعُهم بظاهر دمشق حتى إنَّه سقط في الخندقِ جماعةٌ لشدة الزحام فيما بين باب النصرِ وباب القلعة، فمات نحوُ العشرة، واستمر الحالُ على هذا ذلك اليوم، ثم دُقَّت البشائر بعد العصر على القلعةِ، وأعلن بالدعاء للملك المنصور لاجين، ودُعِيَ له على المآذِنِ في ليلة الأحد، وضُرِبَت البشائر على أبواب الأمراء، وفُتِحَت الأبواب في يوم الأحد، وحضر الأمراءُ والقضاة بدار السعادة وحلف الأمراء بحضور الأمير أغرلو نائب الشام، وحلف هو وأظهر السرور، وركب أغرلو والأمير جاغان البريد إلى مصر، وبلغ ذلك الأمير سنقر الأعسر بلد، فنهض إلى دمشق ودخلها يوم الخميس التاسِعَ عشر، وقد تلقاه الناس وأشعلوا له الشموع، وأتاه الأعيان، ونودي من له مَظلمةٌ فعليه بباب الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، وفي يوم الجمعةِ أوَّل شهر ربيع الأول خُطِبَ بدمشق للملك المنصور، فلما كان يومُ الجمعة ثامنه: وصل الأميرُ حسام الدين الأستادار بعسكر مصر ليحلِّفَ الأمراء، فحَلَفوا بدار السعادة في يوم السبت تاسِعَه، وقرئ عليهم كتابُ الملك المنصور باستقراره في المُلك وجُلوسِه على تخت الملك بقلعة الجبل، واجتماعِ الكلمة عليه وركوبه بالتشاريفِ الخليفيَّة والتقليد بين يديه من أمير المؤمنينَ الحاكِم بأمر الله أبي العباس أحمد.
كَثُرَ عَبَثُ العُربان ببلاد الصعيد بقيادة الأحدب محمد بن واصل شيخ عرك، فجمع جمعًا كبيرًا، وتسمَّى بالأمير، فقَدِمَ الخبر في شعبان بأنهم كَبَسوا ناحيةَ ملوي، وقتلوا بها نحو ثلاثمائة رجل، ونهبوا المَعاصِرَ، وأخذوا حواصِلَها وذَبحوا أبقارَها، وأنَّ عَرَب منفلوط والمراغة وغيرهم قد نافقوا، وقَطَعوا بعض الجسور بالأشمونين، فوقع الاتفاقُ على الركوب عليهم بعد تخضيرِ الأراضي بالزراعة، وكُتِبَ إلى الولاة بتجهيز الإقامات برًّا وبحرًا، فأخذَ العرب حِذْرَهم، فتفَرَّقوا واختَفَوا، وقَدِمَت طائفة منهم إلى مصر، فأُخِذوا، وكانوا عشرة، فقُبِضَ ما وجد معهم من المال، وحَمل الأمير جندار، فإنهم كانوا فلَّاحيه، وأُتلِفوا، فلما برز الحاجُّ إلى بركة الحجَّاج ركب الأمير شيخو، وضرب حلقةً على الركب، ونادى مَن كان عنده بدويٌّ وأخفاه، حَلَّ دَمُه، وفَتَّش الخيام وغيرها، فقَبض على جماعة، فقتل بعضهم وأفرج عن بَعضٍ، ثمَّ لما عاد السلطان إلى الجيزة كُبِسَت تلك النواحي، وحُذِّرَ الناس من إخفاء العربان، فأُخِذَ البحري والبري، وقُبِضَت خيول تلك النواحي وسيوفُ أهلها بأسْرِها، وعُرِضَت الرجال، فمن كان معروفًا أُفرج عنه، ومن لم يعرف أقِرَّ في الحديد وحُمِل إلى السجنِ، ورُسِمَ أنَّ الفلاحين تبيعُ خُيولَهم بالسوق، ويوردون أثمانَها ممَّا عليهم من الخراجِ فبِيعَت عِدَّةُ خيول، وأُورِدَ أثمانها للمُقطِعين، والفَرَس الذي لم يُعرَف له صاحِبٌ حُمِلَ إلى إسطبل السلطان، وكُتِبَ للأمير عز الدين أزدمر، الكاشِفِ بالوجه البحري، أن يركَبَ ويكبِسَ البلادَ التي لأرباب الجاه، والتي يأويها أهلُ الفسادِ، فقَبَض على جماعةٍ كثيرة ووسَّطَهم، وساق منهم إلى القاهرةِ نحو ثلاثمائة وخمسين رجلًا، ومائة وعشرين فرسًا، وسلاحًا كثيرًا، ثم أحضَرَ الأميرُ أزدمر من البحيرة ستمائة وأربعين فرسًا، فلم يبقَ بالوجه البحري فرس، ورُسِمَ لقضاة البر وعُدولِه بركوب البغال والأكاديش، ثم كُبِسَت البهنسا وبلاد الفيوم، فركِبَ الأميران طاز وصرغتمش، بمن معهما إلى البلاد، وقد مَرَّ أهلها، واختفى بعضهم في حفائِرَ تحت الأرض، فقبضوا النِّساء والصبيان، وعاقبوهم حتى دلوهم على الرجال، فسَفَكوا دماء كثيرين، وعُوِقَب كثيرٌ من الناس بسبب من اختفى، وأُخِذَت عدة أسلحة، فحَشَد الأحدب بن واصل شيخ عرك جموعَه، وصَمَّم على لقاء الأمراء، وحَلَف أصحابه على ذلك، وقد اجتمع معه عرَبُ منفلوط، وعَرَبُ المراغة وبني كلب وجهينة وعرك، حتى تجاوزت فرسانُه عشرة آلاف فارس تحمِلُ السلاح، سوى الرجَّالة المعَدَّة، فإنَّها لا تعَدُّ ولا تحصى لكثرتِها، ثم رحل الأمير شيخو عن أسيوط، وبعث الأمير مجد الدين الهذبانى ليؤمِّنَ بنى هلال أعداء عرك، ويُحضِرَهم ليقاتلوا عرك أعداءَهم، فانخدعوا بذلك، وفَرِحوا به، وركبوا بأسلحتِهم، وقَدِموا في أربعمائة فارس، فما هو إلا أن وصلوا إلى الأمير شيخو فأمر بأسلحَتِهم وخيولهم فأُخِذَت بأسْرِها، ووضَعَ فيهم السَّيفَ، فأفناهم جميعًا، ثم قاتلوا العَرَبَ الباقين على دفَعات يقتلونهم، وأسَروا منهم الكثيرَ واستَرَقُّوا الأولادَ والحريم، وهلك من العرب خلائقُ بالعطش، ما بين فرسان ورجَّالة وجَدَّ المجَرَّدون في طلبهم، فسَلَبوهم، وصَعِدَ كثيرٌ منهم إلى الجبال، واختَفَوا في المغائر، فقَتَلَ العسكرُ وأَسَر، وسبى عددًا كثيرًا، وارتَقَوا إلى الجبال في طَلَبِهم، وأضرَموا النيران في أبواب المغائر، فمات بها خلقٌ كثير من الدخان، وخرج إليهم جماعةٌ، فكان فيهم من يُلقي نَفسَه من أعلى الجبل ولا يُسَلِّم نَفسَه، ويرى الهلاكَ أسهَلَ مِن أخذ العدوِّ له، فهلك في الجبالِ أُمَمٌ كثيرة وقُتِلَ منهم بالسيف ما لا يُحصى كثرةً، حتى عُمِلَت عدة حفائر ومُلِئَت من رمَمِهم، وأَنتَنَت البرِّيَّةُ من جِيَفِ القتلى ورِمَمِ الخَيلِ، وكان الأحدَبُ قد نجا بنفسِه، فلم يُقدَرْ عليه، ومن حينئذ أَمِنَت الطرقات برًّا وبحرًا، فلم يُسمَعْ بقاطع طريق بعدها، ووقع الموتُ فيمن تأخَّرَ في السجون من العُربان، فكان يموتُ منهم في اليوم من عشرين إلى ثلاثين، حتى فَنُوا إلا قليلًا، وفي شهر ربيع الأول قَدِمَ الأحدب محمد بن واصل، شيخ عرك من بلاد الصعيد، طائعًا، وكان من خَبَرِه أنه لما نجا وقت الهزيمة، وأُخِذَت أمواله وحَرَمُه، ترامى بعد عَودِ العسكر على الشَّيخِ المعتقد أبى القاسم الطحاوي، فكتب الشيخ في أمره إلى الأمير شيخو، يسأل العفوَ عنه وتأمينَه، على أنَّه يقومُ بدَركِ البلاد، ويلتَزِمُ بتحصيل جميع غِلالِها وأموالِها، وما يحدُثُ بها من الفَسادِ فإنَّه مُؤاخَذٌ به، وأنَّه يقابِلُ نواب السلطان من الكُشَّاف والولاة، فكُتِب له أمانٌ سُلطاني، وكُوتِبَ بتطييب خاطِرِه وحضوره آمنًا، فسار ومعه الشيخ أبو القاسم، فأكرم الأمراءُ الشَّيخَ، وأكرموا لأجله الأحدَبَ، وكان دخولُه يومًا مشهودًا، وتمثَّل الأحدَبُ بين يدي السلطان، وأنعم عليه السلطانُ وألبسه تشريفًا وناله من الأمراءِ إنعامٌ كثيرٌ، وضَمِنَ منهم درك البلاد على ما تقدَّمَ ذِكرُه، فرُسِمَ له بإقطاعٍ، وعاد الأحدب إلى بلاده بعد ما أقام نحو شهرٍ.
لمَّا قتل عَلِيُّ بن أبي طالِب رضي الله عنه بايَع أهلُ الكوفَة الحسنَ بن عَلِيٍّ، وأطاعوه وأحبُّوه, فاشْتَرط عليهم: إنَّكم سامِعون مُطيعون، مُسالِمون مَن سالَمْتُ، مُحارِبون مَن حارَبْتُ. فارتاب به أهلُ العِراق وقالوا: ما هذا لكم بصاحب. فما كان عن قَريب حتَّى طعنوه، فازداد لهم بُغْضًا، وازداد منهم ذُعْرًا، فعند ذلك عرَف تَفرُّقَهُم واخْتِلافَهُم عليه, وكان أهلُ العِراق أشاروا على الحسن أن يَسير إلى الشَّام لمُلاقاة مُعاوِيَة فخرج بهم، ولمَّا بلغ مُعاوِيَةَ ذلك خرَج هو أيضًا بجَيشِه وتَقارَب الجَيشان في مَسْكِن بناحِيَة الأنبارِ، لمَّا رأى الحسنُ الجيشان في مَسْكِن بناحِيَة الأنبار هالَهُ أن تكونَ مَقتلةٌ كبيرةٌ تَسيلُ فيها دِماءُ المسلمين فرَغِب في الصُّلْح، استقبل الحسنُ بن عَلِيٍّ مُعاوِيَةَ بن أبى سُفيان بكَتائِبَ أمثالِ الجِبال، قال عَمرُو بن العاص لمَّا رأى ضَخامةَ الجَيشين: إنِّي لأرى كَتائِبَ لا تُوَلِّي حتَّى تَقْتُلَ أقرانَها. فقال مُعاوِيَةُ: أي عَمرُو، إن قتَل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، مَن لي بأُمور النَّاس؟ مَن لي بضَيْعَتِهم؟ مَن لي بِنِسائِهم؟ عرَض الحسنُ بن عَلِيٍّ على عبدِ الله بن جَعفَر أَمْرَ الصُّلْح، قال له: إنِّي قد رأيتُ رَأْيًا، وإنِّي أُحِبُّ أن تُتابِعَني عليه. قال: قلتُ: ما هو؟ قال: قد رأيتُ أن أَعْمِدَ إلى المدينة فأنزِلُها، وأُخَلِّيَ بين مُعاوِيَة وبين هذا الحديثِ، فقد طالت الفِتنَةُ، وسُفِكَتْ فيها الدِّماءُ، وقُطِّعَتْ فيها الأرحامُ، وقُطِّعَت السُّبُلُ، وعُطِّلَت الثُّغورُ. فقال ابنُ جَعفَر: جزاك الله عن أُمَّةِ محمَّد خيرًا، فأنا معك، وعلى هذا الحديثِ. فقال الحسنُ: ادْعُ لي الحُسينَ. فبعَث إلى حُسين فأتاهُ، فقال: أي أخي، إنِّي قد رأيتُ رَأْيًا، وإنِّي أُحِبُّ أن تُتابِعَني عليه. قال: ما هو؟ فقَصَّ عليه الذي قال لابنِ جَعفَر، قال الحُسينُ: أُعيذُك بالله أن تُكَذِّبَ عَلِيًّا في قَبرِه، وتُصَدِّقَ مُعاوِيَةَ!. فقال الحسنُ: والله ما أردتُ أَمْرًا قَطُّ إلَّا خالَفتَني إلى غَيرِه، والله لقد هَمَمْتُ أن أَقْذِفَكَ في بيتٍ فأُطَيِّنَهُ عليك حتَّى أقضِيَ أمري. فلمَّا رأى الحُسينُ غَضبَه قال: أَمْرُنا لأَمْرِك تَبَعٌ، فافْعَل ما بَدا لك. فقام الحسنُ فقال: يا أيُّها النَّاسُ، إنِّي كنتُ أَكْرَهَ النَّاسَ لأوَّلِ هذا الحديثِ، وأنا أَصْلحتُ آخرَه، لِذي حَقٍّ أَدَّيْتُ إليه حَقَّهُ أَحَقَّ به مِنِّي، أو حَقٌّ جُدْتُ به لصَلاحِ أُمَّةِ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، وإنَّ الله قد وَلَّاك يا مُعاوِيَة هذا الحديثَ لِخيرٍ يَعلمُه عندك، أو لِشَرٍّ يَعلمُه فيك، {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء: 111]. وبهذا التَّنازُل تَحَقَّقَ في الحسنِ ما أَخبَر به النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بقولِه: (إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ، ولَعلَّ الله أن يُصْلِحَ به بين فِئتَين عَظيمَتين مِن المسلمين). ولمَّا تَمَّ الصُّلْحُ بشُروطِه برَز الحسنُ بين الصَّفَّيْنِ وقال: ما أَحببتُ أنَّ لي أَمْرَ أُمَّةِ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم على أن يُهْراقَ في ذلك مِحْجَمَةُ دَمٍ. وكان يقول: إنِّي قد اخْتَرتُ ما عند الله، وتَركتُ هذا الأمرَ لمُعاوِيَة. وأمَّا طلبُ الحسنِ لأن تكونَ الخِلافَة له مِن بعدِه فليست صحيحة، قال جُبيرُ بن نُفيرٍ: قلتُ للحسنِ بن عَلِيٍّ: إنَّ النَّاس يَزعُمون أنَّك تُريدُ الخِلافَة. فقال: كانت جَماجِم العرب بِيَدِي يُسالِمون مَن سالمتُ، ويُحارِبون مَن حاربتُ، فتَركتُها ابتغاءَ وجهِ الله، ثمَّ أَبْتَزُّها بِأَتْياسِ أهلِ الحِجازِ!. وجاء في نَصِّ الصُّلْح في إحدى الرِّوايات: بل يكونُ الأمرُ مِن بعدِه شُورى بين المسلمين.
لم يكتَفِ المأمونُ باعتناقِ مسألةِ القَولِ بخلقِ القرآن، بل كتب إلى عمَّالِه في الأمصارِ بامتحانِ العُلَماءِ في هذه المسألة من أجاب وإلَّا كان العقابُ، وربَّما بطانتُه من العلماء كانوا وراء هذا الامتحان، فكتب المأمونُ إلى نائبه ببغداد إسحاقَ بن إبراهيم بن مُصعَب يأمُرُه أن يمتَحِنَ القُضاةَ والمحَدِّثين بالقَولِ بخَلقِ القرآن، وأن يرسل إليه جماعةً منهم، وكتب إليه يستحِثُّه في كتابٍ مُطَوَّل، وكتب غيره مَضمونُها الاحتجاجُ على أنَّ القرآنَ مُحدَثٌ، وكُل مُحدَث مخلوقٌ، وهذا احتجاجٌ لا يوافِقُه عليه كثيرٌ مِن المتكلِّمينَ فَضلًا عن المحدِّثينَ؛ فإنَّ القائلينَ بأنَّ الله تعالى تقوم به الأفعالُ الاختياريَّة لا يقولونَ بأنَّ فِعلَه تعالى القائِمَ بذاتِه المقَدَّسة، مخلوقٌ، بل لم يكن مخلوقًا، بل يقولون: هو محدَثٌ وليس بمخلوق، بل هو كلامُ اللهِ القائِمُ بذاته المقدَّسة، وما كان قائمًا بذاته لا يكون مخلوقًا، وقد قال الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}، وقال تعالى، {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) فالأمر بالسجودِ صدر منه بعد خلقِ آدم، فالكلامُ القائمُ بالذاتِ ليس مخلوقًا، والمقصودُ أن كتاب المأمونِ لَمَّا ورد بغدادَ قُرئ على الناس، وقد عيَّنَ المأمون جماعةً مِن المحدِّثينَ لِيُحضِرَهم إليه، وهم: محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلِم المُستملي، ويزيدُ بن هارون، ويحيى بن مَعين، وأبو خيثمة زُهير بن حرب، وإسماعيلُ بن أبي مسعود، وأحمد بن الدورقي، فبُعِثَ بهم إلى المأمونِ في الرقَّة، فامتحنهم بخلْقِ القرآنِ، فأجابوه إلى ذلك وأظهروا موافقتَه وهم كارهون، فردَّهم إلى بغداد وأمرَ بإشهارِ أمرِهم بين الفُقَهاء، ففعل إسحاقُ ذلك وأحضر خَلقًا من مشايخِ الحديثِ والفُقَهاءِ وأئمَّة المساجد وغيرِهم، فدعاهم إلى ذلك عن أمرِ المأمون، وذكَرَ لهم موافقة أولئك المحدِّثين له على ذلك، فأجابوا بمِثلِ جواب أولئك موافقةً لهم، ووقَعَت بين الناس فتنةٌ عظيمةٌ. ثم كتب المأمونُ إلى إسحاق أيضًا بكتابٍ ثانٍ يستدِلُّ به على القولِ بخَلقِ القُرآنِ بِشُبَهٍ من الدلائِلِ لا تحقيقَ تحتها ولا حاصلَ لها، بل هي من المُتشابِه، وأورد من القرآنِ آياتٍ هي حُجَّةٌ عليه، وأمَرَ نائبه أن يقرأ ذلك على النَّاسِ وأن يَدعُوَهم إليه وإلى القَولِ بخلقِ القرآن، فأحضَرَ أبو إسحاق جماعةً من الأئمَّة؛ منهم قاضي القضاة بشر بن الوليد الكندي، ومقاتل، وأحمد بن حنبل، وقُتَيبة، وعليُّ بن الجعْد، وغيرهم، وقال لبشرٍ: ما تقولُ في القرآن؟ قال: القرآنُ كلامُ الله، قال: لم أسألْك عن هذا، أمخلوقٌ هو؟ قال: الله خالِقُ كُلِّ شَيءٍ، قال: والقرآنُ شَيءٌ؟ قال: نعم، قال: أمخلوقٌ هو؟ قال: ليس بخالقٍ، قال: ليس عن هذا أسألُك، أمخلوقٌ هو؟ قال: ما أُحسِنُ غيرَ ما قلْتُ لك. قال إسحاقُ للكاتب: اكتُبْ ما قال، ثم سأل غيرَه وغيره ويجيبونَ بنَحوِ جوابِ بِشرٍ. من أنه يقالُ: لا يُشبِهُه شيءٌ مِن خَلقِه في معنًى من المعاني، ولا وجهٍ مِن الوجوهِ، فيقول: نعم، كما قال بِشرٌ. ثم سأل قتيبةَ، وعُبيد الله بن محمَّد، وعبد المنعم بن إدريس بن نبت، ووهب بن منبه وجماعةً، فأجابوا أنَّ القرآنَ مجعولٌ؛ لِقَولِه تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} والقرآنُ مُحدَثٌ لِقَولِه تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}. قال إسحاق: فالمجعولُ مَخلوقٌ، قالوا: لا نقولُ مخلوقٌ، لكن مجعولٌ. فكتب مقالَتَهم ومقالةَ غَيرِهم إلى المأمونِ.
هو الفيلسوفُ المُنَجِّم مُحمَّد بنُ أحمد أبو الريحان البيروني الخوارزمي مُؤرخٌ مُحَقِّقٌ وجغرافيٌّ مُدقِّق، وفلَكيٌّ نابِهٌ، ورياضيٌّ أصيلٌ، وفيزيائيٌّ راسخٌ، ومترجِمٌ متمَكِّنٌ، مِن بلادِ السندِ، ومن أعيان الفلاسفة. عاصر الرَّئيسَ ابن سينا وجَرَت بينهما حوارات وأسئلةٌ وجوابات، وكان عالِمًا في الهيئة والنجوم، خبيرًا بالطبِّ. وُلد في بيرون إحدى ضواحي خوارزم، وهو مجهولُ النَسَب؛ فقد قال عن نفسِه في شعر: إذ لستُ أعرِفُ جَدِّي حقَّ مَعرفةٍ
وكيف أعرِفُ جدي إذ جَهِلتُ أبي
أبي أبو لهبٍ شَيخٌ بلا أدَبِ
نَعَم ووالدتي حمَّالةُ الحَطَب
يقول ياقوت الحموي" "بيرون بالفارسية معناه برّا، وسألتُ بعض الفضلاءِ عن ذلك فزعَم أنَّ مقام البيروني بخوارزم كان قليلًا، وأهلُ خوارزم يسمُّونَ الغريبَ بهذا الاسم، كأنَّه لَمَّا طالت غربتُه عنهم صار غريبًا، وما أظنُّه يُرادُ به إلَّا أنَّه من أهل الرستاق، يعني أنَّه من برّا البلد". كتب في كلِّ ما كان معروفًا مِن علومِ عَصرِه، وهو بذلك يُعدُّ أحدَ الموسوعيِّينَ. قال ياقوت الحموي: " وأما سائِرُ كُتُبِه في علومِ النُّجومِ والهيئةِ والمَنطِقِ والحكمةِ؛ فإنَّها تفوق الحَصرَ، رأيتُ فَهرسَتَها في وقْفِ الجامع بمرو في نحوِ الستين ورقةً بخط مكتنز". لَمَّا صَنَّف القانونَ المسعودي أجازه السلطانُ مسعود بن محمود الغزنوي بحَملِ فيلٍ مِن نقدِه الفِضِّي إليه، فردَّه إلى الخزانةِ بعُذرِ الاستغناء عنه، وكان مُكِبًّا على تحصيلِ العلوم مُنصَبًّا إلى تصنيف الكتُبِ، يفتَحُ أبوابها، ويُحيطُ شواكِلَها وأقرابَها، ولا يكاد يفارِقُ يدَه القلمُ وعَينَه النَّظرُ وقَلْبَه الفِكَرُ إلَّا في يومَيِ النيروز والمهرجان من السَّنة، ثمَّ هِجِّيراه في سائر الأيَّام من السَّنَةِ عِلمٌ يُسفِرُ عن وجهه قِناعَ الأشكال ويحسِرُ عن ذراعيه كمامَ الأغلاق. وأمَّا نباهةُ قَدرِه ومكانته عند الملوك فقد بلغ من حظوتِه لديهم أنَّ شمس المعالي قابوس بن وشمكير أراد أن يستخلِصَه لصُحبتِه ويرتبِطَه في دارِه على أن تكونَ له الإمرةُ المطاعةُ في جميع ما يحويه مُلكُه، فأبى عليه ولم يطاوِعْه، ولَمَّا أسمَحَت نفسُه بمثل ذلك لخوارزم شاه آواه في داره وأنزله معه في قَصرِه، لَمَّا استولى السُّلطانُ محمود على خوارزم قَبَضَ على البيروني وعلى أستاذِه عبد الصمد أول بن عبد الصمد الحكيم واتَّهَمه بالقَرمطةِ والكُفرِ، فأذاقه الحِمامَ، وهمَّ أن يُلحِقَ به أبا الرَّيحان البيروني، فقيل له إنَّه إمامُ وَقتِه في علمِ النُّجومِ، وإنَّ الملوكَ لا يَستَغنونَ عن مِثلِه، فأخَذَه معه، ودخل إلى بلادِ الهندِ وأقام بينهم وتعلَّم لُغتَهم واقتبس علومَهم، ثمَّ أقام بغُزنة حتى مات بها, وعلى الرغمِ مِن أنَّ البيروني لم يكن عربيًّا إلَّا أنَّه كان مُقتَنِعًا بأنَّ اللغةَ العربيَّةَ هي اللُّغةُ الوحيدةُ الجديرةُ بأن تكونَ لغةَ العِلمِ، وقد نُسِبَ إليه أنَّه قال: الهجوُ بالعربيَّةِ أحَبُّ إليَّ من المدحِ بالفارسيَّة. ومن أشهر كتب البيروني: الآثارُ الباقية عن القرون الخالية، وهو من أبرَزِ كُتُبِ التقاويم، القانونُ المسعودي في علمِ الفلك والجغرافيا والهندسة، الاستيعابُ في صنعة الأسطرلاب، الصَّيدنَة في الطب, تحديدُ نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن، تحقيقُ ما للهند من مقولةٍ مقبولة في العقل أو مرذولة، التفهيمُ لصناعة التنجيم. وغيرها كثير، وللبَيروني لَمَحاتٌ علميَّةٌ سبق بها عصرَه، منها قولُه بأن واديَ السِّندِ كان يومًا قاعَ بحرٍ ثم غطَّتْه الرواسِبُ الفَيضيَّة بالتدريج، والقولُ بدوران الأرضِ حول محْورِها، والقول بجاذبيَّة الأرض, وله في الرياضيَّات السبقُ الذي لم يشقَّ المُحضرون غبارَه، ولم يلحق المُضمِّرون المُجيدون مِضمارَه. توفي في غزنة (كابول الآن).
كان محمد بن عبد الله بن تومرت البربري المصمودي الهرغي، الخارج بالمغرب، المدَّعي أنَّه عَلَوي حَسَني، وأنه الإمام المعصوم- من أهل جبل السوس من بلاد المغرب. رحل ابن تومرت إلى بلاد المشرق في طلب العلم، وأتقن علم الأصولين والعربية، والفقه والحديث، واجتمع بالغزالي والكيا الهراسي في العراق، واجتمع بأبي بكر الطرطوشي بالإسكندرية، وقيل إنه لم يجتمع بالغزالي. ثم حج ابن تومرت وعاد إلى المغرب، وكان شجاعًا فصيحًا في لسان العربي والمغربي، شديد الإنكار على الناس فيما يخالف الشرع، لا يقنع في أمر الله بغير إظهاره. وكان مطبوعًا على الالتذاذ بذلك متحلِّلًا للأذى من الناس بسببه، وناله بمكة شيء من المكروه من أجل ذلك، فخرج منها إلى مصر وبالغ في الإنكار، فزادوا في أذاه وطردته الدولة، وكان إذا خاف من بطش وإيقاع الفعل به خلط في كلامه فيُنتَسَب إلى الجنون، فخرج من مصر إلى الإسكندرية، وركب البحر متوجهًا إلى بلاده. ولما وصل إلى قرية اسمها ملالة بالقرب من بجاية اتصل به عبد المؤمن بن علي الكومي، وتفرس ابن تومرت النجابةَ في عبد المؤمن وسار معه، وتلقب ابن تومرت بالمهدي. واستمرَّ المهدي على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووصل إلى مراكش وشدَّد في النهي عن المنكرات، وكَثُرت أتباعه وحَسُنت ظنون الناس به، ولما اشتهر أمره استحضره أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين بحضرة الفقهاء فناظرهم وقطعهم، وأشار بعض وزراء علي بن يوسف بن تاشفين عليه بقتل ابن تومرت المهدي أو حبسه، وقال: والله ما غرضُه النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، بل غرضه التغلب على البلاد، فلم يقبَلْ عليٌّ ذلك. ذكر ابن خَلِّكان شأن ابن تومرت فقال: "خرج محمد بن تومرت من مصر في زيِّ الفقهاء بعد الطلب بها وبغيرها, ولما وصل إلى المهدية نزل في مسجد معلَّق، وهو على الطريق، وجلس في طاق شارع إلى المحجة ينظر إلى المارة، فلا يرى منكرًا من آلة الملاهي أو أواني الخمر إلا نزل إليها وكسَرَها، فتسامع به الناسُ في البلد، فجاؤوا إليه، وقرؤوا عليه كتبًا من أصول الدين، وبلغ خبره الأمير يحيى، فاستدعاه مع جماعة من الفقهاء، فلما رأى سَمْتَه وسَمِعَ كلامه أكرمه وأجلَّه وسأله الدعاء، فقال له: أصلح الله لرعيتك، ولم يقُمْ بعد ذلك بالمهدية إلا أيامًا يسيرة، ثم انتقل إلى بجاية، وأقام بها مدة وهو على حاله في الإنكار" فسار المهدي إلى أغمات ولحق بالجبل واجتمع عليه الناس وعَرَّفهم أنه هو المهدي الذي وعد النبيُّ صلى الله عليه وسلم بخروجه، فكثُرَت أتباعه واشتَدَّت شوكته، وقام إليه عبد المؤمن بن علي في عشرة أنفس، وقالوا له: أنت المهدي، وبايعوه على ذلك وتبعهم غيرهم، فأرسل أمير المسلمين علي إليه جيشًا فهزمه المهدي وقَوِيَت نفوس أصحابه، وأقبلت إليه القبائلُ يبايعونه، وعَظُم أمره، وتوجَّه إلى جبل عند تينمليل واستوطنه، ثم إن المهدي رأى من بعض جموعه قومًا خافهم. قال الذهبي: "قال ابن تومرت لأصحابه: إن الله أعطاني نورًا أعرِفُ به أهل الجنة من أهل النار، وجمع الناسَ إلى رأس جبل، وجعل يقول عن كُلِّ من يخافُه: هذا من أهل النار، فيُلقى من رأس الشاهق ميتًا، وكل من لا يخافه: هذا من أهل الجنة ويجعَلُه عن يمينه، حتى قتل خلقًا كثيرًا واستقام أمره وأمِنَ على نفسه. وقيل: إن عدة الذين قتلهم سبعون ألفًا" وسَمَّى عامة أصحابه الداخلين في طاعته الموحِّدين، ولم يزل أمر ابن تومرت المهدي يعلو إلى أن توفي سنة 524.
كثُرَ فَسادُ العُربان بالوجه القبلي، وتعَدَّى شَرُّهم في قَطعِ الطَّريقِ إلى أن فَرَضوا على التجَّار وأرباب المعايش بأسيوط ومنفلوط فرائِضَ جَبَوها شبه الجماليَّة، واستخَفُّوا بالولاة ومنعوا الخراجَ، وتَسَمَّوا بأسماء الأمراء، وجعلوا لهم كبيرينِ أحدهما سَمَّوه بيبرس، والآخر سلار، ولبسوا الأسلحةَ وأخرجوا أهلَ السُّجونِ بأيديهم، فاستدعى الأمراءُ القُضاةَ والفُقَهاءَ، واستفتَوهم في قتالِهم، فأفتَوهم بجواز ذلك، فاتَّفَق الأمراء على الخروج لقتالِهم وأخْذِ الطرق عليهم، لئلا يمتَنِعوا بالجبالِ والمفاوزِ فيَفوتَ الغَرَضُ فيهم، فاستدعَوا الأمير ناصر محمد بن الشيخي متولي الجيزية, وغيرَه من ولاة العمل، وتقَدَّموا إليه بمنع الناسِ بأَسرِهم من السفر إلى الصعيدِ في البَرِّ والبحر، ومَن ظَهَر أنه سافر كانت أرواحُ الولاة قبالةَ ذلك، فاشتَدَّ حِرصُهم، وأشاع الأمراءُ أنَّهم يريدون السَّفَرَ إلى الشام، وكُتِبَت أوراق الأمراء المسافرين، وهم عشرونَ مُقَدَّمًا بمضافيهم، وعيَّنوا أربعة أقسام: قسمٌ يتوَجَّهُ في البر الغربي من النيلِ، وقِسمٌ في البَرِّ الشرقي، وقِسمٌ يركب النيل، وقِسمٌ يمضى في الطريق السالكةِ، وتوجه الأميرُ شمس الدين سنقر الأعسر إلى جهة ألواح في خمسةِ أمراء، وقرر أن يتأخَّرَ مع السلطان أربعةُ أمراء من المقَدَّمين، وتقَدَّمَ إلى كُلِّ مَن تعَيَّنَ لجهة أن يضَعَ السَّيفَ في الكبير والصَّغيرِ والجليل والحقير، ولا يُبقُوا شيخًا ولا صبيًّا، ويحتاطوا على سائِرِ الأموال، وسار الأميرُ سلار في رابع جمادى الآخرة ومعه جماعةٌ من الأمراء في البر الغربي، وسار الأميرُ بيبرس بمن معه في الحاجر في البر الغربي على طريق الواحات، وسار الأميرُ بكتاش أميرُ سلاحٍ بمن معه إلى الفيوم وسار الأميرُ بكتمر الجوكندار بمن معه في البرِّ الشرقي، وسار قتالُ السبع وبيبرس الدوادار وبلبان الغلشي وعرب الشرقية إلى السويس والطور، وسار الأميرُ قبجق ومن معه إلى عقبةِ السَّيل، وسار طقصبا والي قوص بعرب الطاعةِ وأخذ عليهم المفازاتِ، وضَرَبَ الأمراءُ على الوجه القبلي حلقةً كحلقةِ الصيدِ، وقد عُمِّيَت أخبارُهم على أهل الصعيد، فطَرَقوا البلادَ على حينِ غَفلةٍ مِن أهلها، ووضَعوا السيفَ في الجيزيَّة بالبر الغربيِّ والإطفيحية من الشرق، فلم يتركوا أحدًا حتى قَتَلوه، ووسطوا نحو عشرة آلاف رجلٍ، وما منهم إلَّا من أخذوا مالَه وسَبَوا حريمه، فإذا ادَّعى أحدٌ أنَّه حَضَريٌّ قيل له قل: دقيق، فإن قال بقاف العَرَبِ قُتِلَ، ووقع الرعبُ في قلوبِ العُربان حتى طَبَّق عليهم الأمراءُ، وأخَذوهم مِن كُلِّ جِهةٍ فَرُّوا إليها، وأخرَجوهم من مخابِئِهم حتى قَتَلوا مَن بجانبي النيلِ إلى قوص، وجافت الأرضُ بالقتلى، واختفى كثيرٌ منهم بمغائِرِ الجبالِ، فأُوقِدَت عليهم النيرانُ حتى هلكوا عن آخِرِهم، وأُسِرَ منهم نحوُ ألف وستمائة لهم فلاحات وزروع، وحَصَل من أموالهم شيءٌ عَظيمٌ جدًّا تفَرَّقَتْه الأيدي، وأُحضِرَ منه للديوان ستة عشر ألف رأسٍ من الغنم، من جملةِ ثمانين ألف رأسٍ ما بين ضأن وماعز، ونحو أربعةِ آلاف فرس واثنين وثلاثين ألف جمل، وثمانية آلاف رأس من البقر، غيرَ ما أُرصِدَ في المعاصر، ومن السِّلاحِ نحو مائتين وستين حملًا ما بين سيوف ورماح، ومن الأموالِ على بغالٍ مُحَمَّلة مائتين وثمانين بغلًا، ثم عاد العسكَرُ في سادس عشر رجب، وقد خلت البلادُ بحيث كان الرجلُ يمشي فلا يجِدُ في طريقه أحدًا، وينزِلُ بالقرية فلا يرى إلا النِّساءَ والصِّبيانَ والصِّغارَ، فأفرجوا عن المأسورينَ وأعادوهم لحِفظِ البلاد، وكان الزَّرعُ في هذه السنة بالوجه القبلي عظيمًا إلى الغاية، تحصَّلَ منه ما لم يُقدَرْ قَدرُه كَثرةً.
تولى خير الدين التونسي منصِبَ رئاسة الوزراء في الدولةِ العثمانيةِ. ولد خير الدين في القفقاس لعائلةِ تليش الأباظية الشركسية، حوالي عام 1820م. تعهَّده والي تونس الداي أحمد، وهيأ له فُرَصَ الاستزادة من العلوم، فأكَبَّ على دراسة الفنون العسكرية والسياسية، والتاريخ والعلوم الشرعية، وأتقن اللغاتِ العربيةَ والتركية والفرنسية. أصبح رئيسًا لمكتب العلوم الحربية بباردو عام 1840م، ثم أصبح رئيسًا لفرقة الفرسان في الجيش التونسي. وعيِّن مديرًا لِمَصرف الدراهم التونسي. وفي عام 1849م رقِّيَ إلى رتبة ومنصب أمير لواء الخيالة في تونس، وفي عام 1855م أنعَمَ عليه الباي المشير محمد باشا برتبة الفريق؛ لإنقاذه تونس من قرضٍ مالي ثقيل كاد الباي السابق أن يندفِعَ إليه. ثم عيَّنه وزيرًا للبحرية عام 1857م حيث أجرى عدَّةَ إصلاحات إدارية. وساهم في صياغةِ وإصدار قانون (عهد الأمان) التونسي عام 1857م. وشارك في وضع الدستور التونسي عام 1860م. وعند إنشاءِ مجلس الشورى التونسي المنتَخَب كان خير الدين باشا الرئيس الفعليَّ للمجلس من عام 1861م. اصطدم مع سياسة الباي الجديد محمد الصادق فقَدَّم استقالتَه من الوزارة ومِن رئاسة مجلس الشورى عام 1862م وفَرَض على نفسه العزلةَ السياسية لمدة تسع سنوات بين عامي 1862م و1869م. وكان من نتائج عزلته تلك تأليفُه الكتاب الشهير الذي أسماه ((أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك)) والذي تمَّ طبعُه في تونس عام 1867 م. بعد ذلك شارك مندوبًا عن تونس في اللجنة المالية المختلطة المشكَّلة لتحصيل ديون الدُّول الأوروبية من تونس، فاستطاع الحدَّ من نفوذ اللجنة وتدخُّلِها في شؤون الدولة. وفي أكتوبر 1873م عيِّنَ وزيرًا أكبر لتونس (أي رئيسًا للوزراء) فسَنَحَت له فرصةُ تحقيق برامجه الإصلاحية التي طرحَها في كتابه (أقوم المسالك) واستطاع نقل تونس من حالة الكرب والضيق والفوضى إلى حالةٍ مِن الأمنِ والرخاء والنظام. وتصدى بحزمٍ للمطامع الأجنبية في بلادِه، وخاصة المطامح الفرنسية والإيطالية المتنافسة. ولكِنَّه فوجئ بمعاتبة الباي له وغضبه من سياسته في التحمُّسِ لإعانة الدولة العثمانية في حَربِها ضِدَّ روسيا، فقَدَّم استقالته من رئاسة الوزارة في يوليو1877م. وبعد استقالته ضَيَّق عليه الباي الخناقَ ومنعه من الاتصال بالناس، فكان معتقلًا في منزله. وقد سافر للعلاجِ ثم عاد إلى تونس وظَلَّ شِبهَ مُعتَقَل حتى استدعاه السلطانُ العثماني عبد الحميد الثاني فسافر إلى الأستانة في رمضان 1877م حيث استقبله السلطانُ وعَيَّنه وزير دولة بعد رفضِه منصب وزير العدل. ولكِنَّه فوجئ في صباح يوم 4 ديسمبر 1878م بتعيينه رئيسًا لوزراء الدولة العثمانية. وكانت الدولةُ العثمانية وقتَها في ضيقٍ وحَرَجٍ كبير؛ فالجيش الروسي يقِفُ على عتبات العاصمة استانبول، والأسطول البريطاني في مضيق البوسفور، والاقتصادُ متدهور، وهناك المشكلةُ الأرمينية، ومشاكِلُ في قبرص والبوسنة! فسارع خير الدين باشا إلى عقد اتِّفاقٍ مع الروسِ يضمَنُ مصالح المسلمين في بلغاريا وروملي الشرقية،كما انسحب الأسطولُ البريطاني مِن مَضيقِ البوسفور، وسَوَّى الخلافات مع النمسا، وحُلَّت مشكلة الأرمن، واستبدل بالخديويِّ إسماعيل ابنَه توفيقًا في مصر. وقد اختلف كثيرًا مع السلطان عبد الحميد الثاني ورجالِ حاشيته إبَّانَ توليه رئاسة الوزراء، فكان أن عُزِلَ مِن منصبه في شعبان 1296 هـ ( 1879 م) وعاش بعدها بعيدًا عن السياسة حتى توفِّي بعد عشر سنوات في الأستانة عام 1889م ودفِنَ في جامع أيوب، إلا أن الحكومة التونسية بادرت في عام 1968م إلى نقل رُفاته ودفنه في تونس تقديرًا لخِدماتِه، وقد أطلق عليه الشَّعبُ التونسي لقب ((أبو النهضة التونسية)).
هو الشَّيخُ الأستاذ العلَّامة المحَدِّث أبو الأشبال أحمد بن محمد شاكر بن أحمد بن عبد القادر من آل أبي علياء. وُلِدَ بعد فجر يوم الجمعة في 29 جمادي الآخرة سنة 1309هـ / 1892م بالقاهرة، ووالده هو العلَّامة الشيخ محمد شاكر، لَمَّا عُيِّن والده الشيخ محمد شاكر قاضيًا بقضاءِ السودان سنة 1900م أخذه معه وأدخله كلية غوردون، فبقي بها حتى عودة والده إلى الإسكندرية سنة 1904م، فالتحق بمعهد الإسكندرية. وفي سنة 1327هـ / 1909م عُيِّن والده الشيخ محمد شاكر وكيلًا لمشيخة الأزهر، فالتحق الشيخُ أحمد شاكر وأخوه علي بالأزهر، فاتَّصَل بعلماء القاهرة ورجالها، وعرف طريقَه لدُور الكتب العامة والمكتبات الموجودة في مساجدها. ومن أشهر العلماء الذين استفاد منهم: والِدُه العلامة محمد شاكر، وكان أعظَمَ الناس أثرًا في حياته. والشيخ عبد السلام الفقي، تعلم منه كتُبَ الأدب واللغة والشعر، والشيخ محمود أبو دقيقة، تعلم منه الفقه وأصوله بالإضافة إلى أنه تعلَّم منه الفروسية، والرماية، والسباحة، وعلامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي، وعلَّامة المغرب ومحدِّثُها الشيخ عبد الله بن إدريس السنوسي، وقد أجازه برواية صحيح البخاري وبقية الكتب الستة، والشيخ طاهر الجزائري من كبار علماء الشام، والعلَّامة محمد رشيد رضا، كما أخذ عن الشيخ محمد بن الأمين الشنقيطي كتابَ بلوغ المرام، وحصل على شهادة العالمية بالأزهر سنة 1917م، فعيِّن مدرِّسًا بمدرسة ماهر. ثم عُيِّن عضوًا بالمحكمة الشرعية العليا، وظَلَّ في سلك القضاء حتى أحيلَ إلى التقاعُد سنة 1951م. عمل مشرفًا على التحرير بمجلة الهدْي النبوي سنة 1370هـ، ولما كانت سنة 1911م اهتمَّ بقراءة مسند الإمام أحمد بن حنبل، وظَلَّ منذ ذلك التاريخ مشغولًا بدراسته حتى بدأ في طبع شرحه على المسنَدِ سنة 1365هـ / 1946م بعد أن ظَلَّ في دراسته 35 سنة، وعاجلَتْه المنية دون أن يتمكَّنَ من مراجعته، تولى القضاءَ في مصر أكثر من ثلاثين سنة، وكان له فيها أحكامٌ مشهورة في القضاء الشرعي، قضى فيها باجتهادِه غيرَ مقلِّدٍ ولا متَّبِع. حقق كتاب ((الرسالة)) للشافعي، وكتاب ((الشعر والشعراء)) لابن قتيبة، و ((لباب الأدب)) لأسامة بن منقذ، وشرح كتاب الحافظ ابن كثير اختصار علوم الحديث، وله كتاب ((عمدةُ التفسير))، وهو تهذيب لتفسير ابن كثير، وله تحقيقُ ((الإحكام)) لابن حزم، وجزأين من المحلى لابن حزم، و ((العمدة في الأحكام)) للحافظ عبد الغني المقدسي، ومن كتبه كتاب ((نظام الطلاق في الإسلام))، دلَّ فيه على اجتهاده وعدم تعصُّبِه لمذهب من المذاهب، و ((الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين)) و ((كلمة الفصل في قتل مدمني الخمر)). وللشيخ أحمد جهودُه في المجال السياسي والاجتماعي، فقد عاش الشيخ في فترة امتازت بكثرة الأحداث وتواليها، والدول الإسلامية تئِنُّ تحت نِيرِ الاستعمارِ الإنجليزي والفرنسي، واليهود يخطِّطون لاحتلال فلسطين، فانبرى الشيخُ للتصدي لكل الأفكار الهدَّامة متمسِّكًا بكتاب الله ملتَزِمًا بعقيدة السلف، يقارعُ الأعداء وتلامذة الغرب من المستشرقين دون أن تلينَ له قناة أو تخور له عزيمة، مع قلةٍ من أمثاله من الرجال، وصار يدبِّج ببراعة مقالاتٍ نفيسةً وتعليقاتٍ مفيدةً على بعض ما حقَّقه من الكتب، وتصدَّى للمبتدعين والخرافيين والمستشرقين وغيرهم، وتوفي الشيخ أحمد رحمه الله في السادسة بعد فجر يوم السبت 26 ذي القعدة 14 يونيه.
هو شَيخُ الآدابِ، أبو العلاء أَحمدُ بن عبدِ الله بن سُليمانَ المَعَرِّي التَّنوخي الشاعر، اللُّغويُّ، صاحبُ الدَّواوين والمُصَنَّفات في الشِّعرِ واللُّغةِ، المشهور بالزَّندقَةِ، وُلِدَ سنة 363هـ, وأصابهُ جُدَري وله أربعُ سِنين أو سَبع، فذَهبَ بَصرهُ، وقال الشِّعْرَ وله إحدى أو ثنتا عشرة سَنة، ودخلَ بغداد سنةَ تِسعٍ وتسعين وثلاثمائة، فأقام بها سنةً وسبعةَ أَشهُر، ثم خَرجَ منها طَريدًا مُنهزِمًا، لمَّا عَزَم الفُقهاءُ على أَخذِه ببَعضِ أَشعارهِ الدَّالةِ على فِسْقِه، هَرَب ورَجَع إلى بَلدِه، ولَزِمَ مَنزِلَه فكان لا يَخرُج منه، وسَمَّى نَفسَه: رَهينَ المَحْبَسَينِ لذلك ولِذهابِ بَصرِه, وقد كان المَعَرِّي غايةً في الذَّكاءِ المُفرِط، ومَكَثَ المَعَرِّي خمسًا وأربعين سنةً من عُمُرِه لا يأكلُ اللَّحمَ ولا اللَّبَنَ ولا البَيْضَ، ولا شيئًا مِن حَيوانٍ، على طَريقَةِ البَراهِمَة الفَلاسِفَة، ويُقال: "إنَّه اجتَمَع بِراهبٍ في بَعضِ الصَّوامِع في مَجيئِه من بَعضِ السَّواحِل آواهُ اللَّيلَ عنده، فشَكَّكَهُ في دِينِ الإسلام" فكان لا يَتَقَوَّتُ إلَّا بالنَّباتِ وغَيرِه، وأَكثرُ ما كان يأكلُ العَدسَ، ويَتَحَلَّى بالدِّبْسِ وبالتِّينِ، وكان لا يأكل بِحَضرَةِ أَحدٍ، ويقول: أَكْلُ الأعمى عَورةٌ وسَترُه واجب. قال ابنُ كَثيرٍ: "كان ذَكِيًّا ولم يكن زَكِيًّا، وله مُصنفاتٌ كَثيرةٌ أَكثرُها في الشِّعْرِ، وفي بَعضِ أَشعارِه ما يَدلُّ على زَندَقتِه، وانحِلالِه مِن الدِّين، ومن الناسِ مَن يَعتَذِر عنه ويقول: إنَّه إنمَّا كان يقول ذلك مُجونًا ولَعِبًا، ويقول بلِسانِه ما ليس في قَلبِه، وقد كان باطنُه مُسلِمًا"، قال أبو الوفاء ابن عَقيلٍ شيخُ الحنابلة: "مِن العجائبِ أنَّ المَعَرِّي أَظهرَ ما أَظهرَ مِن الكُفرِ الباردِ، وسَقَطَ مِن عُيونِ الكُلِّ، ثم اُعتُذِرَ بأن لِقَولهِ باطِنًا، وأنَّه مُسلمٌ في الباطنِ، فلا عَقلَ له ولا دِينَ، لأنَّه تَظاهَر بالكُفرِ وزَعَم أنَّه مُسلمٌ في الباطنِ، وهذا عَكسُ قضايا المُنافِقين والزَّنادِقة، حيث تَظاهَروا بالإسلامِ وأَبطَنوا الكُفرَ، فهل كان في بلادِ الكُفَّارِ حتى يحتاج إلى أن يُبطِنَ الإسلام، فلا أَسخَف عَقلًا ممَن سَلكَ هذه الطَّريقَة التي هي أَخَسُّ مِن طَريقةِ الزَّنادِقة والمُنافِقين، إذا كان المُتَدَيِّن يَطلُب نَجاةَ الآخِرةِ، والزِّنديق يَطلُب النَّجاةَ في الدُّنيا، وهو جَعلَ نَفسَه عُرضةً لإهلاكِها في الدنيا حين طَعَنَ في الإسلامِ في بلادِ الإسلامِ، وأَبطَن الكُفرَ، وأَهلكَ نَفسَه في المَعادِ، فلا عَقلَ له ولا دِينَ" قال ابنُ الجوزيُّ: "وقد رَأيتُ لأبي العَلاءِ المَعَرِّي كِتابًا سَمَّاهُ (الفُصول والغايات)، يُعارض به السِّور والآيات، وهو كَلامٌ في نِهايةِ الرَّكَّةِ والبُرودةِ، فسبحان مَن أَعمَى بَصرَهُ وبَصيرتَهُ، وقد ذَكرهُ على حُروفِ المُعجَم في آخرِ كِلماتِه"، قال ابنُ كَثيرٍ: "وقد أَورَد ابنُ الجوزي من أَشعارِه الدَّالَّةِ على استِهتارِه بِدِينِ الإسلامِ أَشياءً كَثيرةً تَدُلُّ على كُفرِه؛ بل كلُّ واحدةٍ مِن هذه الأشياءِ تَدُلُّ على كُفرِه وزَندقَتِه وانحِلالِه، وقد زَعمَ بعضُهم أنَّه أَقلَع عن هذا كُلِّه وتاب منه وأنَّه قال قَصيدةً يَعتذِر فيها مِن ذلك كُلِّه، ويَتنَصَّل منه، ومنهم مَن قال: بل كلُّ ذلك مَدسوسٌ عليه مِن قِبَلِ حُسَّادِه وَهُم كُثُر. بل أَلَّفَ ابنُ العديم كِتابًا في الدِّفاعِ عنه، وللمَعَرِّي (دِيوانُ اللُّزومِيَّات)، و(سِقْطُ الزَّنْدِ) و(رِسالةُ الغُفران)"، قال الباخرزي: "أبو العلاء ضَريرٌ ما له ضَريبٌ، طال في ظِلِّ الإسلامِ آناؤهُ، ورَشَحَ بالإلحاد إناؤهُ، وعندنا خَبرُ بَصرِه، والله العالم بِبَصيرَتِه والمُطَّلِع على سَريرَتِه، وإنمَّا تَحدَّثت الأَلسُنُ بإساءتِه بكِتابِه الذي عارَضَ به القُرآنَ، وعَنْوَنَهُ: (الفُصولُ والغايات في مُحاذاةِ السُّوَرِ والآيات)", وقال غَرسُ النِّعمَة محمدُ بن هلالِ بن المُحسِن بن إبراهيمَ الصابئ عنه: "له شِعْرٌ كَثيرٌ، وأَدَبٌ غَزيرٌ، ويُرمَى بالإلحادِ، وأَشعارُه دَالَّةٌ على ما يُتَّهَمُ به" قال أبو زكريا التِّبريزي: "لمَّا قَرأتُ على أبي العَلاءِ بالمَعَرَّةِ قوله:
تَناقُضٌ ما لنا إلَّا السُّكوتُ له
وأن نَعوذُ بمولانا مِن النَّارِ
يَدٌ بِخَمسِ مِئٍ مِن عَسْجَدٍ وُدِيَت
ما بالُها قُطِعَت في رُبعِ دِينارِ؟
سَألتُه، فقال: هذا كَقولِ الفُقهاءِ: عِبادَةٌ لا يُعقَل مَعناها". قال الذَّهبيُّ: لو أراد ذلك؛ لقال: تَعَبُّد، ولَمَا قال: تَناقُض, ولِمَا أَردَفهُ ببَيتٍ آخرَ يَعترِض على رَبِّه, وبإسنادي قال السَّلفيُّ: إن كان قاله مُعتَقِدًا مَعناهُ، فالنَّارُ مَأْواهُ، وليس له في الإسلامِ نَصيبٌ". تُوفِّي في المَعَرَّةِ مَعَرَّةِ النُّعمانِ، وفيها دُفِنَ عن عُمُرٍ 86 عامًا.
سار السُّلطانُ ألب أرسلان من الرَّيِّ إلى أذربيجان، فوَصلَ إلى مرند عازِمًا على قِتالِ الرُّومِ وغَزْوِهِم، فلمَّا فَرَغَ مِن جَمعِ العساكرِ والسُّفُنِ سار إلى بلادِ الكرج، وجَعلَ مَكانَه في عَسكرِه وَلَدَهُ ملكشاه، ونِظامَ المُلْكِ وَزيرَه، فسار ملكشاه ونِظامُ المُلْكِ إلى قَلعةٍ فيها جَمعٌ كَثيرٌ مِن الرُّومِ، فنَزلَ أَهلُها منها، وتَخَطَّفُوا من العَسكرِ، وقَتَلوا منهم فِئَةً كَثيرةً، فنَزلَ نِظامُ المُلْكِ وملكشاه، وقاتَلوا مَن بالقَلعةِ، وزَحَفوا إليهم، فقُتِلَ أَميرُ القَلعةِ ومَلَكَها المُسلِمون، وساروا منها إلى قَلعةِ سرماري، وهي قَلعةٌ فيها من المِياهِ الجاريةِ والبَساتين، فَقاتَلوها ومَلَكوها، وأَنزَلوا منها أَهلَها، وكان بالقُربِ منها قَلعةٌ أُخرى، ففَتَحَها ملكشاه، وأَرادَ تَخريبَها، فنَهاهُ نِظامُ المُلْكِ عن ذلك، وقال: هي ثَغْرٌ للمُسلِمين، وشَحَنَها بالرِّجالِ والذَّخائِر والأَموالِ والسِّلاحِ، وسَلَّمَ هذه القِلاعَ إلى أَميرِ نقجوان، وسار ملكشاه ونِظامُ المُلْكِ إلى مَدينةِ مريم نشين، وهي مَدينةٌ حَصينَةٌ، سُورُها مِن الأَحجارِ الكِبارِ الصَّلْبَةِ، المَشدُودةِ بالرَّصاصِ والحَديدِ، وعندَها نَهْرٌ كَبيرٌ، فأَعَدَّ نِظامُ المُلْكِ لِقِتالِها ما يَحتاجُ إليه من السُّفُنِ وغَيرِها، وقاتَلَها، فضَجِرَ الكُفَّارُ، وأَخذَهم الإعياءُ والكَلالُ، فوَصلَ المسلمون إلى سُورِها، ونَصَبوا عليه السَّلاليمَ، وصَعَدوا إلى أَعلاهُ، فلمَّا رأى أَهلُها المسلمين على السُّورِ فَتَّ ذلك في أَعضادِهِم، وسُقِطَ في أيديهِم، ودَخلَ ملكشاه البلدَ، ونِظامُ المُلْكِ، وأَحرَقوا البِيَعَ، وخَرَّبوها، وقَتَلوا كَثيرًا من أَهلِها، وأَسلمَ كَثيرٌ فنَجَوْا من القَتلِ، واستَدعَى ألب أرسلان إليه ابنَه، ونِظامَ المُلْكِ، وفَرِحَ بما يَسَّرَهُ الله من الفَتحِ على يَدِ وَلَدِه. وفَتَحَ ملكشاه في طَريقِه عِدَّةً من القِلاعِ والحُصونِ، وأَسَرَ من النَّصارَى ما لا يُحصَونَ كَثْرَةً. وساروا إلى سبيذ شهر، فجَرَى بين أَهلِها وبين المسلمين حُروبٌ شَديدةٌ استُشهِدَ فيها كَثيرٌ من المسلمين، ثم إنَّ الله تعالى يَسَّرَ فَتْحَها فمَلَكَها ألب أرسلان، وسار منها إلى مَدينةِ أعآل لآل، وهي حَصينةٌ، عاليةُ الأَسوارِ، شاهِقةُ البُنيانِ، وهي من جِهَةِ الشَّرقِ والغَربِ على جَبلٍ عالٍ، وعلى الجَبلِ عِدَّةٌ من الحُصونِ، ومن الجانِبينِ الآخرينِ نَهْرٌ كَبيرٌ لا يُخاض، فلمَّا رآها المسلمون عَلِموا عَجزَهم عن فَتْحِها والاستيلاءِ عليها، وكان مَلِكُها من الكرج، وعَقَدَ السُّلطانُ جِسْرًا على النَّهْرِ عَريضًا، واشتَدَّ القِتالُ، وعَظُمَ الخَطْبُ، فخَرَجَ من المدينةِ رَجُلانِ يَستَغيثانِ، ويَطلُبانِ الأَمانَ، والتَمَسا من السُّلطانِ أن يُرسِلَ معهما طائفةٌ من العَسكرِ، فسَيَّرَ جَمْعًا صالحًا، فلمَّا جاوَزُوا الفَصِيلَ أَحاطَ بهم الكرجُ من أَهلِ المدينةِ وقاتَلوهُم فأَكثَروا القَتْلَ فيهم، ولم يَتمَكَّن المسلمون من الهَزيمَةِ لِضِيقِ المَسْلَكِ، وخَرجَ الكَرجُ من البَلدِ وقَصَدوا العَسكرَ، واشتَدَّ القِتالُ، وكَبَّرَ المسلمون عليهم، فوَلَّوْا مُنهَزِمينَ، فدخلوا البلدَ والمسلمون معهم، ودَخلَها السُّلطانُ ومَلَكَها، واعتَصمَ جَماعةٌ من أَهلِها في بُرْجٍ من أَبراجِ المدينةِ، فقاتَلهُم المسلمون، فأَمَرَ السُّلطانُ بإلقاءِ الحَطَبِ حَولَ البُرجِ وإحراقِه، ففعل ذلك، وأَحرَق البُرجَ ومَن فيه، وعاد السُّلطانُ إلى خِيامِه، وغَنِمَ المسلمون من المدينةِ ما لا يُحَدُّ ولا يُحصَى، ولمَّا جَنَّ اللَّيلُ عَصَفَت رِيحٌ شَديدةٌ، وكان قد بَقِيَ من تلك النَّارِ التي أَحرَق بها البُرجَ بَقِيَّةٌ كَثيرةٌ، فأَطارَتها الرِّيحُ، فاحتَرقَت المَدينةُ بأَسْرِها، وذلك في رجب، ومَلَكَ السُّلطانُ قَلعةً حَصينةً كانت إلى جانبِ تلك المدينةِ، وأَخذَها، وسار منها إلى ناحيةِ قرس، ومدينة آني وبالقُربِ منها ناحيتان يُقال لهما: سيل ورده، ونورة، فخَرجَ أَهلُهما مُذعِنينَ بالإسلامِ، وخَرَّبوا البِيَعَ، وبَنوا المساجِدَ، وسار منها إلى مَدينةِ آني فوَصلَ إليها فرآها مَدينةً حَصينةً، شَديدةَ الامتِناعِ، لا تُرام، ثلاثةُ أَرباعِها على نَهرِ أرس، والرُّبعُ الآخرُ نَهْرٌ عَميقٌ شَديدُ الجَرْيَةِ، لو طُرِحَت فيه الحِجارةُ الكِبارُ لدَحاها وحَملَها، والطَّريقُ إليها على خَندقٍ عليه سُورٌ من الحِجارةِ الصُّمِّ، فحَصَرَها وضَيَّقَ عليها، إلا أنَّ المسلمين قد أَيِسُوا من فَتْحِها لِمَا رَأَوا من حَصانَتِها، فعَمِلَ السُّلطانُ بُرْجًا من خَشَبٍ، وشَحَنَهُ بالمُقاتِلَةِ، ورَماهُ بالنُّشَّابِ، ونَصَبَ عليه المِنْجَنيقَ، فكَشَفوا الرُّومَ عن السُّورِ، وتَقدَّم المسلمون إليه لِيَنقُبوهُ، فأَتاهُم مِن لُطْفِ الله ما لم يكُن في حِسابِهم، فانهَدَمت قِطعةٌ كَبيرةٌ من السُّورِ بغيرِ سَبَبٍ، فدَخَلوا المدينةَ وقَتَلوا من أَهلِها ما لا يُحصَى بحيث إنَّ كَثيرًا من المسلمين عَجَزوا عن دُخولِ البلدِ من كَثرةِ القَتلى، وأَسَروا نَحوًا مما قَتَلوا، وسارت البُشرَى بهذه الفُتوحِ في البلادِ، فسُرَّ المسلمون، وقُرِئ كِتابُ الفَتْحِ ببغداد في دارِ الخِلافةِ، ورَتَّبَ فيها السُّلطانُ أَميرًا في عَسكرٍ جَرَّارٍ، وعاد عنها، وقد راسَلهُ مَلِكُ الكرجِ في الهُدْنَةِ، فصالَحَهُ على أَداءِ الجِزْيَةِ كلَّ سَنَةٍ، فقَبِلَ ذلك.
لَمَّا أتت صلاحُ الدين البِشارةَ بهزيمة الإسبتارية والدواية، وقَتْل مَن قُتِل منهم، وأسْر مَن أُسِرَ في صفوريَّة، عاد عن الكرك إلى العسكَرِ الذي مع وَلَدِه الملك الأفضل، فنزل بالأقحوانةِ بقرب طبرية، وتقَدَّم صلاح الدين حتى قارب الفرنجَ، فلم يَرَ الفرنج من يمنَعُهم من القتال، ونزل جريدةً إلى طبرية وقاتلَهم، ونقَّبَ بعض أبراجها، وأخذَ المدينة عَنوةً في ليلة، ولجأ من بها إلى القلعةِ التي لها، فامتنعوا بها، وفيها صاحبتُها، فنهَبَ المدينةَ وأحرَقَها، فقَوِيَ عَزمُ الروم على التقَدُّم إلى المسلمين وقتالِهم، فرحلوا من مُعسكَرِهم الذي لَزِموه، وقَرُبوا من عساكِرِ الإسلام، فلما سمع صلاح الدين بذلك عاد عن طبريَّةَ إلى عسكره، وكان قريبًا منه، وإنما كان قَصدُه بمحاصرةِ طبريَّةَ أن يفارِقَ الفرنج مكانَهم للتمكُّنِ مِن قتالهم، وكان المسلمونَ قد نزلوا على الماء، والزَّمانُ قَيظٌ شديدُ الحر، فوجد الفرنجُ العَطشَ، ولم يتمكنوا من الوصولِ إلى ذلك الماء من المسلمين، وكانوا قد أفنَوا ما هناك من ماءِ الصهاريج ولم يتمكَّنوا من الرجوع خوفًا مِن المسلمين، فبَقُوا على حالهم إلى الغد، وهو يوم السبت، وقد أخذ العطشُ منهم، وأصبح صلاحُ الدين والمسلمونَ يوم السبت لخمسٍ بَقِينَ مِن ربيع الآخر، فرَكِبوا وتقَدَّموا إلى الفرنج، فركب الفرنجُ، ودنا بعضُهم من بعضٍ إلَّا أن الفرنجَ قد اشتَدَّ بهم العَطَشُ وانخَذَلوا، فاقتتلوا، واشتَدَّ القتال، وصبر الفريقان، ورمى المسلمونَ مِن النشاب ما كان كالجراد المنتَشِر، فقَتَلوا من خيول الفرنج كثيرًا. والفرنج قد جمعوا نفوسَهم براجِلِهم وهم يقاتلون سائرينَ نحو طبرية، لعَلَّهم يردون الماء. فلما عَلِمَ صلاح الدين مَقصِدَهم صَدَّهم عن مرادِهم، وكان بعضُ المتطَوِّعة من المسلمين قد ألقى في تلك الأرض نارًا، وكان الحشيش كثيرًا فاحترق، وكانت الريحُ على الفِرنجِ، فحَمَلت حَرَّ النار والدُّخان إليهم، فاجتمع عليهم العَطَشُ وحَرُّ الزمانِ وحَرُّ النار، والدُّخانُ، وحَرُّ القتال، فلما انهزم القُمُّص-كبير القساوسة- سُقِطَ في أيديهم وكادوا يستسلِمونَ، ثمَّ عَلِموا أنَّهم لا ينجِّيهم من الموتِ إلَّا الإقدام عليه، فحملوا حملاتٍ مُتداركة كادوا يزيلونَ بها المسلمينَ، على كثرتِهم، عن مواقِفِهم، لولا لُطفُ الله بهم، إلَّا أن الفرنجَ لا يَحمِلونَ حملةً فيَرجِعونَ إلَّا وقد قُتِلَ منهم، فوهنوا لذلك وهنًا عظيمًا، فأحاط بهم المسلمون إحاطةَ الدائرة بقُطرِها، فارتفع من بَقِيَ مِن الفرنج إلى تلٍّ بناحية حطين، وأرادوا أن ينصِبوا خيامَهم، ويجمُّوا نفوسَهم به، فاشتد القتالُ عليهم من سائر الجهات، ومنعوهم عمَّا أرادوا، ولم يتمَكَّنوا من نصب خيمةٍ غيرَ خيمةِ مَلِكِهم، وأخذ المسلمونَ صَليبَهم الأعظمَ الذي يسمُّونَه صليبَ الصلبوت، ويذكرون أنَّ فيه قطعة من الخَشَبة التي صُلِبَ عليها المسيحُ عليه السَّلامُ- بزَعمِهم- فكان أخذُه عندهم من أعظَمِ المصائب عليهم، وأيقنوا بعده بالقَتلِ والهلاك، هذا والقَتلُ والأسرُ يَعمَلانِ في فرسانهم ورجالتِهم، فبَقِيَ الملك على التلِّ في مقدار مائة وخمسين فارسًا من الفُرسان المشهورين والشُّجعان المذكورين، وكان سبَبُ سقوط الفرنج لَمَّا حملوا تلك الحملات ازدادوا عطشًا، وقد كانوا يرجون الخلاص في بعض تلك الحَمَلاتِ مِمَّا هم فيه، فلما لم يجِدوا إلى الخلاصِ طريقًا، نزلوا عن دوابِّهم وجلسوا على الأرض، فصَعِدَ المسلمون إليهم، فألقوا خيمةَ الملك، وأسرُوهم عن بَكرةِ أبيهم، وفيهم الملِكُ وأخوه والبرنس أرناط، صاحِبُ الكرك، ولم يكن للفرنجِ أشَدُّ منه عداوةً للمسلمين، وأسَروا أيضًا صاحِبَ جبيل، وابن هنفري، ومقدم الداوية، وكان من أعظم الفرنجِ شأنًا، وأسروا أيضًا جماعةً مِن الداوية، وجماعةً من الإسبتارية، وكثُرَ القتل والأسر فيهم، فكان من يرى القتلى لا يظُنُّ أنهم أَسَروا واحدًا، ومَن يرى الأسرى لا يظُنُّ أنهم قتلوا أحدًا! فلما فرغ المسلمونَ منهم نزل صلاح الدين في خيمتِه، وأحضر مَلِكَ الفرنجِ عنده، وبرنس أرناط صاحِبَ الكرك، وأجلس المَلِك إلى جانبه وقد أهلَكَه العَطَشُ، فسقاه ماءً مثلوجًا، فشَرِبَ، وأعطى فَضْلَه برنس صاحب الكرك، فشَرِبَ، فقال صلاح الدين: إنَّ هذا الملعون لم يشرَبِ الماءَ بإذني فينالَ أماني؛ ثمَّ كلَّم البرنس، وقَرَّعه بذنوبه، وعَدَّد عليه غَدَراتِه، وقام إليه بنفسه فضَرَبَ رَقَبتَه، وقال: كنتُ نَذَرتُ دفعتَينِ أن أقتُلَه إن ظَفِرتُ به: إحداهما لَمَّا أراد المسيرَ إلى مكة والمدينة، والثانية لَمَّا أخذ القافلةَ غدرًا، فلما قتَلَه وسُحِبَ وأُخرِجَ، ارتعدت فرائص الملك، فسَكَّن جأشَه وأمَّنَه.