هو أميرُ المؤمنين، الناصِرُ لدينِ الله، أبو المطرِّف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن الداخل عبد الرحمن، كان أبوه محمَّدٌ وَلِي عَهْد والده عبد الله بن محمد، فقَتَله أخوه أبو القاسِمِ المطرِّف، فقَتَله أبوهما به. ولَمَّا قُتِلَ محمد، كان لابنِه عبد الرحمن عشرونَ يومًا. ووليَ الخلافةَ بعد جَدِّه عبد الله. قال ابن حزم: "كانت خلافتُه من المُستطرَف؛ لأنَّه كان شابًّا، وبالحَضرةِ جماعةٌ مِن أعمامه، وأعمامِ أبيه، فلم يعتَرِضْ معترِضٌ عليه. واستمَرَّ له الأمر وكان شهمًا صارِمًا ". نظر أهلُ الحَلِّ والعقدِ مَن يقومُ بأمرِ الإسلام، فما وجدوا في شبابِ بني أميَّةَ مَن يَصلُحُ للأمرِ إلَّا عبدُالرحمن بن محمد، فبايعوه، وطلب منهم المالَ فلم يَجِدْه، وطلب العُدَدَ فلم يجِدْها، فلم يزَل السَّعدُ يخدُمُه إلى أن سار بنَفسِه لابن حفصون، فوجده مجتازًا لوادي التُّفاح، ومعه أكثَرُ من عشرين ألف فارس, فهزمه وأفلت ابنُ حفصون في نفرٍ يسيرٍ، فتحصَّنَ بحِصن مبشر. ولم يزل عبدُ الرحمن يغزو حتى أقام العَوَج، ومهَّدَ البلاد، ووضع العدلَ، وكثُرَ الأمنُ، ثم بعث جيشًا إلى المغرب، فغزا سجلماسة، وجميعَ بلاد القبلة، وقتَلَ ابنَ حفصون. ولم تزَلْ كلمته نافذةً, وصارت الأندلسُ أقوى ما كانت وأحسَنَها حالًا، وصَفا وجهُه للروم، وشَنَّ الغاراتِ على العدُوِّ، وغزا بنَفسِه بلادَ الروم اثنتي عشرة غزوةً، ودوخَّهم، ووضع عليهم الخَراجَ، ودانت له ملوكُها، فكان فيما شرط عليهم اثنا عشر ألف رجلٍ يصنعون في بناء الزهراءِ التي أقامها لسُكناه على فرسخ من قُرطُبة. كلُّ مَن تقدَّمَ مِن آباءِ عبد الرحمن لم يتسَمَّ أحَدٌ منهم بإمرةِ المؤمنين، وإنما كانوا يُخاطَبونَ بالإمارة فقط، وفعل مِثلَهم عبدُ الرحمن إلى السَّنَةِ السابعة والعشرين مِن ولايته، وكان قد تلقَّبَ بأمير المؤمنين لما رأى مِن ضَعفِ الخلافةِ في بغداد, وظهورِ الشِّيعةِ العُبَيدية بالقيروان وادِّعائِهم لقبَ الخلافة، وما آلت إليه البلادُ مِن التفرُّقِ والتشَتُّت، فرأى أنَّه أحَقُّ بإمرةِ المؤمنين فتسمَّى بأمير المؤمنين وخليفةِ المُسلِمين سنة 316، ولم يزَلْ منذ وليَ الأندلسَ يستنزِلُ المتغلِّبينَ حتى صارت المملكةُ كُلُّها في طاعته، وأكثَرُ بلادِ العدوة، وأخاف ملوكَ الطوائف حوله. قال عبدُ الواحد المراكشي: " اتَّسَعت مملكة الناصر، وحَكَم على أقطار الأندلس، ومَلَك طنجةَ وسبتة وغيرَهما من بلاد العدوة، وكانت أيامُه كلُّها حروبًا, وعاش المسلمون في آثارِه الحميدة آمنينَ ". وقد ابتدأ الناصِرُ ببناء مدينة الزهراء في أوَّلِ سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، فكان يَقسِمُ دَخْلَ مملكتِه أثلاثًا: فثُلُثٌ يرصُدُه للجند، وثلُثٌ يدَّخِرُه في بيتِ المال، وثُلُثٌ ينفقه في الزهراء, وكان دخَلُ الأندلس خمسة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف وثمانين ألفًا، ومن السوق والمُستخلَص سبعمائة ألف دينار وخمسة وستون ألفًا. ويقال: إنَّ بناء الزهراء أُكمِلَ في اثنتي عشرة سنة، بألفِ بنَّاءٍ في اليومِ، مع البنَّاءِ اثنا عشر فاعلًا. حكى أبو الحسن الصفار: " أنَّ يوسف بن تاشفين مَلِكَ المغرب لَمَّا دخل الزهراء، وقد خَرِبَت بالنيران والهَدْمِ، من تسعين سنةً قبل دخولِه إليها، وقد نقل أكثَر ما فيها إلى قُرطُبة وإشبيليَّة، ونظر آثارًا تَشهَدُ على محاسنها، فقال: الذي بنى هذه كان سفيهًا. فقال أبو مروان بن سراج: كيف يكونُ سفيهًا وإحدى كرائمِه أخرجت مالًا في فداءِ أُسارى في أيَّامِه، فلم يوجَدْ ببلادِ الأندلسِ أسيرٌ يُفدَى ". وقد افتتح سبعينَ حِصنًا -رحمه الله. بدأ عبدَ الرَّحمنِ الناصرَ المرَضُ وبقي فترةً على ذلك، إلى أن توفِّيَ في هذه السنة في صدر رمضان، فكانت إمارتُه خمسين سنة وستة أشهر، ثم خَلَفه ابنُه الحكمُ الذي تلقَّبَ بالمُستنصِر.
هو العلَّامةُ البليغُ، أبو الفَضلِ الحافِظُ أحمدُ بنُ الحُسَينِ بن يحيى الهَمَذانيُّ، الملقَّبُ ببديعِ الزَّمان، صاحِبُ الرَّسائِلِ الرَّائقة، والمقامات الفائِقة، اختَرَع نمطًا من الإنشاءِ عُرِفَ باسمِه، وعلى مِنوالِه نَسَجَ الحَريريُّ مَقاماتِه واحتَذى حَذوَه واقتفى أثَرَه، واعتَرَف في خُطبتِه بفَضلِه، وأنَّه الذي أرشَدَه إلى سُلوكِ ذلك المَنهَجِ، وهو أحَدُ الفُضَلاءِ الفُصَحاء. وُلِدَ في همذان وانتقَلَ إلى هراة سنة 380هـ فسكَنَها، سار إلى نيسابورَ وناظَرَ فيها أبا بكرٍ الخوارزميَّ فغَلَبَه بديعُ الزمانِ، فاشتَهَر بعدَها أكثَرَ، كان قويَّ الحافظةِ يحفَظُ القصائِدَ مِن أوَّلِ مَرَّة، له رسائِلُ ودِيوانُ شِعرٍ، قال عنه ابنُ خَلِّكانَ: "كان صاحِبَ عجائِبَ وبدائِعَ وغرائِبَ، فمنها: أنَّه كان يُنشَدُ القَصيدةَ لم يَسمَعْها قَطُّ وهي أكثَرُ مِن خمسينَ بيتًا فيحفَظُها كُلَّها ويؤَدِّيها مِن أوَّلِها إلى آخِرِها لا يَخرِمُ حَرفًا، وينظُرُ في الأربَعِ والخَمسِ الأوراقِ مِن كتابٍ لم يَعرِفْه ولم يَرَه مِن قَبلُ نَظرةً واحدةً خَفيفةً، ثمَّ يَهُذُّها عن ظَهرِ قَلبِه هَذًّا ويَسردُها سَردًا، وكان يُقتَرَحُ عليه عمَلُ قَصيدةٍ أو إنشاءُ رِسالةٍ في معنًى بديعٍ وبابٍ غَريبٍ، فيَفرُغُ منها في الوَقتِ والسَّاعةِ والجواب عنها فيها، وكان ربَّما يكتُبُ الكتابَ المُقتَرَح عليه فيَبتَدِئ بآخِرِ سُطورِه إلى السَّطرِ الأوَّلِ فيُخرِجُه كأحسَنِ شَيءٍ وأملَحِه، وكان مع هذا كُلِّه مَقبولَ الصُّورةِ خَفيفَ الرُّوحِ، حَسَنَ العِشرةِ، شَريفَ النَّفسِ، كريمَ العَهدِ، خالصَ الوُدِّ، حُلوَ الصَّداقةِ، مُرَّ العَداوة. كانت بينه وبينَ الخوارزميِّ مُنافرةٌ ومُناكَرةٌ ومُناظرةٌ بكَّتَه البديعُ فيها وأسكَتَه. تصَرَّفَت به أحوالٌ جميلةٌ وأسفارٌ كثيرةٌ، ولم يَبْقَ مِن بلادِ خُراسان وسجستان وغزنة بلدةُ إلَّا دخَلَها وجَنى ثَمرتَها واستفاد خَيرَها ومِيرَها، وألقى عصاه بهراة واتخَذَها دارَ قَرارِه ومَجمَعَ أسبابِه، وحين بلَغَ أشُدَّه وأربى على الأربعينَ سَنةً ناداه اللهُ فلَبَّاه وفارَقَ دنياه، فقامت عليه نوادِبُ الأدَبِ وانثَلَمَ حَدُّ القَلَم، على أنَّه ما مات مَن لم يَمُتْ ذِكْرُه، ولقد خَلَّدَ مَن بقي على الأيَّامِ نَثْرَه ونَظْمَه، ما هو غِذاءُ القَلبِ وقُوتُ النَّفسِ ومادَّة الأنس". توفِّيَ في هراة مسمومًا ولم يتجاوَز الأربعينَ مِن عُمُره، ويقالُ: إنَّه سُمَّ فأخَذَتْه سَكتةٌ، فدُفِنَ سَريعًا، ثمَّ عاش في قَبرِه، وسمعوا صُراخَه فنَبَشوا عنه فإذا هو قد مات وهو آخِذٌ على لحيتِه مِن هَولِ القَبرِ، وذلك يومَ الجُمُعةِ الحادي عشَرَ مِن جمادى الآخرة منها.
تَمَلَّك نُورُ الدِّين محمودُ بن زِنكي مَدينةَ دِمشق، وأَخذَها مِن صاحِبِها مُجيرِ الدِّين أبق بن محمد بن بوري بن طغتكين، وكان سَببُ جِدِّهِ في مِلْكِها أن الفِرنجَ لمَّا مَلَكوا في العام الماضي مَدينةَ عَسقلان لم يكُن لنورِ الدين طَريقٌ لإزعاجِهِم عنها لاعتِراضِ دِمشق بينه وبين عَسقلان، كما أن الفِرنجَ لمَّا مَلَكوا عَسقلان طَمِعوا في دِمشق، حتى أنهم استَعرَضوا كلَّ مَن بدِمشق مَملوكًا أو جارِيةً من النَّصارَى، فمَن أرادَ المُقامَ بها تَركوهُ، ومَن أرادَ العَوْدَ إلى وَطنِه أَخذوهُ قَهرًا شاء صاحِبُه أم أَبَى، وكان لهم على أَهلِها كلَّ سَنةٍ قَطيعةٌ يَأخُذونها منهم، فكان رُسُلُهم يدخلون البلدَ ويَأخُذونها منهم، فلمَّا رأى نورُ الدين ذلك خافَ أن يَملِكَها الفِرنجُ فلا يَبقَى له حينئذٍ بالشامِ مُقامٌ، فأَعْمَلَ الحِيلةَ في أَخْذِها حيث عَلِمَ أنها لا تَملِك قُوَّةً، لأن صاحِبَها متى رأى غَلَبَتَهُ عليه راسَلَ الفِرنجَ واستَعانَ بهم فأَعانوهُ لِئَلَّا يَملِكَها؛ فراسَلَ نورُ الدينِ محمودٌ مُجيرَ الدينِ صاحِبَ دِمشق واستَمالَهُ، وواصَلَهُ بالهَدايا، وأَظهرَ له المَودَّةَ حتى وَثِقَ به، فلمَّا لم يَبقَ عنده من الأُمراءِ أَحَدٌ قَدَّمَ أَميرًا يُقال له: عَطَا بن حَفَّاظ السُّلَمِيُّ الخادِمُ، وكان شَهْمًا شُجاعًا، وفَوَّضَ إليه أَمْرَ دَولتِه، فكان نورُ الدينِ لا يَتمكَّن معه مِن أَخْذِ دِمشق، فقَبَضَ مُجيرُ الدينِ على عَطَا الخادمِ فقَتَلهُ، فسار نورُ الدينِ حينئذٍ إلى دِمشقَ، وكان قد كاتَبَ مَن بها من الأَحداثِ واستَمالَهُم، فوَعَدوهُ بالتَّسليمِ إليه، فلمَّا حَصَرَ نورُ الدينِ البلدَ أَرسلَ مُجيرُ الدينِ إلى الفِرنجِ يَبذُل لهم الأَموالَ وتَسليمَ قَلعةِ بعلبك إليهم ليِنجِدوه وليُرَحِّلُوا نورَ الدينِ عنه، فشَرَعوا في جَمْعِ فارِسِهِم وراجِلِهم ليُرَحِّلُوا نورَ الدينِ عن البلدِ، فإلى أن اجتَمَعَ لهم ما يُريدون تَسلَّم نورُ الدينِ البلدَ، فعادوا بخُفَّيْ حُنَينٍ، وأما كَيفِيَّةُ تَسليمِ دِمشق فإنه لمَّا حَصرَها ثارَ الأَحداثُ الذين راسَلَهم، فسَلَّموا إليه البلدَ من البابِ الشرقيِّ ومَلَكَهُ، وحَصَرَ مُجيرَ الدينِ في القَلعةِ، وراسَلَهُ في تَسليمِها وبَذَلَ له أَقطاعًا من جُملَتِه مَدينةُ حِمْصَ، فسَلَّمَها إليه وسار إلى حِمصَ، ثم إنه راسَلَ أَهلَ دِمشق ليُسلِّموا إليه، فعَلِمَ نورُ الدينِ ذلك فَخافَهُ، فأَخَذَ منه حِمصَ، وأَعطاهُ عِوَضًا عنها بالس، فلم يَرْضَهَا، وسار منها إلى العِراقِ، وأَقامَ ببغداد وابتَنَى بها دارًا بالقُربِ من النِّظامِيَّة، وتُوفِّي بها.
كان وزيرُ المستعمرات البريطانية ونستون تشرشل قد اتَّفق مع الملك فيصل ابن الشريف حسين قبل تسَلُّمِه المُلْك أن تكون معاهدةٌ بين الطرفين تحُلُّ مكانَ الانتداب، غيرَ أن الإنجليز قد فهموا من هذه العبارة أنَّ الاستقلالَ صورةٌ، والواقِعَ انتدابٌ؛ فالمَلِك ليس أكثَرَ مِن اسمٍ؛ فالمتصَرِّفُ الفعلي والحقيقي هو المعتمد السامي البريطاني، والوزراء ليس لهم سوى التوقيع على قراراته، وصاحِبُ الكلمة هو المستشار البريطاني، وأما الملِكُ فيصل والعراقيون ففَهِموا أنَّ المعاهدةَ ستُلغي الانتداب وتبيِّن العلاقات المتبادلة بين الحكومة العراقية والحكومة البريطانية! ونتيجةً لهذا التباين تأخَّر توقيعُ المعاهدة حتى قُدِّمت للدراسة والتوقيعِ عليها، وكانت تضمُّ بنودًا عديدةً، منها: أن يوافق مَلِك العراق على أن يستدِلَّ بما يقدِّمُه ملك بريطانيا من المشورة بوساطةِ المعتمد السامي جميع الشؤون المهمة التي تمسُّ بتعهدات ومصالح مَلِك بريطانيا، ويستشير ملك العراق المعتمدَ السامي الاستشارةَ التامة فيما يؤدي إلى سياسة مالية ونقدية سليمة، ومنها: أنَّ مَلِكَ العراق لا يعيِّنُ مدة المعاهدة موظفًا دون موافقة ملك بريطانيا، ومنها: أن يتعهَّد مَلِكُ العراق بقَبول الخطة الملائمة التي يشير بها مَلِك بريطانيا، ومنها: لا تُتَّخَذ وسيلةٌ ما في العراق لمنع أعمال التنصير أو للمُداخلة فيها أو لتمييز منَصِّر ما على غيره بسبب اعتقاده الديني أو جنسيته! ولم يكن في نصوص المعاهدة أيُّ ذكرٍ لانتهاء الانتداب، وأكثَرُ بنودها هو ترسيخ للوجود البريطاني والوصاية الواضحة على الملِك، ولم يوافِقِ الوزراء على المعاهدة، فاستقال الوزراءُ كُلُّهم واحدًا تلوَ الآخر، ولم توقَّعْ هده المعاهدة المعروفة بمعاهدة 1922م إلا في الحكومة الثالثة في ليلة 9 ذي القعدة 1342ه بعد منتصف الليل في جلسةٍ غيرِ اعتياديةٍ، وبعد أن بطش المعتمد السامي بالحركة الوطنية، فوُقِّعت المعاهدة، ثم ألحِقَ بند بالمعاهدة بأنَّ المعاهدة ينتهي مفعولها حين دخول العراق عُصبةَ الأمم المتَّحِدة، وألَّا يتجاوَزَ ذلك مدة أربع سنوات، ويُذكَرُ أنَّ بريطانيا أصلًا بعد أن دخلت العراقُ عُصبةَ الأمم كانت قد أفرغت كلَّ الخزائن في الولايات التي كانت تابعةً للعثمانيين، ونهبت كلَّ ما تستطيع نهْبَه حتى الأوقاف، ووضعت يدَها عليها، فلم يعُدْ لها أي مصلحةٍ كبيرة في البقاء بالعراق من الناحية الاقتصادية!!! حتى إن بعض المسؤولين فكَّر بالانسحاب نهائيًّا فور تنصيب المَلِك، ولكِنْ هناك من يرى أن المصالح البريطانية أبعَدُ من مجرد المال الذي انتهى من العراقِ، وإنما محاولة إبقاء التبعيَّة والوصاية من أجل أن تبقى العراقُ تحت السيطرةِ.
كانت قضيةُ تقسيم الهند بين المسلمين والهندوس قضيةً شائِكةً جِدًّا، وبقيت سنواتٍ عِدَّةً بين أخذ ورد ومقترحات ومشروعات ومفاوضات وتدخلات بريطانية، وما إلى ذلك، وكان من آخِرِها اللجنةُ الوزارية المؤلَّفة من ثلاثة بريطانيين مهمَّتُهم المباحثة مع زعماء الهند، وأجرت المحادثات وادَّعت أن الشعب باستثناء الرابطة الإسلامية يرغَبُ في وحدة الهند، وأنهم سيرون موضوعَ استقلال باكستان، وزعموا أنَّ إقامةَ دولة باكستان لن يحلَّ المشكلة، وإن كان ففي حدود أضيق مما يطالب به الانفصاليون، وقام مجلِسُ الرابطة الإسلامية برَدِّ مقترحات هذه البَعثة الوزارية، والتي من بينها تقسيمُ البنجاب والبنغال، وقامت مظاهراتٌ واشتدت في كلِّ أرجاء الهند، وعَمِلَ الهندوس خلالها على قتلِ كُلِّ من يُنسَب إلى حزب المؤتمر الهندي من المسلمين، وفتكوا بالتجَّار القادمين من دلهي، ثم دُعِيَ الأطراف الممثِّلون عن حزب الرابطة والمؤتمر وطائفة السيخ للسفَرِ إلى لندن للمشاورة، واستمَرَّ النزاع فأعلنت بريطانيا عن خطة جديدة؛ ففي 25 شعبان 1366هـ / 14 تموز قُدِّمَ إلى المجلس النيابي البريطاني قرارُ استقلال الهند مؤلَّفًا من عشرين مادة وثلاثة جداول، ثم حاز القرارُ على التصديق الملكي في 29 شعبان، وجاء فيه: تنشأ اعتبارًا من 27 رمضان 1366هـ / 14 آب دولتانِ مستقلَّتان من طراز الدومنيونات (مستعمرات لها نظام حكم ذاتي واستقلال وحكومة خاصة مع بقائها تحت التاج الملكي البريطاني) في الهند تُعرَفُ إحداهما بالهند، وثانيهما باكستان، وسيكونُ في كل دولة حاكِمٌ يدير الدومنيين، ويتم تعيينُه من قِبَلِ صاحبِ الجلالة، (وتم تعيين محمد علي جناح حاكمًا عامًّا على باكستان)، ثم جرى خلافٌ حول بعض المقاطعات، مثل: جوناكاد (التي أخذها الهنودُ بالقوة العسكرية بمباركة إنجلترا ) وحيدر أباد (التي أيضا أخذها الهنودُ بالقوة العسكرية عام 1367هـ بسكوت إنجلترا وعصبة الأمم) وكشمير (التي ما يزال الخلاف عليها قائمًا إلى اليوم) ونيبال وبوتان وسيلان وسكيم (وهذه مقاطعات لم تدخُلْ ضِمنَ التقسيم، وإنما شَكَّلت دولًا مستقلة، ولكن سكيم انضمت للهند عام 1396هـ) وغوا (احتفظ بها البرتغاليون كميناء تابع لهم) وبونديشيري (احتفظ الفرنسيون بهذا الميناء)، ومن الجدير بالذكر أن هذا التقسيم لم يتمَّ بسهولة؛ فقد عمل الهندوس على تفريغ أكبر قدر من عصبيَّتِهم قبل أن يُفلِتَ المسلمون من أيديهم، فأقاموا الحواجز التي تمنع وصولَ المسلمين وارتكبوا المذابِحَ الشنيعة، وأحرقوا القطارات التي تنقل المسلمين إلى باكستان، حرقوا وسَبَوا ودمَّروا القرى ومحطات السكك، وفعلوا ما تقشعر منه الأبدانُ وخاصَّةً في دهلي والبنجاب الشرقية.
هو الإمامُ عبد العزيز بن محمد بن سعود بن محمد بن مقرن، ولِدَ 1132هـ/1720م ونشأ في الدرعيَّة، ونهل من علومِها الشرعية، ودرس على عُلَماء عصره، وأبرزهم الشيخُ محمد بن عبد الوهاب في العُيَينة، وبعد قدومه الدرعية عام 1157هـ شارك في كثير من المعارك والحروبِ في حياة أبيه, وبعد وفاةِ والده تولَّى الحكمَ سنة 1179هـ, وأكمل بناءَ الدولة ونشر الدعوةَ الإصلاحية التي بدأ بها والده الإمام محمد بمؤازرة الإمامِ محمد بن عبد الوهابِ وتوجيهِه، يقول ابن بشر: "وما يجيءُ إلى الدرعية من دقيقِ الأشياء وجليلِها تُدفَعُ إليه- أي إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب- بيده ويضعُها حيث يشاء. ولا يأخذ عبد العزيز ولا غيرُه من ذلك شيئًا إلا عن أمرِه، بيَدِه الحَلُّ والعقدُ، والأخذ والإعطاء، والتقديم والتأخير، ولا يركب جيشٌ ولا يصدُرُ رأيٌ مِن محمد وابنِه عبد العزيز إلَّا عن قوله ورأيه. فلما فتح اللهُ الرياض واتسَعَت ناحية الإسلام وأمِنَت السبُلُ وانقاد كل صعبٍ من بادٍ وحاضر، جعل الشيخ الأمرَ بيد عبد العزيز وفوَّض أمور المسلمين وبيتَ المال إليه. وانسلخ منها ولَزِم العبادةَ وتعليم العِلمِ، ولكن ما يقطَعُ عبد العزيز أمرًا دونه ولا ينفِّذُه إلا بإذنه" وفي عهدِه امتَدَّ نفوذ الدولة إلى الرياض وجميع بلدان الخرج، ووادي الدواسر في الجنوب، وفي الشمال امتد إلى القصيم ودومة الجندل بالجوف، ووادي سرحان وتيماء وخيبر والعراق, وفي الشرق تمكَّن الإمام عبد العزيز من السيطرةِ على الأحساءِ وإنهاء حكم بني خالد فيها, والبريمي التي كانت خاضعة لحكم قطر لسنوات طويلة، وامتد نفوذُ الدولة وانتشرت الدعوةُ إلى البحرين وعمان عن طريق ولاءِ قبائل المنطقة ودفْعِها الزكاةَ لدولة الدرعية, وفي الغربِ امتَدَّ نفوذ الدولة إلى شرقي الحجاز, في الجنوب الغربي وصل نفوذ الدولة إلى بيشة والليث وجازان, وقد تحقَّق فيها الأمن والإيمان حتى أَمِنت البلدان والسبل. يقول ابن بشر: "كانت الأقطارُ والرعية في زمنه مطمئنةً في عيشةٍ هنيئة، وهو حقيق بأن يلقَّب مهديَّ زمانه؛ لأن الشخص الواحد يسافر بالأموال العظيمة أيَّ وقت شاء شتاء أو صيفًا، يمنًا أو شامًا، شرقًا وغربًا، في نجد والحجاز واليمن وتهامة وغير ذلك، لا يخشى أحدًا إلا الله فلا يخشى سارقًا ولا مكابرًا. وكانت جميعُ بلدان نجد من العارض والخرج والقصيم والوشم والجنوب وغير ذلك من النواحي في أيام الربيع يسَيِّبون جميع مواشيهم في البراري والمفالي من الإبل والخيل الجياد والبقر والأغنام وغير ذلك، ليس لها راعٍ ولا مراعٍ، بل إذا عَطِشت وردت على البلدانِ ثمَّ تصدُرُ إلى مفالها حتى ينقضيَ الربيع أو يحتاجون لها أهلها". وكانت دولتُهم تُعرَف بدولةِ آل مقرن في الدرعية إلى نهايةِ عهد الإمام عبد العزيز، وفي عهد ابنه سعود الكبير، نُسِبَت الدولة إلى اسم العائلة فعُرِفَت بالدولة السعودية. اغتال الإمامَ عبد العزيز شيعةُ العراق انتقامًا لِما أصابهم في غزوةِ كربلاء قبل عامين, يقول ابن بشر: "قُتِل الإمامُ عبد العزيز بن محمد بن سعود في مسجدِ الطريف المعروف في الدرعية وهو ساجِدٌ في أثناء صلاة العصر؛ مضى عليه رجلٌ قيل إنَّه كردي من أهل العمادية بلد الأكراد المعروفةِ عند الموصل اسمُه عثمان، أقبل من موطنه لهذا القصدِ مُحتَسِبًا حتى وصل الدرعية في صورة درويش وادَّعى أنه مهاجر, وأظهر النسُكَ بالطاعة، وتعلمَ شيئًا من القرآن فأكرمه عبد العزيز وأعطاه وكساه... وكان قصدُه غيرَ ذلك، فوثب عليه في الصف الثالث والناسُ في السجودِ فطعنه في أبهرِه، رحمه الله، أو في خاصرته أسفلَ البطن بخنجرٍ كان قد أخفاه وأعده لذلك، وقد تأهب للموت فاضطرب المسجِدُ وماج بعضُه في بعض ولم يكن يدرون ما الأمر... وكان لَمَّا طُعن عبد العزيز أهوى إلى أخيه عبد الله وهو في جانبِه وبَرَك عليه ليطعنَه، فنهض عليه وتصارعا وجرح عبد الله جرحًا شديدًا، ثم إنَّ عبد الله صرعه وضربه بالسَّيفِ، وتكاثر عليه الناس فقتلوه، وقد تبين لهم وجه الأمرِ، ثمَّ حُمل الإمام إلى قصرِه وقد غاب ذهنُه وقرُبَ نزعُه لأنَّ الطعنة قد هوت إلى جوفِه، فلم يلبث أن توفِّيَ بعدما صعدوا به القصر رحمه الله تعالى وعفا عنه، واشتد الأمرُ بالمسلمين وبُهِتوا" وذلك في أواخر شهر رجب لهذا العام, كان الأميرُ سعود حين قُتِل والده في نخل له في الدرعية، فلما بلغه الخبر أقبل مسرعًا، واجتمع الناس عنده فقام فيهم ووعظهم موعظةً بليغة وعزَّاهم, فقام الناسُ فبايعوه خاصتُهم وعامتهم، وعزَّوه في أبيه، ثم كتب إلى أهل النواحي نصيحةً يَعِظُهم ويخبرهم بالأمر ويعزِّيهم ويأمرُهم بالمبايعة، وكل أهل بلد وناحية يبايعون أميرَهم لسعود، فبايعه أهلُ النواحي والبلدان ورؤساء قبائل العربان، ولم يختلف منهم اثنان.
تطورت الأحداث في بلاد الأندلس، وأصبح اهتمام الإسبان هو توحيد أراضيهم، وانتزاع ما تبقى للمسلمين بها خصوصًا بعدما خضع الإسبان لسلطة واحدة بعد زواج إيزابيلا الكاثوليكية المتعصبة ملكة قشتالة من فرديناند ملك أراغوان، وبعد هلاك الدون جويان الثاني ملك أراغون، وتولَّى مكانه ابنه فرديناند الكاثوليكي، ضمَّ أراغون وبلنسية وصقلية وميورقة إلى قشتالة، وبينما كانت الممالك النصرانية تتَّحد في تلك الأقطار، كانت المملكة الإسلامية الوحيدة في الأندلس تزداد فتقًا على فتق؛ ليقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا! اندفعت الممالك الإسبانية المتحدة قبيل سقوط غرناطة في تصفية الوجود الإسلامي في كل إسبانيا، حتى يفرغوا أنفسَهم ويركزوا اهتمامهم على المملكة الإسلامية الوحيدة في غرناطة، وفرضت إسبانيا أقسى الإجراءات التعسُّفية على المسلمين في محاولة لتنصيرهم وتضييق الخناق عليهم حتى يرحلوا عن بلاد الأندلس؛ نتيجة لذلك وقبل سقوط غرناطة لجأ المورسكيون-وهم الأقلية المسلمة التي بقيت في الأراضي الإسبانية بعد انتزاع حكمها من المسلمين- إلى القيام بثورات وانتفاضات في أغلب المدن الإسبانية، والتي يوجد بها أقلية مسلمة، وأُخمِدَت تلك الثورات بدون رحمة ولا شفقة من قبل السلطات الإسبانية التي اتخذت وسيلة لتعميق الكره والحقد للمسلمين، ومن جهة أخرى كان من الطبيعي أن يرنو المورسكيون بأنظارهم إلى ملوك المسلمين في المشرق والمغرب لإنقاذهم، وتكررت دعوات وفودهم ورسائلهم إليهم للعمل على إنقاذهم مما يعانوه من ظلم، وخاصة من قبل رجال الكنيسة ودواوين التحقيق (محاكم التفتيش) التي عاثت في الأرض فسادًا وأحلت لنفسها كل أنواع العقوبات وتسليطها عليهم، وكانت أخبار الأندلس قد وصلت إلى المشرق فارتج لها العالم الإسلامي، وبعث الملك الأشرف قايتباي بوفود إلى البابا وملوك النصرانية يذكِّرُهم بأن النصارى الذين هم تحت حمايته يتمتعون بالحرية، في حين أن أبناء دينه في المدن الإسبانية يعانون أشد أنواع الظلم، وقد هدد باتباع سياسة التنكيل والقصاص تجاه رعايا المسيحيين، إذا لم يكفَّ ملك قشتالة وأراغون عن هذا الاعتداء وترحيل المسلمين عن أراضيهم وعدم التعرض لهم، ورد ما أخذ من أراضيهم، ولم يستجيب البابا والملكان الكاثوليكيان لهذا التهديد من قبل الملك الأشرف قايتباي، ومارسوا خطتهم في تصفية الوجود الإسلامي في الأندلس، وجُدِّدت رسائل الاستنجاد لدى السلطان العثماني بايزيد الثاني بن محمد الفاتح، فوصلته رسالةٌ منهم يذكرون فيها آلامَهم ومعاناتهم ويسألونه الخلاص، ومما كتبه بعض أهل الجزيرة بعد استيلاء الكفر على المدن الأندلسية للسلطان بايزيد خان الثاني ما نصه بعد سطر الافتتاح: الحضرة العلمية، وصل الله سعادتها وأعلى كلمتها ومهد أقطارها وأعز أنصارها وأذل عداتها، حضرة مولانا وعمدة ديننا ودنيانا، السلطان الملك الناصر ناصر الدين والدنيا، سلطان الإسلام والمسلمين، قامع أعداء الله الكافرين، كهف الإسلام وناصر دين نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم، محيي العدل ومنصف المظلوم ممن ظلم ملك العرب والعجم والترك والديلم، ظِل الله في أرضه، القائم بسنته وفرضه، ملك البرين وسلطان البحرين حامي الذمار وقامع الكفار، مولانا وعمدتنا مولانا بايزيد، لا زال ملكه موفور الأنصار مخلد المآثر والآثار مشهور المعالي والفخار، مستأثرا من الحسنات بما يضاعف الله الأجر الجزيل في الدار الآخرة والثناء الجميل، والنصر في هذه الدار، ولا بَرِحت عزماته العلية مختصة بفضائل الجهاد مجردة من أعداء الدين من بأسها ما يروي صدور السمر والصفاح وألسنة السلاح باذلة نفائس الذخائر في المواطن التي تألف فيها الأخيار مفارقة الأرواح للأجساد، سالكة سبيل السابقين الفائزين برضا الله وطاعته يوم يقوم الأشهاد:
سلام كريم دائم متجدد
أخص به مولاي خير خليفة
سلام على مولاي ذي المجد والعلا
ومن ألبس الكفار ثوب المذلة
سلام على من وسع الله ملكه
وأيده بالنصر في كل وجهة
سلام على مولاي من دار ملكه
قسنطينة أكرم بها من مدينة
سلام على من زين الله ملك
بنجد وأترك من أهل الرعاية
سلام عليكم شرف الله قدركم
وزادكم ملكا على كل ملة....
وكان السلطان بايزيد يعاني من العوائق التي تمنعه من إرسال المجاهدين، بالإضافة إلى مشكلة النزاع على العرش مع أخيه الأمير جم، وما أثار ذلك من مشاكل مع البابوية في روما وبعض الدول الأوربية، ومع ذلك قام السلطان بايزيد بتقديم المساعدة وتهادن مع السلطان قايتباي لتوحيد الجهود من أجل مساعدة غرناطة ووقَّعا اتفاقًا بموجبه يرسل السلطان بايزيد أسطولًا على سواحل صقلية باعتبارها تابعة لمملكة إسبانيا، وأن يجهز السلطان المملوكي قايتباي حملات أخرى من ناحية أفريقيا، وبالفعل أرسل السلطان بايزيد أسطولًا عثمانيًّا تحول إلى الشواطئ الإسبانية، وقد أعطى قيادته إلى كمال رايس الذي أدخل الفزع والخوف والرعب في الأساطيل النصرانية في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، كما شجع السلطان بايزيد المجاهدين في البحر بإبداء اهتمامِه وعطفه عليهم، وكان المجاهدون العثمانيون قد بدؤوا في التحرك لنجدة إخوانهم المسلمين، وفي نفس الوقت كانوا يغنمون الكثير من الغنائم السهلة الحصول من النصارى، كذلك وصل عددٌ كبير من هؤلاء المجاهدين المسلمين أثناء تشييد الأسطول العثماني، ودخلوا في خدمته بعد ذلك أخذ العثمانيون يستخدمون قوتهم البحرية الجديدة في غرب البحر المتوسط بتشجيع من هؤلاء المجاهدين، وهذا الذي كان في وُسع السلطان بايزيد الثاني فعلُه.
هو قَدْري بن صَوْقَل بن عَبْدُول بن سِنَان المشهور بعبد القادر الأرناؤوط، وُلد سنةَ 1347هـ بقرية «فريلا» في «إقليم كوسوفا» من بلاد الأرنؤوط في ما كان يُعرف بيوغوسلافيا، والألبانيون يُسمُّون هذا الإقليم: كوسوفا، والصرب يقولون: كوسوفو، والأرنؤوط جِنسٌ يندَرِجُ تحته شعوبٌ كثيرةٌ من الألبان واليوغسلاف وغيرهم هاجَرَ سنةَ 1353هـ من جرَّاء اضطهاد المحتلِّين الصرب إلى دِمَشقَ بصحبةِ والدِه وبقيَّةِ عائلته، وكان عمرُه آنذاكَ ثلاثَ سنواتٍ، ترعرع الشيخ في دِمَشق الشام، وتلقَّى تعليمَه أولَ الأمر في مدرسة «الإسعاف الخيري» بدِمَشق بعد دراسة سَنتينِ في مدرسة «الأدب الإسلامي» بدِمَشق. وبعد نهاية المرحلة الابتدائية تركَ العلم لغرض العمَلِ لحاجته للمال، فعمِلَ «ساعاتيًّا» في تصليح الساعات في محلة «المسكية» بدِمَشق، وكان يعمل في النهارِ، ويدرُس القرآنَ والفقهَ مساءً، وانضمَّ إلى حلقة الشيخ عبد الرزاق الحلبي، رغبةً في تعلُّم علوم الشرعِ واللغةِ والأدبِ، تقلَّد الخطابة، فكان خطيبًا في جامع «الدِّيوانية البَرَّانيَّة» بدِمَشق، ثم خطيبًا في جامع «عمر بن الخطاب»، ثم انتقَلَ إلى منطقة «الدحاديل» بدِمَشق، وكان خطيبًا في جامع «الإصلاح»، ثم انتقل إلى جامع «المُحمَّدي» بحيِّ الـمِـزَّة، لكنَّ الشيخَ بَقيَ يُلقي دروسَه في معهد الأمينية (وهي مدرسة قديمة للشافعية)، وبَقيَ يقوم بالتدريس والوعظ، ويُنبِّهُ الناس إلى السُّنة الصحيحة، ويَدْعوهم إلى ضرورة ترك البِدَع والمخالَفات في الشريعة، هذا مع انكبابه على التحقيق والتأليف وتدريسه العلمَ للناس، وإلقاء المحاضرات، كان الشيخ سَلَفيَّ العقيدة، لا يلتزم مذهبًا فقهيًّا مُعيَّنًا، وإنَّما يعمَل بالكتابِ والسُّنة على منهج السلَف الصالحِ -رِضوانُ الله عليهم- ومن كُتبه وتحقيقاته: إتمام تحقيق كتاب ((غاية المنتهى)) في الفقه الحنبلي، وتحقيق كتاب ((جامع الأصول)) لابن الأثير، وتحقيق كتاب ((زاد المعاد)) لابن القَيِّم، و((زاد المسير في علم التفسير)) لابن الجَوْزي، و((المبدع في شرح المقنع)) لابن مفلح، و((رَوْضة الطالبين)) للنووي، و((الشفا)) للقاضي عياض، و((قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة))، وغيرها، تُوفيَ في دِمَشق فجرَ الجمُعة 13شوال 1425، ودُفن بمقبرة الحقلة، وكانت جنازته مشهودةً رحمه اللهُ.
كان كثيرُ بنُ أحمد بن شهفور قد تغلَّب على أعمال سجستان، فكتب الخليفةُ إلى بدر بن عبدالله الحماميِّ، وهو متقلِّدٌ أعمال فارس، يأمره أن يرسِلَ جيشًا يحاربون كثيرًا، ويؤمِّرَ عليهم دردا، ويستعمل على الخراج زيدَ بنَ إبراهيم، فجهَّزَ بدرٌ جيشًا كثيفًا وسيَّرَهم، فلمَّا وصلوا قاتلهم كثيرٌ، فلم يكُنْ له بهم قوَّةٌ، وضَعُفَ أمره وكادوا يَملِكونَ البلد، فبلغ أهلَ البلدِ أنَّ زيدًا معه قيود وأغلال لأعيانِهم، فاجتمعوا مع كثيرٍ، وشدُّوا مِن أزْرِه، وقاتلوا معه، فهزموا عسكرَ الخليفة، وأسَروا زيدًا، فوجدوا معه القيودَ والأغلالَ فجَعَلوها في رِجلَيه وعُنُقِه، وكتب كثيرٌ إلى الخليفة يتبرَّأُ من ذلك، ويجعَلُ الذنبَ فيه لأهل البلد، فأرسل الخليفةُ إلى بدر الحماميِّ يأمره أن يسير بنفسِه إلى قتالِ كثيرٍ، فتجهَّز بدر، فلمَّا سَمِعَ كثيرٌ ذلك خاف، فأرسل يطلُبُ المقاطعةَ على مالٍ يَحمِلُه كلَّ سنة، فأُجيب إلى ذلك، وقوطِعَ على خمسمائة ألفِ دِرهمٍ، وقُرِّرَت البلادُ عليه.
لَمَّا رأى أهلُ الأندلس فِعْلَ صِنهاجةَ غَبَطوهم، ورَغِبوا في الجهاد، وقالوا للمنصورِ بنِ أبي عامر: لقد نَشَّطَنا هؤلاء للغزو، فجمع الجيوش الكثيرةَ مِن سائر الأقطار، وخرج إلى الجهاد، إلى إليون ونازلها، واستمَدَّ أهلُها الفِرنجَ، فأمدُّوهم بجيوش كثيرة، واقتتلوا ليلًا ونهارًا، فكَثُر القتل فيهم، وصبَرَت صنهاجة صبرًا عظيمًا، ثم خرج قومص كبيرٌ مِن الفرنج لم يكُنْ لهم مثله، فجال بين الصفوفِ وطلب البرازَ، فبرز إليه جلالةُ بن زيري الصنهاجي فحمل كلُّ واحد منهما على صاحِبِه، فطعنه الفرنجيُّ فمال عن الطعنةِ وضَرَبه بالسيف على عاتِقِه فأبان عاتِقَه، فسقط الفرنجيُّ إلى الأرض، وحمل المسلمونَ على النصارى، فانهزموا إلى بلادِهم، وقُتِلَ منهم ما لا يحصى ومَلَك المدينةَ، وغَنِمَ ابن أبي عامر غنيمةً عظيمةً لم يُرَ مِثلُها، واجتمع من السبيِ ثلاثون ألفًا، وأمَرَ بالقتلى فنُضِدَت بعضها على بعض، وأمر مؤذِّنًا أذَّنَ فوق القتلى المَغرِبَ، وخرَّب مدينةَ قامونة، ورجع سالِمًا هو وعساكِرُه.
كان أغا محمد خان- أغا أي: مَخْصِي- وهو من قبيلة قاجار المشهورة التي سكنت استراباد شمالي إيران، وهم من الشيعة الاثني عشرية، كان مستشارَ كريم خان الزندي، وقيل: إنه لَمَّا توفي كريم خان فرَّ أغا محمد خان من شيراز إلى طهران، وأعلن استقلالَه، ثم لَمَّا وصل إلى بلاده الأصلية جمع حولَه القاجارية وضمَّ إليه أيضًا بعض القبائل المجاورة وتصالحَ مع الأفشار، فأصبح هو صاحِبَ الأمر والنهي في شماليَّ إيران، وكان منافسُه لطف علي خان صاحبَ إيران الجنوبية وقاعدته شيراز، وحصلت بينهما حروبٌ كثيرة إلى أن قام وزيرُ لطف علي واسمه إبراهيم بتسليمِ مدينة شيراز لأحد قوَّاد أغا محمد عندما غاب لطف علي عنها، ثمَّ ملك أغا محمد كرمان، واستطاع أن يقضيَ على لطف علي، حيث سلَّمه بعضَ القبائل الذين قَبَضوا عليه لأغا محمد، ففقأ عينيه وقتله، فأصبحت إيران كلُّها في قبضته، وانتهت دولة الزنديين، وبدأت دولة القاجاريين على إيران.
في صباح يوم النحر بينما كان الملك عبد العزيز يطوف طوافَ الإفاضةِ كعادته كلَّ سنةٍ في هذا الوقتِ مع قِلَّةٍ مِن الحُجَّاج، وخلفه ابنه الأمير سعود وبعض رجاله، وبعد استلامِه الحجرَ الأسود في بداية الشوط الخامس هجم عليه رجلٌ من فجوةٍ في الحِجْر عليه بَزَّة يمانية، وقد سَلَّ خِنجَرَه وهو يصيح صيحاتٍ مُنكرةً وانقض على المَلِك من ورائِه لِيطعَنَه بالخنجر فألقى سعود نفسَه على أبيه ودفع الرجلَ بيده الذي أطلق عليه حَرَس الملك فقَتَلوه، ثم انقَضَّ رجل آخر من فجوة ثانية من الحِجْر على الملك فجاءت الضربةُ في كتف الأمير سعود وعاجله رجالُ الملك عبدالعزيز فقتلوه، وكان هناك رجلٌ ثالث لما رأى مصرع صاحبيه أراد الفرارَ، لكِنَّ الحرس تمكَّنوا من قتْلِه، مرَّ الحادث وقُتِلَ فيه المعتدون الثلاثة وجُرِح الأمير سعود في كتفه الأيسر، كما قُتِلَ جندي واحد فقط، وجُرِح آخر، ثمَّ تلقى الملِكُ برقيةً من الإمام يحيى يستنكر بها الحادِثَ ويستفظعه ويتبرَّأُ منه.
بعد أن قامت الثورةُ الفلسطينية الكبرى عام 1936م وعَمَّت كلَّ أرجاء فلسطين وتكَبَّد البريطانيون من ورائِها خسائرَ فادحةً: أرادوا أن يستغلُّوا هذه النقطةَ لصالِحِهم، فقاموا بتشكيلِ لجنةٍ برئاسة بيل، وهي ما تسمى باللجنة الملكية البريطانية؛ لدراسة أسباب الثورة، وكأن أسبابَها غامضةٌ تحتاج إلى دراسة، وكان الغرضُ الرئيس من هذه اللجنة وغيرها من اللجان امتصاصَ الثورة بظهور بريطانيا أمام العالم أنها مهتمَّةٌ بقضايا الشعب الفلسطيني التي هي مُنتدَبةٌ عليه، بالإضافة إلى المكسب الإعلامي، فقامت هذه اللجنةُ في تقريرها المقَدَّم إلى الحكومة البريطانية في السابع من يوليو 1937م بتقسيمِ فلسطين بين العرب وبين اليهود، وتضَمَّن التقريرُ مطالِبَ الشعب الفلسطيني حيالَ نوايا اليهودِ مِن إنشاءِ الوطن القومي اليهودي في فلسطينَ بمساعدةِ الحكومة البريطانية، وأوصت اللجنة أيضًا بضرورة إبدال نظام الانتداب بنظام المعاهداتِ التي اتبعَتْه بريطانيا في العراق، والتي اتَّبَعَتْه فرنسا في سوريا، وأيَّدت الحكومة البريطانية بشدةٍ التوصيةَ التي جاءت بها لجنة بيل حول تقسيم فلسطين، ورأت أنه الحَلُّ الأمثل للقضية الفلسطينية!!
جُزُر المالديف مجموعةُ جُزُر صغيرة تقع في قارة آسيا في المحيط الهندي، جميعُ سُكَّانها مسلمون، وأوَّلُ من استعمرها هم البرتغاليون، ثم خلَفَهم الهولنديون، ثم الإنجليز عام 1211هـ، لكِنْ بَقِيَ الهولنديون أصحابَ النفوذ إلى عام 1305هـ؛ حيث أصبحت الجُزُر كُلُّها تحت الحماية الإنجليزية، ولكِنَّ قبضة الإنجليز بدأت بالتراخي عام 1350هـ؛ فأعلن السلطان شمس الدين إسكندر الدستورَ، وتغيَّرَ أسلوبُ الإنجليز الذين أصبحوا يفضِّلون النفوذَ والسيطرة الاقتصادية، وأمَّا الحكم فيسلمونه لأنصارهم وأعوانهم، فأُعلِنت الجمهوريةُ المالديفية عام 1373هـ، وعُين محمد أمين ديدي سلطانًا على البلاد، ثم تعهَّدت إنجلترا عام 1380هـ بدعم جُزُر المالديف ماديًّا، وبعد خمسة أعوام 1385هـ اتَّفَقت مع إنجلترا على معاهدة جديدة؛ تأكيدًا لاتفاقية عام 1376هـ، واحتفظت بموجِبها إنجلترا بقاعدةٍ جوية في جزيرة جان بمقاطعة أصول، ونالت بعدها البلادُ الاستقلالَ، وخرجت من عضوية رابطة الشعوب البريطانية (الكومنولث)، وقُبِلَت المالديف عضوًا في الأمم المتحدة.
تُوفيَ الشيخُ صالحُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأطرمُ عضوُ هيئة كبار العلماء، وأستاذُ الدراسات العُليا في قسمِ الفقهِ بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياضِ، إثْرَ مرضٍ مُزمنٍ لازَمَه سنواتٍ عدةً، والشيخُ حصَلَ على الدكتوراه من المعهد العالي للقضاء، وكان يتولَّى تدريسَ مادة الفقه المقارَن بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياضِ، بالإضافةِ إلى تدريسه لطلبة مرحلتَيِ الماجستير والدكتوراه في الكليةِ ذاتِها، وفي المعهد العالي للقضاءِ بالرياضِ، والشيخُ الأطرمُ من مواليد الزلفي، وقد التحَقَ منذ وقتٍ مبكرٍ بحلقاتِ العلماء، حيث تلقَّى العلم على يدِ نُخبةٍ من كبار علماء المملكةِ، وعلى رأسهم فضيلةُ العلَّامةُ الشيخُ محمدُ بن إبراهيم رحمه اللهُ، والشيخُ ابنُ بازٍ، ومن أبرز تلاميذه: الشيخُ عبدُ العزيزِ بنُ عبدِ اللهِ آلَ الشيخ (مفتي عام المملكة)، وفضيلةُ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، وغيرُهما.