ملك مدينة بخارى شهابُ الدولة هارون بن سليمان إيلك المعروفُ ببغراخان التركي، وكان له كاشغر وبلاساغون إلى حدِّ الصين، وكان سبَبُ ذلك أنَّ أبا الحسن بنَ سيمجور لَمَّا مات ووليَ ابنُه أبو عليٍّ خُراسانَ بعده، فسار نحو بخارى، وقصَدَ بلادَ السامانيَّة، فاستولى عليها شيئًا بعد شيءٍ، فسيَّرَ إليه نوح جيشًا كبيرًا، واستعمل عليهم قائدًا كبيرًا من قوَّادِه اسمه انج، فلَقِيَهم بغراخان، فهَزَمهم وأسرَ انج وجماعةً مِن القُوَّادِ، فلمَّا ظَفِرَ بهم قَوِيَ طَمَعُه في البلاد وسار بغراخان نحو بخارى، فلَقِيَه فائِقٌ، واختَصَّ به، وصار في جملته، ونازلوا بخارى، فاختفى الأميرُ نوح ومَلَكَها بغراخانُ، ولَمَّا نزل بغراخان بُخارى وأقام بها استوخَمَها، فلَحِقَه مَرَضٌ ثقيل، فانتقل عنها نحوَ بلاد الترك، فلما فارقها ثارَ أهلُها بعَسكَرِه ففَتَكوا بهم وغَنِموا أموالهم، ووافَقَهم الأتراكُ الغزية على النَّهبِ والقَتلِ لعَسكرِ بغراخان، فلما سار بغراخان عن بُخارى أدركه أجَلُه فمات، ولَمَّا سَمِعَ الأمير نوح بمسيرِه عن بخارى بادر إليها فيمن معه من أصحابه، فدخلها وعاد إلى دارِ مُلكِه ومُلكِ آبائه، وفَرِحَ أهلُها به وتباشَروا بقُدومِه.
هو الظاهِرُ لإعزازِ دينِ الله أبو الحَسَن عليُّ بن أبي علي المنصور الحاكم الفاطمي العُبيدي الإسماعيليُّ الباطنيُّ, أمُّه أم ولد تدعى رقية، وُلِدَ بالقاهرة سنة 395، وبويع بالحُكمِ بعد أبيه في يوم عيد الأضحى سنة 411، وله من العمرِ 16 سنة و3 أشهر، وكان له مِصرُ، والشام، والخطبة له بإفريقيَّة، وكان جميلَ السِّيرةِ، حَسَن السياسةِ، مُنصِفًا للرعية، إلَّا أنَّه مُشتَغِلٌ بلذَّاته محِبٌّ للدَّعَة والراحة، قد فوَّض الأمورَ إلى وزيره أبي القاسِمِ عليِّ بنِ أحمد الجرجرائي- وكان مقطوعَ اليدينِ مِن المِرفَقينِ- لِمَعرفته بكفايته وأمانته، في سنة ثماني عشرة، فاستمَرَّ في الوزارة مدةَ ولايةِ الظاهر، ثمَّ لوَلَده المُستنصِر، توفِّي الظاهِرُ في منتصف شعبان بمصر وكان عمُره ثلاثًا وثلاثين سنة، وكانت مُدَّة حُكمِه خَمسَ عشرة سنة وتسعةَ أشهر وسبعة عشر يومًا، ولَمَّا مات الظاهِرُ ولِيَ بعده ابنُه تميم معد، ولقب المستنصر بالله، وتكَفَّل بأعباء المملكة بين يديه الأفضَلُ أميرُ الجيوش، واسمُه بدر بن عبد الله الجمالي، وكان عمرُ المستنصرِ يومَ نُصِّبَ حاكِمًا سبعَ سنينَ وعِدَّة أشهر، وبقي حاكمًا أكثَرَ مِن ستين سنةً.
زَعيمُ الدَّولة، أبو كامل، بَرَكَة بن المُقَلِّد، أميرُ بني عُقيلٍ، وصاحبُ المَوصِل بن المُسيبِ بن رافِع بن المُقلِّد بن جعفرِ بن عَمروِ بن المُهَنَّا بن عبدِ الرَّحمن بن بُرَيد -مُصغَّرًا- يَنتهِي إلى هوازن العُقَيلي، هو من بَيتٍ كَبيرٍ في الإمرَةِ. كان بَركةُ بن المُقلِّد قد غَلَب على المَوصِل وغَيرِها، وقَهَر أخاهُ قرواشا، وعاثَ وأَفسَد وعَسَف، وفي هذه السَّنَةِ انحدَر إلى تكريت في حُلَلِهِ قاصدًا نحوَ العِراق لِيُنازِعَ النُّوَّاب به عن المَلِكِ الرَّحيم، ويَنهَب البِلادَ، فلمَّا بَلغَها انتَقضَ عليه جُرحٌ كان أصابهُ من الغُزِّ لمَّا مَلَكوا المَوصِل، فتُوفِّي، ودُفِنَ بتكريت. واجتمعت العربُ من أصحابِه على تَأميرِ عَلَمِ الدِّين أبي المعالي قُريشِ بن بَدران بن المُقلِّد، فعاد بالحُلَلِ والعربِ إلى المَوصِل وأَرسَل إلى عَمِّه قِرواش، وهو تحت الاعتقالِ يُعلِمُه بوَفاةِ زَعيمِ الدَّولةِ، وقِيامِه بالإمارة، وأنَّه يَتَصرَّف على اختِيارِه، ويقوم بالأَمرِ نِيابةً عنه. فلمَّا وصل قُريشٌ إلى المَوصِل جَرى بينهُ وبين عَمِّه قِرواش مُنازَعة، ضَعُفَ فيها قِرواش، وقَوِيَ ابنُ أخيهِ، ومالت العربُ إليه، واستقَرَّت الإمارةُ له، وعاد عَمُّه إلى ما كان عليه من الاعتقالِ، ثم نَقلَهُ إلى قَلعةِ الجَرَّاحِيَّة مِن أَعمالِ المَوصِل، فاعتُقِلَ بها.
أنشأ الصليبيون بعد احتلالهم بيت المقدس فرقه دينية عُرِفت بالداوية أو بفرسان المعبد، وأقامت في موضع قرب المسجد الأقصى، وقد انتسب إليها النبلاء والأشراف، وقيل: إن مهمة هذه المنظمة هي الحفاظ على مقدسات الكنيسة، وحماية كل ما هو مرتبط من المقدسات سواء كانت أرواحًا أو آثارًا أو أي شيء له ارتباط بقداسة المسيحية عندهم، ثم أنشأ الصليبيون فرقة أخرى عُرِفَ أصحابها بالاسبتارية؛ لنفس الغرض، وإن كانت أقل قوة ونفوذًا من الداوية, ثم تحولت هاتان الفرقتان إلى قوة عسكرية تدعم جميع الحملات الصليبية وهجماتها على المسلمين, وقد بنى الداوية غربي الأقصى أبنية ليسكنوها، وعملوا فيها ما يحتاجون إليه من هري ومستراح وغير ذلك، وأدخلوا بعض الأقصى في أبنيتهم وظلوا فيها حتى أزالها صلاح الدين الأيوبي، وأمر بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار والأنجاس (الداوية والاسبتارية)، فكان الداوية والاسبتارية يمدون الصليبيين بالأموال والنفقات والرجال وجميع ما يحتاجون إليه, وهم من أسوء أجناس الفرنج في بلاد المسلمين، وقد اجتهد خلفاء المسلمين وسلاطينهم في تطهير بلاد المسلمين منهم ومن شرورهم، وقَتْل جميع من يقع بأيديهم من الداوية والاسبتارية. ثم تحولت فرقة الداوية بعد انتهاء الحروب الصليبية إلى قبرص، ثم إلى رودوس، ثم إلى مالطة، وعُرفوا هناك باسم فرسان مالطة. وقيل غير ذلك مما نسجوا هم حوله من الأساطير والقصص.
اجتمعت الفرنجُ وملوكُها وقمامصتها وجنودها وساروا إلى نواحي دمشق فنزلوا بمرج الصفر عند قرية يقال لها سقحبا بالقرب من دمشق، فعظم الأمرُ على المسلمين واشتدَّ خوفُهم، وكاتَبَ طغتكين أتابك دمشق أمراءَ التركمان من ديار بكر وغيرها وجمعهم، وكان هو قد سار عن دمشق إلى جهة الفرنج، واستخلف بها ابنَه تاج الملوك بوري فكان بها، كلما جاءت طائفة أحسن ضيافتَهم وسَيَّرهم إلى أبيه، فلما اجتمعوا سار بهم طغتكين إلى الفرنج فالتقوا أواخر ذي الحجة واقتتلوا، واشتد القتالُ، فسقط طغتكين على فرسه، فظن أصحابُه أنه قتل، فانهزموا وركب طغتكين فرسَه ولحقهم وتبعهم الفرنجُ وبقي التركمان لم يقدِروا أن يلحقوا بالمسلمين في الهزيمة، فتخلفوا، فلما رأوا فرسان الفرنج قد تبعوا المنهزمين وأن معسكرهم وراجِلَهم ليس له منعٌ ولا حامٍ، حملوا على الرجَّالة فقتلوهم، ولم يسلم منهم إلا الشريد، ونهبوا معسكرَ الفرنج وخيامَهم وأموالَهم وجميع ما معهم، وفي جملته كنيسة وفيها من الذهب والجواهر ما لا يُحصى كثرةً، فنهبوا ذلك جميعه وعادوا إلى دمشق سالِمين لم يعدم منهم أحد. ولما رجع الفرنج من أثر المنهزمين ورأوا رجالتَهم قتلى وأموالهم منهوبة تمُّوا منهزمين لا يلوي الأخُ على أخيه، وكان هذا من الغريب أن طائفتين تنهزمان كلُّ واحدةٍ منهما من صاحبتِها.
لمَّا مَلَكَ أبو سَعيدٍ عليُّ بنُ عبدِ المُؤمنِ غرناطة جَمعَ الجُيوشَ وسار إلى مَدينةِ المِريَةِ، وهي بأَيدِي الفِرنجِ، أَخَذوها من المسلمين سَنةَ 542هـ، فلمَّا نازَلَها وَافاهُ الأُسطولُ مِن سَبتَة وفيه خَلْقٌ كَثيرٌ من المسلمين، فحَصَروا المِريَةَ بَرًّا وبَحرًا، وجاء الفِرنجُ إلى حِصنِها، فحَصَرَهُم فيها ونَزَلَ عَسكرُه على الجَبلِ المُشرِف عليها، وبَنَى أبو سَعيدٍ سُورًا على الجَبلِ إلى البَحرِ، وعَمِلَ عليه خَندقًا، فصارَت المَدينةُ والحِصنُ الذي فيه الفِرنجُ مَحصُورِينَ بهذا السُّورِ والخَندَق، ولا يُمكِن مَن يُنجِدُهُما أن يَصِلَ إليهما، فجمع الأذفونشُ مَلِكُ الفِرنجِ بالأَندلسِ، والمَعروفُ بالسليطين، اثني عشر ألف فارس من الفِرنجِ، ومعه محمدُ بن سعدِ بن مردنيش في سِتَّةِ آلافِ فارس من المسلمين، وراموا الوُصولَ إلى مَدينةِ المِريَةِ ودَفْعَ المسلمين عنها، فلم يُطيقوا ذلك، فرَجعَ السليطين وابنُ مردنيش خائِبينَ، فماتَ السليطين في عَوْدِه قبلَ أن يَصِلَ إلى طُليطِلَة. وتَمادَى الحِصارُ على المِريَةِ ثلاثةَ أَشهُر، فضاقَت المِيرةُ، وقَلَّت الأَقواتُ على الفِرنجِ، فطَلَبوا الأَمانَ لِيُسلِّموا الحِصنَ، فأَجابَهم أبو سعيدٍ إليه وأَمَّنَهُم، وتَسلَّم الحِصنَ، ورَحلَ الفِرنجُ في البَحرِ عائِدينَ إلى بِلادِهم فكان مِلْكُ الفِرنجِ لِمريَةِ عشرَ سِنينَ.
هو قطبُ الدين مودود بن زنكي بن آقسنقر، المعروفُ بالأعرج صاحِبُ الموصل، وقد كان من أحسن الملوك سيرةً، وأعفِّهم عن أموال رعيَّته، مُحسِنًا إليهم، كثيرَ الإنعام عليهم، محبوبًا إلى كبيرهم وصغيرهم، عطوفًا على شريفهم ووضيعهم، كريمَ الأخلاق، حسَنَ الصحبة معهم, سريعَ الانفعال للخير، بطيئًا عن الشَّرِّ، جمَّ المناقب، قليلَ المعايب. تولى قطب الدين السلطنةَ بالموصل بعد موت أخيه سيف الدين غازي بن زنكي, وكان قطبُ الدين حسنَ السيرة، عادلًا في حكمه. وفي دولته عَظُمَ شأن جمال الدين محمد الوزير الأصبهاني المعروف بالجواد، وكان مدبِّرَ دولته, وصاحب رأيه الأمير زين الدين علي كجك، وكان نِعمَ المدبر والمشير لصلاحِه وخيرِه وحُسنِ مقاصده, ولم يزَلْ قطب الدين على سلطنته ونفاذ كلمتِه بالموصل وما حولها إلى أن توفي في شوال، وقيل في الثاني والعشرين من ذي الحجة. كان مرضُه حمى حادة، ولما اشتد مرضه أوصى بالملك بعده لابنه عماد الدين زنكي، ثم عدل عنه إلى ابنه الأكبر سيف الدين غازي, وكان له ثلاثةُ أولاد: سيف الدين غازي الذي تولى السلطنة بعده، وعز الدين مسعود تولى السلطنة بعد أخيه سيف الدين، وعماد الدين زنكي صاحب سنجار.
كانت قلعةُ البيرة، وهي مُطِلَّة على الفرات من أرض الجزيرة، لشهاب الدين الأرتقي، وهو ابنُ عم قطب الدين إيلغازي بن ألبي بن تورتاش بن إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، وكان في طاعةِ نور الدين محمود بن زنكي، صاحِبِ الشام، فمات شهابُ الدين وملك القلعةَ بعده ولدُه وصار في طاعة عز الدين مسعود صاحب الموصل، فلما كان هذه السنة أرسل صاحِبُ ماردين إلى عز الدين مسعود يطلبُ منه أن يأذن له في حَصْرِ البيرة وأخْذِها، فأذِنَ له في ذلك، فسار في عسكرِه إلى قلعة سميساط، وهي له، ونزل بها وسيَّرَ العسكر إلى البيرة، فحصرها، فلم يظفَرْ منها بطائل إلَّا أنهم لازموا الحصار، فأرسل صاحبُها إلى صلاح الدين وقد خرج من ديار مصر، يطلب منه أن ينجدَه ويُرحِلَ العسكر المارديني عنه، ويكون هو في خدمته، كما كان أبوه في خدمة نور الدين، فأجابه إلى ذلك، وأرسل رسولًا إلى صاحِبِ ماردين يشفَعُ فيه، ويطلب أن يرحل عسكَره عنه، فلم يقبَلْ شفاعته، واشتغل صلاحُ الدين بالفرنج، فلما رأى صاحب ماردين طولَ مقام عسكره على البيرة، ولم يبلُغوا منها غرضًا، أمرهم بالرحيلِ عنها، وعاد إلى ماردين، فسار صاحبُ البيرة إلى صلاح الدين، وكان معه حتى عبر معه الفراتَ.
سار الملك الكامل محمد بن الملك العادل، صاحب مصر, فوصل إلى بيت المقدس, ثم سار عنه، وتولى بمدينة نابلس، وشحن على تلك البلاد جميعها، وكانت من أعمال دمشق، فلما سمع صاحبها، وهو ابن الملك المعظم، خاف أن يقصده ويأخذ دمشق منه، فأرسل إلى عمه الملك الأشرف يطلبه ليحضر عنده بدمشق، فسار إليه جريدة، فدخل دمشق، فلما سمع الكامل بذلك لم يتقدم لعِلمِه أن البلد منيع، وقد صار به من يمنعه ويحميه، وأرسل إليه الملك الأشرف يستعطفه، ويعرفه أنه ما جاء إلى دمشق إلا طاعة له، وموافقة لأغراضه، والاتفاق معه على منع الفرنج عن البلاد، فأعاد الكامل الجواب يقول: إنني ما جئت إلى هذه البلاد إلا بسبب الفرنج، وحيث قد حضرتَ أنت فأنا أعود إلى مصر، واحفظ أنت البلاد، ولستُ بالذي يقال عني إني قاتلت أخي، وحصرته، حاشا لله تعالى، وتأخر عن نابلس نحو الديار المصرية، ونزل تل العجول، فخاف الأشرف والناس قاطبة بالشام، وعلموا أنه إن عاد استولى الفرنجُ على بيت المقدس وغيره مما يجاوره، لا مانع دونه، فترددت الرسل وسار الأشرف بنفسه إلى الكامل أخيه، فحضر عنده، وكان وصوله ليلة عيد الأضحى، ومنعه من العود إلى مصر، فأقام بمكانِه.
هو الصوفيُّ الاتحادي عثمان الدكاكي الدمشقي, خالطَ الصوفية ودعاةَ وَحدةِ الوجودِ، فتأثَّرَ بهم حتى ادَّعى الألوهيَّةَ وانتَقَص من الأنبياء, فعُقِدَ له مجلسٌ في دار العدل بدار السعادة في يوم الثلاثاء آخر شَهرِ شوال واجتَمَع القضاة والأعيانُ على العادة وأُحضِرَ يومئذ عثمان الدكاكي، وادُّعِيَ عليه بعظائمَ من القول لم يؤثَرْ مِثلُها عن الحلَّاجِ ولا عن ابن أبي الغدافر السلقماني، وقامت عليه البيِّنةُ بدعوى الإلهية- لعنه الله- وأشياءَ أُخَر من التنقيص بالأنبياء ومخالطته أرباب الرَّيبِ من الباجريقية وغيرهم من الاتحادية- عليهم لعائن الله- ووقع منه في مجلسٍ من إساءة الأدب على القاضي الحنبلي، وتضَمَّنَ ذلك تكفيرُه من المالكية أيضًا، فادعى أنَّ له دوافِعَ وقوادِحَ في بعض الشهود، فرُدَّ إلى السجنِ مُقَيَّدًا مغلولًا مقبوحًا، ثم لما كان يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من ذي القعدة أُحضِرَ عثمان الدكاكي إلى دار السعادة وأُقيمَ بين يدي الأمراء والقُضاة وسُئِلَ عن القوادح في الشهودِ فعَجَز فلم يقدِرْ، وعجز عن ذلك فتوَجَّهَ عليه الحُكم، فسئل القاضي المالكي الحُكمَ عليه، فحَمِدَ الله وأثنى عليه وصلَّى على رسولِه، ثمَّ حكم بإراقة دَمِه وإن تاب، فأُخِذَ الدكاكيُّ فضُرِبَت رَقَبتُه بدمشق بسوقِ الخيل، ونودي عليه: هذا جزاءُ مَن يكون على مَذهَبِ الاتحاديَّة، وكان يومًا مشهودًا بدار السعادة، حضَرَ خلقٌ من الأعيان والمشايخِ.
أرسل السلطانُ الظاهر برقوق من يستجلي أخبارَ تيمورلنك، فجاءت الأخبار وورد البريد بأنَّ تيمورلنك كبس قرا محمد وكَسَره، ففَرَّ منه في نحو مائتي فارس، ونزل قريب ملطية، ونزل تيمورلنك على آمد، فاستدعى السلطانُ القضاة والفقهاء والأمراء وتحدث في أخذ الأوقافِ من الأراضي الخراجيَّة، فكَثُر النِّزاعُ، وآل الأمر إلى أنه يأخُذُ مُتحَصَّل الأوقاف لسنةٍ، ورسم السلطانُ بتجهيز أربعة من الأمراء الألوف، وهم الأميرُ ألطنبغا المعلم أمير سلاح، والأمير قردم الحسني، والأمير يونس الدوادار، والأمير سودن باق، وسبعة من أمراء الطبلخاناه، وخمسة من أمراء العشرات، فتجهزوا وعُيِّنَ معهم من أجناد الحلقة ثلاثمائة فارس، وخرجوا من القاهرة في أول رجب، فساروا إلى حلب، وبها يومئذٍ في نيابة السلطنة سودن المظفري، وقَدِمَ الخبَرُ بوقعة بين قرا محمد وولد تيمورلنك انكسَرَ فيها ابن تيمورلنك، وفي تاسع عشر رجب رُسِمَ للقاضي جمال الدين محمود محتَسِبِ القاهرة بطلبِ التجَّار وأرباب الأموال، وأخْذِ زكَوات أموالهم، وأن يتولى قاضي القضاة الحنفية شمس الدين محمد الطرابلسي تحليفَهم على ما يدَّعونَ أنَّه مِلكُهم، فعُمِلَ ذلك يومًا واحدًا، ثم رد عليهم ما أُخِذَ منهم وبَطَل، فإنَّ الخبَرَ ورد برجوع تيمورلنك إلى بلادِه.
قام البرتغال بعدة حملات بحرية كان منها التي توجهت إلى جزيرة سقطرى على مدخل البحر الأحمر، وأنشؤوا فيها قلعة وفرضوا الحصار على البحر الأحمر, ومنها السفن الهندية التجارية التي يريدوا أن يصلوا بها إلى عدن ثم جدة ومنها إلى مكة والمدينة؛ بهدف تدميرها واعتراض السفن التجارية العربية، فما كان من الملك عامر الثاني ملك اليمن وكذلك الملك خليل مظفر شاه إلا الاستنجدا بالسلطان المملوكي قانصوه الغوري، وطلبا منه العون ضد البرتغاليين، فجهز السلطان أسطولًا استعان في إنشائه بالعثمانيين وبدولة البنادقة بحكم المصالح المشتركة، وتولى قيادة هذا الأسطول حسين الكردي، فتوجه إلى ملبار بساحل الهند وأرسى سفنه في مرفأ ديو، ثم قام حسين الكردي بالبحث عن السفن البرتغالية فالتقى بها على مدينة غوا على ساحل الملبار، وكان قائدهم فرانسيسكو، وهو ابن حاكم الهند البرتغالي لوانزو دالميدا، فانقض عليه الأمير حسن الكردي وجرت بينهما معركة هائلة عرفت بوقعة غوا انتصر فيها الأسطول الإسلامي بقيادة حسين الكردي انتصارًا كبيرًا, وقُتل فيها قائد البرتغال فرانسيسكو، ثم عاد الأمير حسين إلى مرفأ ديو الذي جعله ملك الهند خليل تحت تصرفه، وأقام فيه يريد أن ينتهي موسم الأمطار ليعود إلى مصر.
هو السلطان العثماني مصطفى الثاني ابن السلطان محمد الرابع بن إبراهيم الأول بن أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني بن محمد الأول جلبي بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أورخان. وُلِدَ عام 1074هـ وتولى الخلافة عام 1106هـ/1694م وفي عهده بدأ تراجع المد الإسلامي عن ديار أوروبا الشرقية؛ بسبب ضعف روحِ الجهاد، وتسرُّب أسباب الهزيمة في كيان الأمة، وقسوة الهجمات الصليبية على الدولة العثمانية، وفي عهده تم توقيع معاهدة كار لوفتس مع روسيا وطبقًا لهذه المعاهدة انسحب العثمانيون من بلاد المجر، وإقليم ترانسلفانيا، وأصبحت كلُّ الدول التي كانت تدفع الجزية ممتنعةً من دفعها وتقِفُ في وجه المد العثمانيين. وبدأت الدولة العثمانية في الانتقال الى عصر التفكُّك والاضمحلال السريع, وعلى إثر تدخل الانكشارية صاروا يطالبون بعزل الصدورِ كما يحلو لهم، ثم قرَّروا عزل السلطان نفسه ونصبوا أخاه أحمد الثالث, ثم توفي السلطان مصطفى بعد عزله بأربعة أشهر، وكان عند وفاته في التاسعة والثلاثين من عُمره.
هو الشيخُ الإمام الثبت العلامة الفقيهُ المحدِّث الشيخ عمر بن علي بن يحيى بن مصطفى الطحلاوي المالكي الأزهري، تفقه على الشيخ سالم النفراوي وحضر دروس الشيخ منصور المنوفي، والشهاب ابن الفقيه، والشيخ محمد الصغير الورزازي، وغيرهم، وسمع الحديثَ عن الشهابين أحمد البابلي والشيخ أحمد العماوي، وأبي الحسن علي بن أحمد الحريشي الفاسي، وتمهَّر في الفنون ودرَّس بالجامع الأزهر وبالمشهد الحُسيني، واشتهر أمرُه وطار صيته، وأشير إليه بالتقدُّمِ في العلوم، وتوجَّه إلى دار السلطنة في قضاء مهمة لأمراء مصر، فقوبل بالإجابة وألقى هناك دروسًا في الحديث في آيا صوفيا، وتلقى عنه أكابرُ العلماء هناك في ذلك الوقت، وصُرف معزَّزًا مقضيًّا حوائجه، وذلك سنة 1147. ولما تمم عثمان كتخدا القزدغلي بناء مسجده بالأزبكية في تلك السنة عيَّن الطحلاوي للتدريس فيه، وذلك قبل سفره إلى الديار الرومية، وكان مشهورًا في حسن التقرير وعذوبة البيان وجودة الإلقاء، وقرأ الموطأ وغيرَه بالمشهد الحسيني، وأفاد وأجاز الأشياخ, وكان للناس فيه اعتقادٌ حسنٌ، وعليه هيبةٌ ووقار وسكونٌ، ولكلامه وقْعٌ في القلوب. توفي ليلة الخميس حادي عشر صفر من هذه السنة، وصُلي عليه في الأزهر في مشهد حافل.
هو العلَّامةُ الشيخ القاضي حسين ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ولد بمدينة الدرعية ونشأ بها وقرأ العلمَ على والده الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وكان كفيفَ البصر نيِّرَ البصيرة جَهْوريَّ الصوت بحيث يسمَعُ تكبيرَه في الصلاة أدنى المسجد وأقصاه مع كثرةِ الخلائق، وكان له معرفةٌ في الأصل (التوحيد) والفروع والتفسير, وله مجالسُ عديدة في تدريس الفقه والتفسير وغيرهما, وقد تولَّى إمامة مسجد البجيري في منازل الدرعية الشرقية، وكان خطيبَ الجمعة في مسجد الطريف الكبير الواقع تحت قصر آل سعود في المنازل الغربية من الدرعية، كما كان أحدَ قضاة الدرعية، وكان يقومُ بالإفتاء. أخذ عنه العلمَ جماعة منهم ابناه الشيخ علي بن حسين، والشيخ عبد الرحمن بن حسين، والشيخ أحمد الوهبي، والشيخ سعيد بن حجي، توفي في شهر ربيع الآخِرِ في وباء أصاب الدرعية. وخلَّفَ خمسة أبناء هم: الشيخ علي، والشيخ عبد الرحمن والشيخ حمد، والشيخ عبد الملك، وحسن، وأحفادُه يعرفون اليوم على انفرادهم بآل حُسين نسبة إلى جدهم الشيخ حسين بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.