لمَّا فرَغ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن حُنينٍ بعَث أبا عامرٍ على جيشٍ إلى أَوْطاسٍ، فلَقِيَ دُرَيْدَ بنَ الصِّمَّةِ، فقُتِلَ دُريدٌ وهزَم الله أصحابَهُ، قال أبو موسى الأَشعريُّ: وبعَثني مع أبي عامرٍ عُبيدٍ الأَشعريِّ، فرُمِيَ أبو عامرٍ في رُكْبَتِهِ، رَماهُ جُشَمِيٌّ بِسَهمٍ فأَثْبَتَهُ في رُكبتِهِ، فانتَهيتُ إليه فقلتُ: يا عمِّ مَن رَماك؟ فأَشار إليه فقال: ذاك قاتِلي الذي رَماني. فقصدتُ له فلَحِقْتُهُ، فلمَّا رَآني وَلَّى، فاتَّبَعْتُه وجعلتُ أقولُ له: ألا تَسْتَحْيِي، ألا تَثْبُتُ، فكَفَّ، فاخْتلَفْنا ضَربتين بالسَّيفِ فقَتلتُه، ثمَّ قلتُ لأبي عامرٍ: قتَل الله صاحِبَك. قال: فانْزَعْ هذا السَّهمَ. فنَزعْتُه فنَزا منه الماءُ قال: يا ابنَ أخي أَقْرِئْ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم السَّلامَ، وقُلْ له: اسْتَغْفِرْ لي. واسْتخلَفني أبو عامرٍ على النَّاسِ، فمكَث يَسيرًا ثمَّ مات، فرجعتُ فدخلتُ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في بيتِه على سَريرٍ مُرْمَلٍ وعليه فِراشٌ، قد أَثَّرَ رِمالُ السَّريرِ بِظَهْرِهِ وجَنْبَيْهِ، فأَخبرتُه بخَبرِنا وخَبرِ أبي عامرٍ، وقال: قُلْ له اسْتَغْفِرْ لي. فدَعا بماءٍ فتَوضَّأَ، ثمَّ رفَع يَديهِ فقال: «اللَّهمَّ اغْفِرْ لعُبيدٍ أبي عامرٍ». ورَأيتُ بَياضَ إِبْطَيْهِ، ثمَّ قال: «اللَّهمَّ اجْعَلْهُ يومَ القِيامةِ فوقَ كَثيرٍ مِن خَلقِك مِنَ النَّاسِ». فقلتُ: وَلِي فَاسْتَغْفِرْ. فقال: «اللَّهمَّ اغْفِرْ لعبدِ الله بنِ قَيسٍ ذَنْبَهُ، وأَدْخِلْهُ يومَ القِيامةِ مُدخَلًا كَريمًا» قال أبو بُردةَ: إحداهُما لأبي عامرٍ، والأُخرى لأبي موسى.
كان مالِكُ بنُ نُوَيرةَ قد صانَعَ سَجاحَ حينَ قَدِمَت من أرضِ الجزيرةِ، فلمَّا اتَّصَلت بمُسَيلِمةَ الكَذَّابِ، ثمَّ ترحَّلَت إلى بلادِها، نَدِمَ مالِكٌ على ما كان من أمرِه، وتلَوَّم في شأنِه، وهو نازِلٌ بمكانٍ يقالُ له: البِطاحُ في نجد، فقَصَدَها خالدٌ بجُنودِه وتأخَّرت عنه الأنصارُ، وقالوا: إنَّا قد قَضَينا ما أمَرَنا به الصِّدِّيقُ، فقال لهم خالِدٌ: إنَّ هذا أمرٌ لا بدَّ مِن فِعْلِه، وإنَّه لم يأتِني فيها كتابٌ، وأنا الأميرُ وإليَّ تَرِدُ الأخبارُ، ولستُ بالذي أجبُرُكم على المسيرِ، وأنا قاصِدٌ البِطاحَ، فسار يومينِ ثمَّ لَحِقَه رسولُ الأنصارِ يَطلُبون منه الانتِظارَ، فلَحِقوا به، فلمَّا وَصَل البِطاحَ وعليها مالِكُ بنُ نُوَيرةَ، بَثَّ خالِدٌ السَّرايا في البِطاحِ يَدْعونَ النَّاسَ، فاستقبَلَه أمراءُ بني تميمٍ بالسَّمعِ والطَّاعة، وبَذَلوا الزكَواتِ، إلَّا ما كان من مالكِ بنِ نُوَيرةَ؛ فإنَّه متحيِّرٌ في أمرِه، مُتَنَحٍّ عن النَّاسِ، فجاءته السَّرايا فأسَروه وأسَروا معه أصحابَه، واختَلَفت السَّرِيةُ فيهم؛ فشَهِدَ أبو قتادةَ -الحارثُ بنُ ربعيٍّ الأنصاريُّ- أنَّهم أقاموا الصَّلاةَ، وقال آخرون: إنَّهم لم يؤذِّنوا ولا صَلَّوا، فيقالُ: إنَّ الأُسارى باتوا في كُبولِهم في ليلةٍ شديدةِ البردِ، فنادى منادي خالدٍ: أنْ أَدْفِئوا أَسْراكم، فظَنَّ القومُ أنَّه أراد القَتلَ، فقتلوهم، وقَتَل ضرارُ بنُ الأزوَرِ مالِكَ بنَ نُوَيرةَ، فلمَّا سَمِعَ الدَّاعية خرجَ وقد فرَغوا منهم، فقال: إذا أراد اللهُ أمرًا أصابه، ودخل خالِدٌ على أبي بكرٍ فاعتَذَر إليه فعَذَره وتجاوزَ عنه ما كان منه في ذلك، ووَدَى مالِكَ بنَ نُوَيرةَ.
بعث الصِّدِّيقُ خالدَ بنِ الوليدِ إلى قِتالِ مُسَيلِمةَ الكَذَّابِ وقَومِه من بني حَنيفةَ باليمامةِ، وأوعب معه المسلمون، وعلى الأنصارِ ثابتُ بنُ قيسِ بنِ شماسٍ، فسار لا يمُرُّ بأحدٍ مِن المرتدِّين إلَّا نكَّل بهم، وقد اجتاز بخُيولٍ لأصحابِ سَجاحٍ فشَرَّدهم وأمَرَ بإخراجِهم مِن جزيرةِ العَرَبِ، وأردف الصِّدِّيقُ خالِدًا بسَرِّيةٍ لتكونَ رِدءًا له من ورائِه، فلمَّا سَمِع مُسَيلِمةُ بقدومِ خالدٍ عَسكَرَ بمكانٍ يقالُ له عقربا في طَرَفِ اليمامةِ، والريفُ وراء ظهورِهم، ونَدَب النَّاسَ وحَثَّهم، فحَشَد له أهلُ اليمامةِ، فاصطدم المسلِمون والكُفَّارُ، فكانت جولةٌ عظيمة وجَعَلت الصَّحابةُ يتواصَون بينهم ويقولون: يا أصحابَ سُورةِ البَقَرةِ، بَطَل السِّحرُ اليومَ، ودارت رحى المسلمين، وقد مَيَّز خالِدٌ المهاجرينَ من الأنصارِ من الأعرابِ، وكُلُّ بني أبٍ على رايتِهم، يقاتِلون تحتَها، حتى يَعرِفَ النَّاسُ مِن أين يُؤتَون، وصَبَرَت الصَّحابةُ في هذا الموطِنِ صبرًا لم يُعهَدْ مِثْلُه، ولم يزالوا يتقدَّمون إلى نحورِ عَدُوِّهم حتى فتح اللهُ عليهم، ووَلَّى الكُفَّارُ الأدبارَ، ودخل المسلِمونَ الحديقةَ مِن حيطانِها وأبوابِها يقتُلونَ من فيها من المرتَدَّةِ من أهلِ اليمامةِ، حتى خَلَصوا إلى مُسَيلِمةَ، فتقَدَّم إليه وَحشِيُّ بنُ حَربٍ مولى جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ، فرماه بحَرْبتِه فأصابه وخَرَجَت من الجانِبِ الآخَرِ، وسارع إليه أبو دُجانةَ سِماكُ بنُ خَرشةَ، فضَرَبه بالسَّيفِ فسقط، فكان جملةُ مَن قُتِلوا في الحديقةِ وفي المعركةِ قريبًا مِن عَشرةِ آلافِ مُقاتِلٍ. وقيل: أحدٌ وعشرون ألفًا، وقُتِل من المسلمين سِتُّمائةٍ، وقيل: خمسُمائةٍ.
لمَّا رفَض ابنُ الزُّبيرِ البَيْعَة لِيَزيدَ بن مُعاوِيَة وكان بمكَّة المُكرَّمَة سَيَّرَ إليه يَزيدُ بن مُعاوِيَة جيشًا بقِيادَةِ مُسلمٍ؛ ولكنَّ مُسلِمًا تُوفِّي في الطَّريقِ إلى مكَّة فاسْتَلَم بعدَه الحُصينُ بن نُميرٍ فحاصَر مكَّة المُكرَّمَة، وكان ابنُ الزُّبيرِ اتَّخَذَ المسجدَ حِصْنًا له ووضَع فيه الخِيامَ لِتَحميهِ وجُنْدَهَ مِن ضَرباتِ المَنْجنيق، واسْتَمرَّ الحِصارُ إلى أن احْتَرقَت الكَعبةُ قبلَ أن يأتِيَ نَعْيُ يَزيدَ بن مُعاوِيَة بتِسْعَةٍ وعِشرين يومًا، واخْتُلِف في مَن كان سبَبًا في احْتِراقِ الكَعبةِ. كان أصحابُ ابنُ الزُّبيرِ يُوقِدون حولَ الكَعبَةِ، فأَقْبَلَت شَرَرَةٌ هَبَّتْ بها الرِّيحُ فاحْتَرَقَت كِسْوَةُ الكَعْبَةِ، واحْتَرقَ خَشَبُ البيتِ. قال أحدُ أصحابِ ابنِ الزُّبيرِ يُقالُ له عَوْنٌ: ما كان احْتِراقُ الكَعبَةِ إلَّا مِنَّا, وذلك أنَّ رجلًا مِنَّا كان هو وأصحابه يوقدون في خِصاصٍ لهم حولَ البيتِ, فأَخَذَ نارًا في رُمْحِه فيه نِفْطٌ, وكان يومَ ريحٍ, فطارت منها شَرارةٌ, فاحْتَرَقت الكَعبةُ حتَّى صارت إلى الخشبِ, وقِيلَ: إن رجلًا مِن أهلِ الشَّام لمَّا جنَّ اللَّيلُ وضَع شَمْعَةً في طَرْف رُمْحِه, ثمَّ ضرَب فَرَسه ثمَّ طعَن الفُسْطاطَ فالْتَهب نارًا, والكَعبةُ يَومئذٍ مُؤَزَّرَة بالطَّنافِس, وعلى أَعْلاها الحَبِرَةُ, فطارت الرِّيحُ باللَّهَبِ على الكعبةِ فاحْتَرَقت. فلم يكُن حَرْقُ الكَعبةِ مَقصودًا مِن أَحَدِ الطَّرَفينِ؛ بل إنَّ احْتِراقَها جاء نَتيجةً لِحَريقِ الخِيامِ المُحيطةِ بها مع اشْتِدادِ الرِّيحِ, فهذا رجلٌ مِن أهلِ الشَّام لمَّا احْتَرَقت الكَعبةُ نادى على ضِفَّةِ زَمْزَم بقوله: هلَكَ الفَريقانِ والذي نَفْسِ محمَّدٍ بِيَدِهِ.
كان مَقتلُ الخليفةِ المتوكِّلِ على الله على يَدِ وَلَدِه المنتَصِر، وكان سببُ ذلك أن المتوكِّلَ أمَرَ ابنَه عبدَ الله المعتَزَّ أن يخطُبَ بالناسِ في يومِ جمعة، فأدَّاها أداءً عظيمًا بليغًا، فبلغ ذلك من المنتَصِر كلَّ مبلغٍ، وحَنقَ على أبيه وأخيه، وزاد ذلك أنَّ المتوكِّلَ أراد من المنتَصِر أن يتنازلَ عن ولايةِ العهد لأخيه المعتَزِّ فرفض، وزاد ذلك أيضًا أنَّه أحضَرَه أبوه وأهانَه وأمَرَ بضَربِه في رأسِه وصَفْعِه، وصَرَّحَ بعَزلِه عن ولايةِ العَهدِ، فاشتَدَّ أيضًا حَنقُه أكثَرَ ممَّا كان، فلمَّا كان يومُ عيدِ الفِطرِ خطَبَ المتوكِّلُ بالنَّاسِ وعنده بعضُ ضَعفٍ مِن عِلَّةٍ به، ثم عدَلَ إلى خيامٍ قد ضُرِبَت له أربعةُ أميالٍ في مثلِها، فنزل هناك ثم استدعى في يومِ ثالثِ شَوَّال بنُدَمائِه على عادتِه في سَمَرِه، ثمَّ تمالأ ولَدُه المنتصِرُ وجماعةٌ مِن الأمراءِ على الفَتكِ به فدخلوا عليه ليلةَ الأربعاءِ لأربعٍ خَلَونَ مِن شَوَّال، وهو على السِّماطِ، فابتدروه بالسُّيوفِ فقَتَلوه، وكانت مدةُ خلافتِه أربعَ عشرةَ سَنةً وعَشرةَ أشهر وثلاثة أيام، ثم ولَّوا بعده ولَدَه المنتَصِر، وبعث إلى أخيه المعتَزِّ فأحضَرَه إليه فبايعه المعتَزُّ، وقد كان المعتَزُّ هو وليَّ العَهدِ مِن بعدِ أبيه، ولكِنَّه أكرَهَه، وخاف فسَلَّمَ وبايعَ، ومِن المعروفِ أنَّ الأتراكَ الذين كان قد قَرَّبَهم الواثقُ وجعَلَهم قوَّادَه الأساسيِّينَ قد حَقَدوا على المتوكِّلِ، فكان ذلك من أسبابِ تَمالُئِهم على قَتلِه، وباغتيالِ المتوكِّلِ يعتبَرُ العصرُ العباسيُّ الأوَّلُ قد انتهى، وهو عصرُ القُوَّة، وبدأ العصرُ الثاني- عصرُ الضَّعفِ والانحدارِ- بالمنتصرِ؛ وذلك لأنَّ الخِلافةَ أصبحت صورةً ظاهريَّةً، والحُكمُ الحقيقيُّ هو للقُوَّاد العسكريِّين.
هو أبو الحسَنِ عليُّ بنُ بُوَيه، وهو أكبر أولاد بُوَيه، وأوَّلُ مَن تمَلَّك منهم، وكان عاقلًا حاذقًا حميد السيرة رئيسًا في نفسه. كان أولُ ظهورِه في سنة 322, فلما كان في هذا العام 338 قَوِيَت عليه الأسقامُ وتواترت عليه الآلامُ، فأحسَّ من نفسه بالهلاك، ولم يُفادِه ولا دفَعَ عنه أمرَ اللهِ ما هو فيه من الأموالِ والمُلك وكثرةِ الرِّجال والأموالِ، ولا رَدَّ عنه جيشُه من الديلم والأتراك والأعجام، مع كثرةِ العَدَد والعُدد، بل تخَلَّوا عنه أحوجَ ما كان إليهم، فسُبحانَ اللهِ المَلِك القادِرِ، القاهرِ العلَّام! ولم يكن له ولدٌ ذكَرٌ، فأرسل إلى أخيه ركن الدولةِ يستدعيه إليه ووَلَده عَضُد الدولة، ليجعَلَه وليَّ عَهدِه من بعده، فلمَّا قدم عليه فرِحَ به فرحًا شديدًا، وخرج بنفسِه في جميع جيشِه يتلقَّاه، فلمَّا دخل به إلى دار المملكة أجلسَه على السريرِ وقام بين يديه كأحدِ الأُمَراء؛ ليرفَعَ مِن شأنه عند أمرائِه ووزرائِه وأعوانه. وكان يومًا عظيمًا مشهودًا. ثم عقَدَ لعَضُد الدولة البيعةَ على ما يملِكُه من البلدان والأموال، وتدبيرِ المَملكة والرجال. وفيهم مِن بعضِ رُؤوسِ الأمراءِ كراهةٌ لذلك، فشَرَعَ في القبضِ عليهم، وقَتَلَ مَن شاء منهم وسَجَنَ آخرين، حتى تمهَّدَت الأمورُ لعضد الدولة. ثم كانت وفاةُ عماد الدولة بشيراز في هذه السنة، عن سبعٍ وخمسين سنةً، وكانت مُدَّةُ مُلكِه ست عشرة سنة، وكان من أقوى الملوك في زمانِه، وكان ممن حاز قَصَبَ السَّبقِ دون أقرانه، وكان هو أميرَ الأمراء، وبذلك كان يكاتِبُه الخلفاءُ، ولكِنَّ أخاه معز الدولة كان ينوبُ عنه في العراق والسواد.
في السَّابِعِ من المحَرَّم قُرِئَ سجِلٌّ في جوامِعِ مِصرَ يأمُرُ الحاكِمُ العُبَيديُّ اليهودَ والنَّصارى بشَدِّ الزُّنَّار ولُبس الغيار، وشعارُهم السَّوادُ شِعارُ العباسيِّينَ، وقرئ سجِلٌّ في الأطعِمةِ بالمَنعِ مِن أكلِ المُلوخيَّةِ المُحبَّبة لِمُعاويةَ بنِ أبي سُفيان، والبَقلة المسمَّاة بالجرجيرِ المَنسوبة إلى عائشةَ رَضِيَ الله عنها، وفيه المنعُ مِن عَجنِ الخُبزِ بالرِّجلِ، والمنعُ مِن ذَبحِ البَقَرِ التي لا عاقبةَ لها إلَّا في أيَّامِ الأضاحي، وما سواها مِن الأيَّامِ لا يُذبَحُ منها إلَّا ما لا يصلُحُ للحَرثِ، وفيه التَّنكيرُ على النخَّاسينَ والتشديدُ عليهم في المَنعِ مِن بَيعِ العَبيدِ والإماءِ لأهلِ الذِّمَّة، وإصلاحُ المكاييلِ والموازينِ، والنَّهيُ عن البخس فيهما، والمنعُ مِن بَيعِ الفقاعِ وعَمَلِه البتَّةَ؛ لِما يُؤثَرُ عن عَليٍّ رَضِيَ الله عنه مِن كراهةِ شُربِ الفقاعِ، وضُرِبَ في الطُّرُقاتِ بالأجراس ونودِيَ أنْ لا يدخُل الحَمَّامَ أحَدٌ إلَّا بمِئزَرٍ؛ وأنْ لا تَكشِف امرأةٌ وَجهَها في طريقٍ ولا خَلْفَ جِنازةٍ، ولا تتبَرَّج. ولا يُباع شَيءٌ مِن السَّمَك بغيرِ قِشرٍ، ولا يَصطاده أحدٌ مِن الصَّيادينَ، فقد كان الحاكِمُ شابًّا متهَوِّرًا مُتقَلِّبَ المِزاجِ جِدًّا، يَمنَعُ اليومَ ما كان أباحَه بالأمسِ، ويُبيحُ اليومَ ما منَعَه بالأمسِ، فلم يكُنْ مِن الحُكَّامِ مَن هو أشَدُّ منه تذبذُبًا، وقد أمَرَ بقَتلِ الكِلابِ، فقُتِلَ منها ما لا يُحصى، حتى لم يبقَ منها بالأزِقَّةِ والشَّوارِعِ شَيءٌ، وطُرِحَت بالصَّحراءِ وبشاطئِ النيلِ، وأمَرَ بكَنسِ الأزِقَّةِ والشَّوارِعِ وأبوابِ الدُّورِ في كلِّ مكانٍ، ففُعِلَ ذلك, ونودِيَ في القاهرةِ لا يَخرُج أحَدٌ بعدَ المَغرِب إلى الطَّريقِ ولا يَظهَر بها لِبَيعٍ ولا شِراءٍ فامتثَلَ النَّاسُ لذلك.
كانت بلادُ الغورِ تُجاوِرُ غزنةَ، وكان الغور يقطعونَ الطَّريقَ، ويُخيفونَ السَّبيلَ، وبلادُهم جِبالٌ وَعرةٌ، ومضايقُ غَلقةٌ، وكانوا يحتَمون بها، ويعتَصِمون بصعوبةِ مَسلَكِها، فلمَّا كَثُرَ ذلك منهم أنِفَ يمينُ الدَّولة محمودُ بنُ سبكتكين أن يكونَ مثل أولئك المُفسدينَ جِيرانَه، وهم على هذه الحالِ مِن الفَسادِ والكُفرِ، فجمَعَ العساكِرَ وسار إليهم، وعلى مُقَدِّمتِه التونتاش الحاجِبُ، صاحِبُ هراة، وأرسلان الجاذبُ صاحِبُ طوس، وهما أكبَرُ أُمرائه، فسارا فيمَن معهما حتى انتَهَوا إلى مَضيقٍ قد شُحِنَ بالمُقاتلةِ، فتناوشوا الحَربَ، وصبَرَ الفريقانِ، فسَمِعَ يمينُ الدَّولة الحالَ، فجَدَّ في السيرِ إليهم، ومَلَك عليهم مَسالِكَهم، فتفَرَّقوا، وساروا إلى عظيمِ الغوريَّة المعروف بابن سوري، فانتهوا إلى مدينتِه التي تُدعى اهنكران، فبَرَز مِن المدينةِ في عشرةِ آلافِ مُقاتلٍ، فقاتَلَهم المُسلِمونَ إلى أن انتَصَف النهار، فرأوا أشجَعَ النَّاسِ وأقواهم على القِتالِ، فأمَرَ يمينُ الدَّولة أن يُولُّوهم الأدبارَ على سبيلِ الاستدراجِ، ففعلوا، فلمَّا رأى الغوريَّةُ ذلك ظَنُّوه هزيمةً، فاتَّبَعوهم حتى أبعَدوا عن مدينتِهم، فحينئذ عطفَ المُسلِمونَ عليهم ووَضَعوا السُّيوفَ فيهم فأبادوهم قَتلًا وأسْرًا، وكان في الأسرى كبيرُهم وزعيمُهم ابنُ سوري، ودخل المُسلِمونَ المدينةَ ومَلَكوها، وغَنِموا ما فيها، وفَتَحوا تلك القِلاعَ والحُصونَ التي لهم جميعَها، فلمَّا عايَنَ ابنُ سوري ما فعل المسلمونَ بهم شَرِبَ سُمًّا كان معه، فمات وأظهَرَ يمينُ الدَّولة في تلك الأعمالِ شِعارَ الإسلامِ، وجعل عندهم مَن يُعَلِّمُهم شَرائِعَه، ثمَّ عاد إلى غزنة.
في سنة 387ه عقَدَ باديسُ بنُ منصورِ بنِ بلكينَ صاحِبُ إفريقيَّةَ الوِلايةَ لِعَمِّه حمَّادِ بنِ بلكين على أشيرَ، فاتَّسَعَت ولايةُ حمَّاد وعَظُم وجمَعَ العساكرَ والأموال. وفي سنة 405ه أظهر حمَّادٌ الخلافَ على ابنِ أخيه باديس وخلَعَه واقتتلا في أوَّلِ جمُادى سنة 406ه، فانهزم حَمَّادٌ هزيمةً شَنيعةً بعد قتالٍ شديدٍ بين الفريقين والتجأ إلى قلعة مغلية، ثمَّ نَهَب دكمة ونقَلَ منها الزَّادَ إلى مغيلة وتحصَّنَ بها وباديس بقُربِه مُحاصِرٌ له إلى أن توفِّيَ باديس فجأةً في ذي القعدة سنة 406. وتولَّى المُعِزُّ بن باديس، واستمَرَّ حمَّادٌ على الخُلفِ معه حتى اقتتلا في سنة 408 عند نيني، موضعٍ، فانهزم حمَّادٌ فلم يعُدْ إلى قتالٍ بعدها، واصطلح مع المعِزِّ على أن يقتَصِرَ حمَّادٌ على ما بيده، وهو عَمَلُ ابنِ عليٍّ وما وراءَه مِن أشير وتاهرت، واستقَرَّ للقائد ابنِ حَمَّاد المسيلة، وطبنة، ومرسى الدجاج، وزواوة، ومقرة، ودكمة وغيرها، وبقي حمَّادٌ وابنُه كذلك حتى مات حمَّاد منتصف سنة 419. واستقَرَّ في المُلكِ بعده ابنُه القائد حتى توفِّي سنة 446. فمَلَك بعده ابنُه محسن بن القائد فأساء وخبطَ وقَتَل في أعمامِه، فقاتله ابنُ عَمِّه بلكين ومَلَك مَوضِعَه في ربيع الأول سنة 447 وبقِيَ حتى غدر ببلكينَ النَّاصِرُ بنُ علناس بن حمَّاد وأخذ منه المُلكَ في رجب سنة 454. واستقَرَّ النَّاصِرُ بن علناس حتى توفِّي سنة 481. ومَلَك بعده ابنُه المنصور بن الناصر إلى أن توفِّي سنة 498. وملَكَ بعده ابنُه باديس بن المنصور يسيرًا وتوفِّيَ.
هو الوَزيرُ الكَبيرُ، أبو غالبٍ مُحمَّدُ بنُ عليِّ بنِ خَلَفِ بنِ الصيرفيِّ الشِّيعيِّ، المُلَقَّبُ فَخر الملك، وزيرُ بهاءِ الدَّولة أبي نصرِ بنِ عضُدِ الدَّولة بن بُوَيه، وبعد وفاتِه وَزَرَ لِوَلَدِه سُلطانِ الدَّولةِ أبي شُجاعٍ فناخِسرو. أصلُه مِن واسِط، وكان أبوه صيرفيًّا، وباسمِه صَنَّفَ كتاب "الفخري" في الجبرِ والمُقابلة. كان صدرًا مُعظَّمًا، جوادًا مُمَدَّحًا، مِن رجالِ الدَّهرِ، وكان مِن صِباه يتعانى المكارِمَ والأفضالَ، ويلَقِّبونَه بالوزيرِ الصَّغيرِ، وكان من أعظَمِ وُزراءِ آلِ بُوَيه على الإطلاقِ بعدَ أبي الفَضلِ مُحَمَّدِ بنِ العَميد والصَّاحِبِ بنِ عَبَّاد، وكان واسِعَ النِّعمةِ، فسيحَ مجالِ الهمَّة، جَمَّ الفضائِلِ، جَزيلَ العَطايا والنَّوال، وكان شَهمًا كافيًا، خبيرًا بالتصَرُّفِ، سديدَ التَّوقيعِ، طَلْقَ المُحَيَّا، يكاتِبُ مُلوكَ النواحي، ويهاديهم، وفيه عَدلٌ في الجُملةِ، عَمَرَت العراقُ في أيَّامِه، أنشأ بيَمارستانًا، ودارًا عَظيميَنِ ببَغداد, وكان من أثَرِ تَشَيُّعِه أنَّه أعاد اللَّطمَ يومَ عاشوراءَ، فثارت الفِتَنُ لذلك سنة406. كانت جوائِزُه متواترةً على العُلَماء والصُّلَحاء والشُّعَراء. وَلِيَ بعضَ الأعمال، وتنَقَّلَت به الأحوالُ إلى أن وَلِيَ ديوانَ واسط، ثم وزَرَ وناب للسُّلطانِ بهاءِ الدَّولة بفارِس، وافتتَحَ قِلاعًا، ثمَّ وَلِيَ العِراقَ بعد عميدِ الجيوش. لم يزَلْ فَخرُ الملك في عِزِّه وجاهِه وحُرمَتِه إلى أنْ نَقَم عليه سُلطانُ الدَّولة، فحَبَسَه ثمَّ قتلَه بسَفحِ جَبَلٍ قريبٍ مِن الأهواز لثلاثٍ بَقِينَ مِن شهرِ ربيع الأول سنة 407, وعاش ثلاثًا وخمسينَ سنةً.
خَرجَ المُستَنصِرُ الفاطمي على عادَتهِ في كلِّ سَنَةٍ يَركبُ على النُّجُبِ ومعه النِّساءُ والحَشَمُ إلى جب عميرة، وهو موضع نُزهَةٍ، ويُغيِّر هَيئتَه، كأنَّه خارجٌ يُريدُ الحَجَّ على سَبيلِ الهَزْرِ والمَجانَةِ، ومعه الخَمْرُ مَحمولٌ في الرَّوايا عِوَضًا عن الماءِ، ويَدورُ به سُقاتِه عليه وعلى مَن معه كأنَّه بِطريقِ الحِجاز أو كأنه ماءُ زمزم؛ واتَّفقَ أن بعضَ الأَتراكِ جَرَّدَ سَيْفًا في سَكْرَةٍ منه على بَعضِ عَبيدِ الشِّراءِ، فاجتَمعَ عليه عِدَّةٌ من العَبيدِ وقَتلوهُ. فغَضِبَ لذلك جَماعةُ الأَتراكِ واجتَمَعوا بأَسرِهم ودَخَلوا على المُستَنصِر، وقالوا: إن كان هذا الذي قُتِلَ مِنَّا على رِضاكَ فالسَّمعُ والطَّاعة، وإن كان قَتْلُه عن غيرِ رِضا أَميرِ المؤمنين فلا صَبرَ لنا على ذلك. وأَنكرَ المُستَنصِر أن قَتْلَه بِرضاهُ أو أَمرِه؛ فخَرجَ الأتراكُ واشتَدُّوا على العَبيدِ يُريدون مُحاربَتَهم، فبَرَزَت العَبيدُ إليهم؛ وكانت بين الفَريقينِ حُروبٌ بِناحِيَةِ كَومِ شَريكٍ قُتِلَ فيها عِدَّةٌ، وانهَزمَ العَبيدُ وقَوِيَت الأتراكُ؛ هذا وأُمُّ المُستَنصِر تَمُدُّ العَبيدَ بالأَموالِ والسِّلاحِ، فاتَّفقَ في بعضِ الأيامِ أن بعضَ الأَتراكِ وقفَ على شيءٍ ممَّا تَبْعَثُ به أُمُّ المُستَنصِر إلى العَبيدِ لِتُعينَهم به على مُحاربةِ الأَتراكِ، فاجتَمَعوا وصاروا إلى المُستَنصِر وتَجَرَّءُوا عليه بالقَولِ وأَغلَظوا في المُخاطبةِ؛ فأَنكرَ أن يكون عندَه مِن ذلك خَبَرٌ، وصار السَّيفُ قائمًا. فدَخلَ على أُمِّه وأَنكرَ عليها ما تَعتمِدهُ مِن تَقويَةِ العَبيدِ وإعانتِهم على مُحاربةِ الأَتراكِ، ثم انتَدبَ وَزيرَهُ أبا الفَرجِ ابن المغربي، فخَرجَ ولم يَزل يَسعى بين الأتراكِ والعَبيدِ حتى أَوقعَ الصُّلحَ بين الفَريقين. فاجتَمعَ العَبيدُ وساروا إلى ناحيةِ شبرا دمنهور. فكانت هذه الكائنةُ أوَّلَ الاختلافِ بين طَوائفِ العَسكر.
هو السُّلطانُ الكبيرُ، رُكْنُ الدِّين، أبو طالبٍ، طُغرلبك محمدُ بن ميكائيل بن سَلجوق بن دقاق أوَّلُ مُلوكِ السَّلاجِقة, وأَصلُ السَّلاجِقة مِن بَرِّ بُخارى؛ لهم عددٌ وقُوَّةٌ وإِقدامٌ، وشَجاعةٌ وشَهامةٌ وزَعارةٌ، فلا يَدخُلون تحتَ طاعةٍ، وإذا قَصدَهُم مَلِكٌ دَخَلوا البَرِّيَّة, ثم إن طُغرلبك عَظُمَ سُلطانُه، وطَوَى المَمالِكَ، واستولى على العِراقِ في سنة 447هـ، وتَحبَّبَ إلى الرَّعيَّةِ بِعَدْلٍ مَشُوبٍ بِجَوْرٍ، وكان حَليمًا كَثيرَ الاحتمالِ، شَديدَ الكِتمانِ للسِّرِّ، مُحافِظًا على الصَّلواتِ، وعلى صَومِ الاثنينِ والخَميسِ، مُواظِبًا على لُبْسِ البَياضِ، ويبني المَساجِد، ويَتصدَّق، سار السُّلطانُ طُغرلبك من بغداد، في رَبيعٍ الأوَّل، إلى بلدِ الجَبَلِ، فوَصلَ إلى الرَّيِّ واستَصحَب معه أرسلان خاتون ابنةَ أَخيهِ، زَوجةَ الخليفةِ، لأنَّها شَكَت إطراحَ الخليفةِ لها، فأَخذَها معه، فمرضَ، فلمَّا كانت ليلةُ الأحدِ الرابع والعشرين من رمضان جاء الخبرُ بأنَّه تُوفِّي في ثامنِ الشهرِ، فثار العَيَّارُون فقَتَلوا وَزيرَ السُّلطانِ عَميدَ المُلْكِ الكندريَّ وسبعمائة من أصحابِه، ونَهَبوا الأموالَ، وجَعَلوا يأكلون ويشربون على القَتْلَى نهارًا، حتى انسلخَ الشهرُ وأُخِذَت البَيْعَةُ بعدَه لِوَلَدِ أخيهِ سُليمان بن داودَ، وكان طُغرلبك قد نَصَّ عليه وأَوصَى إليه، لأنَّه كان قد تَزَوَّج بأُمِّهِ، واتَّفَقَت الكَلمةُ عليه، ولم يبق عليه خَوْفٌ إلَّا مِن جِهَةِ أَخيهِ المَلِكِ عَضُدِ الدَّولةِ ألب أرسلان محمد بن داود، وكان مُدَّةُ مُلْكِ طُغرلبك بحَضرةِ القائمِ بأمرِ الله سبعَ سنين وإحدى عشر شهرًا، واثني عشر يومًا وكان عُمُرُهُ يومَ مات سبعين سنة.
تراسل السلطان محمود والخليفة بشأن السلطان سنجر، وأن يكونا عليه، فلما علم بذلك سنجر كتب إلى ابن أخيه محمود ينهاه ويستميلُه إليه، ويحذِّره من الخليفة، وأنه لا تُؤمَنُ غائلتُه، وأنه متى فرغ مني دار إليك فأخَذَك، فأصغى إلى قول عمِّه ورجع عن عزمه، وأقبل ليدخل بغداد عامَه ذلك، فكتب إليه الخليفةُ ينهاه عن ذلك لقلةِ الأقوات بها، فلم يَقبَل منه، وأقبل إليه، فلما أزِفَ قدومُه خرج الخليفة من داره وتجهَّز إلى الجانب الغربي فشَقَّ عليه ذلك وعلى الناس، ودخل عيد الأضحى فخطب الخليفة الناسَ بنفسه خطبةً عظيمة بليغة فصيحة جدًّا، وكبَّر وراءه خطباء الجوامع، وكان يومًا مشهودًا، ولما نزل الخليفة عن المنبر ذبح البدنة بيده، ودخل السرادِقَ وتباكى الناس ودعوا للخليفة بالتوفيقِ والنصر، ثم دخل السلطان محمود إلى بغداد يوم الثلاثاء الثامن عشر من ذي الحجة، فنزلوا في بيوت الناس وحصل للناس منهم أذًى كثير في حريمهم، ثم إنَّ السلطان راسل الخليفة في الصلح فأبى ذلك الخليفة، وركب في جيشه وقاتل الأتراك ومعه شرذمةٌ قليلة من المقاتلة، ولكن العامةَ كلهم معه، وقتَلَ من الأتراك خلقًا، ثم جاء عماد الدين زنكي في جيشٍ كثيف من واسط في سفن إلى السلطان نجدةً، فلما استشعر الخليفةُ ذلك دعا إلى الصلح، فوقع الصلحُ بين السلطان والخليفة، وأخذ السلطان محمود يستبشر بذلك جدًّا، ويعتذر إلى الخليفة المسترشد بالله مما وقع، ثم خرج في أول السنة الآتية إلى همذان لمرضٍ حصل له.
لما وصل السلطان إلى بغداد في العشرين من ذي الحجة، ونزل بباب الشماسية، ودخل بعضُ عسكره إلى بغداد، ونزلوا في دُورِ الناس، شكا الناسُ ذلك إلى السلطان، فأمر بإخراجِهم، وبَقِيَ فيها مَن له دار، وبقي السلطانُ يراسل الخليفة بالعود، ويطلب الصلحَ، وهو يمتنِعُ، وكان يجري بين العسكرين مناوشة، والعامة من الجانب الغربي يسبون السلطانَ أفحش سَبٍّ. ثم إن جماعة من عسكر السلطان دخلوا دار الخلافة، ونهبوا التاج، وحُجَر الخليفة، أول المحرم، وضجَّ أهل بغداد من ذلك، فاجتمعوا ونادوا الغزاة، فأقبلوا من كلِّ ناحية، ولما رآهم الخليفة خرج من السرادق والشمسة على رأسه، والوزير بين يديه، وأمر بضربِ الكوسات والبوقات، ونادى بأعلى صوته: يا آلَ هاشم! وأمر بتقديم السفن، ونَصْب الجسر وعبرَ الناسُ دفعةً واحدة، وكان له في الدار ألفُ رجل مختفين في السراديب، فظهروا، وعسكرُ السلطانِ مُشتَغِلون بالنهب، فأسر منهم جماعة من الأمراء، ثم عبر الخليفةُ إلى الجانب الشرقي، ومعه ثلاثون ألف مقاتل من أهل بغداد والسواد، وأمر بحفر الخنادق، فحُفِرت بالليل، وحفظوا بغداد من عسكر السلطان، ووقع الغلاءُ عند العسكر، واشتدَّ الأمر عليهم، وكان القتالُ كلَّ يوم عليهم عند أبواب البلدِ وعلى شاطئ دجلة، وعزم عسكر الخليفة على أن يكبِسوا عسكر السلطان، فغدر بهم الأميرُ أبو الهيجاء الكردي، صاحب إربل، وخرج كأنَّه يريد القتال، فالتحق هو وعسكرُه بالسلطان. وقَدِمَ عماد الدين زنكي بقواتٍ ضخمة نجدةً للسلطان فأجاب المسترشد بالله للصُّلحِ.
لما بلغ الفرنجَ قتلُ أبي علي طاهر بن سعيد المزدقاني وزير دمشق الذي كان قد راسلهم على تسليمِهم دمشق؛ عَظُم عليهم ذلك، وتأسَّفوا على دمشق؛ حيث لم يتمَّ لهم ملكها، وعمَّتهم المصيبة، فاجتمعوا كلُّهم: صاحب القدس، وصاحب أنطاكية، وصاحب طرابلس، وغيرُهم من الفرنج وقمامصتهم، ومن وصل إليهم في البحر للتجارة والزيارة، فاجتمعوا في خلق عظيم نحو ألفي فارس، وأما الراجل فلا يُحصى، وساروا إلى دمشق ليحصُروها، ولما سَمِعَ تاج الملوك بذلك جمع العرب والتركمان، فاجتمع معهم ثمانية آلاف فارس، ووصل الفرنجُ في ذي الحجة، فنزلوا البلد، وأرسلوا إلى أعمال دمشق لجمع الميرة والإغارة على البلاد، فلما سمع تاج الملوك أن جمعًا كثيرًا قد ساروا إلى حوران لنهبه وإحضار الميرة؛ سَيَّرَ أميرًا من أمرائه، يعرف بشمس الخواص، في جمعٍ من المسلمين إليهم، وكان خروجُهم في ليلة شاتية كثيرة المطر، ولَقُوا الفرنجَ مِن الغدِ فواقعوهم، واقتتلوا وصبر بعضُهم لبعض، فظفر بهم المسلمون وقتلوهم، فلم يُفلِت منهم غيرُ مُقدَّمِهم ومعه أربعون رجلًا، وأخذوا ما معهم، وهي عشرة آلاف دابة مُوقَرة، وثلاثمائة أسير، وعادوا إلى دمشق لم يمسَسْهم قرحٌ. فلما علم مَن عليها من الفرنج ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب، فرحلوا عنها شبه المنهزمين، وأحرقوا ما تعذَّر عليهم حملُه من سلاح وميرة وغير ذلك، وتبعهم المسلمون، والمطر شديد، والبرد عظيم، يقتلون كلَّ من تخلف منهم، فكثُرَ القتلى منهم، وكان نزولُهم ورحيلُهم في ذي الحجة.