قرَّر أعضاءُ المجلس الأعلى لاتِّحاد حُكَّام الإمارات، إعادةَ انتخابِ الشيخِ خليفةَ بنِ زايد آل نهيان، رئيسًا للدولة للسنواتِ الخمسِ القادمةِ؛ وَفقًا لأحكام دستور دولةِ الإمارات العربية المتحدة. وكان حُكَّامُ الإماراتِ قد اختاروا خليفةَ رئيسًا للدولةِ للمرَّة الأولى في الثَّالثِ من نوفمبر عامَ (2004م) خَلَفًا لوالِدِه الشَّيخِ زايد بن سلطان آل نهيان، وبعد أن أصبحَ حاكِمًا لإمارَةِ أبوظبي في الثَّاني من الشهرِ نفسِه. والشيخُ خليفةُ بن زايد هو ثاني رئيسٍ لدولةِ الإماراتِ، التي أُعلِن قيامُها في الثاني من ديسمبر عامَ (1971م)، وهو الحاكمُ السادسَ عشرَ لإمارة أبوظبي، كُبرى الإماراتِ السبعِ المكوِّنة للاتِّحاد. وُلد خليفة -أكبرُ أنجالِ الشيخِ زايد- عامَ (1948م)، في المِنطَقة الشرقية لإمارةِ أبو ظبي، وتلقَّى تعليمَه الأساسيَّ في مدينة العَين. وكان أولُ منصبٍ رسميٍّ يَشغَلُه هو "ممثِّل الحاكم في المنطقة الشرقية، ورئيس المحاكم فيها"، وذلك في (18 سبتمبر عام 1966م)، ثم عُيِّن وليًّا لعهدِ إمارة أبو ظبي في (الأوَّل من فبراير عام 1969م). وفي الأوَّل من يوليو عامَ (1971م) تولَّى الشيخُ خليفة رئاسةَ أولِ مَجلسِ وُزراءَ محلِّيٍّ لإمارة أبو ظبي، إضافةً إلى تقلُّدِ حقيبتَي الدَّفاع والماليَّة في هذا المجلسِ، وبعد إعلانِ الدولة الاتحاديَّةِ شَغَل -إلى جانبِ مسؤولياتِه المحليةِ- مَنصِبَ نائبِ رئيسِ مجلسِ الوُزَراء في الحكومةِ الاتحاديةِ، التي تمَّ تشكيلُها في ديسمبر عام (1973م). وفي فبراير من عام (1974م)، وبعد إلغاء مَجلس الوُزراء المَحليِّ أصبحَ خليفةُ أولَ رئيسٍ للمجلسِ التنفيذي الذي حلَّ محلَّ مجلسِ وُزراء الإمارة في اختصاصاتِه جَميعِها. وفي عهده أُجرِيَت أولُ انتخاباتٍ من نوعِها في دولة الإمارات؛ وذلك لاختيارِ نصفِ أعضاءِ المجلس الوطني الاتحاديِّ.
بعد أن انصرفَ خالدٌ مِن عَيْنِ التَّمْرِ أقام بدُومَة الجَندلِ فظَنَّ الفُرْسُ أنَّه قد غادَر العِراقَ مُتوجِّهًا إلى الجَزيرةِ العربيَّة مع القسم الأكبر مِن قُوَّاتِه، فأرادوا طَرْد قُوَّاتِه مِن العِراق، واستعادَة الأراضي التي فتَحها المسلمون؛ فطَمِع الأعاجمُ، وكاتَبَهم عربُ الجَزيرةِ غضبًا لِعَقَّةَ، فخرَج زرمهر وروزبه يُريدان الأنبارَ، واتَّعدا حُصيدًا والخَنافِسَ، فسمِع القعقاعُ بن عَمرٍو وهو خَليفةُ خالدٍ على الحِيرَةِ، فأرسل أَعْبَدَ بن فَدَكِيٍّ وأَمَره بالحُصيدِ (وادٍ بين الكوفة والشام)، وأرسَل عُروةَ بن الجَعْدِ البارقيَّ إلى الخَنافِسِ، ورجَع خالدٌ مِن دُومة إلى الحِيرَةِ وهو عازِمٌ على مُصادَمَةِ أهلِ المدائن مَحَلَّةِ كِسرى، لكنَّه كَرِهَ أن يَفعلَ ذلك بغيرِ إذن أبي بكرٍ الصِّدِّيق، وشَغلَه ما قد اجتمع مِن جُيوش الأعاجمِ مع نَصارى الأعرابِ يُريدون حَربَهُ، فبعَث القعقاعَ بن عَمرٍو أميرًا على النَّاس، فالْتَقَوْا بمكانٍ يُقال له: الحُصيد، وعلى العجمِ رجلٌ منهم يُقال له: روزبه، وأَمَدَّهُ أميرٌ آخرٌ يُقال له: زرمهر، فاقتتلوا قِتالًا شديدًا، وهُزِم المشركون وقتَل منهم المسلمون خلقًا كثيرًا، وقَتَل القَعقاعُ بِيَدِهِ زرمهر، وقَتَل رجلٌ يُقال له: عِصْمَةُ بن عبدِ الله الضَّبِّيُّ روزبه. وغَنِمَ المسلمون شيئًا كثيرًا، وهرَب من هرَب مِن العجمِ، فلَجأوا إلى مكان يُقال له: خَنافِس، فسار إليهم أبو ليلى بن فَدَكِيٍّ السَّعديُّ، فلمَّا أحسُّوا بذلك ساروا إلى المُصَيَّخِ، وعندما وصل أبو ليلى إلى الخَنافِس وجدَها خالية مِن الفُرْس، فأقام بها مُدَّةً، ثمَّ أرسل إلى خالدِ بن الوَليد يُنهي إليه أنباءَ استيلائِه على المدينةِ، ويُخبِرهُ بفِرارِ الفُرْس إلى المُصَيَّخ، فلمَّا استقرَّ الفُرْسُ بالمُصَيَّخ بمن معهم مِن الأعاجم والأعارِب قصَدهم خالدُ بن الوَليد بمَن معه مِن الجُنود، وقَسَّم الجيشَ ثلاث فِرَقٍ، وأغار عليهم ليلًا وهُم نائِمون فأَنامَهُم، ولم يُفْلِت منهم إلَّا اليَسيرُ فما شُبِّهُوا إلَّا بِغَنَمٍ مُصَرَّعَةٍ.
عبر علاء الدين محمد خوارزم شاه نهر جيحون لقتال الخطا، وسبب ذلك أن الخطا كانوا قد طالت أيامهم ببلاد تركستان، وما وراء النهر، وثقُلت وطأتُهم على أهلها، ولهم في كل مدينة نائب يجبي إليهم الأموال، فاتفق أن سلطان سمرقند وبخارى، أنف وضجر من تحكُّم الكفار على المسلمين، فراسل خوارزم شاه يقول له: إن اللهَّ عزَّ وجلَّ قد أوجب عليك بما أعطاك مِن سَعة الملك وكثرة الجنود أن تستنقِذَ المسلمين وبلادهم من أيدي الكفار، فسيَّرَ إليه صاحبُ سمرقند وجوه أهل بخار وسمرقند، بعد أن حلفوا صاحبهم على الوفاء بما تضمنه، وضمنوا عنه الصدق والثبات على ما بذل، وجعلوا عند خوارزم رهائن، فشرع في إصلاح أمر خراسان، وتقرير قواعدها، وجمع عساكره جميعها، وسار إلى خوارزم، وتجهَّزَ منها، وعبر جيحون، واجتمع بسلطان سمرقند، ولَمَّا سمع الخطا به حشدوا وجمعوا وجاؤوا إليه، فجرى بينهم وقعات كثيرة ومغاورات، فتارة له وتارة عليه، ثم دخل خوارزم شاه نيسابور، وأصلح أمرها، وجعل فيها نائبًا، وسار إلى هراة، فنزل عليها مع عسكره الذين يحاصرونه، وزحف إليه بعسكره، فلم يكن فيه حيلة، فاتفقَ جماعة من أهل هراة وقالوا: هلك الناسُ من الجوع والقلة، وقد تعطلت علينا معايشنا، وقد مضى سنة وشهر، وكان الوزير يعِدُ بتسليم البلد إلى خوارزم شاه إذا وصل إليه، وقد حضر خوارزم شاه ولم يسَلِّم، ويجب أن نحتال في تسليم البلد والخلاص من هذه الشدة التي نحن فيها، فانتهى ذلك إلى الوزير، فبعث إليهم جماعة من عسكره، وأمرهم بالقبضِ عليهم، فمضى الجند إليهم، فثارت فتنة في البلد عظُمَ خَطبُها، فاحتاج الوزير إلى تداركها بنفسه، فمضى لذلك، فكتب من البلد إلى خوارزم شاه بالخبر، وزحف إلى البلد وأهله مختلطون، فخربوا برجين من السور، ودخلوا البلد فملكوه، وقبضوا على الوزير، فقتله خوارزم شاه، وملَكَ البلد، وذلك سنة 605، وأصلح حاله، وسلمه إلى خاله أمير ملك، وهو من أعيان أمرائه، فلم يزل بيده حتى هلك خوارزم شاه.
هو الملِكُ الظاهر سيف الدين أبو الفتح ططر بن عبد الله الظاهري الشركسي, ربَّاه بعض التجار، وعلَّمه شيئًا من القرآن وفِقهَ الحنفية، وقَدِمَ به القاهرة في سنة 801، وهو صبيٌّ، فدل عليه الأمير قانبيه العلاي لقرابته به، فسأل السلطان الملك الظاهر برقوق فيه حتى أخذه من تاجره، ونزله في جملة مماليك الطباق، فنشأ بينهم، وكان الملك الظاهر برقوق أعتقه بسفارة الأمير جرباش الشيخي. بعد وفاة الملك المؤيد شيخ بويعَ ابنُه الملك المظفر أحمد، وقام الأمير الكبير ططر بأعباء الدولة، وخلع عليه لالا -مربي- للسلطان وكافله. ثم عزل ططر المظفر أحمد؛ لصِغَر سنِّه، وأخذ البيعة بالسلطنة لنفسه, وفي أول ذي الحجة يوم الخميس زاد مرض السلطان الظاهر ططر، والإرجاف بمرضه كبير، ثم في يوم الجمعة استدعى الخليفة والقضاة إلى القلعة، وقد اجتمع الأمراء والمباشرون والمماليك، وعهد السلطان لابنه الأمير محمد، وأن يكون القائم بدولته الأمير جانبك الصوفي، والأمير برسباي الدقماقي لالا -مربي السلطان- فحلف الأمراء على ذلك، كما حلفوا لابن الملك المؤيد، فلما كانت ضحوة نهار الأحد رابعَه توفي السلطان، فاضطرب الناس ساعة، ثم غُسِّل وأخرج من باب السلسلة، وليس معه إلا نحو العشرين رجلًا، حتى دُفن بجوار الليث بن سعد من القرافة، فكانت مدة تحكمه منذ مات المؤيد أحد عشر شهرًا تنقص خمسة أيام، منها مدة سلطنته أربعة وتسعين يومًا، أما السلطان الجديد فهو محمد بن الظاهر ططر أقيم في السلطنة بعهد أبيه إليه، وعمره نحو العشر سنين، عقيب موت أبيه، وفي يوم الأحد رابع ذي الحجة من هذه السنة اجتمع الأمراء بالقلعة إلا الأمير جانبك الصوفي فإنه لم يحضر، فما زالوا به حتى حضر، وأجلسوا السلطان، ولقَّبوه بالملك الصالح ناصر الدين، وفوَّض الخليفة إلى الأمير الكبير نظام الملك برسباي أمورَ المملكة بأسرها؛ ليقوم بها إلى أن يبلغ السلطان رُشدَه، وحكم بصحة ذلك قاضي القضاة الحنفي.
قالتْ أمُّ سَلمةَ رضي الله عنها: لمَّا ضاقتْ علينا مكَّة، وأوذِيَ أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وفُتنوا، ورَأَوْا ما يُصيبهُم مِنَ البلاءِ والفِتنةِ في دينهِم، وأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيعُ دفعَ ذلك عنهُم، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مَنَعَةٍ من قومهِ وعمِّه، لا يَصِلُ إليه شيءٌ ممَّا يَكرهُ ممَّا ينالُ أصحابَه، فقال لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ بأرضِ الحَبشةِ مَلِكًا لا يُظلمُ عنده، فالحقوا ببلادهِ حتَّى يجعلَ الله لكم فَرَجًا ومَخرجًا ممَّا أنتم فيهِ. فخرجنا إليها حتَّى اجتمعنا بها، فنزلنا بخيرِ دارٍ إلى خيرِ جارٍ، أَمَّنَّا على ديننا، ولم نخشَ منه ظُلمًا.... وقيل: كان مخرجهُم إلى الحَبشةِ في رجبٍ في السَّنةِ الخامسةِ مِنَ البِعثةِ النَّبويَّةِ. هاجر مِنَ المسلمين فيها اثنا عشرَ رجلًا، وأربعُ نِسوةٍ، منهم عُثمانُ بنُ عفَّانَ، وهو أوَّلُ من خرج ومعه زوجتُه رُقيَّةُ بنتُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
لمَّا بَلَغَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثَمانيَ سنواتٍ توُفِّي جدُّه عبد المطلب. وكان عبدُ المُطَّلِب لمَّا حَضَرته الوفاةُ أوصى ابنَه أبا طالبٍ بحِفظِ رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وحياطَتِه، والقيامِ عَليهِ، وأوصَى به إلى أبي طالِبٍ؛ لأنَّ عبدَ الله -والِدَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وأبا طالبٍ كانا لأُمٍّ واحدةٍ، فلمَّا مات عبدُ المطلب كان أبو طالِبٍ هو الذي يَلي أمْرَ رسولِ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد جدِّه. ورَوَى ابنُ سعدٍ، وابنُ عساكِرَ عن ابن عبَّاسٍ رَضي اللهُ عنهما، وغَيرِه، قالوا: لمَّا توُفِّيَ عبدُ المطلب قَبَضَ أبو طالبٍ رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فكان يكونُ معه، وكان يُحِبُّه حبًّا شديدًا لا يُحِبُّ وَلَدَه مِثله، وكان لا يَنامُ إلَّا إلى جَنبِه، وكان يَخُصُّه بالطَّعامِ، وكان عيالُ أبي طالِبٍ إذا أكلوا جميعًا أو فُرادَى لم يَشبَعوا، وإذا أكَل معهم رسولُ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَبِعوا. وكان أبو طالِبٍ إذا أراد أن يُغدِّيَهم أو يُعشِّيَهم يقول: كما أنتُم حتى يَحضُرَ ابني. فيَأتي رسولُ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيأكُلُ معهم فيُفضِلون من طَعامِهم، وإن لم يَكُن معهم لم يُشبِعْهم، وإن كان لَبنًا شَرِبَ هو أوَّلَهم ثم يتناوَلُ العيالُ القَعْبَ -إناءٌ ضخمٌ كالقَصْعةِ- فيَشرَبون منه فيُروَون عن آخِرِهم من القَعبِ الواحِدِ، وإن كان أحدُهم لَيَشرَبُ قَعبًا وَحدَه، فيقول أبو طالبٍ: "إنَّكَ لَمُبارَكٌ!".
بعد ما فعل المغول في سمرقند ما فعلوه أخذ جنكيزخان يرسِلُ السَّرايا إلى البلدانِ فأرسل سريةً إلى بلاد خراسان وتسميها التتار المغربة، وأرسل أخرى وراء خوارزم شاه، ثم ساروا إلى مازندران وقلاعها من أمنَعِ القلاع، بحيث إن المسلمين لم يفتحوها إلَّا في سنة تسعين من أيام سليمان بن عبد الملك، ففتحها هؤلاء في أيسَرِ مُدَّة ونهبوا ما فيها وقتَلوا أهاليها كلَّهم وسَبَوا وأحرقوا، ثمَّ ترحلوا عنها نحو الريِّ فدخلوها على حينِ غفلةٍ مِن أهلها فقَتَلوهم وسَبَوا وأسروا، ثم ساروا إلى همذان فمَلَكوها ثم إلى زنجان فقتلوا وسبوا، ثم قصدوا قزوين فنهبوها وقَتَلوا من أهلها نحوًا مِن أربعين ألفًا، ثم تيمَّموا بلاد أذربيجان فصالحَهم مَلِكُها أزبك بن البهلوان على مالٍ حَمَله إليهم لشُغلِه بما هو فيه من السُّكرِ وارتكابِ السيئات والانهماك على الشَّهواتِ، فتركوه وساروا إلى موقان فقاتلهم الكرج في عشرة آلاف مقاتل، فلم يقفوا بين أيديهم طرفةَ عين حتى انهزمت الكرج, ثم أقبَلوا إليهم مرَّةً أخرى بحدِّهم وحديدِهم، فكسرَتْهم التتار في وقعة ثانية أقبَحَ هزيمة وأشنَعَها، وانقضت هذه السنةُ وهم في بلاد الكرج، فلما رأوا منهم ممانعةً ومقاتلة يطول عليهم بها المقام عَدَلوا إلى غيرهم، وكذلك كانت عادتهم فساروا إلى تبريز فصالحَهم أهلها بمال، ثم ساروا إلى مراغة فحَصَروها ونصبوا عليها المجانيقَ وتترسوا بالأسارى من المسلمين، وعلى البلد امرأةٌ ففتحوا البلد بعد أيام وقتلوا من أهله خلقًا لا يعلم عدتَهم إلا الله عز وجل، وغنموا منه شيئًا كثيرًا، وسَبَوا وأسروا على عادتهم, ثم قصدوا مدينة إربل فضاق المسلمون لذلك ذرعًا، وقال أهل تلك النواحي هذا أمر عصيب، وكتب الخليفةُ إلى أهل الموصل والمَلِك الأشرف صاحب الجزيرة يقول: إني قد جهَّزتُ عسكرًا فكونوا معه لقتالِ هؤلاء التتار، فأرسل الأشرفُ يعتذر إلى الخليفة بأنه متوجِّه نحو أخيه الكامل إلى الديار المصرية بسبب ما قد دهم المسلمين هناك من الفرنج، وأخْذهم دمياط الذي قد أشرفوا بأخذهم له على أخذ الديار المصرية قاطبة، فكتب الخليفة إلى مظفَّر الدين صاحب إربل ليكون هو المقدم على العساكر التي يبعثها الخليفة وهي عشرة آلاف مقاتل، فلم يَقدَم عليه منهم ثمانمائة فارس ثم تفَرَّقوا قبل أن يجتمعوا، ولكنَّ الله سلم بأن صرف همة التتار إلى ناحية همذان فصالحَهم أهلُها وترك عندهم التتار شحنة، ثم اتفقوا على قتلِ شحنتِهم فرجعوا إليهم فحاصروهم حتى فتحوها قسرًا وقتلوا أهلَها عن آخرهم، ثم ساروا إلى أذربيجان ففتحوا أردبيل ثم تبريز ثم إلى بيلقان فقتلوا من أهلها خلقًا كثيرًا وجمًّا غفيرا، وحرقوها وكانوا يفجُرون بالنساء ثم يقتلونهنَّ ويشقون بطونهنَّ عن الأجنَّة ثم عادوا إلى بلاد الكرج وقد استعدت لهم الكرج فاقتتلوا معهم فكسروهم أيضًا كسرة فظيعة، ثم فتحوا بلدانًا كثيرة يقتلون أهلها ويسبون نساءها ويأسرون من الرجالِ ما يقاتلون بهم الحصون، يجعلونَهم بين أيديهم ترسًا يتقون بهم الرميَ وغيره، ومن سلم منهم قتلوه بعد انقضاء الحرب، ثم ساروا إلى بلاد اللان والقبجاق فاقتتلوا معهم قتالًا عظيمًا فكسروهم وقصدوا أكبَرَ مدائن القبجاق وهي مدينة سوداق وفيها من الأمتعة والثياب والتجائر شيءٌ كثير جدًّا، ولجأت القبجاق إلى بلاد الروس وكانوا نصارى فاتفقوا معهم على قتال التتار فالتَقَوا معهم فكسرتهم التتار كسرةً فظيعةً جدًّا، ثم ساروا نحو بلقار في حدود سنة620, ففرغوا من ذلك كلِّه ورجعوا نحو مَلِكهم جنكيزخان، هذا ما فعلته هذه السرية المغربة، وكان جنكيزخان قد أرسل سرية في هذه السنة إلى كلانة وأخرى إلى فرغانة فملكوها، وجهز جيشًا آخر نحو خراسان فحاصروا بلخ فصالحهم أهلُها، وكذلك صالحوا مدنًا كثيرة أخرى، حتى انتهوا إلى الطالقان فأعجزتهم قلعتها وكانت حصينةً فحاصروها ستة أشهر حتى عجزوا فكتبوا إلى جنكيزخان فقَدِمَ بنَفسِه فحاصرها أربعة أشهر أخرى حتى فتحها قهرًا، ثم قتل كل من فيها وكل من في البلد بكماله خاصةً وعامة، ثم قصدوا مدينةَ مرو مع جنكيزخان فقد عسكر بظاهرها نحو من مائتي ألف مقاتل من العرب وغيرهم فاقتتلوا معه قتالًا عظيمًا حتى انكسر المسلمون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ثم حصروا البلد خمسة أيام واستنزلوا نائبها خديعةً ثم غدروا به وبأهل البلد فقتلوهم وغَنِموهم وسلبوهم وعاقبوهم بأنواع العذاب، حتى إنهم قتلوا في يوم واحد سبعمائة ألف إنسان، ثم ساروا إلى نيسابور ففعلوا فيها ما فعلوا بأهل مرو، ثم إلى طوس فقتلوا وخربوا مشهدَ علي بن موسى الرضا، وخربوا تربة الرشيد الخليفة فتركوه خرابًا، ثم ساروا إلى غزنة فقاتلهم جلال الدين بن خوارزم شاه فكسَرَهم ثم عادوا إلى ملكهم جنكيزخان، وأرسل جنكيزخان طائفة أخرى إلى مدينة خوارزم فحاصروها حتى فتحوا البلد قهرًا فقتلوا من فيها قتلًا ذريعًا، ونهبوها وسبوا أهلها وكسروا الجسر الذي يمنع ماء جيحون منها فغرقت دورها وهلك جميع أهلها ثم عادوا إلى جنكيزخان وهو مخيم على الطالقان فجهز منهم طائفة إلى غزنة فاقتتل معهم جلال الدين بن خوارزم شاه فكسرهم جلال الدين كسرة عظيمة، واستنقذ منهم خلقًا من أسارى المسلمين، ثم كتب إلى جنكيزخان يطلب منه أن يبرز بنفسِه لقتاله، فقصده جنكيزخان فتواجَها وقد تفَرَّق على جلال الدين بعضُ جيشه ولم يبق بدٌّ من القتال، فاقتتلوا ثلاثة أيام لم يُعهَد قبلها مثلها من قتالهم، ثم ضَعُف أصحاب جلال الدين فذهبوا فركبوا بحر الهند فسارت التتار إلى غزنة فأخذوها بلا كلفة ولا ممانعة.
بلَغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ يَسيرَ بنَ رِزامٍ اليَهوديَّ يَجمعُ غَطَفانَ لِيَغزو بهم المدينةَ، فبعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بنَ رَواحةَ في ثلاثين راكبًا إلى يَسيرِ بنِ رِزامٍ حتَّى أَتَوْهُ بِخَيبرَ، فقالوا: أَرسلَنا إليك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِيَستعمِلَك على خَيبرَ, فلم يزالوا به حتَّى تَبِعَهُم في ثلاثين رجلًا مع كُلِّ رجلٍ منهم رَديفٌ مِنَ المسلمين، فلمَّا بلغوا قَرْقَرَةَ نِيارٍ نَدِمَ يَسيرُ بنُ رِزامٍ فأَهوى بيدِه إلى سَيفِ عبدِ الله بنِ رَواحةَ، ففَطِنَ له عبدُ الله بنُ رَواحةَ فزَجَر بَعيرَهُ ثمَّ اقْتَحَم يَسوقُ بالقَومِ، حتَّى اسْتمكَن مِن يَسيرٍ فضرَب رِجلَهُ فقطَعها، واقْتحَم يَسيرٌ وفي يدِه مِخْراشٌ مِن شَوْحَطٍ فضرَب به وَجْهَ عبدِ الله بنِ رَواحةَ فشَجَّهُ شَجَّةً مَأمومةً, وانْكفَأ كُلُّ رَجُلٍ مِنَ المسلمين على رَديفِه فقَتلهُ، غَيرَ رَجُلٍ واحدٍ مِنَ اليَهودِ أعَجزَهُم شَدًّا ولم يُصِبْ مِنَ المسلمين أحدًا، فبَصَقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في شَجَّةِ عبدِ الله بنِ رَواحةَ فلم تُقَيَّحْ ولم تُؤْذِهِ حتَّى مات.
اجتمعت الفرنج على قصد مدينة صور وحَصْرِها، فساروا إليها مع الملك بغدوين، صاحب القدس، وحشدوا وجمعوا ونازلوها وحصروها في الخامس والعشرين من جمادى الأولى، وعملوا عليها ثلاثة أبراج خشب، عُلوُّ البرج سبعون ذراعًا، وفي كل برج ألف رجل، ونصبوا عليها المجانيق، وألصقوا أحدها إلى سور البلد، وأخلَوه من الرجال، وكانت صور للآمر بأحكام الله الفاطمي ونائبه بها عز الملك الأعز، فأحضر أهل البلد واستشارهم في حيلةٍ يدفعون بها شرَّ الأبراج عنهم، فقام شيخ من أهل طرابلس وضَمِنَ على نفسه إحراقها، وأخذ معه ألف رجل بالسلاح التام، ومع كل رجل منهم حِزمةُ حطب، فقاتلوا الفرنج إلى أن وصلوا إلى البرج الملتصق بالمدينة، فألقى الحطبَ من جهاته، وألقى فيه النار، ثم خاف أن يشتغل الفرنج الذين في البرج بإطفاء النار، ويتخلَّصوا، فرماهم بجربٍ كان قد أعدها مملوءة من العَذِرة، فلما سقطت عليهم اشتغلوا بها وبما نالهم من سوء الرائحة والتلويث، فتمكَّنت النار منه، فهلك كلُّ من به إلا القليلَ، وأخذ منه المسلمون ما قدروا عليه بالكلاليب، ثم أخذ سلال العنب الكبار، وترك فيها الحطب الذي قد سقاه بالنفط والزفت والكتان والكبريت، ورماهم بسبعين سلة، وأحرق البرجين الآخرين، ثم إن أهل صور حفروا سراديب تحت الأرض ليسقُطَ فيها الفرنج إذا زحفوا إليهم، ولينخسف برج إن عملوه وسيروه إليهم، فاستأمن نفرٌ من المسلمين إلى الفرنج، وأعلموهم بما عملوه، فحذروا منها، وأرسل أهل البلد إلى أتابك طغتكين، صاحب دمشق، يستنجدونه ويطلبونه ليسلِّموا البلد إليه، فسار في عساكره إلى نواحي بانياس، وسَيَّرَ إليهم نجدة مائتي فارس، فدخلوا البلد فامتنع من فيه بهم، واشتد قتالُ الفرنج خوفًا من اتصال النجدات، ففني نشاب الأتراك، فقاتلوا بالخشب، وفني النفط، فظفروا بسرب تحت الأرض فيه نفط لا يُعلَم من خزنه، ثم إن عز الملك، صاحب صور، أرسل الأموالَ إلى طغتكين لِيُكثِرَ من الرجال ويقصدهم ليملك البلد، فأرسل طغتكين طائرًا فيه رقعةٌ لِيُعلِمَه وصول المال، ويأمره أن يقيم مركبًا بمكان ذكره لتجيءَ الرجال إليه، فسقط الطائر على مركب الفرنج، فأخذه رجلان: مسلم وفرنجي، فقال الفرنجي: نطلقه لعلَّ فيه فرجًا لهم، فلم يمكِّنْه المسلم، وحمله إلى الملك بغدوين، فلما وقف عليه سَيَّر مركبًا إلى المكان الذي ذكره طغتكين، وفيه جماعة من المسلمين الذين استأمنوا إليه من صور، فوصل إليهم العسكر، فكلموهم بالعربية، فلم ينكروهم، وركبوا معهم، فأخذوهم أسرى، وحملوهم إلى الفرنج، فقتلوهم وطمعوا في أهل صور، فكان طغتكين يُغير على أعمال الفرنج من جميع جهاتها، وقصَدَ حصن الحبيس في السواد من أعمال دمشق، وهو للفرنج، فحصره وملكه بالسيف، وقتل كل من فيه، وعاد إلى الفرنج الذين على صور، وكان يَقطَع الميرةَ عنهم في البر، فأحضروها في البحر، وخندقوا عليهم ولم يخرجوا إليه، فسار إلى صيدا وأغار على ظاهرها، فقتل جماعة من البحرية، وأحرق نحو عشرين مركبًا على الساحل، وهو مع ذلك يواصِلُ أهل صور بالكتب يأمرهم بالصبر، والفرنج يلازمون قتالهم، وقاتل أهل صور قتالَ من أيس من الحياة، فدام القتالُ إلى أوان إدراك الغلَّات، فخاف الفرنج أن طغتكين يستولي على غلات بلادهم، فساروا عن البلد عاشر شوال إلى عكا، وعاد عسكر طغتكين إليه، وأعطاهم أهل صور الأموال وغيرها، ثم أصلحوا ما تشعَّث من سورها وخندقها، وكان الفرنج قد طَمُّوه.
تعاهدت ثلاثون دولة أوربية وأسيوية ضد العثمانيين سنة 872 في الثاني من شباط/ فبراير (1468م)، وحاولت قوات التحالف ضم مملكة المماليك المصرية السورية إليهم، ولكن دولة المماليك رفضت ذلك؛ لاشتراكهم مع العثمانيين بالدين والمذهب، وعبأت دول التحالف قواها العسكرية، وخاضت ضد العثمانيين معارك فاشلة، ثم تعاهدت على خوض المعركة العمومية الكبرى بحرًا وبرًّا، وبدأت المعارك البحرية ضد العثمانيين في سواحل البحر الأبيض المتوسط انطلاقًا من قبرص، وتحرك أوزون حسن الآق قوينلو التركماني زعيم دولة الخرفان في إيران بجيش يتجاوز عدده الثلاثمائة ألف خيَّال، وغادر خربوط قاصدًا أرزنجان. وترك السلطان محمد الفاتح قوةً كافية لحماية إسلامبول، وترك ابنه الأصغر جَمَّ سلطان نائبًا عنه أثناء غيابه، وتحرك السلطانُ الفاتح من إسلامبول سنة 877 (11/4/ 1473م) ومعه مائة وتسعون ألف مجاهد يتوزعون في خمسة فيالق. وكان الفاتح يقود فيلق المقدمة، ويقود فيلق الميمنة ابنه الأمير بايزيد الثاني، ويقود الفيلق الأيسر ابنه الأمير مصطفى، وترك في المؤخرة فيلقين للالتفاف على العدو، ووصل إلى سيواس، وقصد عدوه المتآمر، فوصل إلى الجنوب من غومش خانة التركية الشرقية في 11/8/ 1473م، وحصلت المعركة التصادمية في سُهُوب بلدة أوطلوق بلي "Otlukbeli" الواقعة شمال شرق مركز محافظة أرزنجان التركية. وتحركت في البلقان قوات الحلفاء التابعة لملك المجر متياس، وإمبراطور ألمانيا فريدرك الثالث، وملك البندقية وتوابعه، وقرر الحلفاء تكرار هزيمة القوات العثمانية مثلما حصل قبل ذلك بإحدى وسبعين سنة في موقعة أنقرة بين السلطان العثماني بايزيد الأول، والطاغية تيمورلنك. ودارت الحرب العالمية بين سلطان المسلمين محمد الفاتح وأعدائه الأوربيين وعملائهم المرتدين الأسيويين، فهجمت أساطيل البندقية وغيرها على المواقع البحرية العثمانية، ولكنها صُدَّت، ولم تحقق انتصارًا يُذكر، وفشلت القوات البرية في البلقان بقيادة الإمبراطور الألماني فريديرك، وملك المجر متياس، وتراجعت أمام هجمات فرسان الرومللي العثمانيين, وبدأت المعركة البرية الكبرى بين قوات السلطان محمد الفاتح، وقوات حسن الطويل التركماني، وانطلقت قذائف المدفعية العثمانية، وبدأ حصاد فرسان العدو، وأوعز الفاتح لفيلقي الاحتياط بالالتفاف على العدو، فشكَّلا فكَّي كمَّاشة، ومنعا عساكر العدو من الفرار، وقَتَلَ الأمير العثماني مصطفى بن الفاتح قائدَ الجناح المعادي زينل ميرزا بن حسن الطويل، وأسر ثلاثة أمراء تيموريين، وهجم الأمير العثماني بايزيد الثاني على سرادق حسن الطويل، فهرب حسن الطويل، من ميدان المعركة، وقال لحليفه القره ماني أحمد بك: "يا قره مان أوغلو خرَّب الله بيت سلالتك، سَبَّبْتَ خزيي وعاري، مالي وبني عثمان؟" وأمر الفاتح بعدم ملاحقة الفارين، ومكث في الميدان مدة ثلاثة أيام يتفقد الجرحى والشهداء، وينظِّم أمور الأسرى، وطلب حسن الطويل الصلح، فأجابه الفاتح، ووقَّعا معاهدة صلح تضمنت اعتراف حسن الطويل بامتلاك العثمانيين لمملكتي طرابزون وقره مان، وأصبح حليفًا للعثمانيين في آسيا هو وأولاده من بعده.
دخل أبو طاهر القرمطيُّ الكوفةَ، وكان سببُ ذلك أنَّ أبا طاهر أطلقَ مَن كان عنده من الأسرى الذين كان أسَرَهم من الحُجَّاج، وفيهم ابنُ حمدان وغيره، وأرسل إلى المقتَدِر يطلُبُ البصرة والأهواز، فلم يجِبْه إلى ذلك، فسار من هَجَر يريد الحاجَّ، وكان جعفرُ بن ورقاء الشيبانيُّ متقلِّدًا أعمالَ الكوفة وطريق مكَّة، فلمَّا سار الحُجَّاج من بغداد سار جعفر بين أيديهم خوفًا من أبي طاهر، ومعه ألف رجلٍ من بني شيبان، وسار مع الحُجَّاج من أصحاب السلطانِ القائِدُ ثَمل الخادِمُ صاحب البحر، وجنِّي الصفوانيُّ، وطريف السبكريُّ وغيرهم، في ستَّة آلاف رجل، فلقيَ أبو طاهر القرمطيُّ جعفرًا الشيبانيَّ، فقاتله جعفر، فبينما هو يقاتلُه إذ طلع جمعٌ من القرامطة عن يمينه، فانهزم من بين أيديهم، فلقِيَ القافلةَ الأولى وقد انحدرت من العَقَبة، فردَّهم إلى الكوفة ومعهم عسكرُ الخليفة، وتبعهم أبو طاهرٍ إلى باب الكوفة، فقاتلهم فانهزم عسكرُ الخليفة، وقَتَلَ منهم، وأسَرَ جنِّيًّا الصفوانيَّ، وهرب الباقون والحُجَّاج من الكوفة، ودخلها أبو طاهر، وأقام ستَّة أيَّام بظاهر الكوفة يدخُلُ البلد نهارًا فيقيمُ في الجامع إلى الليل، ثمَّ يخرج يبيتُ في عسكره، وحمل منها ما قدَرَ على حَملِه من الأموال والثِّياب وغير ذلك، وعاد إلى هَجَر، ودخل المنهزمون بغداد، فتقدَّم المقتَدِر إلى مؤنسٍ المظفَّر بالخروج إلى الكوفة، فسار إليها، فبلغها وقد عاد القرامطةُ عنها، فاستخلف عليها ياقوتًا، وسار مؤنِسٌ إلى واسط خوفًا عليها من أبي طاهرٍ، وخاف أهلُ بغداد، وانتقل الناسُ إلى الجانب الشرقيِّ، ولم يحجَّ في هذه السنة من الناسِ أحدٌ.
كانت بين يوسُفَ بنِ أبي الساج وبين أبي طاهرٍ القرمطيِّ عند الكوفة موقعةٌ، فسبقه إليها أبو طاهر فحال بينه وبينها، فكتب إليه يوسُفُ بنُ أبي الساج: اسمَعْ وأطِعْ، وإلا فاستعِدَّ للقتالِ يوم السبت تاسِعَ شوال منها، فكتب: هلُمَّ، فسار إليه، فلما تراءى الجمعانِ استقَلَّ يوسف جيشَ القرمطي، وكان مع يوسُفَ بن أبي الساج عشرونَ ألفًا، ومع القرمطي ألفُ فارس وخمسمائة رجل. فقال يوسف: وما قيمةُ هؤلاء الكلابِ؟ وأمر الكاتِبَ أن يكتب بالفتحِ إلى الخليفة قبل اللِّقاء، فلما اقتتلوا ثبت القرامطة ثباتًا عظيمًا، ونزل القرمطي فحَرَّض أصحابَه وحمل بهم حملةً صادقة، فهزموا جندَ الخليفة، وأسروا يوسُفَ بن أبي الساج أميرَ الجيش، وقتلوا خلقًا كثيرًا من جند الخليفة، واستحوذوا على الكوفةِ، وجاءت الأخبار بذلك إلى بغداد، وشاع بين الناسِ أنَّ القرامطة يريدون أخذَ بغداد، فانزعج النَّاسُ لذلك وظَنُّوا صِدقَه، فاجتمع الوزيرُ بالخليفة فجهَّزَ جيشًا أربعين ألف مقاتِلٍ مع أمير يقال له بليق، فسار نحوهم، فلما سَمِعوا به أخذوا عليه الطُّرُقات، فأراد دخول بغداد فلم يُمكِنْه، ثم التقَوا معه فلم يلبَثْ بليق وجيشه أن انهزم، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون. وكان يوسُفُ بنُ أبي الساج معهم مقيَّدًا في خيمةٍ، فجعل ينظر إلى محلِّ الوقعة، فلما رجع القرمطي قال: أردتَ أن تهربَ؟ فأمر به فضُرِبَت عنقه. ورجع القرمطي من ناحيةِ بغداد إلى الأنبار، ثم انصرف إلى هيتَ.
هو إمامُ اللُّغةِ، أبو الحُسينِ عَلِيُّ بن إسماعيلَ المرسي نِسبةً إلى مَدينةِ مرسية في شَرقِ الأَندَلُس المُعروفُ بابنِ سِيدَه، وأَحَدُ مَن يُضرَب بِذَكائِه المَثَلُ. كان إمامًا حافِظًا في اللُّغةِ، وكان ضَريرَ البَصَرِ، أَخذَ عِلمَ العَربيَّةِ واللُّغةِ عن أَبيهِ، وكان أَبوهُ ضَريرًا أَيضًا، واشتَغلَ على أبي العَلاءِ صاعدٍ البغداديِّ، وله ((المُحكَم في لِسانِ العَربِ)) في مُجلَّداتٍ عَديدةٍ، وله ((شَرحُ الحَماسَةِ)) في سِتِّ مُجلَّداتٍ، وغيرُ ذلك، وقَرأَ على الشيخِ أبي عُمَرَ الطلمنكي كِتابَ ((الغريب)) لأبي عُبيدٍ سَرَدَها مِن حِفظِه، قال الطلمنكي: "دَخلتُ مرسية فتَشَبَّثَ بي أَهلُها يَسمَعون عَلَيَّ "غَريب المُصَنَّف" فقلتُ لهم: انظُروا لي مَن يَقرأُ لكم وأُمسِكُ أنا كِتابي، فأَتوني برَجُلٍ أَعمَى يُعرَف بابنِ سِيدَه، فقَرأهُ عَليَّ مِن أَوَّلِه إلى آخرِهِ، فتَعجَّبتُ مِن حِفظِه". وكان الشيخُ يُقابِل بما يَقرأُ في الكِتابِ، فسَمِعَ الناسُ بقِراءتِه مِن حِفظِه، فتَعجَّب الناسُ لذلك، وكان له في الشِّعْرِ حَظٌّ وتَصَرُّفٌ. قال اليسعُ بنُ حزمٍ: "كان ابنُ سِيدَه شُعوبِيًّا يُفضِّل العَجَمَ على العَربِ". قال الذهبيُّ: "وحَطَّ عليه السّهيليُّ في ((الرَّوْض الأَنِف)) فقال: "تَعَثَّر في ((المُحكَم)) وغَيرِه عَثراتٍ يَدْمَى منها الأَظَلّ، ويَدْحَضُ دَحَضاتٍ تُخرِجُه إلى سَبيلِ مَن ضَلّ، حتى إنَّه قال في الجِمارِ: هي التي تُرمَى بِعَرفَة. قلتُ (الذَّهبيُّ): هو حُجَّةٌ في نَقلِ اللُّغةِ، وله كِتابُ ((العالم في اللُّغةِ)) نحو مائة سِفْرٍ، بَدأَ بالفَلَكِ، وخَتَمَ بالذَّرَّةِ" تُوفِّي وله سِتُّونَ سَنَةً ولم يَتَيَسَّر له الحَجُّ.
هو الأميرُ شِهابُ الدين، أبو الفوارِسِ سَعدُ بن محمد بن سعد بن صيفي التميمي الأديب الفقيه الشافعي، المعروف بالحيص بيص, ومعنى الحيص بيص: الشِّدَّةُ والاختلاطُ, قيل: إنَّه رأى الناسَ في شدَّة وحركةٍ، فقال: ما للنَّاسِ في حيصَ بَيصَ؟ فلزِمَه ذلك. وكان من فضلاءِ العالَم. كان قد سمع الحديثَ، ومدح الخلفاءَ والسلاطين والأكابر، وشِعرُه مشهورٌ، وله (ديوان) وترَسُّل. كان فصيحًا حسَن الشعر, بليغًا وافِرَ الأدَبِ، عظيمَ المنزلةِ في الدولتين العباسيَّة والسلجوقية. كان بديعَ المعاني، مليحَ الرسائِلِ، ذا خبرةٍ تامةٍ باللغة والبلاغة والأدب، وله يدٌ في المناظرة, وكان يناظِرُ على رأي الجمهور. كان لا يخاطِبُ أحدًا إلا بالكلام العربي. تفقَّه في مذهب الشافعي بالريِّ، وتكلَّم في مسائل الخلاف. ذكره ابن السمعاني في «ذيله» فقال: "له باعٌ في اللغة، وحِفظٌ كثيرٌ للشعرِ، وكان إمامًا في الرأي، حَسَن العقيدة". قال عبد الباقي بن زريق الحلبي الزاهد: "رأيتُه واجتمعتُ به، فكان صدرًا في كل علم، عظيمَ النفس، حسَنَ الشارة، يركَبُ الخيل العربية الأصيلة، ويتقلَّدُ بسيفين، ويحمِلُ حلقة الرمح، ويأخذ نفسَه بمآخِذِ الأمراء، ويتبادى في لفظِه، ويعقِدُ القاف, وكان أفصَحَ مَن رأيت". قال ابن كثير: "لم يكُنْ له في المراسلات بديلٌ، كان يتقعَّرُ فيها ويتفاصح جدًّا، فلا تواتيه إلا وهي مُعجرفة، وكان يزعم أنه من بني تميم، فسُئِل أبوه عن ذلك فقال ما سمعتُه إلَّا منه". توفي يوم الثلاثاء خامس شهر شعبان من هذه السنة، وله ثنتان وثمانون سنة، وصلِّي عليه بالنظامية، ودُفن بباب التبن، ولم يُعْقِب.
بعدَ وفاةِ أمِّ المؤمنين خَديجةَ بنتِ خويلدٍ رضي الله عنها والتي كانت مِن نِعَمِ الله الجَليلةِ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، تَزوَّج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سَودةَ بنتَ زَمْعَةَ بنِ قَيسِ بنِ عبدِ شمسِ بنِ عبدِ وُدِّ بنِ نصرِ بنِ مالكِ بن حِسْلِ بنِ عامرِ بن لُؤَيٍّ، القُرشيَّةَ، تَزوَّجها بمكَّة قبلَ الهِجرةِ، وكانت ممَّن أسلمَ قديمًا, وهاجرتْ الهِجرةَ الثَّانيةَ إلى الحَبشةِ، وكان زوجُها السَّكرانَ بنَ عَمرٍو، وكان قد أَسلمَ وهاجر معها، فمات بأرضِ الحَبشةِ، أو بعدَ الرُّجوعِ إلى مكَّة، فلمَّا حَلَّتْ خطبَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وتَزوَّجها، وكانتْ أوَّلَ امرأةٍ تَزوَّجها بعدَ وفاةِ خَديجةَ، وكانتْ في العَقْدِ السَّادسِ من عُمُرِها وقتَها، ولمَّا أراد النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم طلاقَها صالَحَتْهُ بأنْ وَهبتْ نَوْبَتَها لِعائشةَ رضي الله عنها فأَمْسَكها، ولمْ يُصِبْ منها ولدًا حتَّى مات صلى الله عليه وسلم.