وجَّه الرَّئيسُ الأمريكي جون كندي رسائلَ إلى رئيس الوزراء السعودي الأمير فيصل، وملك الأردن حسين، ورئيس مصر عبد الناصر، والرئيس اليمني عبد الله السلال, ضمَّنَها تصوراتِه حول سُبُل حلِّ نزاع اليمن. وقد تجاهل الرئيسُ الأمريكي الإمامَ محمد البدر وحاشيته. واقترح كندي على مصر سَحْبَ قواتها المسلَّحة من اليمن, وفي المقابل اقترح على السعودية والأردن ومشايخ وسلاطين اتحاد جنوب الجزيرة وقْفَ المساعدات للمَلَكيِّين قواتِ الإمام البدر. وفي اليوم نفسِه أعلن الأميرُ فيصل عن رفضه اقتراحَ كندي. وفي اليوم التالي رفض الرئيس جمال عبد الناصر بدوره اقتراحَ كندي, وأعلن أنَّه لن يوافق على سحب القوَّات المصرية من أراضي اليمن إلَّا إذا زال الخطرُ الذي يهدِّد اليَمَن الجُمهوري! ولم يوافِقْ على مبادرة كندي إلا الرئيس اليمني عبد الله السلال. وفي خاتمة المطاف اعتبرت واشنطن قضيةَ الملكيين مَيؤوسًا منها. وفي 14 ديسمبر/ ديسمبر 1962 أعلنت حكومةُ الجمهورية العربية اليمنية أنَّها ستُغلِق السفاراتِ والبَعَثاتِ الدبلوماسية لجميع البلدان التي لم تعترفْ بالجمهورية اليمنية. وفي 19 ديسمبر أعلنت وزارةُ الخارجية الأمريكية رسميًّا عن اعتراف الولاياتِ المتحدة بالجُمهورية اليَمَنيَّة.
قَدِمَ السلطان الملك الصالحُ نجم الدين أيوب من دمشق، وهو مريضٌ، لَمَّا بلغَه من حركةِ الفرنج، فنزل بأشموم طناح في المحرم، وجمع في دمياط من الأقواتِ والأسلحة شيئًا كثيرًا، وبعث إلى الأميرِ حسام الدين بن أبي علي نائبِه بالقاهرة، أن يجهِّزَ الشواني من صناعةِ مصر، فشرع في تجهيزِها، وسَيَّرَها شيئًا بعد شيء، وأمر الملك الصالح نجم الدين أيوب الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ أن ينزل على جيزةِ دمياط بالعساكرِ ليصيرَ في مقابلة الفرنج إذا قَدِموا فتحوَّل الأمير فخر الدين بالعساكر، فنزل بالجيزةِ تجاهَ دمياط، وصار النيلُ بينه وبينها، ثم في الساعة الثانية من يوم الجمعة لتسعٍ بَقِينَ مِن صفر وصلت مراكِبُ الفرنج البحرية، وفيها جموعُهم العظيمة بصحبة لويس التاسع ملك فرنسا، وقد انضَمَّ إليهم فرنجُ الساحل كله، فأرسَوا في البحر بإزاء المسلمين، وسَيَّرَ ملك الفرنج إلى الملك الصالحِ كتابًا يتهَدَّدُ فيه ويتوعَّدُه بقتله واحتلالِ مصر، فلمَّا وصل الكتاب إلى السلطان الملك الصالحِ وقرئ عليه، كتب الجوابَ فيه أنهم أصحابُ الحربِ والسيوفِ، وأنَّه كم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله، وفي يوم السبت نزل الفرنجُ في البر الذي عسكَرَ فيه المسلمون، وضُرِبَت للويس التاسع خيمةٌ حمراء، فناوشهم المسلمون الحربَ، فلما أمسى الليل رحل الأميرُ فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ بمن معه من عساكِرِ المسلمين، وقطع بهم الجسرَ إلى الجانب الشرقي، الذي فيه مدينةُ دمياط، وخلا البَرُّ الغربي للفرنج، وسار فخر الدين بالعسكر يريد أشموم طناح، فلما رأى أهلُ دمياط رحيل العسكر، خرجوا كأنما يسحبونَ على وجوهِهم طول الليلِ، ولم يبقَ بالمدينة أحدٌ البتة، وصارت دمياط فارغةً مِن الناس جملةً، وفروا إلى أشموم طناح مع العسكَرِ، وهم حفاةٌ عراةٌ جياعٌ فقراء حيارى بمن معهم من الأطفال والنساء، وساروا إلى القاهرة، فنهبهم الناسُ في الطريق، ولم يبقَ لهم ما يعيشون به فعُدَّت هذه الفعلة من الأمير فخر الدين من أقبَحِ ما يُشَنَّع به، وأصبح الفرنجُ يوم الأحد لسبعٍ بقين من صفر، سائرينَ إلى مدينة دمياط، فعندما رأوا أبوابها مفتحةً ولا أحد يحميها، خشُوا أن تكون مكيدة، فتمَهَّلوا حتى ظهر أنَّ النَّاسَ قد فروا وتركوها، فدخلوا المدينةَ بغير كلفة ولا مؤنة حصارٍ، واستولوا على ما فيها من الآلات الحربية، والأسلحة العظيمة والعُدَد الكثيرة، والأقوات والأزواد والذخائر، والأموال والأمتعة وغير ذلك، صَفْوًا، وبلغ ذلك أهلَ القاهرة ومصر، فانزعج الناس انزعاجًا عظيمًا، ويَئِسوا من بقاء كلمة الإسلامِ بديار مصر، لتمَلُّك الفرنجِ مدينة دمياط، وهزيمة العساكر، وقوَّة الفرنج بما صار إليهم من الأموالِ والأزواد والأسلحة، والحصن الجليل الذي لا يقدر على أخذه بقوة، مع شِدَّة مرض السلطان الصالح أيوب، وعَدَمِ حركته، وعندما وصلت العساكرُ إلى أشموم طناح، ومعهم أهل دمياط، اشتَدَّ حنق الملك الصالح أيوب على الكنانيين، وأمر بشنقهم فقالوا: وما ذنبُنا إذا كانت عساكِرُ السلطان جميعهم وأمراؤه هربوا وأحرَقوا الزردخاناه فلأي شيء نحن فشُنِقوا, فكانت نقمةُ السلطان عليهم أنهم خرجوا من المدينة بغيرِ إذنٍ حتى تسلَّمَها الفرنج، فكانت عِدَّةُ مَن شُنِقَ زيادة على خمسين أميرًا من الكنانيين، وتغيَّرَ السلطان على الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، وقامت الشناعةُ من كل أحدٍ على الأمير فخر الدين، فخاف كثيرٌ من الأمراء وغيرهم سطوةَ السلطان، وهَمُّوا بقتله، فأشار عليهم فخر الدين بالصبر، حتى يتبين أمر السلطان ومَرَضه.
سار عبد الرحمن الداخل إلى حرب شقنا، وقصدَ حصنَ شيطران، فحصَرَه وضيَّقَ عليه، فهرب إلى المفازة كعادته، وكان قد استخلف على قرطبة ابنَه سُليمان، فأتاه كتابُه يخبِرُه بخروج أهل إشبيلية مع عبد الغفار وحيوة بن ملابس عن طاعتِه، وعصيانِهم عليه، واتَّفَق مَن بها من اليمانية معهما، فرجع عبد الرحمن ولم يدخُل قرطبة، وهاله ما سَمِعَ من اجتماعِهم وكثرتِهم، فقدَّمَ ابنَ عمه عبد الملك بن عمر (كان شهاب آل مروان)، وبقي عبد الرحمن خَلفَه كالمَدَدِ له، فلما قارب عبد الملك أهل إشبيلية قدَّمَ ابنَه أمية ليعرف حالهم، فرآهم مستيقظينَ، فرجع إلى أبيه، فلامَه أبوه على إظهارِ الوهَنِ، وضرَبَ عُنُقَه، وجمعَ أهل بيته وخاصَّته، وقال لهم: طُرِدْنا من المشرق إلى أقصى هذا الصِّقع، ونُحسَدُ على لقمةٍ تُبقي الرَّمَق؛ اكسروا جفون السيوف، فالموتُ أولى أو الظَّفَر، ففعلوا، وحمل بين أيديهم، فهزَمَ اليمانية وأهلَ إشبيلية، فلم تقُمْ بعدها لليمانية قائمةٌ، وجُرِحَ عبد الملك. فأتاه عبد الرحمن وجُرحُه يجري دمًا، وسيفه يقطُرُ دمًا، وقد لصِقَت يدُه بقائمِ سَيفِه، فقَبَّله بين عينيه، وقال: يا ابنَ عَمِّ، قد أنكحتُ ابني وولي عهدي هشامًا ابنتَك فلانة، وأعطيتُها كذا وكذا، وأعطيتُك كذا وأولادَك كذا، وأقطعتُك وإياهم، وولَّيتكم الوزارة. وعبد الملك هو الذي ألزم عبد الرحمن بقَطعِ خُطبة المنصور، وقال له: تقطعُها وإلَّا قتلتُ نفسي, وكان قد خطبَ له عشرةَ أشهُر، فقطعها. وكان عبد الغفار وحيوة بن ملابس قد سَلِمَا من القتل. فلما كانت سنة 157 سار عبد الرحمن إلى إشبيلية، فقتل خلقًا كثيرًا ممَّن كان مع عبد الغفار وحيوة ورجع. وبسبَبِ هذه الوقعة وغِشِّ العرب، مال عبد الرحمن إلى اقتناءِ العبيد.
صاحب دمشق الملك أبو منصور أتابك طغتكين -أتابك يعني الأمير الوالد- وهو من مماليك السلطان تتش بن ألب أرسلان، زوَّجه بأم ولده دقاق، فلما قُتل السلطان تملَّك بعده ابنه دقاق، وصار طغتكين مقدَّم عسكره، ثم تملَّك بعد دقاق. كان عاقلًا خيِّرًا شهمًا شجاعًا، مَهيبًا مجاهدًا، مؤثِرًا للعدل، يلقَّب ظهير الدين, كثيرَ الغزوات والجهاد للفرنج، حسنَ السيرة في رعيته، ولَمَّا توفي مَلَك بعده ابنُه تاج الملوك بوري، وهو أكبر أولاده، بوصيةٍ من والده بالمُلْك، وأقر وزير أبيه أبو علي طاهر بن سعد المزدقاني على وزارته. قال الذهبي: "لولا أن الله أقام طغتكين للإسلام بإزاء الفرنج، وإلا كانوا غلبوا على دمشق؛ فقد هزمهم غير مرة، فقد كان سيفًا مسلولًا على الفرنج. لكن له خرمة؛ كان قد استفحل البلاء بداعي الإسماعيلية بهرام بالشام، وكان يطوف المدائن والقلاع متخفيًا، ويغوي الأغتام والشطَّار، وينقاد له الجهَّال، إلى أن ظهر بدمشق بتقرير قرَّره صاحب ماردين إيلغازي مع طغتكين، فأخذ يكرِمُه طغتكين، ويبالغ اتقاءً لشَرِّه، فتبعه الغوغاء والسفهاء والفلاحون، وكَثُروا، ووافقه الوزيرُ طاهر المزدقاني، وبثَّ إليه سِرَّه، ثم التمس من الملك طغتكين قلعةً يحتمي بها، فأعطاه بانياس سنة 520، فعَظُم الخطب، وتوجَّع أهل الخير، وتستَّروا مِن سَبِّهم، وكانوا قد قتلوا عدة من الكبار", وقال ابن الجوزي: "كان طغتكين شهمًا عادلًا، حزن عليه أهل دمشق، فلم تبقَ محلة ولا سوق إلا والمأتم قائم فيه عليه؛ لعدله وحسن سيرته. حكم على الشام خمسًا وثلاثين سنة، وسار ابنه بسيرته مُدَيدة، ثم تغيَّر وظلَم". وقال فيه أبو يعلى بن القلانسي: "مرض ونحل، ومات في صفر سنة 522، فأبكى العيون، وأنكأ القلوب، وفتَّ في الأعضاد، وفتَّت الأكباد، وزاد في الأسف، فرحمه اللهُ، وبرَّد مضجعه".
هو أبو الفتوح الملك الصَّالح إسماعيلُ- صاحب حلب- بن نور الدين محمود بن الأتابك زنكي, وصى له والده محمود بمملكته وهو ابن إحدى عشرة سنة، فملَّكوه بدمشق، وحلفوا له بحلب، فأقبل صلاح الدين من مصر، وأخذ منه دمشق، فترحل إسماعيل إلى حلب، وكان شابًا ديِّنًا خَيِّرًا، عاقلًا بديع الجمال، محبَّبًا إلى الرعية وإلى الأمراء، ثم سار السلطان صلاح الدين، وحاصر حلب مُدَّةً، ثم ترحل عنها، ثم حاصرها، فصالحوه، وبذلوا له المعرَّةَ وغيرها، ثم نازل حلب ثالثًا، فبذل أهلُها الجهد في نصرة الملك الصالح، فلما ضَجِرَ السلطان، صالَحَهم وترحل، وأخرجوا إليه بنت نور الدين، فوَهَبها عزاز- بليدة قريبة من حلب- وكان تدبير مملكة حلب إلى أم الملك الصالح، وإلى شاذبخت الخادم وابن القيسراني. تعلل الملك الصالحُ بقولنج خمسة عشر يومًا، "فلما اشتد به المرض عَرَض عليه طبيبه خمرًا للتداوي، فأبى، وقال: قد قال نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إن الله لم يجعَلْ شفاءَ أمتي فيما حَرَّمَ عليها))، ولعلي أموتُ وهو في جوفي. ولما اشتد مرضُه أحضر الأمراء، وسائر الأجناد، ووصَّاهم بتسليم البلد إلى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، واستحلفهم على ذلك، فقال له بعضهم: إنَّ عماد الدين ابن عمك أيضًا، وهو زوجُ أختك، وكان والدُك يحِبُّه ويؤثره، وهو تولى تربيتَه، وليس له غير سنجار، فلو أعطيتَه البلد لكان أصلحَ، وعز الدين له من البلاد من نهر الفرات إلى همذان، ولا حاجة به إلى بلدك، فقال له: إن هذا لم يغِبْ عني، ولكن قد عَلِمتُم أن صلاح الدين قد تغلَّبَ على عامة بلاد الشام سوى ما بيدي، ومتى سَلَّمتُ حلب إلى عماد الدين يعجِزُ عن حفظها، وإن ملكها صلاحُ الدين لم يبق لأهلنا معه مقامٌ، وإنْ سَلَّمتُها إلى عز الدين أمكَنَه حِفظُها بكثرة عساكره وبلادِه، فاستحسنوا قوله، وعجبوا من جودة فطنته مع شِدَّةِ مَرَضِه وصِغَرِ سنه. توفي في رجب، وعمره نحو تسع عشرة سنة, ولما قضى نحبه أرسل الأمراء إلى أتابك عز الدين يستدعونه إلى حلب، فسار هو ومجاهد الدين قايماز إلى الفرات، وأرسل فأحضر الأمراءَ عنده من حلب، فحضروا وساروا جميعًا إلى حلب، ودخلها في العشرين من شعبان، وكان صلاح الدين حينئذ بمصر، فأقام أتابك عز الدين مسعود بحلب عدة شهور، ثم سار عنها إلى الرقَّة.
لما عاد الفرنجُ من حصار الطور أقاموا بعكَّا إلى أن دخلت هذه السَّنةُ، فساروا في البحرِ إلى دمياط، فوصَلوا في صفر، فأرسوا على بر الجيزة، بينهم وبين دمياط النيل، فإنَّ بعض النيل يصب في البحر المالح عند دمياط، وقد بني في النيل برجٌ كبير منيع، وجعلوا فيه سلاسِلَ من حديد غلاظ، ومدُّوها في النيل إلى سورِ دمياط لتَمنَعَ المراكِبَ الواصلة في البحرِ المالح أن تصعَدَ في النيل إلى ديار مصر، ولولا هذا البرجُ وهذه السلاسل لكانت مراكِبُ العدو لا يقدِرُ أحَدٌ على مَنعِها عن أقاصي ديارِ مِصرَ وأدانيها، فلمَّا نزل الفرنجُ على بر الجيزة، وبينهم وبين دمياط النيل، بَنَوا عليه سورًا، وجعلوا خندقًا يمنعُهم من يريدهم، وشرعوا في قتال من بدمياط، وعملوا آلات ومرمات، وأبراجًا متحركة يزحفون بها في المراكب إلى البرج الذي في النيل ليقاتلوه ويملكوه، وكان البرجُ مشحونًا بالرجال، وقد نزل الملك الكامِلُ بن الملك العادل، وهو صاحِبُ ديار مصر، بمنزلة تُعرَفُ بالعادلية، بالقرب من دمياط، والعساكِرُ متصلة من عنده إلى دمياط، ليمنع العدُوَّ من العبور إلى أرضهم، وأدام الفرنجُ قتال البرج وتابعوه، فلم يظفروا منه بشيءٍ، وكُسِرَت مرماتهم وآلاتهم، ومع هذا فهم ملازمون لقتاله، فبَقُوا كذلك أربعة أشهر، ولم يقدروا على أخذه، ثم تمكنوا من أخذه فقطعوا السلاسِلَ لتدخُلَ مراكبُهم من البحر المالح في النيل ويتحكموا في البر، فنصب الملك الكامِلُ عِوَضَ السلاسلِ جسرًا عظيمًا امتنعوا به من سلوكِ النيل، ثم إنهم قاتلوا عليه أيضًا قتالًا شديدًا، كثيرًا، متتابعًا حتى قطعوه، فلما قطع أخذ الملكُ الكامل عدَّةَ مراكب كبار وملأها وخرَقَها وغَرَقها في النيل، فمَنَعت المراكِبَ من سلوكه، فلما رأى الفرنج ذلك قصدوا خليجًا هناك يُعرَف بالأزرق، كان النيل يجري فيه قديمًا، فحفروا ذلك الخليج وعَمَّقوه فوق المراكبِ التي جُعِلَت في النيل، وأجروا الماء فيه إلى البحر المالحِ، وأصعدوا مراكِبَهم فيه إلى موضعٍ يقال له بورة، على أرض الجيزة أيضًا، مقابل المنزلةِ التي فيها الملك الكامل ليقاتلوه من هناك، فإنَّهم لم يكن لهم إليه طريقٌ يقاتلونه فيها، كانت دمياط تحجز بينهم وبينه، فلما صاروا في بورة حاذوه فقاتلوه في الماء، وزحفوا غيرَ مَرَّة، فلم يظفروا بطائل، ولم يتغيَّرْ على أهل دمياط شيءٌ؛ لأن الميرة والأمداد متَّصلة بهم، والنيلُ يحجُز بينهم وبين الفرنج، فهم ممتَنِعون لا يصلُ إليهم أذى، وأبوابُها مفتحة، وليس عليها من الحَصرِ ضِيقٌ ولا ضرر.
كان غورو قد أرسل إلى المَلِك فيصل كتابًا يشيرُ فيه إلى استغرابه من بدءِ الفساد والتمرُّد منذ دخول جيوش فرنسا للمنطقة بعد رحيل إنجلترا، وذلك في تموز 1920م، ثم أرسل إليه إنذارًا أو بلاغًا يدور حولَ خمسِ نقاطٍ، أهمُّها: قَبولُ الانتداب الفرنسي، وإلغاءُ التجنيد الإجباري. رفَضَ وزيرُ الحربية يوسف العظمة قرارَ التسريحِ للجيشِ ولكنَّه اضطرَّ للتوقيع على القرار مُكرهًا بحضور الملك فيصل، وكتب الملك فيصل برقيةً لغورو بأنَّ مطالِبَه قُبِلَت، لكن غورو زعم أنَّ البرقية تأخَّرت وأنَّه أرسل جيشًا نحو دمشق واستطاع هذا الجيشُ أسْرَ فوجين من الجيشِ السوري بدون إطلاقِ رصاصة واحدة، وأراد الملِكُ أن يعود للدفاع لكِنَّ الجيش كان قد سُرِّح وخلت الكتائِبُ مِن معظم الجنود فذهب الوزير يوسف العظمة إلى ميسلون، وأخذ يُعِدُّ المعدَّاتِ مُنتظِرًا ما وعد به من النَّجدات، ولكن لم يَزِد عددُ الجنود مع المتطوِّعين على الأربعة آلاف، وكان القائم مقام "جميل الألش" -الذي كان على صلاتٍ جيِّدةٍ مع الفرنسيين- قد اطَّلع على الجيش في ميسلون، وقام بتعريف الجيش الفرنسي على مواضِعِ الضعف فيه، وكان الفَرقُ كبيرًا جدًّا في العَدَد والعُدَّة، وبدأت المعركة التي استُخدِمَت فيها الدَّبابات والطائرات، وقاتل العظمة ومَن معه ببسالةٍ، ولكن بوجود الخَوَنة حُسِمَت المعارك لصالحِ الفرنسيين؛ فقد قام رجلٌ درزي من المتطوِّعين مع بعضِ الفرسان بالوثوبِ على أحد المساير السورية من الخلف، وفتحوا النارَ عليها ونهبوا السلاحَ منهم، ورغم ذلك بقي العظمة يدير المعركةَ بإمكانيَّاتِه المتوفرة حتى قضى نحبَه بقذيفةِ إحدى الدبابات الفرنسية، وذلك في السابع من ذي القعدة 1339هـ / 24 يوليو. دامت المعركة ثماني ساعات انتهت بالقضاء على الجيش السوري المقاوِم، ودخولِ الجيش الفرنسي إلى دمشق بقيادة غوابييه، أما الملك فيصل وأعوانُه فقد كانوا خرجوا من دمشق إلى الكسوة (قريبًا من دمشق) ثم عادوا بعد دخول القوات الفرنسية إلى دمشق للتفاهمِ، إلَّا أن الفرنسيين رفضوا رفضًا باتًّا بقاء فيصل في البلاد، وأقلُّوه قطارًا خاصًّا هو وأعوانه، وتبعثر رجالُ الثورة العربية في مختَلِف الأقطار بعد أن عَرَفوا الفرق بين ما كانوا فيه وما أصبحوا فيه، أمَّا الفرنسيون فلم يُخفُوا أبدًا حِقدَهم الصليبي ولا أخفَوا أبدًا أنَّ حَربَهم هذه صليبيةٌ؛ فقد قال غورو أمام قبر صلاح الدين: ها قد عُدنا يا صلاحَ الدين! وقال: إنَّ حضوري هنا يقدِّسُ انتصارَ الصليبِ على الهلالِ.
عاد المأمونُ إلى بلاد الروم في هذه السَّنة بعد أن كان سار إليهم أوَّلَ السَّنة الماضية، وسببُ ذلك أنَّه بلغه أنَّ مَلِكَ الرومِ قتلَ ألفًا وستَّمائة مِن أهل طرسوس والمصيصة، فسار حتى دخل أرضَ الروم، وقيل كان سببُ دُخولِه إليها أنَّ مَلِكَ الرومِ كتب إليه وبدأ بنَفسِه، فسار إليه، ولم يقرأ كتابَه، فلمَّا دخل أرضَ الرومِ أناخ على أنطيغو، فخرجوا على صُلْحٍ، ثم سار إلى هرقلة، فخرج أهلُها على صلحٍ، ووجَّه أخاه أبا إسحاقَ المعتَصِم، فافتتح ثلاثينَ حِصنًا ومطمورةً، ووجَّه يحيى بن أكثم من طوانة، فأغار وقتل وأحرَقَ، فأصاب سبيًا ورجع؛ ثم سار المأمونُ إلى كيسوم، فأقام بها يومين، ثم ارتحل إلى دمشق.
كانت جزيرة جربة مقابل تونس من بلاد إفريقية قد استولت في كثرة عمارتها وخيراتها، غيرَ أن أهلَها طغَوا فلا يدخُلون تحت طاعة السلطان، ويُعرَفون بالفساد وقَطْع الطريق، فخرج إليها جمعٌ من الفرنج، من أهل صقلية، في أسطولٍ كثير وجَمٍّ غفير، فيه من مشهوري فرسان الفرنج جماعة، فنزلوا بساحتها وأداروا المراكب بجهاتها، واجتمع أهلها وقاتلوا قتالًا شديدًا، فوقع بين الفريقين حرب شديدة، فثبت أهل جربة، فقُتِل منهم بشر كثير، فانهزموا ومَلَك الفرنج الجزيرة، وغَنِموا أموالها وسَبَوا نساءَها وأطفالها، وهلك أكثَرُ رجالها، ومن بقي منهم أخذوا لأنفُسِهم أمانًا من رجار ملك صقلية، وافتكُّوا أَسراهم وسَبْيَهم وحريمَهم.
جمَعَ أتابك قراسنقر صاحِبُ أذربيجان عساكِرَ كثيرةً وحَشَد، وسار طالبًا بثأرِ أبيه الذي قتَلَه بوزابة, فلمَّا قارب السُّلطانَ مَسعودًا أرسل إليه يطلُبُ منه قَتْلَ وزيرِه الكمال، فقَتَله، فلمَّا قُتِلَ سار قراسنقر إلى بلاد فارس، فلما قارَبَها تحصَّنَ بوزابة منه في القلعةِ البيضاء، ووطئ قراسنقر البلادَ، وتصَرَّفَ فيها، وليس له فيها دافِعٌ ولا مانِعٌ إلَّا أنَّه لم يُمكِنْه المُقامُ، ومَلَك المُدنَ التي في فارس، فسَلَّم البلادَ إلى سلجوق شاه بن السُّلطانِ محمود، وقال له: هذه البلادُ لك فاملك الباقي؛ وعاد إلى أذربيجان فنزل حينئذٍ بوزابة من القلعةِ سنةَ أربع وثلاثين، وهزم سلجوق شاه ومَلَك البلادَ، وأسَرَ سلجوق شاه وسجَنَه في قلعةٍ بفارس.
هو رستم بن علي بن شهريار بن قارن. ملك مازندران. كان ملكًا شجاعًا مخوفًا، استولى على بسطام وقومس، واتَّسعت ممالكه، وكان شيعيًّا شديد التشيع, غزا بلاد ألموت فأوطأ الإسماعيلية ذلًّا، وخَرَّب بلادهم، وسبى النساء والأولاد، وغنم، وخُذلت الإسماعيلية في أيامه، وخُرِّبَت عامة قراهم. توفي في ثامن ربيع الأول، ولَمَّا توفي كتم ابنه الحسن بن علاء الدين موتَه أيامًا، حتى استولى على سائر الحصون والبلاد، ثم أظهره، فلما ظهر خبرُ وفاته أظهر إيثاق بن الحسن صاحِبُ جرجان ودهستان المنازعة لوالده في الملك، ولم يَرْعَ حقَّ أبيه عليه، ولم يحصُلْ من منازعته على شيءٍ غير سوء السمعة وقُبح الأُحدوثة.
ورد الخبَرُ بأن كيختو بن أبغا بن هولاكو، الذي تسلطنَ بعد أخيه أرغون في سنة تسعين، قُتِل في سنة ثلاث وتسعين، وملَك بعده ابنُ عمه بيدو، وهو ابن طرغاي بن هولاكو، فخرج عليه قازان بن أرغون بن أبغا نائبُ خراسان، وكسَرَه وأخذ المُلكَ منه، ويقال: إن قازان أسلم على يدِ الشيخ صدر الدين بن حمُّويه الجويني، وقيل: على يد نائبه الأمير توزون، ودخلَت التتار أو أكثرُهم في الإسلام، ونثر قازان الذهبَ والفضَّةَ واللؤلؤ على رؤوس النَّاسِ يوم إسلامه، وتسَمَّى بمحمود، وشهِدَ الجمعةَ والخُطبة، وخَرَّب كنائسَ كثيرةً، وضرب على النصارى الجزيةَ ورَدَّ مظالمَ كثيرةً ببغداد وغَيرِها من البلادِ.
هو السُّلطانُ أبو عنان فارس بن أبي الحسن علي: حاكِمُ دولة بني مرين في أفريقية، اغتاله وزيرُه الحسن بن عمر الفودوي، ثم تولى بعدَه ابنُه أبو بكر محمد السعيد خلفًا لأبيه وله من العمر فقط خمس سنوات، وكان أبو سالم إبراهيم أخو أبي عنان منفيًّا في الأندلس عند بني الأحمر، فلما علم بما حصل لأخيه طلب من سلطانِ بني الأحمر مساندَتَه، فلم يجِبْه، فطلب من مَلِك قشتالة الأسباني فأنجده بأسطولٍ اجتاز به البحر إلى المغرب، وتمكَّنَ بمن تبعه من أنصاره من الاستيلاءِ على المُلْك، وخَلَعَ ابن أخيه محمد السعيد ونفاه إلى الأندلس التي لم يصِلْ إليها، بل غَرِقَ في البحر في الطريقِ.