هو الأمير أبو الليث نصر بن سيار المروزي, نائب مَرْوان بن محمَّد صاحب خراسان, خرج عليه أبو مسلم الخرساني صاحب الدعوة العباسية، وحاربه, فعجز عنه نصر, واستصرخ بمَرْوان غير مرة لكن مَرْوان عجز نجدته لاشتغاله باختلال أمر أذربيجان والجزيرة, فتقهقر نصر, وجاءه الموت على حاجة, فتُوفِّي بساوة, وقد ولي إمرة خراسان عشر سنين. وكان من رجال الدهر سؤددا وكفاءة.
هو السُّلطانُ موسى ابن السلطان أبي عنان فارس بن أبي الحسن المريني مَلِك المغرب صاحب مدينة فاس وما والاها، توفي في جمادى الآخرة، وأقيم بعده المستنصر محمد بن أبي العباس أحمد المخلوع، ابن أبي سالم فلم يَتِمَّ أمرُه وخُلِعَ بعد قليل، وأقيم الواثق محمد بن السلطان أبي الحسن، كل ذلك بتدبير الوزير ابن مسعود، وهو يوم ذاك صاحب أمر فاس.
توفي الأمير أبو عمرو عثمان بن محمد الحفصي وقام خلفًا عنه حفيده أبو زكريا يحيى بن مسعود بن محمد، وكان عثمان هذا آخر الحفصيين الكبار والذي بوفاته تعتبر الدولة الحفصية قد انتهت؛ وذلك أن سكان جزيرة جربة رفضوا الاعترافَ بالأمير الجديد يحيى وبسيادة الحفصيين عليهم، فشكَّلوا جمهورية مستقلة فحذت مدينة طرابلس حذوَهم وقاموا هم أيضًا بالتخلص من الحفصيين.
عَبَر سَعيدُ خُذَيْنَة والي خُراسان النَّهْرَ وغَزا الصُّغْدَ، وكانوا قد نَقَضوا العَهْدَ وأعانوا التُّرْكَ على المسلمين، فقال النَّاسُ لسَعيدٍ: إنَّك قد ترَكتَ الغَزْوَ، وقد أغار التُّرْكُ، وكَفَرَ أَهلُ الصُّغْد. فقَطَع النَّهْرَ وقَصَد الصُّغْدَ، فلَقِيَه التُّرْكُ وطائِفَة مِن الصُّغْدِ فهَزَمهم المسلمون، فقال سَعيدٌ: لا تَتَّبِعوهم فإنَّ الصُّغْدَ بُستان أَميرِ المؤمنين وقد هَزَمتُموهم، أَفَتُريدون بَوارَهُم؟ وقد قاتَلْتُم يا أَهلَ العِراق الخُلَفاء غَيرَ مَرَّةٍ، فهل أَبادوكُم؟ وسار المسلمون فانْتَهوا إلى وادٍ بينهم وبين المَرَج، فقَطَعَه بَعضُهم وقد أَكْمَن لهم التُّرْكُ، فلمَّا جاءَهم المسلمون خَرجوا عليهم، فانْهزَم المسلمون حتَّى انْتَهوا إلى الوادي، فصَبَروا حتَّى انْكَشفوا لهم. وقيل: بل كان المُنْهَزِمون مَسْلَحَة المسلمين، فما شَعَروا إلَّا والتُّرْك قد خَرَجوا عليهم مِن غَيْضَةٍ وعلى الخَيْلِ شُعْبَة بن ظَهير، فأَعجَلَهم التُّرْك عن الرُّكوبِ، فقاتَلَهم شُعبةُ فقُتِلَ وقُتِلَ نَحو مِن خمسين رَجُلًا وانْهَزَم أَهلُ المَسْلَحَة، وأَتى المسلمين الخَبَرُ، فَرَكِبَ الخَليلُ بن أَوْس العَبْشَمِي -أَحَدُ بَنِي ظالِم- ونادَى: يا بَنِي تَميمٍ إِلَيَّ أنا الخَليلُ! فاجْتَمَع معه جَماعَةٌ، فحَمَل بهم على العَدُوِّ فكَفُّوهم حتَّى جاء الأَميرُ والنَّاسُ فانْهَزَم العَدُوُّ، فصار الخَليلُ على خَيْلِ بَنِي تَميمٍ حتَّى وَلِيَ نَصْرُ بن سِيار، ثمَّ صارت رِياسَتُهم لأَخيهِ الحَكَم بن أَوْسٍ، فلمَّا كان العام المُقبِل بَعَث رِجالًا مِن تَميمٍ إلى وَرَغْسَر فقالوا: لَيْتَنا نَلقَى العَدُوَّ فنُطارِدُهم. وكان سَعيد إذا بَعَث سَرِيَّةً فأصابوا أو غَنِموا وسَبَوْا رَدَّ السَّبْيَ وعاقَبَ السَّرِيَّة.
لَمَّا ملك الفرنجُ مدينة صور طمعوا وقَوِيَت نفوسهم، وتيقَّنوا الاستيلاءَ على بلاد الشام، واستكثروا من الجموع، ثم وصل إليهم دبيس بن صدقة، صاحب الحلة، فأطمعهم طمعًا ثانيًا، لا سيما في حلب، وقال لهم: إن أهلها شيعة، وهم يميلون إليَّ لأجل المذهب، فمتى رأوني سلموا البلد إلي، وبذل لهم على مساعدته بذولًا كثيرة، وقال: إنني أكون هاهنا نائبًا عنكم ومطيعًا لكم، فساروا معه إليها وحصروها، وقاتلوا قتالًا شديدًا، ووطَّنوا نفوسهم على المقام الطويل، وأنهم لا يفارقونها حتى يملكوها، وبَنَوا البيوت لأجل البرد والحر، فلما رأى أهلها ذلك ضَعُفت نفوسهم، وخافوا الهلاك، وظهر لهم من صاحِبِهم تمرتاش الوهنُ والعجزُ، وقَلَّت الأقوات عندهم، فلما رأوا ما دفعوا إليه من هذه الأسباب أعملوا الرأي في طريق يتخلَّصون به، فرأوا أنه ليس لهم غيرُ قسيم الدولة البرسقي، صاحب الموصل، فأرسلوا إليه يستنجدونه ويسألونه المجيءَ إليهم ليسلِّموا البلد إليه. فجمع عساكره وقصدهم، وأرسل إلى من بالبلد، وهو في الطريق، يقول: إنني لا أقدر على الوصول إليكم، والفرنج يقاتلونَكم، إلَّا إذا سلمتم القلعة إلى نوَّابي، وصار أصحابي فيها، فإنني لا أدري ما يُقَدِّرُه الله تعالى إذا أنا لقيتُ الفرنج، فإن انهزمنا منهم وليست حلب بيدِ أصحابي حتى أحتمي أنا وعسكري بها، لم يبقَ منا أحد، وحينئذ تؤخَذُ حلب وغيرها، فأجابوه إلى ذلك، وسلَّموا القلعة إلى نوابه، فلما استقروا فيها، واستولوا عليها، سار في العساكر التي معه، فلما أشرف عليها رحل الفرنجُ عنها، وهو يراهم، فأراد مَن في مقدمة عسكره أن يحمِلَ عليهم، فمنَعَهم هو بنفسه، وقال: قد كُفِينا شَرَّهم، وحَفِظْنا بلدنا منهم، والمصلحةُ تركُهم حتى يتقرَّر أمر حلب ونُصلِحَ حالها، ونُكثر ذخائرها، ثم حينئذ نقصِدُهم ونقاتِلُهم. فلما رحل الفرنجُ خرج أهل حلب ولقُوه، وفرحوا به، وأقام عندهم حتى أصلح الأمورَ وقَرَّرها.
هو أبو سَعيدٍ جقر بنُ يعقوبَ الهَمَذانيُّ الملَقَّبُ نصير الدين، كان نائِبَ عمادِ الدين زنكي صاحِبِ الجزيرةِ الفُراتيَّة والمَوصِل والشَّام، استنابه عنه بالمَوصِل، وكان جَبَّارًا عَسُوفًا سَفَّاكًا للدَّماءِ مُستَحِلًّا للأموالِ، كان المَلِكُ فروخشاه بن السُّلطانِ مَحمود السلجوقي المعروف بالخفاجي يطمَعُ في السَّلطَنةِ بعد السُّلطانِ مَسعود, وكان فروخشاه بالموصِل هذه السَّنةَ ونَصيرُ الدين جقر يَنزِلُ إليه كُلَّ يَومٍ يَخدمُه ويَقِفُ عنده ساعةً ثمَّ يعودُ, وكان جقر يعارِضُه ويُعانِدُه في مقاصِدِه، فحَسَّنَ المُفسِدونَ للمَلِك فروخشاه قَتْلَه وقالوا له إنَّك إنْ قَتَلْتَه مَلَكْتَ المَوصِلَ وغَيرَها ويَعجِزُ أتابك أن يقيمَ بين يديك ولا يَجتَمِع معه فارسانِ عليك، فوقع هذا في نفسِه وظَنَّه صَحيحًا، فلمَّا دخل نصير الدين إليه على عادَتِه وثَبَ عليه جماعةٌ مِن غِلمانِه فقَتَلوه وألقَوا رأسَه إلى أصحابِه؛ ظَنًّا منهم أنَّ أصحابَه إذا رأَوْا رأسَه تفَرَّقوا ويَملِكُ الملك فروخشاه البلادَ, وكان الأمرُ بخِلافِ ما ظَنُّوا؛ فإنَّ أصحابَه وأصحابَ أتابك زنكي الذين معه لَمَّا رأوا رأسَه قاتَلُوا مَن بالدَّارِ مع المَلِك، واجتمَعَ معهم الخَلقُ الكثيرُ، وكانت دولةُ أتابك مملوءةً بالرِّجالِ الأجلادِ ذَوي الرَّأي والتَّجربةِ، فلم يتغيَّرْ عليه بهذا الفَتقِ شَيءٌ, وكان في جُملةِ مَن حضر القاضي تاج الدين يحيى بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري أخو كمالِ الدِّين، فدخَلَ إلى المَلِك فروخشاه وخَدَعَه حتى أصعَدَه إلى القَلعةِ وهو يُحسِّنُ له الصُّعودَ إليها وحينئذٍ يستَقِرُّ له مِلكُ البَلدِ، فلمَّا صَعِدَ القلعةَ سَجَنوه بها وقُتِلَ الغِلمانُ الذين قَتَلوا النصير وأرسَلوا إلى أتابك يُعَرِّفونَه الحالَ، فسَكَنَ جأشُه واطمأنَّ قَلْبَه وأرسل زينُ الدين على بن بكتكين واليًا على قلعةِ المَوصِل، وكان كثيرَ الثقةِ به والاعتمادِ عليه، فسَلَكَ بالنَّاسِ غَيرَ الطَّريقِ التي سلَكَها النصير، وسَهَّلَ الأمرَ، فاطمأنَّ النَّاسَ وأَمِنوا وازدادت البلادُ معه عمارةً.
وفي يومِ الجُمُعةِ العاشِرَ من شعبان قُرِئَ بالجامع الكتابُ السلطانيُّ الوارِدُ باعتقال شيخ الإسلامِ ابن تيمية، وهذه الواقِعةُ سَببُها فُتيا وُجِدَت بخطِّه في السَّفَرِ وإعمالِ المطِيِّ إلى زيارةِ قُبورِ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقبورِ الصالحين، وفي يوم الأربعاء مُنتصَفَ شعبان أمر قاضي القضاة الشافعي في حبسِ جماعةٍ مِن أصحاب الشيخِ تقي الدين ابن تيمية في سِجنِ الحكم، وذلك بمرسومِ نائب السلطنة وإذنِه له فيه، فيما تقتضيه الشريعةُ في أمرهم، وعُزِّرَ جماعة منهم على دوابَّ، ونودي عليهم ثمَّ أُطلِقوا، سوى شمسِ الدين محمد بن قيِّم الجوزيَّة؛ فإنَّه حُبِسَ بالقلعة، وفي يوم الاثنين عند العصر سادس عشر شعبان تم اعتقال الشيخ الإمام العالم العلَّامة تقيُّ الدين ابن تيمية بقلعة دمشق، حضَرَ إليه من جهة نائب السلطنة تنكز وابن الخطيري أحد الحجاب بدمشق، وأخبراه أنَّ مرسومَ السلطان ورد بذلك، وأحضرا معهما مركوبًا لِيَركَبَه، وأظهر السرورَ والفرح بذلك، وقال: أنا كنت منتَظِرًا لذلك، وهذا فيه خير كثيرٌ ومصلحة كبيرة، وركبوا جميعًا من داره إلى بابِ القلعة، وأُخلِيَت له قاعة وأجري إليها الماءُ ورُسِمَ له بالإقامةِ فيها، وأقام معه أخوه زين الدين يخدُمُه بإذن السلطانِ، ورُسِمَ له ما يقومُ بكفايته، والسَّبَبُ في كل ذلك هو أنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية حَرَّم إعمالَ المطِيِّ لزيارة القبورِ بناءً على قَولِه صلَّى الله عليه وسلم: ((لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَّا إلى ثلاثةِ مَساجِدَ)) ثم إنَّ مُناوئي الشيخ وأعداؤه أشاعوا عنه أنَّه يقول بحُرمةِ زيارة القبور عمومًا، والشيخُ كما هو معلوم من فتاويه وكُتُبِه أنَّه لا يقولُ بحُرمةِ الزيارةِ مُطلقًا إنَّما يقول: يحرُمُ شَدُّ الرَّحلِ والسَّفَرُ لأجلِ زيارة القبور، أمَّا زيارتها من غير سَفَرٍ ولا شَدِّ رَحلٍ فيقولُ بسُنِّيَّتِه.
لَمَّا تَسلطَنَ المَلِكُ المنصور أبو بكر، أصبح همُّه ملذَّات نفسِه، فأصبح هذا شيئًا شائعًا عنه يعرِفُه القاصي والداني، حتى أصبح معروفًا بالشرب وجَلْب المغنيات إلى قَصرِه، حتى قال الأميرُ قوصون الناصري: أهكذا يكون أمرُ سُلطان المسلمين؟! أهكذا كان أبوه يفعَلُ؟! وكانت هذه الكَلِمةُ منه سببًا في الوحشة التي حَصَلت بعد ذلك، ثمَّ لَمَّا استفحل هذا الأمرُ مِن السلطان، قرَّر الأمراءُ خَلْعَه وإخراجَه وإخوتِه من القلعة، فتوجَّه برسبغا في جماعةٍ إلى القلعة، وأخرج المنصورَ وإخوته، وهو سابِعُ سَبعةٍ، ومع كل منهم مملوكٌ صغيرٌ وخادِمٌ وفَرَسٌ وبقجة قماش، وأركبهم برسبغا إلى شاطئ النيل، وأنزلهم في الحراقة، وسافر بهم جركتمر بن بهادر إلى قوص، واتَّفَق الأمراء على إقامة كجك بن محمد بن قلاوون، فكانت مدةُ سلطنة المنصور أبي بكر تسعة وخمسين يومًا، ومن حين قلَّدَه الخليفةُ أربعين يومًا، ومن الاتِّفاق العجيب أنَّ المَلِكَ الناصِرَ أخرج الخليفةَ أبا الربيع سليمان وأولاده إلى قوص مُرَسَّمًا عليهم، فقُوصِصَ بمثلِ ذلك!! وأخرج الله أولادَه مُرَسَّمًا عليهم إلى قوص على يد أقرَبِ الناس إليه، وهو قوصون مملوكِه وثِقَتِه ووصِيِّه على أولاده، ثمَّ في يوم الاثنين حادي عشر صفر أقيم المَلِكُ الأشرف علاء الدين كجك بن الناصر محمد بن قلاوون سُلطانًا، ولم يَكمُلْ له من العمر خمس سنين، وقيل: كان عمره دون سبع سنين، ولَمَّا تم أمرُه في السلطنة جلس الأمراء وتشاوروا فيمن يُقيموه في نيابةِ السَّلطنةِ فرُشِّحَ الأمير أيدغمش أمير آخور، فامتنعَ أيدغمش من ذلك، فوقع الاتفاقُ على الأمير قوصون الناصري، فأجاب وشَرَط على الأمراء أن يقيمَ على حاله في الأشرفيَّة من القلعة ولا يخرُج منها إلى دار النيابةِ خارِجَ باب القلة من القلعة، فأجابه الأمراءُ إلى ذلك، فاستقَرَّ من يومه في النيابة، وتصَرَّف في أمورِ الدولة.
جهز إبراهيم الشريف باي تونس مراكب صغارًا للغزو في سبيل الله، فغَنِمت إحداها غنيمةً بها ثلاثون نصرانيًّا وعدة صناديق بها أموال جزيلة، فدخلوا طرابلس فأحضرها خليل باي الجزائر بين يديه واغتصب منها أحد عشر نصرانيًّا واحتاط على الأموال بأسرها، فلم يُبقِ منها ولم يذرْ، واغتصب عدة صناديق بها آلات حرب وطردهم، فلما علم بذلك إبراهيم الشريف ورأى تجرؤَ خليل جمع جموعه ونصب ديوانًا في شأن تعدي خليل، فكان اتفاق الديوان على المدافعة والذب عن المال، فتجهز إبراهيم الشريف للخروج على طرابلس لمقاتلة خليل باي، فقدم قهواجي عثمان من الجزائر يحرضه على النهوض لطرابلس، وأرسل عساكر الجزائر مركبين لإبراهيم الشريف يطلبون منه الميرة؛ لقحط بلادهم تلك السنة، فتعلل إبراهيم الشريف باشتغاله بالسفر وعدم حصول الذخيرة، وأرسل لهم مائتي قنطار بشماطا، فلما جاءهم ذلك جمعوا ديوانًا، وقال حاكمهم: ألا ترون إلى إبراهيم الشريف يعطي القمح للنصارى ويمنع المسلمين، فما يريد إلا توهين عساكر الجزائر ليتقوى عليها، فخرج إبراهيم الشريف إلى طرابلس في العشر الأواخر من جمادى الآخرة من هذه السنة، فالتقى الجمعان في الثاني عشر من شعبان, فلم تكن إلا ساعة وانهزم خليل باي وأُخِذ منه مِدفَعا نحاس وثماني رايات وبغلان محملان مالًا، ومات من قوم خليل أزيد من ألف نفس وأُسر منه مثلُها، وفر خليل هاربًا فتبعته خيول إبراهيم الشريف فتنكر ودخل المدينة خائفًا من قومه حيث أوردهم هذه الموارد وما فعل بأهاليهم، ومكث إبراهيم محاصرًا لهم فضايق البلد أشدَّ مضايقة فطلبوا العفوَ وبذلوا المال، فأبى وامتنع، فتجدَّدت الحرب بين الفريقين ولم يزل متماديًا حتى قام الطاعون في المحلة ومات منها خلق كثير وفرَّ عنه العرب.
أبو القاسمِ الفَضلُ ابنُ المُقتَدر جعفر بن المعتضد أحمد بن الموفق الخليفة العباسي. ولدَ سنة 301 وبويع بالخلافةِ بعد خَلعِ المُستكفي نفسَه سنة 334، وأمُّه اسمُها مشغلة أمُّ ولد. كان مقهورًا مع نائب العراقِ ابنِ بُوَيه مُعِزِّ الدولة الذي قرَّرَ له في اليومِ مائة دينار فقط. ولَمَّا اشتَدَّ الغَلاءُ المُفرطُ ببغداد، اشتري المطيعُ لله لمعِزِّ الدولةِ كر دقيقٍ بعشرين ألف درهم, وفي سنة 360 فُلِجَ المُطيعُ، وبطَلَ نِصفُه، وتمَلَّكَ في أيَّامِه بنو عُبَيدٍ مِصرَ والشَّام، وأذَّنُوا بدمشق " بحيَّ على خير العمل "، وغلت البلادُ بالرَّفضِ شرقًا وغربًا، وخَفِيَت السنَّةُ قَليلًا، واستباحت الرومُ نصيبين وغيرَها، فلا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله، ولَمَّا تحكَّم الفالِجُ في المطيعِ دعاه سبكتكين الحاجِبُ التركيُّ إلى عزلِ نَفسِه، وتسليمِ الخلافةِ إلى ابنِه الطائِعِ لله، ففعل ذلك في ثالثَ عشر من ذي القعدة سنة 363, ولَمَّا استفحل بلاءُ اللُّصوصِ ببغداد، ورَكِبوا الخيل، وأخذوا الخفارةَ، وتلقَّبوا بالقُوَّاد. خرج المطيعُ وولده الخليفةُ الطائِعُ لله إلى واسط فمات المطيعُ هناك في المحرم سنة 364 بعد ثلاثة أشهر من عزلِه. وعمره 63 سنة، فكانت خلافته ثلاثين سنة سوى أشهر. وفي أيَّامه سنة 316 تلقَّب عبد الرحمن الناصر صاحبُ الأندلس بأمير المؤمنين. وقال: أنا أحقُّ بهذا اللقبِ مِن خليفةٍ تحت يدِ بني بُوَيه. قال الذهبي: " وصدق النَّاصِرُ؛ فإنَّه كان بطلًا شُجاعًا سائسًا مَهيبًا، له غَزَواتٌ مَشهودةٌ، وكان خليقًا للخلافةِ"
سار الأميرُ أبو القاسم، أميرُ صقليَّة، من المدينةِ يريدُ الجِهادَ، وسببُ ذلك أنَّ مَلِكًا مِن مُلوكِ الفِرنجِ، يقال له بردويل، خرجَ في جموعٍ كثيرةٍ مِن الفرنجِ إلى صقليَّةَ، فحصَرَ قَلعةَ مَلطةَ ومَلَكَها، وأصاب سريتَينِ للمُسلمينِ، فسار الأميرُ أبو القاسم بعساكِرِه ليُرحِّلَه عن القلعة، فلمَّا قاربَها خاف وجَبُن، فجمع وجوهَ أصحابِه، وقال لهم: إنِّي راجِعٌ مِن مكاني هذا، فلا تكسروا عليَّ رأيي. فرجع هو وعساكِرُه، وكان أسطولُ الكُفَّارِ يُسايرُ المُسلِمينَ في البَحرِ، فلمَّا رأَوا المُسلِمينَ راجِعينَ أرسَلوا إلى بردويل، ملِكِ الرُّومِ، يُعلِمونَه ويقولونَ له: إنَّ المُسلِمينَ خائِفونَ منك، فالحَقْ بهم فإنَّك تظفَرُ. فجَرَّد الفرنجيُّ عَسكَرَه من أثقالِهم، وجَدَّ في السير، فأدركهم في العشرينَ مِن المحرم، فتعبَّأ المسلمون للقتال، واقتتلوا، واشتَدَّت الحرب بينهم، فحَمَلَت طائفةٌ مِن الفرنج على القلبِ والأعلام، فشَقُّوا العسكر ووصلوا إليها، وقد تفَرَّق كثيرٌ مِن المسلمين عن أميرِهم أبي القاسم، واختَلَّ نِظامُهم، فوصل الفرنجُ إليه، فأصابته ضربةٌ على أمِّ رأسِه فقُتِل، وقُتِلَ معه جماعةٌ مِن أعيانِ النَّاسِ وشُجعانِهم، ثم إنَّ المنهزمين من المسلمين رجعوا مُصَمِّمينَ على القتال ليظفَروا أو يموتوا، واشتَدَّ حينئذ الأمرُ، وعَظُمَ الخَطبُ على الطائفتين، فانهزم الفرنجُ أقبَحَ هَزيمةٍ، وقُتِلَ منهم نحوُ أربعة آلافِ قَتيلٍ، وأُسِرَ مِن بطارقتهم كثيرٌ، وتبعوهم إلى أن أدركَهم الليل، وغَنِموا من أموالِهم كثيرًا. وأفلَتَ مَلِكُ الفِرنجِ هاربًا ومعه رجلٌ يهوديٌّ كان خصيصًا به، فوقف فرَسُ الملك، فقال له اليهودي: اركَبْ فَرَسي، فإن قُتِلْتُ فأنت لوَلَدي. فرَكِبَه المَلِكُ وقُتِلَ اليهودي، فنجا المَلِكُ إلى خيامِه وبها زوجتُه وأصحابه فأخذهم وعاد إلى روميَّة، ولَمَّا قُتِلَ الأميرُ أبو القاسم كان معه ابنُه جابر، فقام مقامَ أبيه، ورحل بالمسلمينَ لِوَقتِهم، ولم يمكِّنْهم من إتمام الغنيمةِ، فتركوا كثيرًا منها، وسأله أصحابُه ليُقيمَ إلى أن يجمَعَ السِّلاحَ وغَيرَه ويَعمُرَ به الخزائِنَ، فلم يفعل، وكانت ولايةُ أبي القاسم على صقلية اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام. وكان عادلًا، حسنَ السيرة، كثيرَ الشَّفَقة على رعيَّتِه والإحسانِ إليهم، عظيمَ الصدقةِ، لم يُخَلِّفْ دينارًا ولا درهمًا ولا عقارًا؛ فإنه كان قد وقف جميعَ أملاكِه على الفُقَراء وأبوابِ البِرِّ.
هو السُّلطانُ الأَميرُ شَرفِ الدَّولةِ أبو المَكارِمِ مُسلِمُ بن مَلِكِ العَربِ أبي المعالي قُريشِ بن بدران بن مُقَلَّدٍ حُسام الدَّولةِ أبي حَسَّان بن المُسَيِّب بنِ رافعٍ العقيليُّ, كان يَتَرَفَّض كأَبيهِ, ونَهَبَ أَبوهُ دارَ الخِلافَةِ في فِتنَةِ البساسيري، وأَجارَ القائمَ بالله, وماتَ سَنةَ 453هـ كَهْلًا، فقامَ شَرفُ الدولةِ بعدَه، واستَولَى على دِيارِ رَبيعةَ، ومُضَر، وتَمَلَّكَ حَلَب، وأَخذَ الحملَ والإتاوةَ من بلادِ الرُّومِ في أنطاكية، ونَحوِها. وسار إلى دِمشقَ فحاصَرَها. وكان قد تَهَيَّأَ له أَخذُها، فبَلغَه أنَّ حران قد عَصَى عليه أَهلُها، فسار إليهم، فحارَبَهم وحارَبوهُ، فافتَتَحها وبَذلَ السَّيْفَ، وقَتَلَ بها خِلْقًا من أَهلِ السُّنَّةِ. قال الذهبيُّ: "كان رافِضِيًّا خَبِيثًا، أَظهرَ ببِلادِه سَبَّ السَّلَفِ، واتَّسَعَت مَملكتُه، وأَطاعَتهُ العَربُ، واستَفحلَ أَمرُه حتى طَمِعَ في الاستِيلاءِ على بغداد بعدَ وَفاةِ طُغرلبك. وكان فيه أَدَبٌ، وله شِعرٌ جَيِّدٌ. وكان له في كلِّ قَريةٍ قاضٍ، وعاملٌ، وصاحِبُ خَبَرٍ. وكان أَحْوَلَ، له سِياسَةٌ تامَّةٌ. وكان لِهَيْبَتِه الأَمنُ وبعضُ العَدلِ في أيامِه مَوجودًا. وكان يَصرِف الجِزيةَ في بِلادِه إلى العَلَوِيِّين". وهو الذي عَمَّرَ سُورَ المَوصِل وشَيَّدَها في سِتَّةِ أَشهُر من سَنةِ 474هـ. ثم إنه جَرَى بينه وبين السُّلطانِ سُليمان بن قتلمش السلجوقي مصاف على بابِ أنطاكية، كان سُليمانُ بن قتلمش قد مَلَكَ مَدينةَ أنطاكية، فلمَّا أَرسلَ إليه شَرفُ الدولةِ مُسلمَ بن قريش يَطلُب منه ما كان يَحمِلُه إليه الفردوس من المالِ، أَجابهُ بأن المالَ الذي كان يَحمِلُه صاحِبُ أنطاكية فإنَّما هو لِكَونِه كافرًا، وكان يَحمِل جِزيةَ رَأسِه وأَصحابِه، وهو بِحَمدِ الله مُؤمنٌ، فنَهَبَ شَرفُ الدولةِ بَلدَ أنطاكية، فنَهبَ سُليمانُ أيضًا بَلدَ حَلَب، فلَقِيَهُ أَهلُ السَّوادِ يَشكُون إليه نَهْبَ عَسكرِه، فقال:أنا كنتُ أَشَدَّ كَراهِيةً لما يَجرِي، ولكنَّ صاحِبَكم أَحوَجَني إلى ما فَعلتُ، ولم تَجرِ عادَتي بنَهبِ مالِ مُسلمٍ، ولا أَخْذِ ما حَرَّمَتهُ الشَّريعةُ. وأَمَرَ أَصحابَه بإعادَةِ ما أَخذوهُ منهم، فأَعادَهُ، ثم إن شَرفَ الدولةِ جَمعَ الجُموعَ من العَربِ والتُّركمانِ، وسار إلى أنطاكية لِيَحصرَها، فلمَّا سَمِعَ سُليمانُ الخَبرَ جَمعَ عَساكِرَه وسار إليه، فالتَقَيا في طَرفٍ من أَعمالِ أنطاكية، واقتَتَلوا، فانهَزمَت العَربُ، فتَبِعَهم شَرفُ الدولةِ مُنهَزِمًا، ثم قُتِلَ، وله بِضعٌ وأَربعون سَنَةً. ولما قُتِلَ قَصدَ بَنُو عُقيلٍ أَخاهُ إبراهيمَ بنَ قُريشٍ، وهو مَحبوسٌ، فأَخرَجوهُ ومَلَّكوهُ أَمرَهُم، وكان قد مَكثَ في الحَبسِ سِنينَ كَثيرةً بحيث إنَّه لم يُمكِنهُ المَشيُ والحَركةُ لمَّا أُخرِجَ، ثم سار سُليمانُ بن قتلمش إلى حَلَب فحَصرَها مُستَهلَّ رَبيعٍ الأوَّلِ، فأَقامَ عليها إلى خامسِ رَبيعٍ الآخرَ، فلم يَبلُغ منها غَرَضًا، فرَحلَ عنها.
هو المَلِك فيصل بنُ عبدِ العزيز بنِ عبد الرحمن الفيصل آل سعودٍ، الابنُ الثالث لوالده الملك المؤسِّس عبد العزيز رحمهما الله. وُلِد في مدينة الرياض في 14 صفر سنة 1324هـ / 1906م في عام انتصار والده على ابن رشيد في القصيم. شارك في سنٍّ مبكِّرة في المعارك والأحداث التي واكبت نُشوء المملكة؛ ففي عام 1345هـ- 1927م ندبه والده لينوبَ عنه في المباحثاتِ مع بريطانيا التي انتهت بالتوقيع على معاهدة جدَّة في 18 شوال 1345هـ / 20 مايو 1927م التي اعترفت بريطانيا بمقتضاها بحكومةِ الملك عبدِ العزيز بعد ضمِّه للحجاز، ثم قام بعدَها بزيارة معظمِ دول أوروبا وآسيا، ممثلًا بلادَه في مختلِف المؤتمراتِ، وكان هذا الحضور عاملًا لبلورة مَلَكة القيادةِ لديه التي برزت في أخذه المملكة نحوَ آفاق التطوير المدنيِّ والعلميِّ الحديث أثناء تولِّيه رئاسة الحكومة في مملكة الحجازِ، ونيابته عن والدِه، أو رئاسته لمجلس الشورى، أو تولِّيه وزارة الخارجية أو رئاسة مجلس الوكلاء، ثم رئاسة مجلس الوزراء، إلى أن بويعَ بولاية العهد في 11 ربيع الأول 1373 هـ / 9 نوفمبر 1953م، وفي يوم الاثنين 27 جمادي الآخرة عام 1384هـ / 3 نوفمبر 1964 بايع الشعب العربيُّ السعوديُّ بالإجماع الملكَ فيصل بنَ عبدِ العزيز ملكًا شرعيًّا على المملكة العربية السعودية, وكان طوال عهده عُرف بعداوته للتوجُّهات اليسارية الشيوعية سواء كانت في أشخاصٍ أو تياراتٍ أو أنظمة؛ ولهذا السبب كان خلافُه مع جمال عبد الناصر. في صباح يوم الثلاثاء 13 ربيع الأول 1395هـ الموافق 25 مارس كان الملك فيصل يستقبل زوَّارَه بمقرِّ رئاسة الوزراء بالرياض، وكان في غرفة الانتظار وزيرُ النفط الكويتي الكاظمي، ومعه وزير البترول السعودي أحمد زكي يماني. ووصل في هذه الأثناءِ الأميرُ فيصل بنُ مساعد بنِ عبد العزيز أخو الأمير الشاعرُ عبد الرحمن بنُ مساعد، طالبًا الدخول للسلام على عمِّه. وعندما همَّ الوزيرانِ بالدخول على الملك فيصل دخل معهما ابنُ أخيه الأمير فيصل بن مساعد. وعندما همَّ الملك فيصل بالوقوف له لاستقبالِه كعادته مع الداخلينَ عليه للسلامِ، أخرجَ الأميرُ فيصل بن مساعد مسدَّسًا كان يُخفيه في ثيابِه، وأطلق منه ثلاثَ رصاصاتٍ أصابت الملكَ في مقتلٍ في رأسِه. ونُقِل الملك فيصل على وجه السرعةِ إلى المستشفى المركزيِّ بالرياض، ولكنَّه توفِّيَ من ساعته رحمه الله، أما القاتلُ فقد قُبِض عليه، وأودِعَ السجن. وبعد التحقيق معه نُفِّذ فيه حكمُ القِصاصِ قتلًا بالسيفِ في مدينة الرياض، بعد 82 يومًا من قَتلِه للملك فيصل في يوم الأربعاء 9 جمادى الآخرة الموافق 18 يونيه، ثم تولى المُلْك بعده ولي العهد الملك خالد بن عبد العزيز.
كان الملك فرديناند قد أظهر للمسلمين في الأيام الأولى من تسليم غرناطة العناية والاحترام حتى كان النصارى يَغيرون منهم ويحسدونهم ويقولون لهم أنتم الآن عند ملكنا أعز وأكرم منا، ووضع عنهم المغارم وأظهر لهم العدل حيلة منه وكيدًا؛ ليغرَّهم بذلك وليثبطهم عن الجواز، فوقع الطمع لكثير من الناس، وظنوا أن ذلك يدوم لهم فاشتروا أموالًا رخيصة وأمتعة أنيقة وعزموا على الجلوس مع النصارى، ثم إن فرديناند أمر الأمير محمد بن علي أبا عبد الله الصغير بالانصراف من غرناطة إلى قرية أندرش من قرى البشرة، فارتحل الأمير محمد بعياله وحشمه وأمواله وأتباعه، فنزل قرية أندرش وأقام بها ينتظر ما يؤمر به، ثم إن الملك فرديناند ظهر له أن يصرف الأمير أبا عبد الله الصغير إلى العدوة فأمره بالجواز وبعث للمراكب أن تأتي إلى مرسى عذرة، واجتمع معه خلق كثير ممن أراد الجواز فركب الأمير محمد ومن معه في تلك المراكب في عزة واحترام وكرامة مع النصارى، وساروا في البحر حتى نزلوا مدينة مليلة من عدوة المغرب، ثم ارتحل إلى مدينة فاس, وكان من قضاء الله وقدره أنه لما جاز أبو عبد الله الصغير وسار إلى مدينة فاس أصاب الناس شدة عظيمة وغلاء مفرِط وجوع وطاعون، واشتد الأمر بفاس حتى فر كثير من الناس من شدة الأمر، ورجع بعض الناس من الذين جازوا إلى الأندلس فأُخبروا بتلك الشدة فقصر الناس عن الجواز, فعزموا على الإقامة والدجن-المداهنة- ولم يجوز النصارى أحدًا بعد ذلك إلا بالكراء والمغرم الثقيل وعُشر المال، فلما رأى فرديناند أن الناس قد تركوا الجواز وعزموا على الدجن والاستيطان والمقام في الأوطان أخذ في نقض الشروط التي شرطوا عليه، ولم يزل ينقضها شرطًا شرطًا ويحلها فصلًا فصلًا إلى أن نقض جميعها وزالت حرمة الإسلام عن المسلمين وأدركهم الهوان والذلة، واستطال النصارى عليهم، وفُرِضت عليهم الفروضات وثَقُلت عليهم المغارم، وأمرهم بالخروج من مدينة غرناطة إلى الأرباض والقرى، فخرجوا أذلة صاغرين!
أما الأمير أبو عبد الله الصغير فبعد أن لجأ إلى مدينة فاس بالمغرب وسلطانها يومئذ محمد الشيخ الوطاسي المعروف بالبرتغالي، بقي فيها ذليلًا حقيرًا يستعطف الناس إلى أن توفي سنة 940 عن عمر 73سنة.
هو أبو إسحاقَ محمَّد المعتَصِم بالله بن هارون الرَّشيد بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ثامِنُ الخُلَفاءِ العباسيِّينَ، وُلِدَ سنة 179ه يوم الخميسِ لثماني عشرة مَضَت من ربيع الأول، بُويع بالخلافةِ يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلةً بَقِيَت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين، وبعد ذلك بأيَّامٍ اجتمع جماعةٌ من الجند وشغَّبوا وتحدَّثوا في بيعةِ العبَّاسِ بنِ المأمونِ وأظهروا خلافَ المعتَصِم، ومَضَوا بأسْرِهم إلى مضارِبِ العبَّاسِ فخرج إليهم وقال لهم: أيَّ شيءٍ تُريدونَ منِّي؟ قالوا: نبايعُك بالخلافةِ، قال: أنا قد بايعتُ عمِّي ورَضيتُ به، وهو كبيرى وعندي بمنزلةِ المأمونِ، فانصرفوا خائبينَ، واستمَرَّت في عهدِه فِتنةُ القَولِ بخَلقِ القُرآن, وإنَّما حثَّ المعتَصِمَ على ذلك وحمَلَه على ما فعل به أحمَدُ بنُ أبى دؤادَ؛ لأنَّه كان معتزليًّا، وكان الإمامُ أحمدُ إمامَ السُّنَّة. وحين أحضَرَه المعتَصِم بين يديه سلَّم وتكلَّم بكلامٍ أعجب النَّاسَ، فالتَفَت المعتَصِمُ إلى ابنِ أبى دؤاد، وقال: ذكرتُم أنَّ الرجُلَ عامِّيٌّ، وأراه يذكُرُ بَيتًا قديمًا وشهد له كلُّ من حضر بأنَّه مِن سُراةِ بني شَيبانَ، ثمَّ قال: وذكَرْتُم لي أنَّه جاهِلٌ، وما أراه إلَّا مُعرِبًا فَصيحًا، فأكرَمَ الإمامَ أحمدَ. وكان الإمامُ أحمَدُ بنُ حنبل إلى أن مات يُثني على المعتَصِم ويذكُرُ فِعلَه به ويترحَّمُ عليه. غزا المعتَصِمُ مدينةَ عَمُّوريَّة، وهي من أعظَمِ مُدُنِ الرُّوم كالقُسطنطينيَّة لرَدِّ عدوانِ مَلِك الرومِ على المسلمينَ في زبطرة، فكانت غزوةً مشهورةً نصر اللهُ فيها الإسلامَ والمُسلِمينَ، وكان بدءُ عِلَّتِه أنَّه احتجم أوَّلَ يومٍ في المحَرَّم، واعتَلَّ عِندَها،وكانت خلافتُه ثماني سنينَ وثمانية أشهُر ويومين، وتوفِّيَ بمدينةِ سامِرَّاء.