أوَّلُ ما غَزا النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الأَبْواءَ ثمَّ بُواطَ ثمَّ العُشَيْرَةَ. وهي قريةٌ مِن عَمَلِ الفُرْعِ، بينها وبين الجُحْفَةِ مِن جِهَةِ المدينةِ ثلاثةٌ وعِشرون مِيلًا. قِيلَ سُمِّيتْ بذلك لِما كان فيها مِنَ الوَباءِ، وهي غَزوةُ وَدَّانَ بِتَشديدِ الدَّالِ، قال إسحاقُ: خرج النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم غازِيًا بِنَفْسِهِ حتَّى انتَهى إلى وَدَّانَ، وهي الأَبْواءُ. خرج مِنَ المدينةِ على رأسِ اثنيْ عشرَ شهرًا مِن مَقْدَمِهِ المدينةَ يُريدُ قُريشًا، فَوادَعَ بني ضَمْرَةَ بنِ بكرِ بنِ عبدِ مَناةَ، مِن كِنانةَ، وادَعَهُ رَئيسُهم مَجْدِيُّ بنُ عَمرٍو الضَّمْريُّ، ورجع بغيرِ قِتالٍ. وكان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد استعمل على المدينةِ سعدَ بنَ عُبادةَ. وقِيلَ: إنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا وصل إلى الأَبْواءِ بعَث عُبيدةَ بنَ الحارثِ في سِتِّينَ رجلًا فَلَقوا جمعًا مِن قُريشٍ فتَراموا بالنَّبْلِ، فَرَمى سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ بِسَهمٍ، وكان أوَّلَ مَن رَمى بِسَهمٍ في سَبيلِ الله.
غَزا نَصرُ بن سِيار أَميرُ خُراسان غَزَوات مُتعدِّدَة في التُّرك، وأَسَرَ مَلِكَهم كور صول في بَعضِ تلك الحُروب وهو لا يَعرِفُه، فلمَّا تَيَقَّنه وتَحَقَّقه، سأَل منه كور صول أن يُطلِقَه على أن يُرسِلَ له أَلفَ بَعير مِن إِبِل التُّرك -وهي البَخاتي- وأَلفَ بِرْذَون، وهو مع ذلك شَيخٌ كَبيرٌ جِدًّا، فشاوَرَ نَصرُ مَن بِحَضرَتِه مِن الأُمراء في ذلك، فمنهم مَن أشار بإطلاقه، ومنهم مَن أشار بِقَتلِه. ثمَّ سأله نَصرُ بن سِيار كم غَزوَتَ مِن غَزوَة؟ فقال: ثِنْتَينِ وسبعين غَزوَة. فقال له نَصر: ما مِثلُك يُطلَق، وقد شَهِدتَ هذا كُلَّه. ثمَّ أَمَر به فضُرِبَت عُنقُه وصَلَبَه، فلمَّا بَلَغ ذلك جَيشَه مِن قَتلِه باتوا تلك اللَّيلةَ يَجْعَرُون ويَبْكون عليه، وجَذُّوا لِحاهُم وشُعورَهم وقَطَعوا آذانَهم وحَرَقوا خِيامًا كَثيرة، وقَتَلوا أَنعامًا كَثيرَة، فلمَّا أَصبحَ أَمَرَ نَصرٌ بإِحراقِه لِئَلَّا يأخذوا جُثَّتَه، فكان حَرقُه أَشَدَّ عليهم مِن قَتلِه، وانصرفوا خائِبين صاغِرين خاسِرين، ثمَّ كَرَّ نَصر على بِلادِهم فقَتَل منهم خَلقًا وأَسَر أُمَمًا لا يُحصون كَثرَةً.
هو أبو عبدِ الله أحمدُ بنُ مُحمَّد بن حنبل بن هلال بن أسَدٍ الشَّيباني المروزي، نزيل بغداد، أحدُ الأئمَّة الأربعة المشهورينَ في الفقهِ، ثِقةٌ حافِظٌ، فقيهٌ حُجَّةٌ، وهو رأسُ الطَّبقة العاشرة، خرجت أمُّه من مرو وهي حامِلٌ به، فولدته في بغداد، في شهرِ ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة، وقيل: إنَّه وُلِدَ بمَروٍ وحُمِلَ إلى بغداد وهو رضيعٌ. نشأ وتعلَّمَ ببغداد. كان مخضوبًا، طُوالًا، أسمرَ شديدَ السُّمرةِ. توفِّيَ والِدُه وهو شابٌّ, وتزوَّجَ بعد الأربعينَ. ورحل كثيرًا. وعُنِيَ بطلب الحديث، تفَقَّه على الشافعي، وكان له اجتهادٌ حتى صار إمامًا في الحديث والعِلَل، إمامًا في الفِقهِ، كلُّ ذلك مع وَرَعٍ وزُهدٍ وتقَشُّف، وإليه تُنسَبُ الحنابلة، هو الذي وقَفَ وقفَتَه المشهورةَ في مسألةِ خَلقِ القرآن فأبى أن يجيبَهم على بدعتِهم، فضُرِبَ بالسِّياطِ أيَّامَ المعتَصِم والواثِقِ، وبَقِيَ قبلها تحت العذابِ قُرابةَ الأربع سنينَ، وكلُّ ذلك هو ثابتٌ بتثبيت الله له، ثمَّ في عهد الواثقِ مُنِعَ من الفُتيا، وأُمِرَ بلُزومِ بَيتِه كإقامةٍ جَبريَّةٍ، ولم ينفرِجْ أمرُه حتى جاء المتوكِّلُ ورفع هذه المحنةَ، بقي قرابةَ الأربع عشرة سنةً في هذه المحنةِ بين ضَربٍ وحَبسٍ وإقامةٍ جَبريَّة، فكان من الذين قال اللهُ فيهم: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، وكان الذين ثَبَتوا على الفتنةِ فلم يجيبوا بالكليَّة: خمسة: أحمدُ بن حنبل وهو رئيسهم، ومحمَّد بن نوح بن ميمون الجند النيسابوري- ومات في الطريقِ- ونُعَيم بن حماد الخزاعي- وقد مات في السِّجنِ- وأبو يعقوب البويطي- وقد مات في سِجنِ الواثقِ على القول بخلق القرآنِ، وكان مُثقلًا بالحديد- وأحمدُ بنُ نصر الخزاعي، قَتَلَه الواثق، قال يحيى بن معين: "كان في أحمدَ بنِ حَنبل خِصالٌ ما رأيتُها في عالم قَطُّ: كان مُحدِّثًا، وكان حافِظًا، وكان عالِمًا، وكان وَرِعًا، وكان زاهِدًا، وكان عاقِلًا" قال الشافعي: "خرجتُ من العراق فما تركت رجلًا أفضَلَ ولا أعلَمَ ولا أورَعَ ولا أتقى من أحمدَ بنِ حنبل" وقال المُزَني: أحمدُ بن حنبل يومَ المحنة، وأبو بكرٍ يومَ الرِّدَّة، وعُمَرُ يومَ السقيفة، وعُثمانُ يومَ الدار، وعليٌّ يومَ الجَمَلِ وصِفِّين"، وكان- رحمه الله- إمامًا في الحِفظِ، قال أبو زرعة: "كان أحمدُ بنُ حنبل يحفَظُ ألفَ ألف حديثٍ، فقيل: له وما يدريك، قال: ذاكرتُه فأخذت عليه الأبوابَ", وقيل لأبي زُرعةَ: من رأيتَ من المشايخ المحدِّثين أحفَظَ؟ فقال: أحمد بن حنبل، حَزَرتُ كُتُبَه اليومَ الذي مات فيه، فبلغت اثني عشر حِملًا وعِدلًا، ما كان على ظَهرِ كتابٍ منها حديثُ فلان، ولا في بطنِه حديثُ فلانٍ، وكلُّ ذلك كان يحفَظُه عن ظَهرِ قَلبِه", وقال إبراهيم الحربي: "رأيتُ أحمدَ بنَ حنبل كأنَّ اللهَ قد جمع له عِلمَ الأوَّلينَ والآخِرينَ مِن كلِّ صِنفٍ، يقولُ ما شاء، ويُمسِكُ ما شاء". له كتابُ المُسنَد المشهورُ، وله غيرُ ذلك في الجرحِ والتعديل والعِلَل، توفي في بغداد، وكانت جنازتُه مشهودةً, وقيل: لَمَّا مات الإمامُ أحمد صلَّى عليه ألفُ ألفٍ وسِتُّمائة ألف رجلٍ، وأسلم وراءَ نَعشِه أربعةُ آلافِ ذِمِّي مِن هَولِ ما رأَوا.، فرَحِمَه اللهُ تعالى، وجزاه الله خيرًا عن الإسلامِ والمسلمين.
كان المستنصِرُ بالله أبو القاسِمِ أحمَدُ بن أمير المؤمنين الظاهِر مُعتقَلًا ببغداد فأُطلِقَ، وكان مع جماعةِ الأعراب بأرض العراق، ثم قصَدَ الظاهر بيبرس حين بلغه تسلطُنَه بمصر، فقدم إليه بصحبته جماعةٌ مِن أمراء الأعراب عشرةٌ منهم الأمير ناصر الدين مهنا في ثامن رجب من هذه السنة، فخرج السلطانُ الظاهر ومعه الوزير والشهود والمؤذنون فتلَقَّوه وكان يومًا مشهودًا، وخرج أهلُ التوراة بتوراتهم، والنصارى بإنجيلهم، ودخل مِن باب النصر في أبهةٍ عظيمة، فلما كان يوم الاثنين ثالث عشر رجب جلس السلطان والخليفة بالإيوان بقلعةِ الجبل، والوزيرُ والقاضي والأمراء على طبقاتهم، وأثبت نَسَب الخليفة المستنصر بالله على الحاكِم تاج الدين بن الأعز، وهذا الخليفةُ هو أخو المستنصر باني المستنصريَّة، وعم المستعصِم بالله، فبويع بالخلافةِ بمصرَ، بايعه المَلِك الظاهر والقاضي والوزير والأمراء، وركب في دست الخلافةِ بديار مصر والأمراء بين يديه والناسُ حَولَه، وشَقَّ القاهرة في ذلك اليوم، وهو الخليفة الثامن والثلاثون من خلفاء بني العباس، بينه وبين العباس أربعة وعشرون أبًا، قال عز الدين بن عبد السلام: لما أخَذْنا في بيعة المستنصر باللهِ، قلت للملك الظاهر: بايِعْه، فقال: ما أُحسِنُ، لكن بايِعْه أنت أوَّلًا وأنا بعدك، فكان أوَّلَ من بايعه القاضي تاج الدين لما ثَبت نَسَبه، ثم السلطان ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثم الأمراء والدولة، وخطب له على المنابر، وضُرِبَ اسمُه على السكة وكان مَنصِبُ الخلافة قد شغر منذ ثلاثِ سنين ونصف؛ لأنَّ المستعصم بالله قُتِلَ في أول سنة ست وخمسين وستمائة، وبويع هذا في يوم الاثنين في ثالث عشر رجب من هذه السنة، وقد أُنزل الخليفةُ المستنصر بالله وحَشَمُه في البرج الكبير بقلعة الجبل، فلما كان يوم سابع رجب ركب في السواد وجاء إلى الجامِعِ بالقلعة فصَعِدَ المنبر وخطب خطبةً ذكر فيها شَرَفَ بني العباس، ثم استفتح فقرأ صدرًا من سورة الأنعام، ثم صلى على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم ترضى عن الصحابةِ ودعا للسلطان الظاهر، ثم نزل فصلى بالنَّاسِ فاستحسنوا ذلك منه، وكان وقتًا حسنًا ويومًا مشهودًا، ثم لما كان يوم الاثنين الرابع من شعبان، ركب الخليفةُ والسلطان والوزير والقضاة والأمراء وأهل الحَل والعَقدِ إلى خيمة عظيمةٍ قد ضُرِبَت ظاهِرَ القاهرةِ فجلسوا فيها، فأُلبِسَ الخليفةُ السلطان بيده خلعةً سوداء، وطوقًا في عنقه، وقيدًا في رجليه وهما من ذهب، ثمَّ إن الخليفة طلب من السلطان أن يجَهِّزَه إلى بغداد، فرتَّبَ السلطان له جندًا هائلة وأقام له من كل ما ينبغي للخلفاء والملوك، ثم سار السلطانُ بصحبته قاصدين دمشق فدخلوا دمشقَ يوم الاثنين سابع ذي القعدة، وكان يومًا مشهودًا، وصلَّيَا الجمعة بجامع دمشق، وكان دخولُ الخليفة من باب البريد، ودخل السلطانُ من باب الزيارة، وكان يومًا مشهودًا أيضًا، ثم جهَّزَ السلطان بيبرس الخليفةَ المستنصر بالله إلى بغداد ومعه أولاد صاحِبِ الموصل, وأنفق عليه وعليهم وعلى من استقَلَّ معه من الجيش الذين يَرِدونَ عنه من الذَّهَب العين ألف ألف دينار، وأطلق له وزاده، فجزاه الله خيرًا.
هو أميرُ المؤمنينَ الخليفةُ المستنصِرُ بالله أبو القاسِمِ أحمد بن الظاهر بأمر الله محمد بن الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء بالله الهاشمي العباسي، البغدادي، الأسود. ولي الخلافةَ بعد قتل ابن أخيه المستعصِم بالله بن المستنصر بالله منصور بثلاثِ سنينَ، في وقتٍ خلا فيه من خليفة للمسلمين. وكان شديدَ السُّمرة، جَسيمًا، عاليَ الهمة، شجاعًا، قال الإمام أبو شامة: في رجب قُرئ بالعادلية كتابُ السلطان الظاهِر بيبرس إلى قاضي القضاة نجمِ الدين بن سني الدولة بأنَّه قَدِمَ عليهم بمصر أبو القاسم أحمد بن الظاهر بن الناصر، وهو أخو المستنصر بالله، وأنه جمَعَ له الناسَ مِن الأمراء والعلماء والتجَّار، وأثبت نَسَبَه عند قاضي القضاة في ذلك المجلس، فلما ثبت بايعَه الناس، وبدأ بالبيعة القاضي تاج الدين، ثمَّ السلطان الملك الظاهر، ثم الكبار على مراتبهم، ونُقِشَ اسمُه على السكة، وخَطَب له ولُقِّبَ بلَقَب أخيه، وفَرِحَ النَّاسُ, ثم رتَّبَ له السلطان أتابكًا، وأستاذ دار، وشرابيًّا، وخزندارًا- ممسك خزانة المال-، وحاجِبًا، وكاتبًا، وعَيَّنَ له خزانةً وجُملةَ مماليك، ومائة فرس، وثلاثين بغلًا، وعشرة قطارات جمال، إلى أمثال ذلك, ثم عزم الخليفةُ على التوجه إلى العراق, فحَسَّن له السلطان ذلك وأعانه, وسار من مصر هو والسلطانُ في تاسع عشر رمضان فدخلوا دمشق في سابع ذي القعدة، ثم جهَّزَ السلطان الخليفةَ وأولاد صاحِبِ الموصل، وغَرِمَ عليه وعليهم من الذهب فوق الألف ألف دينار، فسار الخليفةُ ومعه ملوك الشرق: صاحِبُ الموصل، وصاحِبُ سنجار والجزيرة من دمشق في الحادي والعشرين من ذي القعدة، ثم نزل الخليفةُ بمن معه مشهدَ عليٍّ رضي الله عنه، ولما وصلوا إلى عانة وجدوا بها الحاكِمَ بأمر الله أحمد، ومعه نحوٌ من سبعمائة نفس فاستمالهم الخليفةُ المستنصر، وأنزل الحاكِمَ معه في دهليزه، وتسلَّم الخليفةُ عانة، فلما بلغ المغولَ وصولُ الخليفة المستنصر بالله العراق. خرج قرابغا مُقَدَّم التتار من بغداد- وكان قد استخلفه هولاكو عليها عند عودِه إلى بلاد الشرق- يريد لقاء الخليفة المستنصِر بالله ومحاربته، فنهب الأنبارَ وقَتَل جميعَ من فيها، وتلاحقت به بقيَّةُ التتار من بغداد، ولَقِيَهم الخليفة وقد رتَّب عسكره، فجعل التركمانَ والعرب جناحَي العسكر، واختص جماعةً جَعَلَهم في القلب، وحمَلَ بنفسه على التتار فكسَرَ مُقَدِّمَتَهم، وخذله العربُ والتركمان فلم يقاتِلوا، وخرج كمينٌ للتتار ففَرَّ العرب والتركمان، وأحاط التتار بمن بقي معه فلم يُفلِتْ منهم سوى الأميرِ أبي العباس أحمد الذي قَدِمَ إلى مصر بعد ذلك وتلَقَّب بالحاكم بالله، والأميرُ ناصر الدين بن مهنا، والأميرُ ناصر الدين بن صيرم، والأميرُ سابق الدين بوزبا الصيرفي، والأمير أسد الدين محمود، في نحو خمسينَ من الأجناد، ولم يُعرَف للخليفةِ خبَرٌ، فيقال قُتِلَ بالمعركة في ثالث المحرم، ويقال بل نجا مجروحًا في طائفةٍ مِن العرب فمات عندهم، وكانت هذه الواقعةُ في العشر الأول من المحرم، فكانت خلافتُه دون السَّنة، وبلغت نفقةُ الملك الظاهر على الخليفةِ والملوك المواصلة ألف ألف دينار وستين ألف دينار عينًا.
بعد سَيرِ القوات المصرية نحوَ الرياض وجدت التشجيعَ مِن سكَّانها الذين قَدِمَ منهم وفد؛ ليعلن ولاءَهم للجيش المصري، وفر منها المعارِضون من آلِ الشيخ إلى جهات الحلوة والحريق وحوطة بني تميم في جنوبي نجد. فأراد خالد بن سعود أن يُخضِعَ المناطِقَ الجنوبية من نجدٍ بالقوة، بعد أن رفضت طاعتَه، فكتب خالد إلى أمراء سدير والمحمل والوشم وبلدان العارض بالنفير معه لقتالِ مناطق الجنوب، فخرجوا جميعًا إلَّا أمير سدير أحمد بن محمد السديري، تخلَّف بسبب القَحطِ، واستنفر خالد أهلَ الرياض، فلما وصل الخرج استنفر أهلَها، فركب معهم فهد بن عفيصان، فاجتمع لخالد وإسماعيل 7000 مقاتِلٍ مِن الترك والعُربان وأهل البلدان المتابعين لهم، فقصدوا بلدة الحلوة. كان أهلُ الحلوة قد أخرجوا نساءهم وأبناءهم وأدخلوهم الحوطةَ، وكان الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ علي بن حسين، وعبد الملك بن حسين، وحسين بن حمد بن حسين -أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب- بعد أن أقبل عساكِرُ خالد وإسماعيل على الرياض؛ هربوا منه وسكنوا بلد الحوطة، وبعضهم نزل على تركي الهزاني في الحريق، فلما صارت هذه الحادثة جعل الله بسببهم ثباتًا لهم ويقينًا يشجعونهم ويأتمرون بأمرِهم ولا يقطعون أمرًا دون مشورتِهم، فلما دخل عسكر الترك حرة قرب بلدة الحلوة، صعد أهل الحلوة الجبَلَ لقتالِهم، فوقع القتال من أوَّلِ النهار إلى بعد الظهرِ، وهم في قتال وإقبال وإدبار، فأتى المدَدُ من أهل الحوطة والحريق وغيرهم، وحصلت مقتلة عظيمة على عسكر الترك وأتباعهم، فنزلت بهم هزيمةٌ ساحقة. يقول ابن بشر: وأول من انهزم الأعرابُ الذين مع العسكرِ، ثم وقعت الهزيمةُ العظيمة التي ما وقع لها نظيرٌ في القرون السالفة ولا في الخلوفِ الخالفة، على عساكِرِ التركِ وأعوانِهم، وهلكت تلك الجنودُ ما بين قتلٍ وظمأٍ، وذُكر لي أن الرجلَ من القرابة الذين ليس لهم خيلٌ لا ينهزِمُ أكثر من رميةِ بندقٍ، ولم ينجُ واحد منهم، وتفَرَّقت الخيالة في الشِّعابِ فهلكوا فيها ليس لهم دليل، ولا يهتدون إلى السبيل، ونجا خالدٌ بنفسِه ومن معه من أهل نجد، لما رأوا الهزيمة انهزموا وحدَهم، وتركوا عسكَرَهم وجندهم، وتزبن إسماعيل والمعاون وشرذمة معهم من الخيالة هزيمةَ خالد، فاجتمعوا به وساروا معه، وهربت الأعرابُ على رحايل العسكر، وتركوا جميعَ محلَّتِهم وأمتعتِهم، فغَنِمَ أهل الحوطة وأهل الحريق وأتباعُهم جميعَ ما معهم من الأموال والسلاح والخيام، وفيها من الذهب والفضة ما ليس له نظيرٌ، وذلك يوم الأربعاء منتصف ربيع الآخر، وكان معهم فهد بن عفيصان بغزوِ أهل الدلم، فهرب عنهم في الليل، فلما وصل بلده أخبرهم بالأمرِ، وأمرهم يخرُجون ويأخذون ما وجدوا منهم، فتلقَّاهم غزوان أهل نجد وهزموهم إلى بلدِهم ونزلوا عندها، وحصل بينهم وبين أهلِها مناوشة رميٍ بالبنادق، ووافاهم أحمد السديري بغزو أهل سدير فيها، ثم إن خالدًا وإسماعيل وأتباعَهم رحلوا من الدلم وقصدوا الرياضَ ودخلوها. قيل: إن الذي نجا من الخيَّالة مع إسماعيل قريبٌ من مائتين دخلوا معه الرياض، وكان قد أبقى في الرياضِ لَمَّا خرج إلى الحوطة أكثر من مائتين من المغاربة والترك في القصر".
هو خيرُ الدين بنُ محمود بنِ محمد بنِ علي فارس الزِّرِكلي وُلِد في بيروت في ليلة 9 من ذي الحجَّة 1310هـ، ونشَأَ في دِمَشقَ حيث موطنُ أبيه وأمِّه، وتعلَّم في إحدى مدارسها الأهليَّة، وأخذ عن عُلَمائها على الطريقة القديمة التي كانت سائدةً آنذاك في التعليم، وأقبَلَ على قراءة كُتُب الأدب، وجرى لسانُهُ بنَظْم الشِّعر، وصحب مخطوطات المكتبة الظاهريَّة، فكان لا يُفارقها إلا لساعاتٍ قليلة. أصدر مجلةً أُسبوعية بعنوان "الأصمعي"، والتحَقَ بمدرسة "اللاييك" أستاذًا للتاريخ والأدب العربي وهو دون الخامسةِ والعِشرينَ، وأصدر في دمشق جريدةً يوميةً باسم "المفيد"، وفي أثناء ذلك كان يَنظِمُ القصائدَ الحماسيَّة التي تتغنَّى بأمجاد الوطن، ويتعلَّق بآمال الحرية والاستقلال حتى دخل الفرنسيُّون دمشق، فغادر إلى عمان. وبعد مغادرته البلاد قرَّر المجلس العسكري التابع للفِرْقة الثانية في الجيش الفرنسي الحُكم غيابيًّا بقتل خير الدين ومُصادرة أملاكه، وفي عمان عُيِّن الزركليُّ مفتشًا عامًّا للمعارف سنة 1340هـ، ثم تولَّى رئاسة ديوان الحكومة. ثم عاد إلى دمشق بعد إيقاف تنفيذ حُكم القتل عليه، وأخذ عائلته واتَّجه إلى القاهرة سنة 1342هـ، وأنشأ بها المطبعة العربيَّة، وطبع بها كتبًا كثيرة. ثم ذهب إلى القُدس سنة 1349هـ وأصدر مع زميل له جريدةَ "الحياة اليومية"، لكنَّ الحكومة الإنجليزية عطَّلَتها، واتفق مع أصدقاء آخرين على إصدار جريدةٍ يوميَّةٍ في يافا، وأعدَّ لها مطبعة، لكن الجريدة لم يصدُرْ منها سوى عددٍ واحدٍ، وأُغلقت أبوابها بسبب التحاقه بالعمل الدُّبلوماسي في الحكومة السُّعودية سنة 1353 هـ؛ حيث عمل مُستشارًا بالوكالة في المفوضيَّة العربية للسعودية بمصر، وكان أحدَ المندوبين السُّعوديين في المُداولات التي سبقت إنشاء جامعة الدُّوَل العربية، وفي التوقيع على ميثاقِها، ومثَّل الحكومة السعودية في عدَّة مؤتمراتٍ دوليةٍ، وانتُدِب في سنة 1366هـ لإدارة وزارة الخارجية بجدة متناوبًا مع الشيخ يوسف ياسين وزير الخارجية بالنيابة، ثم عُين وزيرًا مُفوَّضًا ومندوبًا دائمًا لدى الجامعة العربية في سنة 1371هـ، ثم عمل سفيرًا للسعودية بالمغرب سنة 1377هـ. ومن مُؤلَّفاته: ((ما رأيتُ وما سمعتُ))، و ((عامانِ في عمان))، و ((الملك عبد العزيز في ذمَّة التاريخ))، و ((صفحة مجهولة من تاريخ سوريا في العهد الفيصلي))، و ((الأعلام)) وهو أشهر كُتُبه. انتُخب عضوًا بالمجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1349هـ، واختُير عضوًا مراسلًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1366هـ، وبالمجمع العلمي العراقي سنة1380هـ، وظلَّ بعد خروجه من العمل الدبلوماسي مقيمًا بالقاهرة التي عاش فيها أغلب حياته، وفي إحدى زياراته إلى دِمَشقَ أصابته وَعْكة صحيَّة ألزمته الفِراش بضعة أسابيع، فلمَّا قرُبَ على الشفاء رحل إلى القاهرة للاستِجْمام، لكن الحياة لم تطُلْ به فوافته المنيَّة على ضفاف النيل في الثالث من ذي الحجة. بدأ خيرُ الدين الزِّرِكْلي الكتابةَ في كتابِه المشهورِ ((الأعلام)) عام 1912م بعد الإعداد له قبل ذلك بسنواتٍ، ولم ينفُضْ يده منه طيلةَ ستِّين عامًا، باذلًا فيه ما قدَّره الله عليه من مساعٍ لتطويره، واستمرَّ في بذلها إلى العشية التي وافته فيه المنية، وقد ترجم فيه الزِّرِكْلي لـ 13.435 شخصية من القديم والحديث، ولكِنْ غلبت عليه نزعته القومية العربية، فلم يترجم لأعلام العثمانيين؛ لكراهيتِه للأتراك، في حين وضع تراجِمَ للعديد من المستشرقين!
ثار العَيَّارون ببغداد -والعَيَّارون لصوصٌ يَمتَهِنونَ النَّهبَ والدعارةَ - وأخذوا أموالَ النَّاسِ ظاهرًا، وعَظُم الأمرُ على أهلِ البَلَدِ، وطَمِعَ المُفسِدونَ إلى حَدِّ أنَّ بعضَ القُوَّادِ الكِبارِ أخَذَ أربعةً مِن العيَّارينَ، فجاء عقيدُهم وأخذَ مِن أصحابِ القائِدِ أربعةً، وحضر بابَ دارِه ودقَّ عليه الباب، فكَلَّمَه من داخل، فقال العقيدُ: قد أخذتُ مِن أصحابِك أربعةً، فإنْ أطلقْتَ مَن عندَك أطلقتُ مَن عندي، وإلَّا قَتلْتُهم، وأحرَقْتُ دارَك! فأطلَقَهم القائد.
لمَّا نزَل عُتبةُ بن غَزْوان الخُرَيْبَةَ -مَسالِح الفُرْسِ قَريبة مِن الأُبُلَّةِ- كتب إِلى عُمَر بن الخطَّاب يُعلِمه نُزولَه إيَّاها، وأنَّه لابُدَّ للمسلمين مِن مَنزلٍ يَشْتُون به إذا شَتَوْا، ويَكْنِسون فيه إذا انصرفوا مِن غَزوِهم، فكتب إليه: اجْمَع أصحابَك في مَوضِع واحد وليَكُنْ قريبًا مِن الماء والرَّعْي، واكْتُبْ إِلىَّ بصِفَتِه. فكتب: إليه إنِّي وجدتُ أرضًا كثيرةَ القَصَبَةِ -أي كثيرةَ الحَصَبَةِ- في طَرْفِ البَرِّ إِلى الرِّيفِ، ودونَها مَناقِعُ ماءٍ فيها قَصْباءُ. فلمَّا قرَأ الكِتابَ قال: هذه أرضٌ نَضِرَةٌ، قَريبةٌ مِن المَشارِب والمَراعي والمُحْتَطَب، وكتَب إليه: أن أَنْزِلْها النَّاسَ. فأنزلهم إيَّاها، فكان عُتبةُ هو أوَّل مَن مَصَّرَ البَصْرةَ.
كان عبد الله بن علي في الصائفة في الجنود حين مات السفَّاح، وكان المنصور يخشى أن يثورَ عليه، ولَمَّا وصل الكتاب إلى عبد الله بموت السفَّاح وهو في الصائفة دعا لنفسه، وذلك أنَّه قال: إنَّ السفاحَ لَمَّا أراد قتلَ مروان انتدب الناسَ من يقتُلُه من أهل بيته- يعني بيت العباسيين- فإنَّه يكونُ وليَّ عَهدِه، فانتدب لذلك عبد الله، فهو الأحق بالأمر من المنصورِ، فبايعه بعضُ قوَّاده، فسار إلى الكوفة وحاصرها أربعينَ يومًا، ولَمَّا رجع المنصور من الحجِّ ومعه أبو مسلم الخرساني، سيَّرَه لقتال عبد الله، فاقتتلوا وبَقُوا على ذلك خمسة أشهر، ثم مكَرَ بهم أبو مسلم فانهزم جيش عبد الله وفرَّ، وبقي متخفِّيًا بالبصرة إلى أن أعطى الأمانَ أبو مسلم.
خرجَ يوسف بن إبراهيم، المعروفُ بالبرم، بخراسان، منكِرًا هو ومن معه على المهديِّ سيرتَه التي يسيرُ بها، واجتمع معه بشَرٌ كثير، فتوجَّه إليه يزيد بن مزيد الشيباني، وهو ابنُ أخي معن بن زائدة، فلَقِيَه فاقتتلا، حتى صارا إلى المعانقة، فأسره يزيدُ بن مزيد وبعثَ به إلى المهدي، وبعثَ معه وجوهَ أصحابه، فلمَّا بلغوا النهروان حُمِلَ يوسفُ على بعيرٍ، قد حُوِّلَ وجهُه إلى ذَنَبه، وأصحابُه مثلُه، فأدخلوهم الرصافة على تلك الحال، وقُطِعَت يدا يوسُفَ ورِجلاه، وقُتِلَ هو وأصحابُه، وصُلِبوا على الجسر. وقد قيل: إنَّه كان حروريًّا، وتغلَّبَ على بوشنج وعليها مصعب بن زريق، جدُّ طاهر بن الحسين، فهرب منه، وتغلَّبَ أيضًا على مرو الروذ والطالقان والجوزجان، وقد كان من جملةِ أصحابه أبو معاذ الفريابي، فقُبِضَ معه.
لَمَّا وصل الحُسَين بن حسن الأفطس لِمَكَّة من قِبَل أبي السرايا وفعل في مكَّة ما فعل من تغييرِ كسوةِ الكعبةِ وتخريبٍ ونَهبٍ، وصلَه خبرُ هزيمة أبي السرايا، ذهب إلى محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين وبايعه فأقامه، وبايَعه بالخلافةِ، وجمع له النَّاسَ، فبايعوه طوعًا وكَرهًا وسَمَّوه أمير المؤمنين، فبقي شهورًا وليس له من الأمرِ شَيءٌ، ثمَّ لَمَّا وصل عامِلُ اليمن وجيشُ هرثمة بن أعين من الكوفةِ، هرب محمد بن جعفر إلى الجُحفة ثمَّ قُبِضَ عليه وطلَبَ الأمان وقال إنه وصَلَه أنَّ المأمونَ مات فدعا لبيعة نفسِه، فلما صَحَّ الخبَرُ عنده أنَّه لم يمُت خلَعَ نفسَه من الخلافة، ثم بعد ذلك أُرسِلَ إلى المأمون، ثم سار إلى جرجان ومات بها سنة 204هـ وهو المعروفُ بالديباج.
سار السُّلطانُ مُشرفُ الدَّولة مُصعِدًا إلى بغداد من ناحيِة واسط، ورُوسِلَ القادِرُ باللهِ في البروزِ لتَلَقِّيه، فتلقَّاه من الزلاقة، ولم يكن تلقَّى أحدًا من الملوكِ قَبلَه. فرَكِبَ في الطيار، وعن جانبه الأيمَنِ الأميرُ أبو جعفر، وعن يسارِه الأميرُ أبو القاسمِ، وبين يديه أبو الحسَنِ عليُّ بنُ عبد العزيز، وحوالي القُبَّة الشريف أبو القاسم المرتضي، وأبو الحَسَن الزينبي، وقاضي القُضاة ابنُ أبي الشوارب، وفي الزبازب المسَوِّدة من العباسيِّين، والقضاة، والقُرَّاء، والعلماء، ونزل مُشرفُ الدَّولة في زبزبه بخواصِّه، وصعد إلى الطيار، فقَبَّلَ الأرض، وأُجلِسَ على كرسيٍّ، وسأله الخليفةُ عن خبره وكيف حالُه، والعسكَرُ واقِفٌ بأسره على شاطئِ دِجلةَ، والعامَّةُ في الجانبين. ثم قام مشرف الدَّولة فنزل إلى زبزبه، وأصعد الطيار.
وَلِيَ النَّفيسُ أبو الفتحِ مُحمَّدُ بنُ أردشير البَصرةَ، استعمَلَه عليها جلالُ الدَّولة البُويهيُّ، فلمَّا وَصَل إلى المشان مُنحَدِرًا إليها، وقع بينه وبين الديلمِ الذين بالمشان وقعةٌ، فاستظهر عليهم وقَتَل منهم، وكانت الفِتَنُ بالبصرةِ بين الأتراك والديلم، وبها المَلِكُ العزيزُ أبو منصور بن جلال الدَّولة، فقَوِيَ الأتراكُ بها، فأخرجوا الدَّيلمَ، فمَضَوا إلى الأبلَّة، وصاروا مع بختيار بنِ عليٍّ، فسار إليهم المَلِكُ العَزيزُ بالأبلَّة ليُعيدَهم ويُصلِحَ بينهم وبين الأتراكِ، فكاشَفوه وحَمَلوا عليه، ونادَوا بشِعارِ أبي كاليجار، فعاد مُنهَزِمًا في الماءِ إلى البَصرةِ، ونَهَب بختيار نَهرَ الديرِ والأبلَّة وغيرهما من السَّوادِ، وأعانه الدَّيلمُ، ونَهَب الأتراك أيضًا، وارتكبوا المحظورَ، ونَهَبوا دارَ بنتِ الأوحَدِ بنِ مُكرم زوجةِ جلالِ الدَّولة.
هو إمام اللغة أبو زكريا يحيى بن علي بن محمد، المعروف بالخطيب التبريزي، أحد أعلام اللغة والأدب في القرن الخامس الهجري، وصاحب الشروح المعروفة لعدد من المجموعات الشعرية، مثل: المعلَّقات، والمُفَضَّليات، والحماسة. وكان أصله من تبريز، ونشأ ببغداد ورحل إلى بلاد الشام، فقرأ "تهذيب اللغة" للأزهري، على أبي العلاء المعري، قيل: أتاه يحمل نسخة "التهذيب" في مِخْلاة على ظهره، وقد بلَّلَها عرقُه حتى ليظُنُّ من يراها أنها غريقة، ودخل مصر، ثم عاد إلى بغداد، فقام على خزانة الكتب في المدرسة النظامية إلى أن توفي. ومن كتبه: "شرح ديوان الحماسة" لأبي تمام، و"تهذيب إصلاح المنطق" لابن السِّكِّيت، و"تهذيب الألفاظ" لابن السكيت. قال ابن نقطة: "ثقة في علمه، مخلِّط في دينه، وقيل: إنه تاب".