ما إن تم الاعتراف بالملك عبد العزيز مَلِكًا للحجاز وسلطانًا على نجد وملحقاتها حتى دعت بريطانيا نظيرتَها السعودية لإجراء مباحثات في لندن، كخطوة لتعزيز العلاقة بين البلدين، فأرسل الملك عبد العزيز ابنه فيصلًا ونائبه في الحجاز مرة أخرى إلى بريطانيا نيابةً عنه وكان عمره 22 سنة، وكان معه في الزيارة عبد الله الدملوجي مدير الشؤون الخارجية في مملكة الحجاز. وقد حَظِيَ الأمير فيصل باستقبال ضَخمٍ من قِبَل كبار المسؤولين البريطانيين، وظَلَّ هناك ثلاثة أسابيع، استقبل فيها الملك جورج الخامس وجميعَ وزرائه في القصر الملكي "قصر بكنغهام"، وأكد الملك جورج على قوة الروابط بين البلدين، وأثار الأمير فيصل قضية إعادة النظر في العلاقات بين البلدين، وأن معاهدة العقير 1915م لم تَعُد مناسبة للوضعِ الجديد للملك عبدالعزيز، ووجد فيصل موافقةً من الملك جورج لهذا الأمر، وأثناء الزيارة قام فيصل بجولاتٍ في المدن البريطانية، فزار المدارس والجامعات والمستشفيات والمصانع، ورأى مقدارَ التطوُّر العلمي والصناعي في أوروبا، وعَقَد اتفاقيات لتوريد الأسلحة والمعدَّات العسكرية للجيش السعودي، واتفاقيات لاستيراد المكائن الصناعية، ثم التقى فيصل بكبار المسؤولين الإنجليز، أمثال لويد جورج، وبرسي كوكس، ورينجينالد وينعيت، وهنري مكماهون، ثم غادر فيصل بريطانيا إلى باريس ثم هولندا.
كان أوَّلَ الخارِجين فَروةُ بن نَوفلٍ الأشجعيُّ، وكان ممَّن اعتزَل قِتالَ عَلِيٍّ والحسنِ وانحاز معه خمسُمائة فارسٍ مِن الخَوارِج إلى شَهْرَزُور، قائلًا: والله ما أدري على أيِّ شيءٍ نُقاتِلُ عَلِيًّا! أرى أن أَنصَرِفَ حتَّى تَتَّضِحَ لي بَصيرَتي في قِتالِه أو أُتابِعُه. فلمَّا سَلَّمَ الحسنُ الأمرَ إلى مُعاوِيَة قالوا: قد جاء الآن ما لا شَكَّ فيه، فسيروا إلى مُعاوِيَة فجاهِدوهُ. فأقبلوا وعليهم فَروةُ بن نَوفلٍ حتَّى حَلُّوا بالنُّخَيْلَةِ عند الكوفَة، فأرسل إليهم مُعاوِيَةُ جَمْعًا مِن أهلِ الشَّام فقاتَلوهُم، فانْهزَم أهلُ الشَّام، فقال مُعاوِيَةُ لأهلِ الكوفَة: والله لا أمانَ لكم عندي حتَّى تَكُفُّوهُم. فخرَج أهلُ الكوفَة فقاتَلوهُم. فقالت لهم الخَوارِج: أليس مُعاوِيَةُ عَدُوَّنا وعَدُوَّكُم؟ دَعُونا حتَّى نُقاتِلَه، فإن أَصَبْنا كُنَّا قد كَفَيْناكُم عَدُوَّكُم، وإن أَصابَنا كنتم قد كَفَيْتُمونا. فقالوا: لابُدَّ لنا مِن قِتالِكُم. فأخَذ بَنُو أَشْجَعَ صاحِبَهُم فَروةَ فحادَثوهُ ووَعَظوهُ فلم يَرْجِعْ، فأخَذوهُ قَهْرًا وأَدْخَلوهُ الكوفَةَ، فاسْتَعْمَل الخَوارِج عليهم عبدَ الله بن أبي الحَوْساءِ، رجلًا مِن طَيِّء، فقاتَلهُم أهلُ الكوفَة فقتَلوهُم, ثمَّ تَمَكَّنَ منه المُغيرةُ بن شُعبةَ والي العِراق وقتَله، وقُتِلَ عبدُ الله بن أبي الحَوْساء الطَّائيُّ الذي تَوَلَّى أمرَ الخَوارِج بعدَه، ثمَّ قُتِلَ حَوْثَرةُ بن وَداعٍ الأسديُّ الذي نَصَّبَهُ الخَوارِج أميرًا عليهم. ثمَّ خرَج أبو مَريم وهو مَوْلًى لِبَني الحارثِ بن كعبٍ، وقد أَحَبَّ أن يُشْرِكَ النِّساءَ معه في الخُروجِ؛ إذ كانت معه امرأتان: "قَطام وكُحَيْلَة" فكان يُقالُ لهم: يا أصحاب كُحَيْلَة وقَطام. تَعْيِيرًا لهم، وقد أراد بهذا أن يَسُنَّ خُروجَهُنَّ، فوَجَّهَ إليه المُغيرةُ جابرَ البَجليَّ فقاتَلهُ حتَّى قتَلهُ وانْهزَم أصحابُه. ثمَّ خرَج رجلُ يُقالُ له: أبو لَيْلى، أَسْودُ طَويلُ الجِسْم، وقبلَ أن يُعْلِنَ خُروجَه دخَل مَسجِدَ الكوفَة وأخَذ بعِضادَتَيِ البابِ، وكان في المسجدِ عِدَّةٌ مِن الأشرافِ، ثمَّ صاح بأعلى صَوتِه: لا حُكمَ إلَّا لله، فلم يَعترِضْ له أحدٌ، ثمَّ خرَج وخرَج معه ثلاثون رجلًا مِن الموالي بسَوادِ الكوفَة، فبعَث له المُغيرةُ مَعقِلَ بن قيسٍ الرِّياحيَّ فقَتلَه سنة 42هـ.
كان عَقيبَ هَدمِ الكنائِسِ وقوعُ الحريق بالقاهرة ومصر، فابتدأ يومَ السبت خامس عشر جمادى الأولى، وتواتَرَ إلى آخره، بدأ الحريقُ في رَبعٍ من أوقاف المارستان المنصوري، واشتد الأمرُ، والأمراءُ تُطفِئُه إلى عصر يوم الأحد، فوقع الصوتُ قبل المغرب بالحريقِ في حارة الديلم بزُقاق العريسة، قريب من دار كريم الدين الكبير، ودخل الليلُ واشتد هبوب الرياح، فسَرَت النار في عِدَّة أماكن، وبعث كريمُ الدين بولده علم الدين عبد الله إلى السلطان يُعَرِّفُه، فبعث عِدَّةً من الأمراء والمماليك لإطفائِه خوفًا على الحواصِلِ السلطانية ثم تفاقم الأمرُ، واحتاج أقسنقر شاد العمائر إلى جمع سائرِ السائقينَ والأمراء، ونزلت الحُجَّاب وغيرهم، والنار تَعظُمُ طُولَ نهار الأحد، وباتوا على ذلك، وأصبحوا يوم الاثنينِ والنار تُتلِفُ ما تمُرُّ به، والهَدٌّ واقع في الدور التي تجاور الحريق خشيةً مِن تعَلُّقِ النار فيها وسَرَيانها في جميع دور القاهرة، فلما كانت ليلة الثلاثاء خرج أمر الحريقِ عن القُدرة البَشَرية، وخرجت ريحٌ عاصِفةٌ ألقت النخيلَ وغَرَّقت المراكب، ونَشَرت النار، فنزل النائب بسائر الأمراء وجميعِ مَن في القلعة وجميعِ أهل القاهرة، ونُقِل الماءُ على جمال الأمراء، ولحِقَه الأمير بكتمر الساقي وأُخرِجَت جمالُ القرى السلطانية، ومُنِعَت أبواب القاهرة أن يخرج منها سقاء، ونُقِلَت المياه من المدارس والحمَّامات والآبار، وجُمِعَت سائر البنائين والنجارين، فهُدَّت الدور من أسفلِها والنار تحرِقُ في سقوفها، وعَمَل الأمراء الألوف وعِدَّتُهم أربعة وعشرون أميرًا بأنفُسِهم في إطفاء الحريقِ، بحيث صار من باب زويلة إلى حارة الروم بحرًا، ثم خَمِدَت النار وعاد الأمراء، فوقع الصياحُ في ليلة الأربعاء بربع الملك الظاهِرِ خارج باب زويلة وبقيسارية الفقراء، وهبَّت الرياح مع ذلك، فرَكِبَ الحُجَّاب والوالي وعملوا في إطفائها إلى بعد الظهر من يوم الأربعاء وهدموا دورًا كثيرةً مِمَّا حوله، فما كاد أن يفرغ العَمَلُ من إطفاء النار حتى وقعت النارُ في بيت الأمير سلار بخط القصرين، فأقبلوا إليه وإذا بالنار ابتدأت من أعلى البادهنج- المنفذ الذي يجيء منه الريح- وكان ارتفاعُه من الأرض زيادة على مائة ذراع- بذراع العمل- ورأوا فيه نِفطًا قد عُمِلَ فيه فتيلة كبيرة، فما زالوا بالنار حتى أُطفِئَت، من غير أن يكون لها أثرٌ كبير، ونُودِيَ بأن يُعمَلَ بجانِبِ كُلِّ حانوت بالقاهرةِ ومصرَ زيرُ ودن ملآن ماء، وكذلك بسائر الحارات والأزقَّة، فلما كانت ليلة الخميس: وقع الحريق بحارة الروم وبخارج القاهرة، وتمادى الحالُ كذلك، ولا تخلو ساعة من وقوعِ الحريق بموضع من القاهرة ومصر، وامتنع والي القاهرةِ والأمير بيبرس الحاجب من النَّومِ، فشاع بين الناس أنَّ الحريق من جهة النصارى لَمَّا أنكاهم هدم الكنائس ونهبها، وصارت النيرانُ توجَدُ تارة في منابر الجوامِعِ وتارة في حيطان المدارسِ والمساجد، ووُجِدَت النار بالمدرسة المنصورية، فزاد قلقُ النَّاسِ وكَثُر خوفهم، وزاد استعدادُهم بادِّخار الآلات المملوءة ماء في أسطُحِ الدور وغيرها، وأكثر ما كانت النارُ توجد في العلو، فتقع في زروب الأسطح والبادهنجانات، ويُوجَدُ النِّفطُ قد لُفَّ في الخِرَق المبَلَّلة بالزيت والقطران، فلما كانت ليلةُ الجمعة الحادي عشر جمادى الأولى قُبِضَ على راهِبَينِ خرجا من المدرسة الكهاريَّة بالقاهرة، وقد أضرما النارَ بها، وأُحضِرا إلى الأمير علم الدين سنجر الخازن والي القاهرة، فشَمَّ منهما رائحة الكبريت والزيت، فأحضرهما من الغدِ إلى السلطان، فأمر بعقوبتِهما حتى يعترفا، فلما نزل الأميرُ علم الدين بهما وجد العامَّةَ قد قبضت على نصرانيٍّ مِن داخل باب جامِعِ الظاهر بالحُسَينية، ومعه كعكة خِرَق بها نفط وقطران، وقد وضعها بجانِبِ المنبر، فلما فاح الدخانُ أنكروه, ووجدوا النصرانيَّ وهو خارج والأثَرُ في يديه، فعُوقِبَ قبل صاحبيه، فاعترف النصرانيُّ أنَّ جماعة من النصارى قد اجتمعوا وعَمِلوا النفط، وفَرَّقوه على جماعة ليَدورُوا به على المواضع، ثم عاقَبَ الأمير علم الدين الراهبينِ، فأقرا أنَّهما من دير البغل، وأنهما هما اللذانِ أحرقا سائر الأماكن التي تقَدَّمَ ذِكرُها، وذلك أنَّه لَمَّا مر بالكنائس ما كان، حَنِقَ النصارى من ذلك وأقاموا النياحةَ عليها، واتَّفَقوا على نكاية المسلمين، وعملوا النفطَ وحَشَوه بالفتائِلِ وعَمِلوها في سهامٍ ورَموا بها، فكانت الفتيلة إذا خرجت من السَّهمِ تقَعُ على مسافة مائة ذراع، فلما أنفقوا ذلك فَرَّقوه في جماعة، فصاروا يدورون في القاهرة بالليل، وحيث وجدوا فرصة انتهزوها وألقَوا الفتيلةَ، حتى كان ما كان، فطالع الأميرُ علم الدين السلطانَ بذلك، واتَّفَق وصول كريم الدين الكبير ناظر الخاص من الإسكندريَّة، فعَرَّفه السلطان ما وقع من القَبضِ على النصارى، فقال البطرق: هؤلاء سُفَهاءُ قد فعلوا كما فَعَل سُفَهاؤُكم، والحُكمُ للسلطان، وأقام البطركُ ساعةً، وقام فرَكِبَ بغلةً كان قد رُسِمَ له منذ أيام بركوبِها، فشَقَّ ذلك على الناس، وهَمُّوا به لولا الخوف ممن حوله من المماليك، فلما رَكِب كريم الدين من الغد صاحت العامَّةُ به: "ما يحِلُّ لك يا قاضي تحامي للنصارى، وقد أخربوا بيوت المسلمين، وتُركِبُهم البغال، فانتكى كريمُ الدين منهم نكايةً بالغةً، وأخذَ يُهَوِّنُ من أمر النصارى الممسوكين ويَذكُرُ أنَّهم سفهاء، وعرف السلطان ما كان من أمْرِ البُطرُقِ، وأنه اعتُنيَ به، فأمر السلطانُ الواليَ بعقوبة النصارى، فأقروا على أربعة عشر راهبًا بدير البغل، فقُبِضَ عليهم من الدير، وعُمِلَت حفيرةٌ كبيرة بشارع الصليبة، وأُحرِقَ فيها أربعة منهم في يوم الجمعة، وقد اجتمع من الناس عالمٌ عظيم، فاشتدت العامَّةُ عند ذلك على النصارى، وأهانوهم وسَلَبوهم ثيابَهم، وألقَوهم من الدوابِّ إلى الأرض، وركب السلطانُ إلى الميدان يوم السبت الثاني عشر من جمادى الآخر، وقد اجتمع عالمٌ عظيم، وصاحوا: "نصر اللهُ الإسلامَ، انصر دينَ محمَّد بن عبد الله"، فلما استقَرَّ السلطان بالميدان حتى أَحضَرَ له الخازنُ والي القاهرة نصرانيَّينِ قد قُبِضَ عليهما، فأُحرِقا خارجَ الميدان، وخرج كريم الدين الكبير من الميدان وعليه التشريفُ، فصاحت به العامة: "كم تحامي للنصارى"، وسَبُّوه ورموه بالحجارة، فعاد إلى الميدان، فشَقَّ ذلك على السلطان، واستشار الأمراءَ في أمر العامة، فأشار عليه الأميرُ جمال الدين أقوش نائِبُ الكرك بعزل الكُتَّاب النَّصارى، فإنَّ النَّاسَ قد أبغضوهم، فلم يُرضِه ذلك، وتقَدَّمَ السلطان إلى ألماس الحاجب أن يَخرُجَ في أربعة أمراء ويضَعَ السَّيفَ في العامَّةِ حتى ينتهيَ إلى باب زويلة، ويمُرَّ إلى باب النصرِ وهو كذلك ولا يرفَع السَّيفَ عن أحد، وأمرَ والي القاهرة أن يتوجَّهَ إلى بابِ اللوق والبحر، ويَقبِضَ من وجده، ويحمِلَهم إلى القلعة، وعَيَّن لذلك مماليكَ تَخرُجُ من الميدان، فبادر كريمُ الدين وسأل السلطانَ العَفوَ، فقَبِلَ شَفاعتَه، ورسم بالقبضِ على العامَّةِ مِن غَيرِ قَتلِهم، وكان الخبَرُ قد طار، ففَرَّت العامَّةُ حتى الغلمان، وصار الأميرُ لا يجِدُ مَن يُركِبُه، وانتشر ذلك، فغُلِّقَت جميعُ أسواق القاهرة، فما وصل الأمر إلى باب زويلة حتى لم يجِدوا أحدًا، وشَقُّوا القاهرةَ إلى باب النصر، فكانت ساعةً لم يمُرَّ بالناس أعظَمُ منها، ومَرَّ الوالي إلى باب اللوق وبولاق وباب البحر، وقبض كثيرًا من الكلابزة- من يتولَّى تربية الكلاب وبَيعَها- والنواتية –الملَّاحين- وأراذل العامَّة، بحيث صار كلُّ من رآه أخَذَه، وجفَل الناسُ مِن الخوف، وعَدوا في المراكب إلى بر الجيزة، فلما عاد السلطانُ إلى القلعة لم يجد أحدًا في طريقه، وأحضر إليه الوالي بمن قبض عليه وهم نحو المائتين، فرسم أن يُصلَبوا، وأفرد جماعةً للشَّنقِ وجماعةً للتوسيطِ، وجماعةً لقطع الأيدي، فصاحوا: "يا خوند- يا سيد- ما يحِلُّ لك، فما نحن الغُرَماء"، وتباكوا فَرَّقَ لهم بكتمر الساقي، وقام معه الأمراءُ، وما زالوا بالسلطان حتى رسم بصَلبِ جماعةٍ منهم على الخَشَبِ من باب زويلة إلى سوقِ الخَيلِ، وأن يُعَلَّقوا بأيديهم، فأصبحوا يومَ الأحدِ صفًّا واحدًا من بابِ زويلة إلى سوقِ الخيل تحت القلعة، فتوجَّعَ لهم الناس، وكان منهم كثيرٌ مِن بياض الناس، ولم تُفتَح القاهرة، وخاف كريم الدين على نفسِه، ولم يَسلُكْ من باب زويلة، وصَعِدَ القلعة من خارج السور، فإذا السلطانُ قد قَدَّم الكلابزة وأخَذَ في قطع أيديهم، فكشف كريم الدين رأسَه وقَبَّل الأرض، وباس رِجلَ السُّلطانِ، وسأله العفو، فأجابه السلطانُ بمساعدة الأمير بكتمر، وأمَرَ بهم فقُيِّدوا وأُخرِجوا للعَمَلِ في الحفير بالجيزة، ومات ممَّن قُطِعَ يَدَه رَجُلان، وأُمِرَ بحَطِّ من عُلِّقَ على الخَشَب، فللحالِ وقع الصوتُ بحريقِ أماكِنَ بجوار جامع ابن طولون، وبوقوعِ الحريق في القلعةِ، وفي بيت الأحمدي بحارة بهاء الدين من القاهرة، وبفُندق طرنطاي خارج باب البحر، فدُهِشَ السلطان، وكان هذا الفندق برسم تجارِ الزيت الوارد من الشام، فعَمَّت النار كلَّ ما فيه حتى العُمُد الرُّخام، وكانت ستة عشر عمودًا، طولُ كل منها ستة أذرع، ودوره نحو ذراعين، فصارت كلُّها جيرًا، وقُبِضَ فيه على ثلاثة نصارى معهم فتائِلُ النفط، اعتَرَفوا أنهم فعلوا ذلك، فخاف السلطانُ الفتنةَ ورجع إلى مداراتِهم، وتقَدَّم إلى الحاجِبِ بأن يخرُجَ وينادي: "من وجد نصرانيًّا فدَمُه ومالُه حلالٌ"، فلما سمعوا النداءَ صرخوا صوتًا واحدًا: "نصرك الله يا ناصِرَ دين الإسلام"، فارتجَّت الأرض، ونودِيَ عَقيبَ ذلك بالقاهرة ومصر: "من وُجِدَ من النصارى بعمامةٍ بَيضاءَ حَلَّ دمه، ومن وُجِدَ من النصارى راكبًا باستواءٍ حَلَّ دمه" وكُتِبَ مرسومٌ بلُبس النصارى العمائِمَ الزرق، وألَّا يركبوا فَرَسًا ولا بغلًا، وأن يركبوا الحميرَ عَرضًا، ولا يدخلوا الحَمَّام إلَّا بجَرَس في أعناقهم، ولا يتزَيَّوا بزيِّ المسلمين هم ونساؤُهم وأولادهم، ورُسِمَ للأمراء بإخراج النصارى من دواوينِهم ومن دواوين السلطان، وكُتِبَ بذلك إلى سائر الأعمال، وغُلِّقَت الكنائس والأديرة، وتجرَّأت العامة على النصارى، بحيث إذا وجدوهم ضربوهم وعَرَّوهم ثيابَهم، فلم يتجاسَرْ نصرانيٌّ أن يخرُجَ من بيته، ولم يُتحَدَّثْ في أمرِ اليهودِ، فكان النصرانيُّ إذا طرأ له أمرٌ يتزيَّا بزيِّ اليهودِ، ويلبَس عمامة صفراءَ يكتريها من يهوديٍّ ليخرُجَ في حاجتِه! واحتاج عِدَّةٌ من النصارى إلى إظهارِهم الإسلام، فأسلم السني ابن ست بهجة في يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الآخرة، وخُلِعَ عليه، وأسلم كثيرٌ منهم، واعترف بعضُهم على راهب بدير الخندق أنه كان يُنفِقُ المالَ في عَمَل النفطِ للحريق ومعه أربعة، فأُخِذوا وسُمِّروا.
هو السُّلطان أبو الظفر سِراجُ الدين محمد بهادر شاه الثاني، آخِرُ سلاطين الدولة الإسلامية في الهند، وقد أصبح إمبراطورًا عند وفاة والده سنة 1838هـ وشهِدَت فترةُ حكمه الثورةَ الهندية التي كادت تقضي على الإنجليز وتُخرِجُهم من الهند، وكان الهنودُ قد اختاروه قائدًا لهم على الرغم من كبر سنِّه، لكِنَّ الثورة لم تنجَحْ؛ حيث قبض الإنجليزُ على بهادر شاه، ونفوه خارج الهند. وبنفيه انتهى الحكمُ الإسلامي في الهند. كان الحكم الإسلامي قد استقَرَّ في الهند ورسخت أقدامُه وقامت له دولةٌ منذ أن بدأ السلطانُ المجاهد محمود الغزنوي فتوحاتِه العظيمة في الهند سنة (392هـ - 1001م)، وامتدَّ لأكثر من ثمانية قرون، تعاقَبَت في أثنائها الدولُ والأسر الحاكمة، ونَعِم الناسُ بالأمن والسلام، والعدل والمساواة، وازدهرت الحضارةُ على النحو الذي لا تزالُ آثارُها الباقيةُ في الهند تخطفُ الأبصار وتبهر العقولَ والألبابَ، كانت إمبراطوريةُ المغول في الهند آخِرَ دولة حكمت الهند، ودام سلطانُها نحو ثلاثة قرون، منذ أن أسَّسَها ظهير الدين بابر في النصفِ الأول من القرن العاشر الهجري، وتوالى على حُكمِها عددٌ من السلاطين العِظامِ، يأتي في مقدِّمتِهم: السلطان "جلال الدين أكبر" الذي نهضَ بالدولة نهضةً عظيمة، ونجح في تنظيمِ حُكومةٍ أجمع المؤرخون على دقَّتِها وقوتها. والسلطانُ شاه جهان الذي اشتهر ببنائِه مقبرةَ تاج محل لزوجتِه ممتاز محل. والسلطانُ أورنك زيب الذي تمسَّك بالسُّنَّة وأشرف على الموسوعةِ المعروفة بالفتاوى الهندية أو العالمكيرية، نسبةً إلى "عالمكير" وهو اسمٌ اشتهر به في الهند.
تقدَّم اللورد ملنر وزير المستعمرات الألماني إلى الوفدِ المصري بنصِّ مشروع معاهدة تتكوَّن من عدة مواد، ومنها: (المادة الأولى) تتعهد بريطانيا بضمان سلامة أرضِ مِصرَ واستقلالها كمملكةٍ ذات أنظمة دستورية. (المادة الثانية) تتعهَّدُ مصر من جانبها ألَّا تَعقِدَ أيَّ معاهدة سياسية مع أي دولة أخرى بدون رضا بريطانيا. (المادة الثالثة) نظرًا للمسؤولية الملقاة على عاتق بريطانيا بمقتضى الفقرة المتقدمة، ونظرًا لِما لها من المصلحة الخاصة في حفظ مواصلاتها مع ممتلكاتها في الشرق والشرق الأقصى، فمِصرُ تعطيها حقَّ إبقاء قوة عسكرية بالأراضي المصرية، وحقَّ استعمال الموانئ والمطارات المصرية لغَرَضِ التمكن من الدفاع عن القُطرِ المصري، ومن المحافظة على مواصلاتها مع أملاكها المذكورة، أما المكان أو الأمكنة التي تعسكِرُ فيها تلك الجنود البريطانية فإنها تعَيَّن بعد اتفاق الطرفين، إلى غير ذلك من المواد. كما أن الوفد المصري قدَّم مشروعَ معاهدة إلى لجنة اللورد ملنر، والتي تتكوَّنُ مواده من: (المادة الأولى) تعترف بريطانيا باستقلال مصر. وتنتهي الحماية التي أعلنتها بريطانيا على مصر في 18 ديسمبر سنة 1914 هي والاحتلال العسكري الإنجليزي، وبذلك تستردُّ مصرُ كامِلَ سيادتها الداخلية والخارجية، وتكونُ دولةً مَلَكيةً ذات نظام دستوري. (المادة الثانية) تُجلي بريطانيا جنودَها عن القطر المصري بدءًا من تاريخ العمل بهذه المعاهدة. (المادة الخامسة) في حالة إلغاء المحاكم القُنصلية وإحالة محاكمة الأجانب على ما يقع منهم من الجنايات والجُنَح إلى المحاكم المختلطة تَقبَل مصر أن تعَيِّن أحدَ رجال القانون من التبعية الإنجليزية في وظيفة النائبِ العمومي لدى المحاكمِ المختلطة.
وَرِثت روسيا تَركةَ الاتِّحاد السُّوفيتي القديمِ وعَلاقتَه بالجُمهورية العربية السُّورية، وقد مرَّت عَلاقاتُهما بكثيرٍ من المواقف المختلِفة، ويُلاحَظ أنَّ السُّوفيت لم يَرْكَنوا إلى الحكومات السُّورية المتعاقِبة؛ لِعَدائها جميعًا للحزبِ الشُّيوعي السوري، إلَّا أنهم ارْتاحوا لِرَغبتِها في الحِفاظ على استقلال سُوريَة، وتجنُّب الشِّباك الأمريكية، وقد وقَّعت سُوريَة معاهدةَ صداقةٍ وتعاوُن مع الاتِّحاد السُّوفيتي في يوليه 1980م، وساعد دمشقَ على ذلك عواملُ عِدةٌ؛ أهمُّها: سُوء عَلاقتها مع بَغدادَ وعمَّانَ، وأبرَز ما جاء فيه: 1/ يُعلِنُ الطرفانِ المتعاقدانِ عَزْمَهما على التطويرِ والتعزيز لِرَوابط الصداقةِ والتعاون بيْن كِلْتا الدولتينِ والشعبينِ في المجال السياسيِّ، والاقتصاديِّ، والعسكريِّ، والعِلْميِّ التِّكنيكي، والثقافيِّ، والمجالات الأخرى، على أساسِ مَبادئ التكافؤِ والمنفعة المتبادَلة، واحترام السِّيادة والاستقلال الوطنيِّ، وحُرْمة الأراضي، وعدم التدخُّل في الشُّؤون الداخلية لِبَعضهما البعض. 2/ سوف يَعمل الطرفانِ المتعاقدانِ بكلِّ السُّبل على تعزيز السلامِ، وأمْن الشعب، وانفراجِ التوتُّر الدوليِّ وتجسيده في أشكالٍ ملموسةٍ من التعاون بيْن الدولِ، وتسوية قَضايا الخلافات بالطُّرق السِّلمية، والإقصاء مِن مُمارسات العَلاقاتِ الدوليةِ لأيَّة ظواهر لِسِياسة الهَيمنة والعُدْوان. قدَّمت رُوسيا منذ أيام الاتِّحاد السُّوفيتي الدعمَ العسكريَّ الكبيرَ لِسُوريَة، ولكنه تراجَعَ في التِّسعينيات في عَهدي الرئيسينِ: غورباتشوف، ويلتسين، وعاد الدعمُ الرُّوسي لِسُوريَة في عهد الرئيسِ فلاديمير بوتين، وكان بإعادةِ افتتاح القاعدةِ البحرية الرُّوسية في ميناء طَرطوس، وعَقْد الصفقاتِ العسكرية مع سُوريَة، منها: تَقديم خُبراء عسكريينَ وأسلحةٍ، وتجديد عَتاد الجيشِ السُّوري مِن أسلحة حديثةٍ.
نقَض الرُّومُ العَهْدَ الذي كان بينهم وبين المسلمين بعدَ أن تَوَلَّى عبدُ الله بن أبي السَّرْحِ وِلايةَ مِصْرَ، فكتَب أهلُ الإسكندريَّة إلى قُسطنطين بن هِرقل وهَوَّنُوا عليه فَتْحَ الإسكندريَّة لِقِلَّةِ الحامِيَةِ مِن المسلمين، فأَنْفَذَ قائِدَهُ مانوبل الأرمنيَّ على رأسِ جيشٍ كَثيفٍ فاسْتَولى عليها، فكتَب عُثمانُ إلى عَمرٍو ووَلَّاهُ الإسكندريَّةَ، فسار عَمرٌو إليهم فبَدأَ القِتالُ في نَقْيُوس، وكانت الدَّوْلَةُ للمسلمين، ثمَّ أَوْقَف الحَربَ عَمرٌو ثمَّ سار إلى الإسكندريَّة وهدَم سُورَها ورجَعت مَرَّةً أُخرى تحت يَدِ المسلمين.
كان موسى بن نُصَير قد غَضِبَ على مَولاهُ طارِق بِسَبَب تَوَغُّلِه في أَرضِ العَدُوِّ, فاسْتَخْلَف على أفريقيا ابنَه عبدَ الله بن موسى، ثمَّ دَخَل الأَندَلُس وبَقِيَ فيها سَنتَيْنِ يَفتَح البُلْدان ويَغْنَم حتَّى صارت الأَندَلُس تحت سَيْطَرَتِه, عَبَرَ موسى إلى الأَندَلُس في جَمْعٍ كَثيرٍ قِوامُه ثَمانِيَة عشر ألفًا، فتَلَقَّاهُ طارِق وتَرَضَّاهُ، فرَضِيَ عنه وقَبِلَ عُذْرَه وسَيَّرَهُ إلى طُلَيْطُلَة، وهي مِن عِظام بِلادِ الأَندَلُس، وهي مِن قُرْطُبَة على عِشرين يومًا، ففَتَحَها ثمَّ فَتَحَ المُدَنَ التي لم يَفتَحها طارِق كشَذونَة، وقَرْمونَة، وإشْبِيلِيَة، ومارِدَة.
ظهر إبراهيمُ بن موسى بن جعفر بن محمد، وكان بمكَّةَ، فلما بلغَه خبَرُ أبي السرايا وما كان منه سار إلى اليمن، وبها إسحاقُ بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عاملًا للمأمون، فلمَّا بلغه قُربُ إبراهيمَ من صنعاء، سار منها نحوَ مكة فأتى المشاش، فعسكَرَ بها واجتمع بها إليه جماعةٌ من أهل مكة هَرَبوا من العلويِّينَ، واستولى إبراهيمُ على اليمن، وكان يسمَّى الجزَّار؛ لكثرة من قتَل باليمن، وسبى، وأخذ الأموال.
تُوفِّيَ المحَدِّث الثِّقةُ العالم أبو عبدالله محمَّد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بِشرٍ الفَرَبْريُّ، نِسبتُه إلى فَرَبْر: بفتح الفاء والراء وسكون الباء الموحدة وفي آخرها راء ثانية، وهي بلدةٌ على طرف جيحون ممَّا يلي بخارى. وُلِدَ سنة 231 راوي "الجامِع الصحيح" عن أبي عبد الله البخاري, سَمِعَه منه بِفَرَبْرَ مرتين؛ مرة سنة 248، ومرة سنة 253، وكان قد سمع "الجامع الصحيح" من البُخاري عشراتُ الألوفِ، فلم ينتشر إلَّا عن الفَرَبْري. رحل إليه النَّاسُ، وسمعوا منه هذا الكتابَ.
قلَعَ حَجَبةُ الكعبةِ الحجَرَ الأسودَ لا لأخْذِه، بل لعدمِ رِضاهم عن وَضعِ سنبر بن الحسن صاحِبِ القرمطيِّ الذي وضَعَه لَمَّا ردُّوه في العام الماضي، فجعلوه في الكعبةِ، فأحبُّوا أن يجعلوا له طوقًا مِن فِضَّة فيُشَدُّ به كما كان قديمًا، كما عَمِلَه عبد الله بن الزبير، وأخذ في إصلاحِه صانعانِ حاذقانِ فأحكماه. قال أبو الحسن محمَّد بن نافع الخزاعي: " دخلتُ الكعبةَ فيمن دخَلَها فتأمَّلتُ الحجَرَ، فإذا السَّوادُ في رأسِه دون سائِرِه, وسائِرُه أبيضُ، وكان طولُه فيما حزرتُ مِقدارَ عَظمِ الذِّراعِ ".
لما انتهى الأمير ططر من أمر جقمق في دمشق وكان هو المتولي لكل أمور السلطنة، عزم على خلع المظفر من السلطنة، وخاصة أنه يراه صغيرًا جدًّا على هذا الأمر، فخلعه في التاسع والعشرين شعبان وهو في دمشق، فكانت مدة سلطنة السلطان المظفر أحمد بن المؤيد شيخ سبعة أشهر وعشرين يومًا، وتلقب السلطان الجديد بالظاهر سيف الدين أبو الفتح ططر بن عبد الله الظاهري، وخُطِب له من يومه على منابر دمشق، وكُتِب إلى مصر وحلب وحماة وحمص وطرابلس وصفد وغزة بذلك.
قام الأمير يوسف أبو الحجاج بن أبي الحسن علي بن سعد أمير المرية بمنازعة عمه أبي عبد الله الزغل ملك غرناطة، فقام القتال بينهما وقتل أمير المرية، ثم نازعه ابن أخيه الآخر عبدالله الصغير محمد الثاني عشر العائد من الأسر يريد استعادة ملكه الذي كان فيه قبل أن يؤسر، فأعلن نفسه ملكًا على غرناطة وقام بنصرته أهل ربض البيازين وهو حي غرناطة الشعبي، وأهله عرفوا بالاضطراب الدائم، كما أمده ملك قشتالة بقوة، فتمكن من التغلب على عمه.
هو الشيخ أبو محمد عبد الله بن عجال الغزواني أصلُه من مراكش من غزوان، قبيلة من عرب تامسنا، ولِدَ بمدينة القصر الكبير وبها تعلم مبادئ علوم الدين والأدب, وكان في ابتداء أمره يقرأ العلمَ بمدرسة الوادي من عدوة الأندلس بفاس، فحصلت له إرادة فسافر إلى مراكش ولازم الشيخ التباع وتخرج به، ثم انتقل إلى بلاد الهبط فنزل بها على قبيلة، يقال لهم: بنو فزنكار، واجتمع عليه كثيرٌ من مريديه واشتهر أمرُه وعظُمَ صيتُه وكان يغزو مع السلطان, ومات فجأة وهو راكبٌ دابتَه ودُفن بتربته في حومة القصور.
سار الإمامُ تركي بن عبد الله غازيًا من الرياض بجميعِ غَزوِه من نواحي رعاياه، ونزل الرمحية -الماء المعروف في العرمة- وأقام فيها نحو 40 يومًا ووفد عليه كثيرٌ من رؤساء العُربان من أهل الشمال، وأتاه كثيرٌ مِن الهدايا من رؤساءِ الظفير والمنتفق وغيرهم، وأتى إليه مكاتباتٌ من علي باشا والي بغداد، ثم بعث الإمام عمالَه لعُربان نجد يقبِضون منهم الزكاةَ، فكُلُّهم سَمِعوا وأطاعوا وأدَّوا الزكاة سوى العجمان، ثم رحل إليهم من موضِعِه الذي كان فيه، فلما بلغهم قدومُه عليهم، دفعوا الزكاةَ لعُمَّالِه.