حاصرَ أحمدُ بن طولون نائِبُ الدِّيارِ المصريةِ مدينةَ أنطاكيةَ وفيها سيما الطويلُ، فأخذها منه وجاءته هدايا مَلِكُ الروم، وفي جُملتِها أُسارى من أُسارى المسلمين، ومع كلِّ أسيرٍ مُصحَفٌ، منهم عبد الله بن رشيد بن كاوس، الذي كان عامِلَ الثغورِ، فاجتمع لأحمد بن طولون مُلكُ الشَّامِ بكمالِه مع الدِّيارِ المصريةِ؛ لأنَّه لَمَّا مات نائِبُ دمشق أماخور ركِبَ ابنُ طولون من مصرَ فتلقَّاه ابن أماخور إلى الرملة، فأقَرَّه عليها، وسار إلى دمشق فدخَلَها، ثمَّ إلى حمص فتسَلَّمَها، ثمَّ إلى حلب فأخذها، ثم أكملَ ابنُ طولون استيلاءَه على الشام باستيلائِه على أنطاكية.
افتُتِحَت الجوالي –أموال الجزية- في المحَرَّم ببغداد، فأنفذ الملِكُ جلال الدَّولة البويهي فأخذ ما تحصَّلَ منها، وكانت العادةُ أن يُحمَلَ منها إلى الخُلفاءِ لا تُعارِضُهم فيها الملوك، فلمَّا فَعَل جلالُ الدَّولة ذلك، عَظُمَ الأمرُ فيه على القائِمِ بأمرِ الله واشتَدَّ عليه، وأرسَلَ مع أقضى القُضاة أبي الحسن الماوَردي في ذلك، وتكَرَّرت الرَّسائلُ، فلم يُصْغِ جلالُ الدَّولة لذلك، وأخذ الجواليَ، فجمع الخليفةُ الهاشميِّينَ بالدارِ والرجَّالة، وأرسل إلى أصحابِ الأطرافِ والقُضاة بما عزَمَ عليه، وأظهر العَزمَ على مفارقةِ بغداد، فلم يتِمَّ ذلك، وحدث وحشةٌ مِن الجِهَتينِ، فاقتَضَت الحالُ أنَّ المَلِك يتركُ معارضةَ النوَّاب الإماميَّة فيها في السنةِ الآتيةِ.
هو المَلِكُ فَرَّخ زاد بن مسعودِ بن محمودِ بن سُبكتكين، صاحبُ غَزنَة، كان مَلِكًا شُجاعًا مَهيبًا، واسعَ البِلادِ. وكان قد ثار به مَماليكُه سَنةَ خمسين وأربعمائة واتَّفَقوا على قَتلِه، فقَصَدوهُ وهو في الحَمَّامِ، وكان معه سَيفٌ، فأَخذَهُ وقاتَلَهم، ومنعهم عن نَفسِه حتى أَدرَكهُ أَصحابُه وخَلَّصوهُ، وقَتَلوا أولئك الغِلمانَ. وصار بعد أن نَجا من هذه الحادِثَةِ يُكثِر ذِكْرَ الموتِ ويَحتَقِر الدُّنيا ويَزدَريها، وبَقِيَ كذلك إلى هذه السَّنَةِ، فأَصابهُ قولنج فمات منه، ومَلَكَ بعدهُ أَخوهُ إبراهيمُ بن مسعودِ بن محمود، فأَحسنَ السِّيرةَ، فاستَعَدَّ لجِهادِ الهِندِ، ففَتحَ حُصونًا امتَنعَت على أَبيهِ وجَدِّهِ، وكان يَصومُ رَجبًا وشَعبانَ ورَمضان.
لمَّا خُطِبَ لسُليمانَ بن داودَ بالسَّلْطَنَةِ اختَلفَ الأُمراءُ، فمَضَى باغي سيان وأردم إلى قَزوين، وخَطَبا لأَخيهِ عَضُدِ الدَّولةِ ألب أرسلان محمدِ بن داودَ جغري بك بن ميكائيل بن سلجوق، ابن أخي طُغرلبك وهو حينئذٍ صاحبُ خُراسان، ومعه نِظامُ المُلْكِ وَزيرُه، والناسُ مائِلونَ إليهِ، وكذلك الجَيشُ كانوا يَميلونَ إليهِ، وقد خَطَبَ له أَهلُ الجَبَلِ ومعه نِظامُ المُلْكِ أبو عليٍّ الحَسنُ بن عَلِيِّ بن إسحاقَ وَزيرُه، ولمَّا رأى الكندريُّ قُوَّةَ أَمرِه خَطَبَ له بالرَّيِّ، ثم مِن بَعدِه لأَخيهِ سُليمانَ بنِ داودَ.
بعدَ أن أَصبحَ أحمدُ بن سُليمانَ بن هود أَميرًا لسرقسطة بعَهدِ أَبيهِ تُوفِّي في هذا العامِ وكان يُلقَّب بالمُقتَدِر باللهِ، وكان قبلَ وَفاتِه قد قَسَّمَ مَملكَتَه بين وَلدَيهِ فأَعطَى المُؤتَمن سرقسطة وأَعمالَها، وأَعطَى المُنذِرَ بلادَ الثَّغرِ الأعلى دانية ولاردة، ولكنَّ المُؤتَمن أَعلَن الحَربَ على أَخيهِ للاستِيلاءِ على حِصَّتِه مُستعينًا بكمبيادرو النَّصرانيِّ حَليفَ أَبيهِ فقامَ المُنذِرُ بالاستِنصارِ بسانشو مَلِكِ أراجون لكنَّه انهَزمَ أَمامَ أَخيهِ، أما طليطلة فإنَّ أَهلَها ثاروا على أَميرِها القادرِ ذي النونِ فهَربَ من المدينةِ ولَجأَ إلى قونكة، وكَتبَ إلى ألفونسو مَلِكِ قشتالة وطَلبَ المَعونةَ منه فاستَجابَ له وأَعادَهُ إلى طليطلة.
فتَحَ نورُ الدين محمود بن زنكي حِصنَ المنيطرة من الشام، وكان بيد الفرنج، ولم يحشِدْ له، ولا جمَعَ عساكِرَه، وإنما سار إليه جريدة- الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- على غِرَّة منهم، وعَلِمَ أنه إن جمع العساكِرَ حَذِروا وجمعوا، وانتهز الفرصةَ وسار إلى المنيطرة وحصره، وجَدَّ في قتاله، فأخذه عَنوةً وقهرًا، وقتل من بها وسبى، وغَنِمَ غنيمة كثيرة، فإنَّ الذين به كانوا آمنين، فأخذتهم خيل الله بغتةً وهم لا يشعرون، ولم يجتمع الفرنج لدفعِه إلَّا وقد ملكه، ولو علموا أنه جريدة في قِلَّةٍ مِن العساكر لأسرعوا إليه، وإنما ظنُّوه أنه في جمع كثير، فلما ملكه تفَرَّقوا وأيِسُوا من رَدِّه.
أثناءَ حِصار صلاحِ الدين الأيوبي لحَلَب بلَغَه مسيرُ الفرنجِ إلى حمص وتجهُّزُهم لِقَصدِها، فرحل عن حَلَب إلى حماة، فوصله ثامِنَ رَجَب، بعد نزول الفرنجِ على حمص بيومٍ، ثم رحل إلى الرستن، فلمَّا سَمِعَ الفرنجُ بقُربِه رَحَلوا عن حمص، ووصل صلاحُ الدين إليها، فحصر القلعةَ إلى أن ملكها في الحادي والعشرين من شعبان، فصار أكثَرُ الشام بيده، ولَمَّا ملك حمص سار منها إلى بعلبك، وبها خادِمٌ اسمه يمن، وهو والٍ عليها من أيام نورِ الدين محمود، فحصرها صلاحُ الدين، فأرسل يمن يطلبُ الأمان له ولمن عنده، فأمَّنَهم صلاحُ الدين، وسُلِّمَ القلعة رابع شهر رمضان.
ملك الكرج حصن قرس من أعمال خلاط، وكانوا قد حصروه مدةً طويلة، وضيَّقوا على من فيه، وأخذوا دخلَ الولاية عدة سنين، وكل من يتولى خلاط لا ينجِدُهم، ولا يسعى في راحة تصل إليهم، وكان الوالي بها يواصل رسله في طلب النجدة، وإزاحة من عليه من الكرج، فلا يجاب له دعاء، فلما طال الأمرُ عليه ورأى أنْ لا ناصر له، صالح الكرجَ على تسليم القلعة على مالٍ كثير وإقطاع يأخذُه منهم، وصارت دار شرك بعد أن كانت دار توحيد! ثمَّ إن الله تعالى نظر إلى قلة ناصر الإسلام، فتولاه هو، فأمات ملكة الكرج، واختلفوا فيما بينهم، وكفى الله شرهم إلى آخر السنة.
في أثناءِ الاختلاف بين الملوك التركمان استغل الفرنجُ الوضع فعَمَروا في القُدسِ قلعةً، وجعلوا برجَ داود أحدَ أبراجها، وكان قد تُرِكَ لَمَّا خرب الملك المعظم أسوارَ القُدس، فلما بلغ الناصرَ داود بن الملك المعظَّم صاحب الكرك والأردن عمارةُ هذه القلعة، سار إلى القدسِ ورمى عليها بالمجانيقِ حتى أخَذَها، بعد واحد وعشرين يومًا في يوم تاسع جمادى الأولى عَنوةً بمن معه من عسكر مصر، وتأخَّر أخْذُ برج داود إلى خامس عشر فأُخِذَ من الفرنج صلحًا على أنفُسِهم دون أموالهم، وعَمَر الناصِرُ برج داود واستولى على القُدسِ، وأخرج منه الفرنجَ، فساروا إلى بلادِهم.
لما كان يوم الاثنين السادس عشر صفر وثب جماعة كبيرة من مماليك السلطان الأجلاب-هكذا يُعرَفون- من مشترواته الذين بالأطباق من القلعة، وطلعوا إلى أسطحة أطباقهم، ومنعوا الأمراء وغيرهم من الأعيان من طلوع الخدمة، وأفحشوا في ذلك إلى أن خرجوا عن الحد، ونزلوا إلى الرحبة عند باب النحاس، وكسروا باب الزردخاناه السلطانية، وضربوا جماعةً من أهل الزردخاناه -خزانة السلاح- وأخذوا منها سلاحًا كثيرًا، ووقع منهم أمور قبيحة في حقِّ أستاذهم الملك الظاهر جقمق، ولهجوا بخلعِه من الملك، وهمَّ السلطان بقتالهم، ثم فتَرَ عزمُه عن ذلك؛ شفقة عليهم لا خوفًا منهم، ثم سكنت الفتنة بعد أمورٍ وقعت بينهم وبين السلطانِ.
قام شارلكان ملكُ إسبانيا بإعلان الحرب ضِدَّ فرنسا التي تعتبَرُ عدوًّا له باعتبارها من حلفاء الدولة العثمانية, فقام الفرنسيون بالاستنجاد بالعثمانيين وتوقيع معاهدةٍ جديدة ضِدَّ شارلكان الذي كان يحكُمُ نيس، فانضمَّ الأسطول الفرنسي إلى الأسطول العثماني بأمرٍ من ملك فرنسا، ووضَعَ قائدُ الأسطول الفرنسي الأمير فرانسوا دبو بوربون قواتِه تحت قيادة القائد التركي خير الدين بربروسا، باعتباره القائِدَ العامَّ للقوات المتحالفة العثمانية-الفرنسية, وكان أوَّلُ عمل قام به خير الدين هو قيادةَ هذه القوات لمهاجمة نيس وطرْدَ حاكمِها دوق سافوا، وانتزاعَها من الحُكم الإسباني وإعادتها لملك فرنسا.
هو جنكيزخان السلطان الأعظم عند التتار والدُ ملوكهم، واسمه تموجين وقيل (تمرجين أو تمرجي) ولد في غرة محرم سنة 550 في منغوليا على الضفة اليمنى لنهر الأونون في مقاطعة دولون بولداق وهذه المقاطعة توجد اليوم في الأراضي الروسية. وكان أبوه بسوكاي رئيسًا لقبيلة قيات المغولية فسمَّاه باسم قائد صرعه؛ لأنَّه كان معجبًا به لفرط شجاعته, وقيل: "إنَّ أمَّه كانت تزعمُ أنها حملته من شعاع الشمس؛ فلهذا لا يُعرَفُ له أب، ولهذا قد يكون مجهولَ النسب". لما مات بسوكاي سنة 563 حل محلَّه تمرجين وكان عمره ثلاثة عشر عامًا إلَّا أن رجال قبيلته استصغروا سنَّه ورفضوا طاعته, حينما بلغ السابعةَ عشرة من عمره استطاع بقوَّة شخصيته وحِدَّة ذكائه أن يعيدَ رجال قبيلته إلى طاعته وأن يُخضِعَ المناوئين له حتى تمَّت له السيطرة, وأصبح تمرجين بعد انتصاره أقوى شخصية مغولية، فنودي به خاقانًا، وعُرف باسم "جنكيز خان" أي: إمبراطور العالم. وهو صاحب "التورا" و"اليسق أو الياسق"، وضعه ليتحاكم إليه التتار ومن معهم من أمراء الترك, والتورا باللغة التركية هو المذهب، واليسق هو الترتيب، وأصل كلمة اليسق: سي يسا، وهو لفظ مركب من أعجمي وتركي، ومعناه: التراتيب الثلاث؛ لأن " سي " بالعجمي في العدد ثلاثة، و" يسا " بالتركي: الترتيب؛ وعلى هذا مشت التتار منذ أن وضعه لهم جنكيز خان، وانتشر الياسق في سائر الممالك حتى ممالك مصر والشام، وصاروا يقولون: " سي يسا " فثقلت عليهم فقالوا: " سياسة " على تحاريف العرب في اللغات الأعجمية لهم السياسا التي يتحاكمون إليها، ويحكمون بها، وأكثرها مخالف لشرائع الله تعالى وكتبه، وهو شيء اقترحه من عند نفسه، وتَبِعوه في ذلك, وقد عظُمَ أمر جنكيزخان وبعُدَ صِيتُه وخضعت له قبائلُ الترك ببلاد طمغاج كلها، حتى صار يركَبُ في نحو ثمانمائة ألف مقاتل، وأكثَرُ القبائل قبيلته التي هو منها يقال لهم قيان، ثم أقرب القبائلِ إليه بعدهم قبيلتان كبيرتا العدد، وهما أزان وقنقوران، وكان يصطاد من السنة ثلاثة أشهر، والباقي للحرب والحكم، فلما هلك جعلوه في تابوت من حديد وربطوه بسلاسل وعلقوه بين جبلين, وأما كتابُه الياسا فإنه يكتب في مجلدين بخط غليظ، ويُحمَل على بعير عندهم، وقد ذكَرَ بعضُهم أنه كان يصعد جبلًا ثم ينزل. ثم يصعدُ ثم ينزل مرارًا حتى يعيى ويقع مغشيًّا عليه، ويأمر من عنده أن يكتبَ ما يلقى على لسانه حينئذٍ، فإن كان هذا هكذا فالظاهر أن الشيطانَ كان ينطق على لسانِه بما فيها، واستمر أولاد جنكيزخان في ممالكه التي قسمها عليهم في حياته، ولم يختلف منهم واحد على واحد، ومشوا على ما أوصاهم به، وعلى طريقته " التورا " و" اليسق " ولما احتُضر أوصى أولاده بالاتفاق وعدم الافتراق، وضرب لهم في ذلك الأمثال، وأحضر بين يديه نشابًا وأخذ سهمًا أعطاه لواحد منهم فكسره، ثم أحضر حزمة ودفعها إليهم مجموعة فلم يطيقوا كسرَها، فقال: هذا مثَلُكم إذا اجتمعتم واتَّفقتم، وذلك مثلُكم إذا انفردتُم واختلفتُم، قال: وكان له عِدَّةُ أولاد ذكور وإناث، منهم أربعة هم عظماء أولاده، أكبرهم يوسي وهريول وباتو وبركة وتركجار، وكان كل منهم له وظيفة عنده. قال ابن كثير: " وقد رأيت مجلدًا ببغداد جمعه الوزير علاء الدين الجويني في ترجمة جنكيز خان، ذكر فيه سيرته، وما كان يشتَمِلُ عليه من العقل السياسي والكرم والشجاعة والتدبير الجيد للملك والرعايا، والحروب, وذكر فيه نتفًا من الياسا من ذلك: أنه من زنا قتل، محصنًا كان أو غير محصن، وكذلك من لاط قُتل، ومن تعمد الكذب قُتل، ومَن سحر قُتل، ومن تجسَّس قُتل، ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدَهما قُتل، ومن بال في الماء الواقف قُتل، ومن انغمس فيه قُتل، ومن أطعم أسيرًا أو سقاه أو كساه بغير إذن أهلِه قُتل.... "
في سَنةِ خَمسٍ وتسعين حَصَر الأفضَلُ والظاهِرُ وَلَدا صلاح الدين دمشقَ؛ لأخذها مِن عَمِّهما الملك العادل ورحلا عنها، على عَزمِ المقام بحوران إلى أن يخرُجَ الشتاء، فلمَّا أقاموا برأس الماء وجد العسكَرُ بردًا شديدًا، لأنَّ البَردَ في ذلك المكان في الصَّيفِ موجود، فكيف في الشِّتاءِ، فتغَيَّرَ العزم عن المقام، واتَّفَقوا على أن يعود كلُّ إنسانٍ منهم إلى بلده، ويعودوا إلى الاجتماعِ، فتفَرَّقوا تاسع ربيع الأول، فعاد الظاهِرُ وصاحب حمص إلى بلادِهما، وسار الأفضَلُ إلى مصر، فوصل بلبيس، فأقام بها، ووصَلَتْه الأخبارُ بأنَّ عَمَّه الملك العادل قد سار من دمشقَ قاصِدًا مصر ومعه المماليكُ الناصريَّة، وكان عسكَرُه بمصر قد تفَرَّقَ عن الأفضل، فسار كلٌّ منهم إلى إقطاعِه ليربعوا دوابهم، فرام الأفضَلُ جَمْعَهم من أطراف البلاد، فأعجَلَه الأمر عن ذلك، ولم يجتَمِعْ منهم إلا طائفة يسيرة ممَّن قَرُب إقطاعه، ووصل العادل، فسار عن بلبيس، ونزل موضعًا يقال له السائحُ إلى طرف البلاد، ولقاء العادل قبل دخول البلادِ سابع ربيع الآخر، فانهزم الأفضَلُ، ودخل القاهرةَ ليلًا، وسار العادِلُ فنزل على القاهرة وحَصَرَها، فجمع الأفضَلُ مَن عنده من الأمراء واستشارهم، فرأى منهم تخاذلًا، فأرسل رسولًا إلى عَمِّه في الصلحِ وتسليم البلاد إليه، وأخْذِ العوض عنها، وطَلَب دمشق، فلم يجِبْه العادل، فنزل عنها إلى حرَّان والرَّها فلم يُجِبْه، فنزل إلى ميافارقين وحاني وجبل جور، فأجابه إلى ذلك، وتحالَفوا عليه، وخرج الأفضَلُ مِن مصر ليلة السبت ثامن عشر ربيع الآخر، واجتمع بالعادِل، وسار إلى صرخد، ودخل العادِلُ إلى القاهرة يوم السبت ثامن عشر ربيع الآخر، ولَمَّا وصل الأفضل إلى صرخد أرسل مَن تسَلَّمَ ميافارقين وحاني وجبل جور، فامتنع نجمُ الدين أيوب بن الملك العادل من تسليم ميافارقين، وسَلَّمَ ما عداها، فتردَّدَت الرسل بين الأفضل والعادل في ذلك، والعادِلُ يزعم أنَّ ابنَه عصاه، فأمسك عن المُراسلة في ذلك؛ لعِلمِه أن هذا فِعلٌ بأمر العادل، ولَمَّا ثبتت قدم العادل بمصرَ قَطَعَ خطبة الملك المنصور بن الملك العزيز في شوال وخَطَب لنفسه، وحاقَقَ الجندَ في إقطاعاتهم، واعتراضهم في أصحابِهم ومن عليهم من العسكر المقَرَّر، فتغَيَّرَت لذلك نياتُهم.
كان بين المعظم والأشرف خلافٌ سَبَبُه أنَّه لَمَّا توفِّيَ الملك العادل أبو بكر بن أيوب، اتفق أولاده الملوك بعده اتفاقًا حسنًا، وهم: الملك الكامل محمد، صاحب مصر، والملك المعظم عيسى، صاحب دمشق، والملك الأشرف موسى، صاحب ديار الجزيرة وخلاط، واجتمعت كلمتُهم على دفع الفرنج عن الديار المصريَّة، ولما رحل الكامل عن دمياط لما كان الفرنج يحصُرونَها، صادفه أخوه المعظَّم من الغد، وقَوِيَت نفسه، وثَبَتت قدمه، ولولا ذلك لكان الأمر عظيمًا، ثم إنَ المعظم لما عاد من مصر سار إلى أخيه الأشرف ببلاد الجزيرة مرَّتين يستنجده على الفرنج، ويحثُّه على مساعدة أخيهما الكامل، ولم يزل به حتى أخذه وسارا إلى مصر، وأزالوا الفرنجَ، فلما فارق الفرنجُ مصرَ وعاد كل من الملوك أولاد العادل إلى بلده بَقُوا كذلك يسيرًا، ثم سار الأشرفُ إلى أخيه الكامل بمصر، فاجتاز بأخيه المعظَّم بدمشق، فلم يستصحِبْه معه، وأطال المقامَ بمصر، فساء المعظَّم ذلك، ثم إن المعظَّم سار إلى مدينة حماة وحصرها، فأرسل إليه أخوه من مصرَ ورحَّلاه عنها كارهًا، فازداد نفورًا، وقيل: إنَّه نقل إليه عنهما أنهما اتفقا عليه، والله أعلم بذلك، ثم انضاف إلى ذلك أن الخليفة الناصر لدين الله، كان قد استوحش من الكامِلِ؛ لِما فعله ولده صاحِبُ اليمن من الاستهانة بأمير الحاج العراقي، فأعرض عنه وعن أخيه الأشرف لاتفاقِهما، وقاطعهما وراسل مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي، صاحب إربل، يعلِمُه بانحرافه عن الأشرف، واستمالَه واتفقا على مراسلة المعظَّم وتعظيم الأمر عليه، فمال إليهما وانحرف عن إخوته، ثم اتفَقَ ظهور جلال الدين وكثرةُ ملكه، فاشتد الأمرُ على الأشرف بمجاورة جلال الدين خوارزم شاه ولاية خلاط، ولأنَّ المعظم بدمشق يمنع عنه عساكرَ مصر أن تصِلَ إليه، وكذلك عساكر حلب وغيرها من الشام، فرأى الأشرفُ أن يسير إلى أخيه المعظَّم بدمشق، فسار إليه في شوال واستماله واصطلح معه، فلما سمع الكامل بذلك عظم عليه، ثم إنهما راسلاه وأعلماه بنزول جلال الدين على خلاط، وعظَّما الأمر عليه، وأعلماه أن هذه الحال تقتضي الاتفاق لعمارة البيت العادلي، وانقضت السنةُ والأشرف بدمشق والناس على مواضِعِهم ينتظرون خروجَ الشتاء ما يكون من الخوارزميين.
استولى الصالح نجم الدين أيوب على مصر، ثم استولى عمه الصالح إسماعيل على دمشق، ثم إن الناصر داود بن الملك المعظَّم الذي كان أطلق الصالح نجم الدين أيوب مِن أسرِه إلى مصر فمَلَكها على أن يعطيه بعضَ البلاد فخلفه، فانحاز إلى الصالح إسماعيل ومعهم كذلك صاحب حمص، كل هذه الأمور من النزاعات بين أمراء البيت الأيوبي أدت إلى تولد شرارة الحرب بينهم، فخاف الصالح عماد الدين صاحب دمشق من الملك الصالح نجم الدين صاحب مصر، فكاتب الفرنج، واتفق معهم على معاضدته ومساعدتِه، ومحاربة صاحب مصر، وأعطاهم قلعةَ صفد وبلادها، وقلعة الشقيف وبلادها، ومناصفة صيدا وطبرية وأعمالها، وجبلَ عاملة وسائر بلاد الساحل، وعزم الصالح عماد الدين على قصد مصر لِمَا بلغه من القبض على المماليك الأشرفية والخُدَّام ومُقَدَّمي الحلقة وبعض الأمراء، وأن من بقي من أمراء مصر خائف على نفسه من السلطان، فتجهَّز وبعث إلى المنصور صاحب حمص، وإلى الحلبيين وإلى الفرنج يطلب منهم النجدات، وأذن الصالح إسماعيل للفرنج في دخول دمشق وشراء السلاحِ، فأكثروا من ابتياع الأسلحة وآلات الحرب من أهل دمشق، فأنكر المسلمون ذلك، ثمَّ برز الصالح إسماعيل من دمشق، ومعه عساكِرُ حمص وحلب وغيرها، وسار حتى نزل بنهر العوجاء، فبلغه أن الناصر داود قد خيم على البلقاء، فسار إليه، وأوقع به، فانكسر الناصرُ داود، وانهزم إلى الكرك وأخذ الصالحُ أثقاله، وأسَرَ جماعة من أصحابه، وعاد إلى العوجاء وقد قَوِيَ ساعده واشتدت شوكتُه، فبعث يطلب نجدات الفرنج، على أنَّه يعطيهم جميع ما فتحه السلطان صلاح الدين يوسفُ، ورحل ونزل تل العجول فأقام أيامًا، ولم يستطع عبور مصر، فعاد إلى دمشق؛ وذلك أن الملك الصالح نجم الدين لما بلغه حركة الصالح إسماعيل من دمشق ومعه الفرنج، جرَّد العساكِرَ إلى لقائه، فألقاهم، وعندما تقابل العسكران ساقت عساكر الشام إلى عساكر مصر طائعةً، ومالوا جميعًا على الفرنج، فهزموهم وأسَرُوا منهم خلقًا لا يُحصَون، وبهؤلاء الأسرى عَمَرَ السلطان الملك الصالح نجم الدين قلعةَ الروضة، والمدارس الصالحية بالقاهرة، ثم تمَّ الصلح مع الفرنج، وأطلق الملك الصالح نجم الدين الأسرى بمصر من الجنود والفرسان والرجَّالة.