هو عبد الرحمن بن أحمد بن مسعود الكواكبي، ويلقَّب بالسيد الفراتي، مِن رجالِ الأدب والاجتماع والسياسة، وهو من رواد الحركةِ القومية العربيَّة، ولد في 23 شوال سنة 1271هـ في مدينة حلب، وتعَلَّم بها، وكانت له مكانةٌ مرموقة في بلَدِه، يقصدُه أصحابُ الحاجات لقضائِها، ويلجأُ إليه أرباب المشاكلِ لحلِّها، بل كان رجالُ الحكم يستشيرونه أحيانًا فيُبدي رأيَه في جرأة وشجاعة. أنشأ في حلب جريدة (الشهباء) فأغلقَتْها الحكومةُ؛ لهجومه على العثمانيين وطَلَبِه استقلالَ العرب عنهم، ثم أنشأ جريدةَ (الاعتدال) فعُطِّلت كذلك من قِبَل الحكومة، وأُسنِدَت إليه مناصِبَ عديدة. سجنه العثمانيون بسببِ موقِفِه منهم، وتشجيعِه للعرب على الانفصالِ عن الدولة العثمانية، وحكَموا عليه بالقتل إلَّا أن الرأيَ العامَّ جعل العثمانيين يُطلِقون سراحَه، وخَسِرَ جميع ماله، فرحل إلى مصر. وساح إلى بلاد العربِ وشرقي إفريقية وبعض بلاد الهند. واستقَرَّ في القاهرة إلى أن توفي. له من الكتب ((أم القرى))، و ((طبائع الاستبداد))، وكان لهما عند صدورهما دويٌّ كبيرٌ، ألَّف أيضًا كتاب ((العظمة لله))، و((صحائف قريش))، إلى غير ذلك، توفي في القاهرة، ودُفِنَ فيها.
كان الحاكِمُ العُبَيديُّ صاحِبُ مِصرَ يواصِلُ الرُّكوبَ وتتصَدَّى له العامَّةُ، فيَقِفُ عليهم ويسمَعُ منهم. وكان النَّاسُ في ضنكٍ مِن العَيشِ معه. فكانوا يدسُّونَ إليه الرِّقاعَ المختومةَ بالدُّعاءِ عليه والسَّبِّ له ولأسلافِه، حتى إنَّهم عَمِلوا تمثالَ امرأةٍ مِن كاغد بخُفٍّ وإزارٍ ثمَّ نَصَبوها له، وفي يَدِها قصَّةً. فأمَرَ بأخْذِها مِن يَدِها، ففتَحَها فرأى فيها العظائمَ، فقال: انظُروا مَن هذه. فإذا هي تمثالٌ مَصنوعٌ. فتقَدَّمَ بطَلَبِ الأمراءِ والعُرَفاء فحَضَروا، فأمَرَهم بالمصيرِ إلى مِصرَ لِنَهبِها وحَرقِها بالنَّارِ وقَتلِ أهلِها, فتوجَّهوا لذلك، فقاتل المصريونَ عن أنفُسِهم بحَسَبِ ما أمكَنَهم. ولحِقَ النَّهبُ والحريقُ الأطرافَ والنواحيَ التي لم يكُنْ لأهلِها قُوَّةٌ على امتناعٍ، ولا قدرةٌ على دفاعٍ. واستَمَرَّت الحربُ بين العبيدِ والرَّعيَّة ثلاثةَ أيام، وهو يركَبُ ويُشاهِدُ النَّارَ، ويَسمَعُ الصِّياح. فيَسأل عن ذلك، فيُقال له: العَبيدُ يَحرِقونَ مِصرَ. فيتوجَّعُ ويقولُ: مَن أمَرَهم بهذا؟ لعَنَهم اللهُ, فلما كان في اليومِ الثَّالثِ اجتمَعَ الأشرافُ والشُّيوخُ إلى الجامِعِ ورَفَعوا المصاحِفَ، وعَجَّ الخَلقُ بالبُكاءِ والاستغاثةِ بالله. فرَحِمَهم الأتراكُ وتقاطَروا إليهم وقاتَلوا معهم. وأرسلوا إلى الحاكِمِ يقولونَ له: نحن عبيدُك ومماليكُك، وهذه النَّارُ في بلَدِك وفيه حَرَمُنا وأولادُنا، وما عَلِمْنا أنَّ أهلَها جَنَوا جنايةً تَقتَضي هذا، فإن كان باطِنٌ لا نَعرِفُه عَرِّفْنا به، وانتَظِرْ حتى نُخرِجَ عيالَنا وأموالَنا، وإن كان ما عليه هؤلاء العَبيدُ مُخالِفًا لرأيِك أطلِقْنا في مُعامَلتِهم بما نعامِلُ به المُفسِدينَ. فأجابهم: إنِّي ما أردتُ ذلك ولا أَذِنتُ فيه، وقد أَذِنتُ لكم في الإيقاعِ بهم، وأرسل للعبيدِ سِرًّا بأنْ كونوا على أمْرِكم، وقَوَّاهم بالسِّلاحِ، فاقتَتَلوا وعاودوا الرِّسالةَ: إنَّا قد عَرَفْنا غَرَضَك، وإنَّه إهلاكُ البَلدِ، ولَوَّحوا بأنَّهم يَقصِدونَ القاهرةَ، فلما رآهم مُستَظهرينَ، رَكِبَ حِمارَه ووقف بين الفَريقينِ، وأومأ إلى العَبيدِ بالانصرافِ، وسَكَنَت الفتنةُ، وكان قَدْرُ ما أُحرِقَ مِن مِصرَ ثُلُثَها، ونُهِبَ نِصفُها. وتتَبَّع المِصريونَ مِن أَسَرَ الزَّوجاتِ والبَناتِ، فاشتَرَوهنَّ مِن العَبيدِ بعد أن اعتُدِيَ عليهنَّ، حتى قَتَل جماعةٌ أنفُسَهنَّ مِن العارِ. ثمَّ زاد ظُلمُ الحاكِمِ، وعَنَّ له أن يَدَّعي الرُّبوبيَّةَ، كما فعَلَ فِرعونُ، فصار قَومٌ مِن الجُهَّالِ إذا رأوه يقولونَ: يا واحد يا أحد، يا محيي يا مميت.
هو السلطان أبو العباس المنصور أحمد، المعروف بالذهبي ابن أبي عبد الله محمد الشيخ المهدي بن محمد القائم بأمر الله الزيداني الحسني السعدي، واسطةُ عِقد الملوك الأشراف السعديين، وأحدُ ملوك المغرب الأقصى العِظام. كانت ولادته بفاس سنة 956, وأمُّه الحُرَّة مسعودة بنت الشيخ الأجلِّ أبي العباس أحمد بن عبد الله الوزكيتي، وكانت من الصالحات الخيرات, وكان أبوه المهدي ينبِّه على أن ابنَه أحمد واسطةُ عِقد أولاده. نشأ المنصور في عَفافٍ وصيانة وتعاطٍ للعلم ومُثافنةٍ لأهله عليه، وكانت مخايل الخِلافة لائحةً عليه إلى أن تمَّ أمره. كان طويلَ القامة ممتلئ الخدين واسِعَ المنكبين، تعلوه صفرةٌ رقيقة، أسود الشعر أدعج أكحل ضيِّق البلج، برَّاق الثنايا، حسن الشكل جميل الوجه، ظريف المنزِع لطيف الشمائل. بويعَ له بالحكم بعد وفاة أخيه عبد الملك في معركة وادي المخازن 986. قال الفشتالي: "لما كانت وقعة وادي المخازن ونصر الله دينَه وكَبَتَ الكفرَ وأهلَه واستوسق الأمرُ للمنصور، كتب إلى صاحب القسطنطينية العظمى، وهو يومئذ السلطان مراد الثالث بن سليم الثاني، وإلى سائر ممالك الإسلام المجاورين للمغرب يعرِّفُهم بما أنعم الله به عليه من إظهارِ الدين وهلاك عَبَدة الصليب واستئصال شأفتِهم، فوردت عليه الأرسالُ من سائر الأقطار مهنئين له بما فتح الله على يدِه، وكان أول من وفد عليه رسولُ صاحب الجزائر ثم تلته أرسالُ طاغية البرتغال، وهو الريكي القائم بأمرهم" واستمر أحمد المنصور على منهج أخيه في بناء المؤسسات، واقتناءِ ما وصلت إليه الكشوفاتُ العلمية، وتطويرِ الإدارة والقضاء والجيش، وترتيبِ الأقاليم وتنظيمها، وكان أحمد المنصور يتابع وزراءه وكبارَ موظفيه ويحاسِبُهم على عدم المحافظة على أوقات العمل الرسمية، أو التأخير في الردِّ على المراسلات الإدارية والسياسية، وأحدث حروفًا لرموز خاصة بكتابة المراسَلات السريَّة؛ حتى لا يُعرَفَ فحواها إذا وقعت في يد عدوٍّ. توفي المنصور في الدار البيضاء خارجَ فاس فدُفِن فيها، ثم نُقِل إلى مراكش، ثم خلَفَه بعده ابنه زيدان الذي استخلفه والدُه المنصور بعد أن أَيِس من صلاحِ ابنه الكبير محمد الشيخ المأمون.
أرسل الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم بكِتابٍ إلى قَيصرِ الرُّومِ وكان حاملَ الكِتابِ هو دِحيةُ بنُ خَليفةَ الكَلبيُّ، فلمَّا كان مِن قَيصرَ ما كان أجاز دِحيةَ بنَ خَليفةَ الكَلبيَّ بمالٍ وكِسوَةٍ، ولمَّا كان دِحيةُ بحِسْمَى في الطَّريقِ لَقِيَهُ ناسٌ مِن جُذَامَ، فقَطعوها عليه، فلم يتركوا معه شيئًا، فجاء دِحيةُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قبلَ أن يَدخُلَ بيتَه فأخبرَهُ، فبعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زيدَ بنَ حارثةَ إلى حِسْمَى، وهي وَراءَ وادي القُرى، في خمسمائةِ رجلٍ، فشَنَّ زيدٌ الغارةَ على جُذامَ، فقَتل فيهم قتلًا ذَريعًا، واسْتاقَ نَعَمَهُم ونِساءَهُم، فأخذ مِنَ النَّعَمِ ألفَ بَعيرٍ، ومِنَ الشَّاةِ خمسةَ آلافٍ، والسَّبْيِ مائةً مِنَ النِّساءِ والصِّبيانِ. وكان بين النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وبين قَبيلةِ جُذامَ مُوادَعةٌ، فأسرعَ زيدُ بنُ رِفَاعةَ الجُذاميُّ أَحَدُ زُعماءِ هذه القَبيلةِ بتَقديمِ الاحْتِجاجِ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكان قد أَسلمَ هو ورِجالٌ مِن قومِه، ونَصَروا دِحيةَ حين قُطِعَ عليه الطَّريقُ، فقَبِلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم احْتِجاجَهُ، وأَمَر بِرَدِّ الغَنائمِ والسَّبْيِ.
هو إمام أهل الشام أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الأوزاعي، من كبار تابعي التابعين. ولقب بالأوزاعي نسبة إلى الأوزاع وهي فرع من همدان, وقيل الأوزاع قرية بدمشق على طريق باب الفراديس، ولم يكن أبو عمرو منهم، وإنما نزل فيهم فنسب إليهم وهو من سبي اليمن. وُلِدَ في بعلبك سنة 88 ونشأ في البقاع يتيم الأب, ثم انتقلت به أمه إلى بيروت، كان فوق الربعة خفيف اللحية به سمرة، وكان يخضب بالحناء. طلب الحديثَ فصار إمامَ أهل الشام، وكان ثقة مأمونا، فاضلا خيرا، كثير العلم والحديث والفقه، حجة, ذا أدبٍ وورع، وزهدٍ عُرِضَ عليه القضاء وأبى, صاحِبُ مذهبٍ فقهيٍّ مُندثِرٍ، إلَّا أنَّ عِلمَه لم يجمَعْه تلاميذُه في الكتب، على خلافِ ما فعل أتباعُ أبي حنيفة النعمان وغيره، فحافظوا على مذاهِبِ مُعَلِّميهم. وأنشأ مذهبًا مستقلًّا مشهورًا عُمِلَ به مدَّةً عند فقهاءِ أهل الشام والأندلس ثمَّ اندرس، ولكنْ ما زالت له بعض المسائل الفقهيَّة في أمهَّات الكتب، وكان الأوزاعي قد التزم في فتاويه بالتوقف عند النصوص الصحيحة من الكتاب والسنة. سكن بيروت وبها توفِّيَ.
السيد سابق صاحبُ كتابِ "فقه السُّنة"، تخرَّج في كليَّة الشريعة، من مواليد محافظة المنوفية مركز الباجور قرية إسطنها، بدأ يكتُب في فقه الطهارة، معتمِدًا على كتب فقه الحديث، التي تُعنى بالأحكام، مثل: (سُبل السلام) للصنْعانيِّ، شرح (بلوغ المرام) لابن حَجَر، و(نيل الأوطار) للشوْكاني، وشرح (مُنْتَقى الأخيار من أحاديث سيد الأخيار) لابن تَيْميةَ الجدِّ، وغير ذلك من المصادر المختلِفة، مثل (المُغْني) لابن قُدامة، و(زاد المعاد) لابن القَيِّم، وغيرهما، قُدِّم للمحاكَمةِ في قضية مَقتَل النُّقْراشي باشا، حيث زَعَموا في ذلك الوقت أنَّه هو الذي أفتى الشابَّ القاتلَ عبد المجيد حسن بجواز قَتلِه، وكانت الصحُف تُلَقِّبُه في ذلك الوقت بـ (مفتي الدماء)، ولكنَّ المحكمةَ برَّأَتْه، وأخْلَت سبيلَه، ثم اعتُقِلَ في سنةِ 1949م واقْتيدَ إلى مُعتَقَل الطور.
عُيِّنَ بعد ذلك مديرًا لإدارة الثقافة في وزارة الأوقاف، في عهد وزير الأوقاف أحمد حسن الباقوري، ثم انتقل في السنين الأخيرة من عمره إلى (جامعة أم القرى) بمكَّة المكرَّمة، وتُوفيَ -رحمه الله- عن عُمرٍ يُناهز 85 سنةً، ودُفنَ بمدافن عائلته بقرية إسطنها، حيث مسقطُ رأسِه.
أَصبحَ مُشرِكو مكَّةَ بعدَ هَزيمَتِهم في غَزوةِ بدرٍ، يَبحَثون عن طريقٍ أُخرى لِتِجارتِهم للشَّامِ، فأشارَ بعضُهم إلى طريقِ نَجْدِ العِراقِ، وقد سَلكوها بالفعلِ، وخرج منهم تُجَّارٌ، فيهم أبو سُفيانَ بنُ حَربٍ، وصَفوانُ بنُ أُميَّةَ، وحُوَيْطِبُ بنُ عبدِ العُزَّى، ومعهم فِضَّةٌ وبضائعُ كثيرةٌ، بما قيمتُه مائةُ ألفِ دِرهمٍ؛ فبلغ ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بواسطةِ سَليطِ بنِ النُّعمانِ رضي الله عنه، فبعَث زيدَ بنَ حارِثةَ في مائةِ راكبٍ لِاعتِراضِ القافلةِ، فلَقِيَها زيدٌ عند ماءٍ يُقالُ له: القَرَدَةُ، وهو ماءٌ مِن مِياهِ نَجْدٍ، فَفَرَّ رجالُها مَذعورين، وأصاب المسلمون العِيرَ وما عليها، وأَسَروا دَليلَها فُراتَ بنَ حيَّانَ الذي أَسلمَ بين يَدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعادوا إلى المدينةِ، فخَمَّسَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ووَزَّعَ الباقيَ بين أَفرادِ السَّرِيَّةِ.
لمَّا اطْمأنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بخَيبرَ بعدَ فَتحِها أَهدَتْ له زَينبُ بنتُ الحارثِ -امرأةُ سَلاَّمِ بنِ مِشْكَمٍ- شاةً مَصْلِيَّةً، وقد سَألتْ أيَّ عُضْوٍ أَحَبُّ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقِيلَ لها: الذِّراعُ، فأَكثرتْ فيها مِنَ السُّمِّ، ثمَّ سَمَّتْ سائرَ الشَّاةِ، ثمَّ جاءت بها، فلمَّا وَضعتْها بين يَدي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تناوَلَ الذِّراعَ، فَلاكَ منها مُضغةً فلم يسغْها، ولَفَظَها، ثمَّ قال: (إنَّ هذا العَظمُ لَيخبِرُني أنَّه مَسمومٌ). ثم دَعا بها فاعْترَفتْ، فقال: (ما حمَلكِ على ذلك؟). قالتْ: قلتُ إن كان مَلِكاً استَرحتُ منه، وإن كان نَبِيًّا فسيُخبَرُ، فتجاوَز عنها. وكان معه بِشْرُ بنُ البَراءِ بنِ مَعْرورٍ، أخَذ منها أَكلةً فأَساغَها، فمات منها, واخْتلفَتِ الرِّواياتُ في التَّجاوُزِ عنِ المرأةِ وقَتْلِها، وأجمعوا بأنَّه تَجاوَز عنها أوَّلًا، فلمَّا مات بِشْرُ قَتَلَها قِصاصًا.
عقد الخليفةُ المعتمِدُ لأخيه الموفَّق أبي أحمد ومفلح لقتال الزنج، فلما سارا إلى البصرة واجههم علي بن أبان المهلبي فجرى القتالُ بينهما، وكان نتيجته مقتل مفلح وكثيرٍ من أصحابه، ثمَّ إنَّ يحيى بن محمد البحراني- وهو من طرف الزنج- سار نحو نهر العباس فلَقِيَه عسكرُ أصعجور، عامل الأهواز بعد منصور، وقاتلهم، وكان أكثَرَ منهم عددًا، فنال ذلك العسكر من الزنج بالنشاب، وجرحوهم، فعبَرَ يحيى النهرَ إليهم، فانحازوا عنه، وغَنِم سفنًا كانت مع العسكر، فيها الميرةُ، وساروا بها إلى عسكر صاحب الزِّنج على غير الوجه الذي فيه علي بن أبان، لتحاسُدٍ كان بينه وبين يحيى، فلقيهم جيش الموفَّق ورشقوهم بالنشاب، فأصابوا يحيى الذي حاول الهرب، ولكنه قُبِضَ عليه وسُيِّرَ إلى سامرَّا فقُطِعَت يده ورِجلُه من خِلافٍ ثمَّ ذُبِح، ورجع جيشُ الموفَّق لوباءٍ حلَّ بالجند بالإضافة لحريقٍ حصل للجيش.
كاتَبَ موسى بن أبي العافية- صاحبُ المغرب- الأميرَ الناصر، ورَغِبَ في موالاته، والدخولِ في طاعته، وأن يستميلَ له أهواءَ أهل المغرب المجاورينَ له، فتقبله أحسَنَ قَبولٍ، وأمَدَّه بالخِلَعِ والأموال، وقوَّى يده على ما كان يحاوِلُه من حربِ ابنِ أبي العيش وغيره. فظهر أمرُ موسى من ذلك الوقت في المغرب، وتجمَّعَ له كثيرٌ من قبائل البربر، وتغلَّب على مدينة جراوة، وأخرج عنها الحسَنَ بنَ أبي العيش بن إدريس العلوي؛ وجَرَت بينهما حروبٌ عظيمة، وافتتح الناصِرُ مدينة سبتة، فملأها بالرِّجال، وأتقَنَها بالبُنيان. وبنى سورها بالكذان، وألزم فيها من رَضِيَه من قوَّادِه وأجناده، وصارت مِفتاحًا للغَربِ والعدوة من الأندلس، وباب إليها كما هي الجزيرة وطريف مفتاح الأندلس من العدوة، وقامت الخطبةُ في سبتة باسم أميرِ المؤمنين الناصر، فكان هذا سيطرةً على مضيقِ جبل طارق، وشَكَّل بذلك نوعَ تهديدٍ على الدَّولةِ الفاطميَّة.
هو أبو المُظَفَّرِ مَنصورُ بن نِظامِ الدِّينِ نَصرِ بنِ نَصيرِ الدَّولةِ مَروانَ بنِ دوستك الكُرديُّ، صاحِبُ دِيارِ بَكرٍ، تَوَلَّى الحُكمَ بعدَ وَالدِه نِظامِ الدِّين في ذي الحجَّةِ سَنةَ 472هـ، ودَبَّرَ دَولتَهُ ابنُ الأَنبارِيِّ، ولم يَزَل في مُلكِه إلى أن انقَرَضَ أَمرُ بَنِي مَروانَ على يَدِ فَخرِ الدَّولةِ بنِ جَهيرٍ حين حارَبَهُ، وكان جكرمش قد قَبَضَ عليه بالجَزيرَةِ، وتَرَكَهُ عند رَجلٍ يَهوديٍّ، فمات في دارِه، وحَمَلَتهُ زَوجتُه إلى تُربَةِ آبائِه، فدَفَنَتهُ ثم حَجَّت، وعادَت إلى بَلدِ البَشْنَوِيَّة. قال ابنُ الأَثيرِ: " كان مَنصورٌ شُجاعًا، شَدِيدَ البُخْلِ، له في البُخْلِ حِكاياتٌ عَجيبَة، فتَعْسًا لِطالِبِ الدُّنيا، المُعرِض عن الآخِرَةِ، ألا يَنظُر إلى فِعلِها بأَبنائِها، بينما مَنصورٌ هذا مَلِكٌ مِن بَيتِ مَلِكٍ آلَ أَمرُه إلى أن ماتَ في بَيتِ يَهودِيٍّ، نَسألُ الله تعالى أن يُحسِن أَعمالَنا، ويُصلِح عاقِبَةَ أَمرِنا في الدنيا والآخرة، بمَنِّهِ وكَرَمِه".
هو السلطانُ إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة وغيرها من بلاد الهند. وكان ملِكًا عادلًا مُنصِفًا منقادًا إلى الخيرِ، كثير الصدقات، كريمًا مجاهدًا، عاقلًا شُجاعًا حازِمًا، حسنَ السيرة، ذا رأيٍ ودهاء متين. كان يقول: "لو كنتُ بعد وفاة جدي محمود لما ضعف مُلكُنا، ولكني الآن عاجِزٌ أن أستردَّ ما أُخِذَ منا من البلاد؛ لكثرة جيوشهم". كان لا يبني لنفسه مكانًا حتى يبنيَ لله مسجدًا أو مدرسة. قال الفقيه أبو الحسن الطبري: "أرسلني إليه بركيارق في رسالة، فرأيتُ في مملكته ما لا يتأتى وصفُه"، وقيل: كان يكتب بخطِّ يده كل سنة مصحفًا يرسِلُه مع الصدقات إلى مكة، ومات وقد جاوز السبعين. وأقام مَلِكًا ثنتين وأربعين سنة، ولما توفي خلفه ابنُه علاء الدولة أبو سعيد مسعود الثالث زوج بنت السلطان ملكشاه.
هو الملك إيلغازي نجم الدين بن الأمير أرتق بن أكسب التركماني، صاحب ماردين، وحلب، وميافارقين، كان هو وأخوه الأمير سقمان من أمراء تاج الدولة تتش صاحب الشام، فأقطعهما القدس، وجرت لهما سِيَر، ثم استولى إيلغازي على ماردين. وكان ذا شجاعة ورأي وهيبة وصيتٍ، وجوادًا محترِمًا للمسلمين. حارب الفرنج غير مرة، وأخذ حلب بعد أولاد رضوان بن تتش، واستولى على ميافارقين وغيرها قبل موته بسنة, وهو أول من تملك ماردين، واستمرت في يد ذريته. توفي إيلغازي بميافارقين، فانقسمت دولته إلى أقسام؛ فابنه حسام الدين تمرتاش استقل بماردين وديار بكر، وابنه شمس الدين سليمان استقل بميافارقين، وسليمان بن عبد الجبار بن أرتق بن أخي إيلغازي استقل بحلب، ونور الدين بلك بن بهرام بن أخي إيلغازي استقل بخرتبرت.
عبر إلى الشام جمع كثير من التركمان من بلاد الجزيرة، وأغاروا على بلاد طرابلس وغنموا وقتلوا كثيرًا، فخرج القمص -كبير القساوسة- صاحب طرابلس في جموعه فانزاح التركمان من بين يديه، فتبعهم فعادوا إليه وقاتلوه فهزموه وأكثروا القتل في عسكره، ومضى هو ومن سلم معه إلى قلعة بعرين، فتحصنوا فيها وامتنعوا على التركمان، فحصرهم التركمان فيها. فلما طال الحصار عليهم نزل صاحب طرابلس ومعه عشرون فارسًا من أعيان أصحابه سرًّا، فنَجَوا وساروا إلى طرابلس وترك الباقين في بعرين يحفظونها، فلما وصل إلى طرابلس كاتب جميع الفرنج فاجتمع عنده منهم خلقٌ كثير، وتوجه بهم نحو التركمان؛ لِيُرحِلهم عن بعرين، فلما سمع التركمان بذلك قصدوهم والتقوهم وقُتِل بينهم خلق كثير، وأشرف الفرنج على الهزيمة، فحملوا نفوسهم ورجعوا على حامية إلى رفنية، فتعذر على التركمان اللَّحاقُ بهم إلى وسط بلادهم، فعادوا عنهم.
هو السلطان أبو مروان عبد الملك الثاني بن زيدان بن أحمد المنصور الذهبي سلطان السعديين بالمغرب الأقصى، تولى الحكم بعد وفاة والده السلطان زيدان, ولما تمت له البيعة ثار عليه أخواه الوليد وأحمد، فوقعت بينه وبينهما معارك وحروب إلى أن هزمهما واستولى على ما كان بيدهما من العُدة والذخيرة وفَرَّ أحمد إلى بلاد الغرب، فدخل عبد الملك فاس يوم الجمعة الخامس والعشرين من صفر بعد وفاة أبيه بستة وأربعين يومًا، فاتَّسم بسمة السلطان وضرب سكته وفي ثالث عشر شوال من السنة عدا على ابن عمه محمد بن الشيخ المعروف بزغودة فقتله غدرًا بالقصبة، وفي سنة 1037 سجن أخاه أحمد بفاس الجديد. قُتل أبو مروان على يد بعض أهل مراكش بإيعاز من أخيه الوليد، وتولى أخوه الوليد خلفًا له.