حدثت هذه المعركة بين الملك عبد العزيز وبني هاجر والقبائل التابعة له وبين قبيلة العجمان بالقرب من جبل كنزان في الأحساء عندما اعتدى العجمان على عشائر مبارك بن الصباح فنهبوا مواشيه فكتب ابن الصباح إلى عبدالعزيز يطلب منه تأديبهم ورد المنهوبات فأجابه عبدالعزيز أن العجمان لا يرجعون ما ينهبون إلا بحرب، وإذا عزمت عليّ حربهم تعطيني عهد الله وميثاقه ان تعيني بالمال والرجال وأن لا تسلك معهم مسلكا غير مسلكي ولا تستقبلهم إذا لجأوا إليك ولا تتوسط بالصلح بيني وبينهم فعاهده مبارك على ذلك وأعطاه عهد الله فسار عبدالعزيز بقواته إلى الأحساء والتقى بالعجمان عند كنزان فجُرح عبدالعزيز وقتل شقيقه سعد وانهزمت قواته إلى الأحساء فلحق بهم العجمان وحاصروهم في الأحساء ثلاثة أشهر فأرسل إلى أبيه في الرياض يطلب المدد وإلى الشيخ مبارك يستنجده. فوصلت نجدة من أهل نجد بقيادة أخيه محمد بن عبدالرحمن ومعه ابن عمه سعود الكبير أما ابن الصباح فقد تأخر في إرسال النجدة فأرسل له الملك عبدالعزيز يذكره بالعهد، فجهز له ابنه سالم بقوة صغيرة 150 رجل من الحضر و200 من البدو فجاءوا الأحساء وانضموا إلى جيش الملك عبدالعزيز.
عندما استردَّ الأمير عبد الله بن الشريف حسين واحةَ تربة (جنوب غربي نجد) التي خضعت مؤخرًا لسلطان الملك عبدالعزيز، فهجم جيشُ الإخوان بقيادة سلطان بن بجاد ومعه قبائل سبيع وعتيبة وخالد بن لؤي أمير الخرمة (من محافظات منطقة مكة المكرمة) على جيش الأمير عبد الله بن الحسين، بعد منتصف الليل من مختلف الجهات، الأمرُ الذي أصاب الأمير عبد الله بالارتباك، فلم يستطع أن يفعل شيئًا، فمزَّق الإخوان جيشَه على الرغم من كثرة عددِ جُندِه المدرَّب تدريبًا حديثًا على يد الإنجليز، وكثرة عتاده من الأسلحة الحديثة التي كانت بريطانيا قد زوَّدت الشريف حسين بها، وتجاوز عددُ القتلى خمسة آلاف قتيل، ولم ينجُ منهم إلا عدد قليل، منهم الأمير عبد الله بن الحسين، واستولى الإخوان على أسلحة ومؤن وأموال وعتادٍ كثير، ثم وصل عبد العزيز بجيشه إلى تُربة، فأقام بها خمسة عشر يومًا يديرُ شؤونها. أما الملك حسين بن علي فقد أفزعه ما حلَّ بجيشه في تُربة. وخاف من مواصلة الإخوان تقدُّمَهم نحو الطائف. فاتصلَ بالحكومة البريطانية يطلُبُ مساعدتَها، فحذَّرَتْه من التوغُّل في الحجاز، وقد برزت قوةُ الإخوان الضاربة لأول مرة في هذه المعركة.
هو الإمامُ عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بن عبد الله، من آل سعود كان رابع أبناءِ فيصل بن تركي، حصل بينه وبين ابن رشيد قتال على الرياض وتمكَّن ابن رشيد من هزيمة رجال عبد الرحمن في (المليدة) سنة 1308هـ فرحل عبد الرحمن إلى الجنوب، ونزل في قبائل (مرة) فأقام سبعةَ أشهر، وأرسل أهلَه إلى الأحساء -وكانت لا تزال في يد الترك- وجمَعَ من توسَّم فيهم النَّجدةَ وأعاد الكَرَّةَ على الرياض، فأخرج منها رجالَ ابنِ رشيد، واستولى عليها وعلى سائر العارض. فزحف عليه ابنُ رشيد، واقتتلا في (حريملاء) وظفر ابن رشيد، فرحل عبد الرحمن إلى بادية الأحساء، وأرسل أهلَه إلى (قطر) ثم إلى (البحرين) سنة 1309ه واستقَرَّ بعد ذلك في (الكويت) إلى أن استعاد ابنه عبد العزيز الرياضَ سنة 1319هـ، وعاد إليها عبدُ الرحمن وطالت حياته إلى أن شَهِدَ مُلكَ ابنه عبد العزيز يمتدُّ إلى أطراف الجزيرة العربية. كان الملك عبد العزيز يرجِعُ إلى والده في كثيرٍ من الأمور إلى أن توفي رحمه الله. وكان عبد الرحمن فيه زهدٌ وبُعدٌ عن مظاهر التَّرَف، وفي طبعه ميلٌ إلى الهوادة، وهو على جانبٍ مِن العلم؛ فقد صنَّف مناسِكَ الحج على المذاهب الأربعة بطلب من ابنِه عبد العزيز.
هو الشيخُ خليفةُ بنُ حمد بن عبد الله بن قاسم بن محمد آل ثاني سادسُ أُمراءِ قطَرَ. وُلِدَ في 17 سبتمبر سنةَ 1932م، وكان قد تولَّى حُكمَ قطرَ بعدَ قِيامِه بانقلابٍ أبيضَ في عامِ 1971م استطاَع فيه أنْ يخلَعَ ابنَ عَمِّه أحمدَ بنَ عليِّ بنِ عبدِ اللهِ بنِ قاسمٍ، ويستوليَ على السُّلْطةِ، وتولَّى مقاليدَ الحكمِ. وفي بدايةِ عَهدِه أُقيمَت عَلاقات دُبلوماسية مع عددٍ من الدولِ على مُستوى السفراءِ لأولِ مرَّةٍ، وشارك الجيشُ القطريُّ في حربِ تحريرِ الكويتِ بقُوَّاتٍ بريَّةٍ وبَحريَّةٍ. وفي عامِ 1995 انقلَبَ عليه ابنُه وليُّ العهدِ الشيخُ حَمَدٌ وتولَّى مقاليدَ الحُكمِ. وعاشَ الشيخُ خليفةُ بعدها فترةً خارجَ قطرَ بينَ المملكةِ العربيَّةِ السعوديَّةِ ودولةِ الإماراتِ العربيةِ المتحدةِ وعِدَّةِ عواصمَ أوروبيةٍ في منفًى اختياريٍّ لمدةِ 9 سنَواتٍ. إلى أنْ عادَ لقطرَ سنةَ 2004 ليشارِكَ في تشييعِ جَنازةِ إحدى زوجاتِه التي كانَت تَعيشُ معه خارجَ قطَرَ، واستقبَلَه ابنُه حمَدٌ أميرُ قَطَرَ، وبقيَ الشيخُ خليفةُ في قطَرَ بعدَ تشييعِه لزَوجتِه، ولم تظهَرْ له أيُّ مُشاركةٍ سِياسيةٍ، وتُوفِّي -رحِمَه اللهُ- عن عمرٍ يُناهِزُ 84 عامًا.
هو سلطان المغرب الملقب بأمير المؤمنين، عبد المؤمن بن علي بن علوي الكومي، القيسي، المغربي التلمساني. وُلِدَ بأعمال تلمسان، سنة 487, وكان أبوه يصنع الفخار. كان أبيضَ جميلًا، تعلوه حُمرة، أسود الشعر، معتدل القامة، جَهْوري الصوت، فصيحًا جَزلَ المَنطِق، لا يراه أحدٌ إلَّا أحَبَّه بديهةً، وكان في كِبَره شَيخًا وقورًا، أبيض الشعر، كثَّ اللحية، واضِحَ بياض الأسنان، وكان عظيمَ الهامة، طويل القعدة، غليظَ الكف، أشهلَ العين، على خَدِّه الأيمن خالٌ, وكان كامِلَ السُّؤددِ، عاليَ الهمة، خليقًا للإمارة، وكان شديدَ السطوة، كان في جُودِه بالمال كالسَّيلِ، وفي محبته لحُسنِ الثناء كالعاشق. مجلِسُه مجلس وقار وهيبةٍ، مع طلاقةِ الوجه. انعمرت البلادُ في أيامه، وما لبس قَطُّ إلا الصوفَ طُولَ عُمُرِه. وما كان في مجلسِه حُصرٌ، بل مفروش بالحَصباءِ، وله سجادة من الخوص تحته خاصة. ظهر أمر عبد المؤمن بعد أن التقى بابن تومرت مُدَّعي المهدية والانتساب لآل البيت, وهو في طريق رجعته من المشرق إلى إفريقية، حيث صادفه عبد المؤمن، فحَدَّثه ووانسه، وقال: "إلى أين تسافر؟ قال: أطلبُ العلم. قال: قد وجدتَ طَلِبَتَك. ففَقَّهه وصحبه، وأحبه، وأفضى إليه بأسرارِه لِما رأى فيه من سمات النُّبل، فوجد همَّتَه كما في النفس. قال ابنُ تومرت يوما لخواصِّه: هذا غلَّاب الدُّوَل" قال ابن خَلِّكان: "وجد ابن تومرت عبدَ المؤمن- وهو إذ ذاك غلام- فأكرمه وقدَّمَه على أصحابه، وأفضى إليه بسِرِّه، وانتهى به إلى مراكش، وصاحِبُها يومئذ علي بن يوسف بن تاشفين ملك الملثمين، فأخرجه منها، ثم توجه إلى الجبال وحشد واستمال المصامدة، وبالجملة فإن ابن تومرت لم يملك شيئًا من البلاد، بل عبد المؤمن ملَكَ بعد وفاته بالجيوش التي جهَّزها ابن تومرت والترتيب الذي رتبه، وكان ابن تومرت يتفَرَّس فيه النجابةَ ويُنشِدُ إذا أبصره: تكاملت فيك أوصافٌ خُصِصْتَ بها فكلُّنا بك مسرورٌ ومُغتَبِطُ السنُّ ضاحكةٌ والكَفُّ مانِحةٌ والنفسُ واسعةٌ والوجهُ مُنبَسِطُ" لما توفي ابن تومرت سنة 524، كتم أصحابُه خبر موته، وجعلوا يَخرُجون من البيت، ويقولون: قال المهدي كذا، وأمر بكذا، وبقي عبد المؤمن يُغِيرُ في عسكره على القرى، ويعيشون من النهب، وبعد خمسة أعوام أفصحوا بموت ابن تومرت، وبايعوا عبد المؤمن ولقَّبوه بأمير المؤمنين. وأوَّل ما أخَذَ عبد المؤمن من البلاد وهران، ثم تلمسان، ثم فاس، ثم سلا، ثم سبتة. ثم حاصر مراكش أحد عشر شهرًا، فأخذها في أوائل سنة اثنتين وأربعين. وامتد مُلكُه إلى أقصى المغرب وأدناه، وبلاد إفريقية، وكثير من الأندلس، وسمى نفسه: أمير المؤمنين، وقصدته الشعراء وامتدحوه, ولما قال فيه الفقيه محمد بن أبي العباس التيفاشي هذه القصيدة، وأنشده إياها: ما هَزَّ عطفيه بين البيض والأسل مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي فلما أنشده هذا المطلع أشار إليه أن يقتصرَ عليه، وأجازه بألف دينار". لم يزل عبد المؤمن بعد موت ابن تومرت يقوى، ويَظهَر على النواحي، ويدوخ البلاد. استولى على مراكش كرسيِّ مُلك أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين. قال سبط ابن الجوزي: "لما استولى عبد المؤمن على مراكش، قطع الدعوةَ لبني العباس ثمَّ قَتَل المُقاتِلة، ولم يتعرَّضْ للرعية، وأحضر أهلَ الذمَّة وقال: "إن المهديَّ أمرني ألَّا أُقِرَّ الناس إلا على ملَّة الإسلام، وأنا مخيِّرُكم بين ثلاث: إما أن تُسلِموا، وإما أن تلحقوا بدار الحرب، وإمَّا القتل. فأسلم طائفةٌ، ولحق بدار الحرب آخرون، وخَرَّبَ الكنائِسَ ورَدَّها مساجِدَ، وأبطل الجزيةَ، وفعل ذلك في جميع مملكته، ثم فرق في الناس بيتَ المال وكَنَسَه، وأمر الناس بالصلاةِ فيه اقتداءً بعلي رضي الله عنه، وليعلم الناسُ أنه لا يُؤثِرُ جمعَ المال, وقال: من ترك الصلاةَ ثلاثةَ أيَّامٍ فاقتلوه. وكان يصلِّي بالناس الصلوات، ويقرأ كل يومٍ سُبعًا، ويلبَسُ الصوفَ، ويصوم الاثنين والخميس، ويقسم الفيء على الوجه الشرعي، فأحبه الناس", ثم تملك بجاية وأعمالها وأما الأندلس فاختلت أحوالها اختلالًا بَيِّنًا أوجب تخاذل المرابطين وميلَهم إلى الراحة، فهانوا على الناس، واجترأ عليهم الفرنجُ، وقام بكل مدينة بالأندلس رئيس منهم فاستبَدَّ بالأمر، وأخرج مَن عنده من المرابطين. وكادت الأندلسُ تعود إلى مثل سيرتها بعد الأربعمائة عند زوال دولة بني أمية, فجهز عبد المؤمن الشيخَ أبا حفص عمر إينتي، فعدى البحر إلى الأندلس، فافتتح الجزيرةَ الخضراء، رندة، ثم افتتح إشبيليَّةَ، وغرناطة، وقرطبة. وسار عبد المؤمن في جيوشه وعبَرَ مِن زقاق سبتة، فنزل جبلَ طارق، وسماه: جبل الفتح. فأقام هناك شهرًا، وابتنى هناك قصرًا عظيمًا ومدينة، فوفد إليه رؤساء الأندلس، ومدحه شعراؤها، فمن ذلك: ما للعدى جنة أوفى من الهَرَبِ أين المفرُّ وخَيلُ الله في الطَّلَبِ فأين يذهبُ مَن في رأس شاهقةٍ وقد رمته سهامُ الله بالشُّهُبِ حدث عن الروم في أقطار أندلس والبحر قد ملأ البرين بالعرب فلما أتم القصيدةَ قال عبد المؤمن: بمثل هذا تُمدَحُ الخلفاء. عبد المؤمن هو خليفة ابن تومرت وعلى طريقته ودعوته، فكان يمتحن الناس في عصمة ابن تومرت ودعواه أنه المهدي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأصحاب ابن تومرت الذي ادعى أنه المهدي يقولون: إنه معصوم، ويقولون في خطبة الجمعة: الإمام المعصوم والمهدي المعلوم، ويقال: إنهم قتلوا بعض من أنكر أن يكون معصومًا". كما اشتهر عن عبد المؤمن تساهلُه في استباحة دماء خصومه من المسلمين، وسَبْي نسائهم وذراريهم إذا انتصر عليهم. كما فعل في مراكش؛ قال ابن الأثير"فدخلت عساكره بالسيف، وملكوا المدينة عَنوةً، وقتلوا من وجدوا، ووصلوا إلى دار أمير المسلمين، فأخرجوا الأمير إسحاق وجميع من معه من أمراء المرابطين فقُتلوا، وجَعَل إسحاق يرتعد رغبةً في البقاء، ويدعو لعبد المؤمن ويبكي، فقام إليه سير بن الحاج، وكان إلى جانبه مكتوفًا فبزق في وجهه، وقال: تبكي على أبيك وأمِّك؟! اصبر صبْرَ الرجال؛ فهذا رجلٌ لا يخاف اللهَ ولا يدينُ بدين. فقام الموحِّدون إلى ابن الحاج بالخشب فضربوه حتى قتلوه، وكان من الشجعان المعروفين بالشجاعة، وقُدِّمَ إسحاق على صِغَرِ سِنِّه، فضُرِبَت عنقه" وأما في دكالة، فقال ابن الأثير عن عبد المؤمن "فأخذ الملثمين السيف، فدخلوا البحر، فقُتِل أكثرهم، وغُنِمَت إبلهم وأغنامهم وأموالهم، وسُبِيَت نساؤهم وذراريهم، فبيعت الجارية الحسناء بدراهم يسيرة، وعاد عبد المؤمن إلى مراكش منتصرًا، وثبت ملكه، وخافه الناس في جميع المغرب، وأذعنوا له بالطاعة". وغيرهما من بلاد المسلمين في المغرب والأندلس. وفي تلمسان قال ابن الأثير: "وأما العسكر الذي كان على تلمسان، فإنهم قاتلوا أهلها، ونصبوا المجانيق، وأبراج الخشب، وزحفوا بالدبابات، وكان المقدم على أهلها الفقيه عثمان، فدام الحصار نحو سنة، فلما اشتد الأمر على أهل البلد اجتمع جماعة منهم وراسلوا الموحدين أصحاب عبد المؤمن، بغير علم الفقيه عثمان، وأدخلوهم البلد، فلم يشعر أهله إلا والسيف يأخذهم، فقُتِلَ أكثر أهله، وسُبِيت الذرية والحريم، ونُهب من الأموال ما لا يحصى، ومن الجواهر ما لا تحَدُّ قيمتُه، ومَن لم يُقتَلْ بِيعَ بأوكس الأثمان، وكان عِدَّةُ القتلى مائة ألف قتيل، وقيل: إن عبد المؤمن هو الذي حصر تلمسان" في العشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، توفي عبد المؤمن. كان قد أمر الجيش بالجهاز لجهاد الروم، واستنفر الناس عامة، ثم سار حتى نزل بسلا، فمرض، وجاءه الأجل بها، في السابع والعشرين من جمادى الآخرة، وارتجت المغرب لموته، وكان قد جعل ولي عهده ابنه محمدا، وكان لا يَصلُح لطَيشِه وجُذامٍ به ولِشُربه الخمر، فتملك أيامًا، ثم خلعوه، واتفقوا على تولية أخيه أبي يعقوب يوسف، فبقي في الملك اثنتين وعشرين سنة، وخلف عبد المؤمن ستة عشر ولدًا ذكرًا.
كانت مُراسلاتُ "حسين - مكماهون" التي دارت بين شَريف مكةَ الشَّريفِ حسين، ونائبِ الملِكِ البريطاني في القاهرة هنري مكماهون، تمثِّلُ مقدِّماتِ الثورةِ العربية، ومن أبرزِ أسبابِها، والتي وعدت فيها بريطانيا الشريفَ حسينًا بالمساعدة وتنصيبِه ملكًا على العربِ، وإقامةِ خلافةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ، كما أنَّ هناك أسبابًا أخرى، منها: الضَّعفُ الذي دَبَّ في أطرافِ الدولةِ العثمانية التي كانت تحكمُ المناطِقَ العربيةَ في الشامِ والحجازِ ومصر والمغرب، ومنها النعراتُ العُنصرية التي ظهرت على يدِ الاتحاديِّين القوميِّين بشكلٍ واضح، وانتشر الظلمُ في الدولةِ على نطاقٍ واسع؛ فسياسةُ الاتحاديِّينَ هي التي أيقظت الفكرةَ القوميَّةَ العثمانيةَ، بدأ بسوء الظنِّ بالعربِ، وأسهم في ذلك بعضُ الذين يريدون تخويفَ السلطانِ العثماني من العربِ، يُشيعُ أن العربَ يريدون أن يقيموا مملكةً عربية وحدهم، وكانت شكاوى العرب تنحصِرُ في إقصاء عدد كبير منهم عن وظائفهم بالأستانة، وعدمِ دعوة العربِ لأيِّ اجتماع للتأليف بين العناصِرِ العثمانية، ولا إدخالهم في الجمعياتِ الاتحادية ولا اللِّجان المركزية، ولا حتى تعيينهم على الولاياتِ والقضاءِ في البلاد العربية، ومعارضة الاتحاديين لكلِّ مشروعٍ علمي أو أدبي في البلاد العربية، ثم بدأت بعضُ الأحزاب العربية بالظهورِ كردَّةِ فِعلٍ للقومية العثمانية؛ فعُقِدَ في باريس أول مؤتمر عربي عام 1913م، ثم تفاقم أمرُ الاتحاديين وعَظُم تشدُّدهم إلى القومية التركية، وزاد الأمرُ عندما قام جمال باشا -الذي لقِّبَ بالسفاح- بقتل عددٍ مِن الذين كَشَف أنهم يتآمرون من خلال جمعياتٍ سرية على الاستقلال عن الدولة العثمانية، وكان القوميُّون العربُ قد رأوا أن يتجمَّعوا حولَ زعيم واحد ويشكِّلوا قوةً كبيرة عربية، فرأوا في الشريفِ حُسين بن علي -شريفِ مكة وأميرِها- الشخصَ المناسب لهذه الزعامة، فأجابهم، وكان التفاهمُ معه سرًّا بواسطةِ من تمكَّن مِن بعض أعضاء الجمعيات العربية الذين هربوا من جمال باشا ووصلوا للحجاز وغيرها، فتمَّ بين زعماء العرب وجمعيَّاتهم وبعضِ المقامات العالية، ومنهم الشريف حسين، أن قرَّروا إعلان الثورة في الحجاز، وكان الشريف حسين قد تعاقد مع مكماهون على أن يكون العرب حلفاءَ للإنجليز والفرنسيين خلال الحرب العالمية الأولى، وطبعا ضد الأتراك؛ لأنها كانت ضِدَّ الحلفاء، ووعدوا الشريف حسين أن يُبقوه مَلِكًا على العرب وأن يعطوا العربَ استقلالهم، وإن كان القوميون العربُ بعد اطِّلاعهم على مراسلات حسين مكماهون أغضبهم كثيرًا تنازل الشريف حسين عن بعض البلاد العربية للإنجليز أو للفرنسيين. أعلن الشريفُ حسين الثورةَ على الدولة العثمانية، وأطلق بنفسِه في ذلك اليوم أولَ رصاصةٍ على قلعةِ الأتراك في مكة؛ إيذانًا بإعلانِ الثورة، وعزَّز حركتَه بإذاعة منشورٍ اتَّهم فيه الاتحاديِّين في تركيا بالخروج على الشريعةِ الإسلامية، وجاء فيه: "وانفصلت بلادُنا عن المملكةِ العثمانية انفصالًا تامًّا، وأعلنَّا استقلالًا لا تشوبُه شائبةُ مُداخَلة أجنبية ولا تحكُّم خارجي"، واستطاعت القواتُ الثائرة أن تستوليَ في أقلَّ من ثلاثة أشهرٍ على جميعِ مدن الحجاز الكبرى، باستثناء المدينة النبوية التي بقيت محاصَرةً إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، ولم يلبَثْ أن بويع الشريفُ حسين ملكًا على العرب. وقد نسفت القواتُ العربية بقيادةِ الأمير الشريف فيصل سكةَ حديد الحجاز، واحتلَّت ينبع والعَقَبة، واتخذوا من العَقَبة نُقطةَ ارتكازٍ لهم، ثم أخذ فيصل يتقدَّمُ لِيُحارِبَ الأتراكَ في منطقة شرقي الأردن، وبذلك قَدَّم للحُلفاء أكبرَ مساعدة؛ حيث استطاع اللورد اللنبي قائِدُ القوات الإنجليزية أن يدخُلَ القدسَ بمعاونة العرب، كما أنَّ احتلالَ القوات العربية لمنطقة شرقي معان قد حمى ميمنة القواتِ البريطانية في فلسطين من هَجَمات الأتراك عليها في منطقة بئر سبع والخليل، وحمى خطوطَ مواصلاتها، ولم تلبَث القواتُ العربيةُ أن تقدَّمت في (ذي الحجة 1336هـ/ سبتمبر 1918م) فاحتَلَّت دمشق واصطدمت بالأتراكِ قبل أن يدخُلَها اللنبي، ولم يمضِ أكثرُ من شهر حتى زال النفوذُ العثماني من سوريا بعد أن أمضى بها أربعة قرون. والواقع أن الكثيرين قد أُصيبوا بخيبةِ أمل كبيرة، وعلى رأسِهم الشيخ محمد رشيد رضا، وذلك عندما عَلِموا بتنازل حسين عن ولايتي إسكندرون ومرسين والمناطق الشمالية السورية، ووافق على مصالح فرنسا في ولاية بيروت لِما بعد الحرب، وعلى مصالح بريطانيا في البصرة وبغداد، وأنَّ الأسطول الإنجليزي هو الذي أسقط ثغورَ جدة ورابغ وينبع وغيرها من موانئ الحجاز، وأن ثغرَ بورسودان كان القاعدةَ التي انطلق منها الأسطول الإنجليزي لدعم ثورة الشريف حسين، وازداد شعورُهم بالخيبة عندما وجدوا ضباط إنجلترا وفرنسا مثل اللنبي وكوكس وكاترو وغورو والضابط الشهير لورانس هم الذين يقودون القبائِلَ العربية، ووصل الأمرُ ببعض هؤلاء الضبَّاط في النَّيلِ من المسلمين أنه لَمَّا دخل الجنرال اللنبي القدسَ يوم 9/12/1917م قال قولَته المشهورة: الآن انتهت الحروبُ الصَّليبية! ولَمَّا دخل الجنرال غورو دمشق يوم 21/7/1920م توجَّه إلى قبر صلاح الدين الأيوبي ووقف أمامَه قائلًا: ها قد عُدنا يا صلاحَ الدين! ثم تكرَّست المرارةُ والحسرة عندما ارتفعت أعلامُ بريطانيا وفرنسا على المناطق التي قاتَلَ فيها العرب، ولم يكن بينها عَلَمُ الدولة العربية المنتظَرة! وحاول الشيخ رشيد رضا أن يلفِتَ نظرَ الشريف حسين إلى خطورة ما أقدم عليه؛ لأن العدوَّ الحقيقيَّ هو الاستعمار الغربي لا الدولةُ العثمانية، إلا أنَّ بريقَ المصلحة وأحلامَ المُلك والعَرش كانا قد سيطرا على خيال الشريف حسين، فلم يستمِعْ إلى صوتِ ناصحٍ أو حكيمٍ! وإنما أمر بمنع دخول مجلة "المنار" التي يُصدِرُها الشيخ رشيد رضا من دخول مكة. ولم يعلم العربُ باتفاقِ (سايكس – بيكو) إلا عندما أعلنه البلاشفة بعد قيام ثورتهم في روسيا 1917م، وتأكَّد العربُ أنَّ الاتفاق أهمل تأسيسَ خلافة عربية، وأعطى بعضَ أجزاء من الدولة العربية المنتَظَرة لفرنسا، وأثار هذا الاتفاقُ حفيظةَ العرب، إلا أنَّهم مضوا في ثورتهم بعد طمأنةِ البريطانيين لهم، ونجح العثمانيُّون في تصوير الشريف حسين على أنَّه خائِنٌ للإسلام متحالِفٌ مع الدُّوَل النصرانية ضِدَّ دولة إسلامية، إلَّا أن الخلافاتِ الحقيقيةَ بين العرب والإنجليز تعمَّقت وظهرت مع إطلاقِ بريطانيا لوعدِ بلفور في (المحرم 1336هـ/نوفمبر 1917م) كانت غاية الإنجليز من ثورة العرب هو ضربَ الأتراك بالعرب، بدلًا أن يخوضوا هم غمار هذه الحرب، ويدلُّ على ذلك أن الإنجليز كانوا يضغطون على الشريف حسين لبدء الثورة عندما كانت جيوش الحلفاء تستسلم للأتراك عند كوت العمارة في نيسان 1916م، وكان الحلفاءُ غير قادرين على مواجهة القوات العثمانية عند قناة السويس واليمن، فكان التعجيل بالثورة ضِدَّ العثمانيين فيه تخفيف العبء عن الإنجليز، وفعلًا أدى إعلان الثورة إلى رجحان كفة الحلفاء، وبدأت الحاميات التركية في الاستسلام بعد أن حوصِرَت واستعمل معها رجال الجيش حربَ العصابات، ثم بدأ القتال فعلًا بين العرب وجيوش العثمانيين في الحجاز في التاسع من شعبان 10 يونيو، وأعلنوا استقلالهم، وهاجموا الثكناتِ التركيةَ في مكة، وحمِيَ القتال خلال يومين، حتى تعطَّلت الصلاةُ والطواف في المسجد الحرام، وكذلك الأمرُ في جدَّة؛ دام القتال ستة أيام حتى سقطت بيدِ قوات الشريف، وفي التاسع من رمضان استسلم الأتراك في مكة، وفي ذي القعدة سقطت الطائفُ، ثم أعلن الحجازُ استقلاله عن الاتحاديين، فانتهز الإنجليز والفرنسيون الفرصة وبدؤوا في إرسال التهاني، وحتى الدول الأوربية الأخرى كروسيا وسائر الدول غير المنحازة، أما السوريون واللبنانيون فلم ينَلْهم من الثورة إلا الحصارُ والاضطهاد؛ حيث كانت كفاءتُهم الحربية ضعيفة مقارنة مع كفاءات العثمانيين في هذه المنطقة، وكانت جيوش الثورة عبارة عن ثلاثة جيوش كل واحد بقيادة ولد من أولاد الحسين، وهم فيصل، وعبد الله، وعلي، وكان مع جيش فيصل لورنس وكان يتلقى أوامِرَه من الجنرال اللنبي، ثم تألَّفت أول وزارة عربية في السابع من ذي الحجة 1334هـ/ 5 أكتوبر 1916م، ثم أمر بتأليف مجلس الشيوخ الأعلى، هذا ولم تعين الحكومة العربية، ثم تمت مبايعةُ العربِ للشريف حسين بن علي ملكًا على العرب يوم الخميس السادس من محرم 1335هـ/ 6 تشرين الأول 1916م، علما أن استنكارًا إسلاميًّا قد ورد إلى الشريف حسين عن طريق شكيب أرسلان الذي قال له: أتقاتل العربَ بالعربِ أيها الأمير حتى تكون ثمرةُ دماء قاتِلِهم ومقتولِهم استيلاء إنجلترا على جزيرة العرب، وفرنسا على سوريا، واليهود على فلسطين، وهذا ما حصل بالفعل!!
استولى الأمير جكم الجركسي الظاهري على حلب، وقد كان سابقًا خرج عن الطاعة وتمالأ مع التركمان والعربان وأحدث عدة فتن، وأنعم على الأمير علان نائب حماة بموجود دمرداش النائب السابق لحلب، وأحسن جكم السيرة في حلب، وولَّى في القلاع نوابًا من جهته، فاجتمعت له حلب وحماة وطرابلس، وأما الأمير شيخ المحمودي نائب الشام فإنه خرج لأخذ صفد وعمل ثلاثين مدفعًا، وعدة مكاحل للنفط ومنجنيقين، وجمع الحجَّارين والنقَّابين وآلات الحرب، وخرج من دمشق ومعه جميع من عنده من عسكر مصر والشام، وقرا يوسف بجماعته، وجماعة السلطان أحمد بن أويس متملك بغداد، والتركمان الجشارية، وأحمد بن بشارة بعشرانه، وعيسى بن الكابولي بعشيره، بعدما نادى بدمشق من أراد النهب والكسب فعليه بصفد، فاجتمع له خلائق، وسار ومعه مائة جمل تحمل المدافع والمكاحل والمجانيق، والزحَّافات، والبارود، ونحو ذلك من آلات الحصار، وولي الأمير ألطنبغا العثماني نيابة صفد، فكتب يستدعي عشران صفد وعربانها وتركمانها، فقدم الأمير شيخ بمن معه إلى صفد وبعث أمامه تقي الدين يحيى بن الكرماني، وقد ولَّاه العسكر، ومعه قطلوبغا رأس نوبة بكتابه إلى الأمير بكتمر شلق يدعوه إلى موافقته، ويحذِّره من مخالفته، ويُعلِمه أن الأمير جكم قد أخذ حلب من الأمير دمرداش بالقهر، وأنه قادم إليه ومعه الأمير علان نائب حماة، فلم يُذعِن له بكتمر، وأبى إلا قتاله، فأحاط الأمير شيخ بقلعة صفد وحصرها من جميع جهاتها، وقد حصَّنها الأمير بكتمر وشحنها بالرجال والآلات، فاستمرَّت الحرب بينهم أيامًا، جرح فيها من الشيخية نحو ثلاثمائة رجل، وقتل ما ينيف على خمسين فارسًا، ثم إن الأمير جكم خرج من حلب يريد دمشق، وقد حضر إليه شاهين دوادار الأمير شيخ يستدعيه، وكان جكم قد سلم القلعة إلى شرف الدين موسى بن يلدق، وعمل حجابًا وأرباب وظائف، وعزم على أن يتسلطن ويتلقب بالملك العادل، ثم أخر ذلك وقدم دمشق ومعه الأمير قانباي، والأمير تغري بردي القجقاري وجماعة، وقد خرج الأمير شيخ والأمراء إلى لقائه، وأنزله في الميدان، فترفع على الأمراء ترفعًا زائدًا أوجب تنكُّرَهم عليه في الباطن، إلا أن الضرورة قادتهم إلى الإغضاء، فأكرموه، وأنزلوه، وحلفوه على القيام معهم على السلطان وموافقتهم، وأخذ في إظهار شعار السلطنة، فشَقَّ عليهم ذلك، وما زالوا به حتى تركه، وأقام معهم بدمشق ثم توجَّه منها مخفًّا إلى طرابلس، وترك أثقاله بدمشق، ليجمع عساكر طرابلس وغيرها ممن انضم إليه، وأما الأمير شيخ فإنه وقع الصلح بينه وبين الأمير بكتمر نائب صفد، وتحالفوا جميعًا على الاتفاق، ثم سار جكم من طرابلس في عشرينه، وخيَّم ظاهرها، فبعث شيخ السلماني يستدعي علان، فبعث إليه نائب شيزر على عسكر، ففرَّ ابن أمير أسد بمن معه وترك أثقاله، فأخذها السليماني، ورتب أمر قلعة صهيون، وجعل بيازير بها، وتوجه إلى علان - -وقد نزل على بارين - فتلقاه وبالغ في كرامته، وأنزله بمخيمه، فأخذ شيخ عند ذلك في مكاتبة أمراء طرابلس وتركمانها يدعوهم إلى طاعته، فأجابوه بالسمع والطاعة، ووعدوه بالقيام معه، فاضطرب أمر جكم، وانسلَّ عنه من معه، طائفة بعد أخرى، فمضى إلى الناعم وقد كثر جمع السليماني، فمشى ومعه علان يريدان جكم فتركهم، ومضى إلى دمشق، فأدركه في طريقه إليها الأمير سعد الدين إبراهيم بن غراب، ويشبك العثماني، وأقبغا دوادار الأمير يشبك الدوادار، يحثُّونه على القدوم، وقد سار من دمشق فسار معهم، وأركب السليماني تركمان طرابلس في أثر جكم، فأخذوا بعض أطرافه، وقدم السليماني طرابلس وأعاد الخطبة للسلطان، ومهَّد أمورها، وكتب يُعلِم السلطان بذلك، ثم خرج منها بعد يومين يستنفر الناس، فاجتمع عليه خلائق من التركمان، والعربان، والعشران، وعسكر طرابلس وكثير من عسكر حلب، وطائفة من المماليك السلطانية، وكان العجل بن نعير قد استولى على معاملة الحصن والمناصف، واستولى فارس بن صاحب الباز -وأخوه حسين- على سواحل اللاذقية، وجبلة، وصهيون، وبلاطنس، واستولى علم الدين على حصن الأكراد، وعصى بها، واستولى رجب بن أمير أسد على قلعة المرقب، فطرد السليماني العجل من المعاملة، ونزل على حصن الأكراد وحصرها حتى أخذها، وأعاد بها الدعاء للسلطان، وأخذ في استرجاع الساحل، فقدم عليه الخبر بولاية الأمير قانباي طرابلس، ووصول متسلمه سيف الدين بوري -ومعه شهاب الدين أحمد الملطي- على ظهر البحر من ديار مصر، ففتَّ ذلك في عضده، وصار إلى علان نائب حماة، فأشار عليه ألَّا يسلم طرابلس حتى يراجع السلطان بما يترتب على عزله من الفساد بتبدُّد كل العساكر، فكتب بذلك، ودخل بوري والملطي إلى طرابلس، وتسلماها، وحلَّفا الأمراء وغيرهم للسلطان، ثم خرج الأمير شيخ المحمودي نائب الشام ومعه الأمير يشبك وبقية الأمراء إلى لقاء الأمير جكم، فعندما رأوه ترجل له يشبك، ونزل الأرض وسلم عليه، فلم يعبأ به، ولا التفت إليه، وجرى على عادته في الترفع والتكبر، فشقَّ ذلك على الأمير شيخ، ولام يشبك على ترجُّله، وعِيبَ جكم على ما كان منه، ودخلوا معه إلى دمشق والطبول تُضرَب وهو في مركب مهول، فنزل الميدان، وجرى على عادته في التكبر والترفع، فتنكرت القلوب، واختلفت الآراء، فكان جكم أمة وحدة يرى أنه السلطان، ويريد إظهار ذلك، والأمراء تَسوسُه برفق، حتى لا يتظاهر بالسلطنة، ورأيه التوجه إلى بلاد الشمال، ورأي بقية الأمراء المسير إلى مصر، فكانوا ينادون يومًا بالمسير إلى مصر، وينادون يومًا بالمسير إلى حماة وحلب، وينادون يومًا من أراد النهب والكسب فعليه بالتوجه إلى صفد، ثم قوي عزمهم جميعًا على قصد مصر، وبعثوا لرمي الإقامات بالرملة وغزة، وبرزوا بالخيام إلى قبة يلبغا في الرابع عشر، وخرج الأمير شيخ والأمير يشبك وقرا يوسف من دمشق، وندبوا الأمير يشبك وقرا يوسف إلى صفد، فسارا من الخربة في عسكر، ومضى الأمير شيخ إلى قلعة الصبيبة فاستعد الأمير بكتمر شلق نائب صفد، وأخرج كشافته بين يديه، ونزل بجسر يعقوب، فالتقى أصحابه بكشافة يشبك وقرا يوسف، واقتتلوا، فكثرت الجراحات بينهما، وغنم الصفديون منهم عشرة أفراس، فرجع يشبك وقرا يوسف إلى طبرية، ونزلا على البحيرة حتى عاد الأمير شيخ من الصبيبة، وقد حصَّن قلعتها، ثم ساروا جميعًا إلى غزة، وقد تقدَّمهم الأمير جكم، ونزل بالرملة والتقت مقدمة السلطان ومقدمة الأمراء واقتتلوا، فرحل السلطان من بلبيس بكرة نهار الأربعاء، ونزل السعيدية فأتاه كتاب الأمراء الثلاثة: شيخ، وجكم، ويشبك، بأن سبب حركتهم ما جرى بين الأمير يشبك والأمير إينال باي ابن الأمير قجماس من حظ الأنفس، حتى توجه يشبك بمن معه إلى الشام، فكان بها من خراب البلاد، وهلاك الرعية ما كان، وطلبوا منه أن يخرج أينال باي ودمرداش نائب حلب من مصر إلى الشام، وأن يُعطى لكل من يشبك وشيخ وجكم، ومن معهم بمصر والشام ما يليق به؛ لتخمد هذه الفتنة باستمرارهم على الطاعة، وتحقن الدماء، ويعمر ملك السلطان، وإن لم يكن ذلك تَلِفَت أرواح كثيرة، وخربت بيوت عديدة وقد كان عزمهم المكاتبة بهذا من الشام، لكن خشوا أن يُظَنَّ بهم العجز، فإنَّه ما منهم إلا من جعل الموت نصب عينيه، ثم بيت أمراء السلطان، وهم في نحو الثلاثة آلاف فارس وأربعمائة تركماني من أصحاب قرا يوسف، فاقتتل الفريقان قتالًا شديدًا، من بعد عشاء الآخرة إلى بعد نصف الليل، جُرِح فيه جماعة، وقُتِل الأمير صرق صبرًا بين يدي الأمير شيخ؛ لأنه ولي نيابة الشام من السلطان، وركب السلطان ومعه الأمير سودن الطيار، وسودن الأشقر هجنا، وساقوا على البر تحت غلس الصبح يريدون القلعة، وتفرقت العساكر وتركوا أثقالهم وسائر أموالهم، فغنمها الشاميون، ووقع في قبضتهم الخليفة وقضاة مصر، ونحو من ثلاثمائة مملوك، والأمير شاهين الأفرم، والأمير خير بك نائب غزة، وقدم المنهزمون إلى القاهرة، ولم يحضر السلطان ولا الأمراء الكبار، فكثر الإرجاف، وأقيم العزاء في بعض الدور وماج الناس، وكثُر النهب، حتى وصل السلطان قريب العصر ومعه الأمراء، إلى الأمير أقباي، وقد قاسى من العطش والتعب ما لا يوصف، فاستعدَّ وجمع إليه عساكره، وزحفت عساكر الشاميين من الريدانية، وقد نزلوا بها من أمسه وكثر اضطراب الناس بالقاهرة، وغلقت أبوابها ودروبها، وتعطلت الأسواق، وعزَّ وجود الماء، ووصلت العساكر قريبًا من دار الضيافة تحت القلعة، فقاتلهم السلطانية من بكرة النهار إلى بعد الظهر، فأقبل عدة من الأمراء إلى جهة السلطان طائعين له، منهم: أسن بيه أمير ميسرة الشام، والأمير يلبغا الناصري، والأمير سودن اليوسفي، وإينال حطب، وجمق، ففت ذلك في أعضاد من بقي، وعاد طائفة منهم، وحملوا خفهم وأفرجوا عن الخليفة والقضاة وغيرهم، وتسلل الأمير قطلوبغا الكركي، والأمير يشبك الدوادار، والأمير تمراز الناصري، وجركس المصارع في جماعة، واختفوا بالقاهرة وظواهرها، فوَلِيَ حينئذ الأمير شيخ المحمودي نائب الشام، والأمير جكم، وقرا يوسف، وطولو، في طائفة يسيرة، وقصدوا الشام، فلم يتبعهم أحد من عسكر السلطان، ونادى السلطان بالأمان، وأصبح فقَيَّد من استأمن إليه من الأمراء، وبعثهم إلى الإسكندرية، فاعتُقِلوا بها، وانجلت هذه الفتنة عن تلف مال العسكريين، فذهب فيها من الخيل والبغال والجمال والسلاح والثياب والآلات ما لا يدخل تحت حصر، وأما حلب فإن الأمير جكم لما سار عنها ثار بها عدة من أمرائها، ورفعوا سنجق السلطان بباب القلعة، فاجتمع إليهم العسكر، وحلفوا للسلطان، فقدم ابنا شهري الحاجب، ونائب القلعة من عند التركمان البياضية إلى حلب، وقام بتدبير الأمور يونس الحافظي، وامتدت أيدي عرب العجل بن نعير وتراكمين ابن صاحب الباز إلى معاملة حلب، فقسموها، ولم يَدَعوا لأحد من الأمراء والأجناد شيئًا.
كان أوَّلَ مَن أظهرَ إسلامَه سبعةٌ: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكرٍ، وعمَّارٌ، وأمُّهُ سُميَّةُ، وصُهيبٌ، وبلالٌ، والمقدادُ، فأمَّا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فمنعهُ الله بعمِّه أبي طالبٍ، وأمَّا أبو بكرٍ فمنعهُ بقومِه، وأما سائرهُم فأخذهُم المشركون فألبسوهُم أَدراعَ الحديدِ وصَهروهُم في الشَّمسِ، فما منهُم إلَّا مَن واتاهُم فيما أرادوا وأَوْهَمهُم بذلك إلَّا بلالًا، فإنَّه هانتْ عَليهِ نفسُه في الله عزَّ وجلَّ، وهان على قومِه فأخذوه، وأعطوه الوِلدانَ، فجعلوا يطوفون به في شِعابِ مكَّة، وهو يقولُ: أَحَدٌ، أَحَدٌ. فجعلوا في عُنقهِ حبلًا، ودفعوه إلى الصِّبيانِ يلعبون بهِ، حتَّى أثَّر في عُنقهِ، وكان بلالٌ لبعضِ بني جُمَحٍ، وكان الذي يتولَّى كِبْرَ تَعذيبهِ أُميَّةُ بنُ خَلفٍ، فكان يُخرجهُ إذا حَمِيَتِ الظَّهيرةُ، فيَطرَحهُ على ظَهرهِ في بَطحاءِ مكَّة، ثمَّ يأمرُ بالصَّخرةِ العظيمةِ فتوضعُ على صدرهِ. ثمَّ يقولُ له: لا تزالُ هكذا حتَّى تموتَ أو تكفرَ بمحمَّدٍ وتعبدَ اللَّاتَ والعُزَّي. فيقولُ وهو في هذا العذابِ والبلاءِ: أَحَدٌ أَحَدٌ. وكأنَّما كان يزيدُه عذابُه وبلاؤُه إيمانًا فوق إيمانٍ، ورقَّ له أبو بكرٍ حين رآهُ يومًا في هذا الهوانِ الشَّديدِ، فاشتراهُ وأعتقهُ، وأعتقَ معه سِتًّا ممَّن كانوا يُعذَّبون على الإسلامِ.
لمَّا امْتَنع عَمرُو بن سعيدِ بن العاصِ على عبدِ الملك خرَج أيضًا قائدٌ مِن قُوَّادِ الضَّواحي في جبلِ اللُّكَّامِ وتَبِعَهُ خَلْقٌ كثيرٌ مِن الجَراجِمَة (نسبة لقبيلة جرجم)، والأَنباطِ (مجموعة من العرب ينتمون إلى نبط بن ‘سماعيل)، وآباقِ عَبيدِ المسلمين، وغَيرِهم، ثمَّ سار إلى لُبنان، فلمَّا فرَغ عبدُ الملك مِن عَمرِو بن سعيدِ أَرسَل إلى هذا الخارِج فبَذَل له كُلَّ جُمُعةٍ ألفَ دِينارٍ، فرَكَن إلى ذلك ولم يُفسِد في البِلادِ، ثمَّ وضَع عليه عبدُ الملك سُحيمَ بن المُهاجِر، فتَلَطَّفَ حتَّى وصَل إليه مُتَنَكِّرًا فأظهَر له مُمالأتَه وذَمَّ عبدَ الملك وشَتَمَه ووَعَدهُ أن يَدُلَّهُ على عَوْراتِه، وما هو خيرٌ له مِن الصُّلْح. فوَثِقَ به. ثمَّ إنَّ سُحيمًا عَطَفَ عليه وعلى أَصحابِه وهم غَارُون غافِلون بجيشٍ مع مَوالي عبدِ الملك وبَنِي أُمَيَّة وجُنْدٍ مِن ثِقاتِ جُنْدِهِ وشُجْعانِهم كان أَعَدَّهم بمكانٍ خَفِيٍّ قريبٍ وأَمَر فنُودِي: مَن أتانا مِن العَبيدِ -يعني الذين كانوا معه- فقَتَل الخارِجَ ومَن أعانَهُ مِن الرُّومِ، وقُتِلَ نَفَرٌ مِن الجَراجِمَة والأنباط، ونادَى المُنادِي بالأمانِ فيمَن لَقِيَ منهم، فتَفَرَّقوا في قُراهُم، وسُدَّ الخَلَلُ، وعاد سُحيمُ بن المُهاجِر إلى عبدِ الملك، ووَفَّى للعَبيدِ.
خرج الحسَنُ بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسَن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب بناحية طبرستان، وكان سبب خُروجِه أنَّه لَمَّا قُتِلَ يحيى بن عمر أقطع المستعينُ لمحمد بن عبد الله بن طاهر طائفةً مِن أرض تلك الناحية، فبعث كاتبًا له يقال له جابر بن هارون، وكان نصرانيًّا، ليتسَلَّم تلك الأراضي، فلما انتهى إليهم كرهوا ذلك جدًّا، وأرسلوا إلى الحسن بن زيد هذا، فجاء إليهم فبايعوه والتَفَّ عليه جملةُ الديلم وجماعةٌ من الأمراء في تلك النواحي فركِبَ فيهم ودخل آمل بطبرستان وأخذها قهرًا، وجبى خراجَها، واستفحل أمرُه جِدًّا، ثم خرج منها طالبًا لقتال سليمان بن عبد الله أمير تلك الناحية، فالتقيا هنالك فكانت بينهما حروبٌ، ثم انهزم سليمان هزيمةً مُنكرة، وترك أهلَه وماله ولم يرجِعْ دون جرجان فدخل الحسنُ بن زيد سارية إحدى مدن طبرستان، فأخذ ما فيها من الأموالِ والحواصل، ثم سيَّرَ أهل سليمان إليه مكَرَّمين على مراكب، واجتمع للحسن بن زيدٍ إمرة طبرستان بكمالِها، ثم بعَثَ إلى الري فأخذها وأخرجَ منها الطاهرية، وصار إلى جند همذان، ولَمَّا بلغ خبَرُه المستعينَ بالله، اغتمَّ لذلك جدًّا، واجتهد في بعض الجيوش والأمداد لقتالِ الحسن بن زيد.
مؤسِّسُها يحيى بن الحسَن الطالبيُّ الذي كان يعيشُ بالمدينة المنورة، ولكِنَّه وبطلَبٍ مِن أهل اليمَنِ سافر إليهم فالتَفُّوا حوله واستقَرَّ في صعدةَ عام 284 فأراد التوسُّعَ، فاصطدم بمقاومةِ حُكَّامِ اليمَنِ، وكان أشدَّهم عليه بنو يعفرَ في صنعاء، فاصطدم معهم عام 285 غيرَ أنَّه عجزَ عن دخولها، لكنَّه دخلها عام 288ه بمساعدة الأئمَّة الزُّيود الذين استولَوا على الحُكمِ فيما بعدُ، وهم بنو الرسِّ في صعدة، ثم حكَمَهم الإمام المنصور يحيى الذي دام حكمُه من عام 325ه حتى عام 366ه ومِن بعده جاء يوسُفُ الداعي الذي امتَدَّ حكمُه من 366 إلى 430. ثم ضَعُفَ أمر بني رسٍّ بعد موت الداعي يوسُفَ وموت المهديِّ الحسين بن القاسم في العام نفسِه، وقد كانا إمامينِ في وقتٍ واحد. وانقطعت دولتُهم حتى عام 426 ثمَّ قام الحسن بن عبد الرحمن (أبو هاشم) واستمَرَّ أمره حتى عام 431، ثم انقطعت الدولة الثانيةُ مُدَّةَ سِتِّ سنواتٍ أخرى، حيث قام أبو الفتح الديلمي عام 437 ثم قُتِلَ عام 444 في معركةِ فيد أثناء حروبِه مع علي الصليحي، وتوقف أمرُ الأئمة حوالي مائة سنةٍ بعد ذلك، ثمَّ برز إمامُ بني الرس أحمد بن سليمان، وبقي حتى عام 566 ولم يكُنْ وضعُه مستقرًّا.
لَمَّا فعل زكرَوَيه بالحجاج ما فعل، عَظُمَ ذلك على الخليفة خاصَّةً، وعلى جميع المسلمين عامَّةً، فجهَّزَ المكتفي الجيوشَ، فلما كان أوَّل ربيع الأول سيَّرَ وصيف بن صوارتكين مع جماعةٍ من القوَّاد والعساكر إلى القرامطة، فساروا على طريقِ حفان فلَقِيَهم زكرَوَيه، ومن معه من القرامطةِ، فاقتتلوا يومهم، ثم حجزَ الليل، وباتوا يتحارَسون، ثمَّ بكَّروا إلى القتال، فاقتتلوا قتالًا شديدًا فقُتِلَ من القرامطة مقتلةٌ عظيمة، ووصل عسكَرُ الخليفة إلى عدُوِّ الله زكرَوَيه، فضربه بعضُ الجند بالسَّيفِ على رأسه، فبلغت الضربةُ دماغه، وأخذه أسيرًا وأخذ خليفتَه وجماعةً مِن خواصِّه وأقربائه، وفيهم ابنُه وكاتبه، وزوجتُه، واحتوى الجندُ على ما في العسكرِ، وعاش زكرَوَيه خمسةَ أيام ومات، فسُيِّرَت جيفتُه والأسرى إلى بغداد، وانهزم جماعةٌ من أصحابه إلى الشام، فأوقع بهم الحُسَين بن حمدان، فقتلوهم جميعًا، وأخذوا جماعةً مِن النساء والصبيان، وحُمِلَ رأس زكرويه- لعنه الله- إلى خُراسان، لئلَّا ينقَطِعَ الحُجَّاج، وأخذ الأعرابُ رَجُلين من أصحابِ زكرَوَيه يُعرَف أحدهما بالحداد، والآخر بالمُنتَقِم، وهو أخو امرأةِ زكرويه، كانا قد سارا إليهم يدعوانِهم إلى الخروجِ معهم، فلما أخذوهما سيَّرُوهما إلى بغداد، وتتَبَّع الخليفةُ القرامطة بالعراق، فقتل بعضَهم، وحبس بعضَهم، ومات بعضُهم في الحبس.
خرج المهديُّ بنفسِه إلى تونُسَ وقرطاجَنَّة وغيرِهما يرتادُ موضعًا على ساحِلِ البحر يتَّخِذُ فيه مدينةً، وكان يجِدُ في الكتُبِ خروجَ أبي يزيدَ على دولته، ومن أجلِه بنى المهديَّةَ، فلم يجِدْ مَوضِعًا أحسَنَ ولا أحصَنَ مِن موضع المهديَّة، وهي جزيرةٌ متَّصِلةٌ بالبَرِّ كهيئة كفٍّ متَّصِلةٍ بزِندٍ، فبناها وجعلها دار مُلكِه، وجعل لها سورًا مُحكَمًا وأبوابًا عظيمةً، وزْنُ كُلِّ مِصراعٍ مائةُ قنطارٍ، وكان ابتداءُ بنائها يوم السبت لخمسٍ خَلَونَ مِن ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثمائة، فلَّما ارتفع السورُ أمَرَ راميًا أن يرميَ بالقوس سهمًا إلى ناحية المغرب، فرمى سهمَه فانتهى إلى موضِعِ المُصلَّى، فقال: إلى موضعِ هذا يَصِلُ صاحِبُ الحِمارِ، يعني أبا يزيدَ الخارجيَّ؛ لأنّه كان يركب حمارًا، وكان يأمُرُ الصُّنَّاعَ بما يعملون، ثمَّ أمر أن يُنقَرَ دار صناعة في الجبلِ تَسَعُ مائةَ شيني- مركب بَحَري- وعليها بابٌ مُغلَقٌ؛ ونقَرَ في أرضِها أهراءً للطعامِ، ومصانِعَ للماء، وبنى فيها القصورَ والدُّورَ، فلما فرغ منها قال: "اليومَ أمَّنتُ على الفاطميَّات"، يعني بناتِه، وارتحل إليها، ولَمَّا رأى إعجابَ الناس بها، وبحصانتها، كما يقول: هذا لساعةٍ مِن نهار، وكان كذلك لأنَّ أبا يزيد وصل إلى موضعِ السهم، ووقف فيه ساعةً، وعاد ولم يظفَرْ.
استولى مُحمَّدُ بنُ رائق على بلاد الشامِ فدخل حمصَ أوَّلًا فأخذها، ثم جاء إلى دمشقَ وعليها بدر بن عبد الله الإخشيد المعروف ببدر الإخشيد وهو محمَّد بن طغج، فأخرجه ابنُ رائق من دمشق قهرًا واستولى عليها، ثم ركبَ ابن رائق في جيشٍ إلى الرملة فأخذها، ثمَّ إلى عريش مصر فأراد دخولَها فلقيه محمد بن طغج الإخشيدي فاقتتلا هناك فهَزَمه ابنُ رائق واشتغل أصحابُه بالنهبِ ونزلوا بخيام المصريين، فكَرَّ عليهم المصريونَ فقَتَلوهم قتلًا عظيما، وهرب ابنُ رائق في سبعين رجلًا من أصحابه، فدخل دمشقَ في أسوأِ حالٍ وشَرِّها، وأرسل له ابنُ ظغج أخاه أبا نصر بن طغج في جيشٍ فاقتتلوا عند اللجون في رابع ذي الحجة، فهزم ابنُ رائق المصريين وقُتِلَ أخو الإخشيد فيمن قُتل، فغَسَّلَه ابنُ رائق وكفَّنَه وبعث به إلى أخيه بمصرَ وأرسل معه ولَدَه وكتب إليه يحلِفُ أنَّه ما أراد قَتْلَه، ولقد شَقَّ عليه، وهذا ولدي فاقتَدْ منه، فأكرَمَ الإخشيدُ ولدَ مُحمَّد بن رائق، واصطلحا على أن تكونَ الرَّملةُ وما بعدها إلى ديار مصرَ للإخشيد، ويحمِلُ إليه الإخشيد في كلِّ سَنةٍ مائة ألف دينار وأربعين ألف دينار، وما بعد الرملةِ إلى جهة دمشق تكونُ لابنِ رائقٍ.
هو الإمامُ العَلَّامةُ، أَقضى القُضاةِ، أبو الحسنِ عَلِيُّ بن محمدِ بن حَبيبٍ، المَاوَردِي البَصري، شَيخُ الشَّافعيَّة، كان من وُجوهِ الفُقهاءِ الشَّافعيَّة ومن كِبارِهم، أَخذَ الفِقهَ عن أبي القاسم الصيمري بالبَصرةِ، ثم عن الشيخ أبي حامِد الإسفرايني ببغداد، صاحبِ التَّصانيفِ الكَثيرةِ في الأُصولِ والفُروعِ والتَّفسيرِ والأَحكامِ السُّلطانيَّة، وأَدَبِ الدُّنيا والدِّين، قال الماوردي: "بَسَطتُ الفِقهَ في أَربعةِ آلافِ وَرقةٍ وقد اختَصرتُه في أَربعينَ" قال ابنُ الجوزي: "يُريدُ بالمَبسوطِ الحاويَ، وبالمُختَصَرِ الإقناعَ" كان أَديبًا حَليمًا وَقورًا، مُتَأَدِّبًا لم يَرَ أَصحابُه ذِراعَه يومًا من الدَّهرِ مِن شِدَّةِ تَحَرُّزِهِ وأَدبِه، وكان ثِقةً صالحًا، حافظًا للمَذهَبِ وله فيه كتاب "الحاوي الكبير" الذي لم يُطالِعهُ أَحدٌ إلا وشَهِدَ له بالتَّبَحُّرِ والمَعرفةِ التَّامَّةِ بالمَذهبِ. وفُوِّضَ إليه القَضاءُ بِبُلدانٍ كَثيرةٍ، واستَوطَن بغداد في دَربِ الزَّعفراني، ورَوى عنه الخَطيبُ أبو بكرٍ صاحبُ "تاريخ بغداد" وقال: كان ثِقةً. وله من التَّصانيف غير "الحاوي" "تفسير القرآن الكريم" و"النُّكَت والعُيون" و"أدب الدِّين والدنيا" و"الأحكام السلطانية" و"قانون الوزارة" و"سياسة المُلْكِ" و"الإقناع" في المَذهَب، وهو مُختصَر، وغير ذلك، وصَنَّفَ في أُصولِ الفِقهِ والأَدبِ وانتفع النَّاسُ به. وقد وَلِيَ الحُكمَ في بلادٍ كَثيرةٍ، وكان ذا حَظوَةٍ عند الخَليفةِ وعند بني بُويه، توفِّي عن سِتٍّ وثمانين سَنةٍ، ودُفِنَ ببابِ حَربٍ.