قَدِمَ الخبر بأن إسكندر بن قرا يوسف نزل قريبًا من مدينة تبريز، فبرز إليه أخوه جهان شاه، المقيم بها من قِبَل القان معين الدين شاه رخ بن تيمورلنك المغولي ملك المشرق، فكانت بينهما وقعة انهزم فيها إسكندر إلى قلعة يلنجا من عمل تبريز، فنازله جهان شاه وحصره بها، وأن الأمير حمزة بن قرا يلك متملك ماردين وأرزنكان أخرج أخاه ناصر الدين علي باك من مدينة آمد، وملكها منه، فقلق السلطان من ذلك، وعزم على أن يسافر بنفسه إلى بلاد الشام، وكتب بتجهيز الإقامات بالشام، ثم أبطل ذلك، ثم رسم بخروج تجريدة إلى بلاد الشام، وعيَّن من الأمراء المقدمين ثمانية، وكتب لنائب الشام الأمير أينال الجكمى أن يتوجه بمن معه صحبة الأمراء إلى حلب، ويستدعوا حمزة باك بن قرا يلك صاحب ماردين وأرزنكان، فإن قدم إليهم خلع عليه بنيابة السلطة فيما يليه، وإلا مشوا بأجمعهم عليه وقاتلوه وأخذوه، ثم رحل الأمراء المجرَّدون من أبلستين، ومعهم نواب الشام وعساكرها من غزة إلى الفرات، وجميع تركمان الطاعة، وتوجهوا في جمع كبير يريدون مدينة آقشهر، حتى نزلوا عليها وحصروها، وكان من خبرهم أن العسكر المجرد لما قصد مدينة آقشهر تلقَّاهم سلطان أحمد بن قليج أرسلان صاحب تلى صار وقد رغب في الطاعة السلطانية، وسار معهم حتى نازلوا مدينة أقشهر في أول ذي الحجة، فهرب متملكها حسن الأيتاقى في ليلة الثلاثاء ثانيه إلى قلعة برداش، فملك العسكر المدينة وقلعتها، وقبضوا على عدة من أعيانها، وبعثوا بسلطان أحمد بن قليج أرسلان على عسكر، فملك قلعتي فارس وتمشلي، فأقروه على نيابة السلطة بهما، وساروا لمحاصرة حسن بقلعة برداش ففر منها إلى قلعة بزطلش، فنزل من العسكر عليها حتى أخذها في الثامن عشر الأمير قرقماس أمير سلاح، بعد أن قاتل أهلها بضعة عشر يومًا، ثم هدمها حتى سوَّى بها الأرض، وقد فرَّ منها حسن أيتاقي، ثم سار الأمير قرقماس بمن معه مع بقية العساكر يريدون أرزنكان، فقدم عليهم الأمير مرزا بن الأمير يعقوب ابن الأمير قرا يلك رسولًا من أبيه يعقوب صاحب أرزنكان وكماخ، وقد خرج عن أرزنكان ونزل كماخ، وقدم مع مرزا زوجة أبيه وعدة من القضاة والأعيان بأرزنكان، يسألون العفو عن الأمير يعقوب وإعفاءه من قدومه إليهم، وأن يُجهَّز لنيابة السلطنة بأرزنكان الأمير جهان كير ابن الأمير ناصر الدين علي باك بن قرا يلك، فأُجيبوا إلى ذلك كله، وخُلِع على الأمير مرزا، ودُفِع إليه خِلعة لأبيه الأمير يعقوب، وأُعيد وصحبته الأمير جهان كير، وقد خُلِع عليه بنيابة أرزنكان، وساروا وقد جهز إلى أرزنكان بالأمير سودون النوروزى دوادار نائب حلب، ومعه نائب دوركى ونائب بهنسنى، فتسلموا أرزنكان بلا مانع، وأقاموا بها، ثم توجه القاضي معين الدين عبد اللطيف ابن القاضي شمس الدين الأشقر كاتب السر بحلب، حتى حلف أهل أرزنكان بالإقامة على طاعة السلطان، ثم سارت العساكر من أقشهر في الثاني والعشرين حتى نزلت على أرزنكان، وعسكروا هناك، فخرج إليهم أهلها، وباعوا عليهم ما أرادوا منهم، وفُتِحت أبواب المدينة، والعساكر يدخل منها المدينة من أراد ذلك، من غير ضرر ولا نهب، واستمروا على ذلك إلى آخر الشهر.
هو الأميرُ عبدُ القادر ناصِرُ الدين بن محيي الدين الحسني المعروف بعبد القادر الجزائري, اشتهرَ بمناهضته للاحتلالِ الفرنسيِّ للجزائر. وُلِدَ في 23 رجب 1222هـ / مايو 1807م، بقرية "القيطنة" بوادي الحمام من منطقة معسكر "المغرب الأوسط" بالجزائر، ثم انتقل والِدُه إلى مدينة وهران. كان لوالِدِه محيي الدين صِدامٌ مع الحاكِمِ العثماني لمدينة "وهران"، وأدَّى هذا إلى تحديدِ إقامة الوالد في بيته، فاختار أن يخرُجَ من الجزائر كلها في رحلةٍ طويلة. وكان الإذنُ له بالخروج لفريضةِ الحَجِّ عام 1241هـ/ 1825م، فخرج مصطحبًا ابنَه عبدالقادر معه، وفي رحلتِهم للحجِّ تعَرَّفوا على الطريقة الشاذلية والقادرية، فالتَقَوا في دمشق وبغداد ببعض شيوخِ الطريقتين وقرؤوا كتُبَهم، ثمَّ عادوا إلى الجزائِرِ عام 1244هـ/ 1828م، فلمَّا تعَرَّضت الجزائرُ لحَملةٍ عسكرية فرنسية شرسة، وتمكَّنَت من احتلال العاصمة. بحث أهالي وعلماء "غريس" عن زعيمٍ يأخذ اللواء ويبايعونه على الجهادِ تحت قيادته، استقَرَّ الرأيُ على "محيي الدين الحسني" والدِ عبد القادر، وعَرَضوا عليه الأمر، ولكِنَّ الرجل اعتذر عن الإمارة وقَبِلَ قيادة الجهاد، فأرسلوا إلى صاحبِ المغرب الأقصى ليكونوا تحت إمارته، فقَبِلَ السلطان "عبد الرحمن بن هشام" سلطان المغرب، وأرسل ابنَ عمه "علي بن سليمان" ليكونَ أميرًا على وهران، وقبل أن تستقِرَّ الأمور تدخَّلَت فرنسا مهَدِّدةً سلطان المغرب بالحرب، فانسحَبَ السلطان واستدعى ابنَ عَمِّه فعاد، ولَمَّا كان محيي الدين قد رضِيَ بمسؤولية القيادة العسكرية، والتفَّتْ حوله الجموعُ مِن جديد، وخاصةً أنَّه حقَّق عدَّةَ انتصاراتٍ على العدوِّ، وكان عبد القادر على رأس الجيشِ في كثير من هذه الانتصارات، اقترح الوالِدُ أن يتقدم "عبد القادر" لهذا المنصِبِ، فقَبِلَ الحاضرون، وقبل الشابُّ ذلك، وتمت البيعةُ، ولقبه والده بـ "ناصر الدين" واقترحوا عليه أن يكون "سلطانًا" ولكنه اختار لقب "الأمير"، وبذلك خرج إلى الوجود "الأمير عبد القادر ناصر الدين بن محيي الدين الحسني"، وكان ذلك في 13 رجب 1248هـ الموافق 20 نوفمبر 1832. فلمَّا بايعه الجزائريون وولَّوه القيامَ بأمرِ الجهاد، نهَضَ بهم، وقاتَلَ الفرنسيين خمسةَ عشر عامًا، ضرب في أثنائها نقودًا سَمَّاها " المحمَّدية " وأنشأ معامِلَ للأسلحة والأدوات الحربية وملابِسِ الجند. وعَقَدت فرنسا اتفاقيةَ هدنة معه، وهي اتفاقية "دي ميشيل" في عام 1834، وبهذه الاتفاقية اعترفت فرنسا بدولة الأميرِ عبد القادر، وبذلك بدأ الأميرُ يتَّجِهُ إلى أحوال البلاد وتنظيم شؤونها. وقبل أن يمُرَّ عام على الاتفاقية نقضَ القائد الفرنسي الهدنةَ، وناصره في هذه المرة بعضُ القبائل في مواجهةِ الأمير عبد القادر، ونادى الأميرُ في قومِه بالجهادِ ونَظَّم الجميعُ صُفوفَ القتال، حتى نجح في إحراز النصر؛ مما أجبر الفرنسيين على عقد معاهدةِ هُدنةٍ جديدة عُرفت باسم "معاهد تافنة" في عام 1837م. وعاد الأميرُ لإصلاح حال بلاده وترميم ما أحدَثَته المعارك بالحصون والقلاع، وتنظيم شؤون البلاد، ثمَّ كرر الفرنسيون نقضَ المعاهدة في عام 1839م، ورأى بعد حينٍ أنَّ من الصواب الجنوحَ للسِّلمِ، وشاور أعيانَ المجاهِدينَ في ذلك، لكِنَّ الفرنسيين أسَرُوه سنة 1263هـ/1847م وأنهَوا دورَه القياديَّ، توفي رحمه الله ليلة 19 رجب عام 1300هـ، 1883م عن عمر يناهز 76 عامًا.
هو المُعِزُّ لدين الله أبو تميمٍ مُعدُّ بن المنصور بالله إسماعيل بن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن المهدي أبي محمد عبيد الله، العُبَيديُّ المهدويُّ صاحِبُ المغرب. بُنِيَت له القاهرة, وكان وليَّ عَهدِ أبيه. ولي سنة 341، وسار في نواحي إفريقيَّةَ يمَهِّدُ مُلكَه، فذَلَّل الخارجين عليه، واستعمل مماليكَه على المدُنِ، واستخدم الجُندَ، وأنفق الأموالَ، وجهَّز مملوكَه جوهرًا القائِدَ في الجيوشِ. فسار فافتتح سجلماسة، وسار إلى أن وصل البحرَ الأعظمَ، فلمَّا مات كافور بَعَث المعِزُّ جَيشَه لِمِصر بقيادةِ جَوهر, فأخذها له ثمَّ انتقل لها المعِزُّ ودخلها سنة 362. قال الذهبي: " كان المعِزُّ عاقِلًا لبيبًا حازمًا، ذا أدبٍ وعِلمٍ ومعرفةٍ وجَلالةٍ وكَرَمٍ، يرجِعُ في الجملةِ إلى عَدلٍ وإنصافٍ، ولولا بِدعتُه ورَفضُه، لكان من خيارِ المُلوكِ ". كان موتُه سابع عشر من شهر ربيع الآخر، وكان سبب موته الحُمَّى؛ لشدَّة ما وجد من كلامٍ على مُلكِه ومملكتِه، واتَّصَل مرضُه حتى مات، وكانت ولايتُه ثلاثًا وعشرين سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام، منها مُقامُه بمصر سنتان وتسعة أشهر، والباقي بإفريقيَّة، وهو أوَّلُ حُكَّام العُبَيديِّين مَلَك مصر، وخرج إليها، وكان مُغرمًا بالنجوم، ويعمل بأقوالِ المنجِّمينَ، قال له منجِّمُه: إنَّ عليه قطعًا في وقتِ كذا، وأشار عليه بعمَلِ سردابٍ يختفي فيه إلى أن يجوزَ ذلك الوقت، ففعل ما أمَرَه وأحضر قوَّادَه، فقال لهم: إنَّ بيني وبين الله عهدًا أنا ماضٍ إليه، وقد استخلفتُ عليكم ابني نزارًا، يعني العزيز، فاسَمَعوا له وأطيعوا، ونزَل السردابَ، فغاب سنةً ثم ظهر، وبقِيَ مدَّةً، ومرِضَ وتوفِّيَ، فستَرَ ابنُه العزيز موتَه إلى عيد النَّحرِ مِن السنة، فصلى بالنَّاسِ وخَطَبَهم، ودعا لنفسِه، وعزَّى بأبيه، ولَمَّا استقَرَّ العزيزُ في الملك أطاعه العسكرُ، فاجتمعوا عليه، وكان هو يدبِّرُ الأمورَ منذ مات أبوه إلى أن أظهَرَه، ثم سيَّرَ إلى الغرب دنانيرَ عليها اسمُه، فُرِّقَت في النَّاسِ.
هو العلَّامةُ كَبيرُ المُعتَزِلةِ: أبو القاسِمِ محمودُ بنُ عُمَرَ بنِ مُحمَّدِ بنِ عُمَرَ الزَّمخشريُّ الخوارزميُّ النَّحويُّ اللُّغَويُّ الحَنَفيُّ المتكَلِّمُ المُفَسِّر, وزمخشَرُ: قَريةٌ مِن قُرى خوارِزمَ، ومَولِدُه بها في رجَبٍ سنة 457، صاحِبُ الكَشَّاف في التفسير، والمُفصَّل في النَّحوِ، وله الفائِقُ في غريبِ الحديثِ، وأساسُ البلاغةِ في اللُّغةِ، وشَرحُ لاميَّةِ العَرَب للشَّنفَرَى، وشَرحُ أبياتِ كتابِ سِيبويهِ، ومناقِبُ أبي حنيفةَ النُّعمانِ، وغيرُها، وكان يُقالُ له: جارُ اللهِ؛ لأنَّه جاوَرَ بمكَّةَ المُشَرَّفةِ زمانًا، قال ابنُ خَلِّكان: "سَمِعتُ مِن بَعضِ المشايخِ أنَّ إحدى رِجلَيه كانت ساقِطةً، وأنَّه كان يمشي في جاون خَشَبٍ، وكان سَبَبُ سُقوطِها أنَّه كان في بعضِ أسفارِه ببلاد خوارزمَ أصابَه ثلجٌ كثيرٌ وبَردٌ شَديدٌ في الطريقِ فسَقَطَت منه رِجلُه، وأنَّه كان بِيَدِه مَحضَرٌ فيه شهادةُ خَلقٍ كثيرٍ مِمَّن اطَّلَعوا على حقيقةِ ذلك؛ خوفًا من أن يَظُنَّ مَن لم يعلَمْ صُورةَ الحالِ أنَّها قُطِعَت لرِيبةٍ". قَدِمَ الزمخشريُّ بغداد وسَمِعَ الحديثَ وتفَقَّهَ وبرَعَ في فنونٍ، وصار إمامَ عَصرِه في عِدَّةِ عُلومٍ، وكان رأسًا في البلاغةِ والعربيَّةِ والمعاني والبَيانِ، وله نَظمٌ جَيِّدٌ, وكان يُظهِرُ مَذهَبَ الاعتزالِ ويُصَرِّحُ بذلك في تفسيرِه، ويناظِرُ عليه. قال ابنُ خَلِّكان: "كان الزمخشريُّ مُعتزليَّ الاعتقادِ مُتظاهِرًا به، حتى نُقِلَ عنه أنَّه كان إذا قصَدَ صاحبًا له واستأذنَ عليه في الدُّخولِ يقولُ لِمَن يأخُذُ له الإذنَ: قُل له: أبو القاسِمِ المُعتَزليُّ بالبابِ، وأوَّلَ ما صَنَّفَ كِتابَ "الكَشَّاف" كتب استفتاحَ الخُطبةِ "الحمدُ لله الذي خلق القُرآنَ " فيقالُ: إنه قيل له: متى تركْتَه على هذه الهيئةِ هَجَره الناسُ ولا يرغَبُ أحَدٌ فيه، فغَيَّرَه بقولِه: "الحمدُ لله الذي جعل القُرآنَ" وجعَلَ عندهم بمعنى خَلَق، ورأيتُ في كثيرٍ مِن النُّسَخِ" الحمدُ لله الذي أنزلَ القُرآنَ" وهذا إصلاحُ النَّاسِ لا إصلاحُ المُصَنِّفِ". قال الذهبي: "كان داعيةً إلى الاعتزالِ، اللهُ يُسامِحُه" روى عنه بالإجازة: أبو طاهرٍ السلفيُّ، وزينب بنت الشعري. كانت وفاته بخوارزم ليلةَ عرفةَ منها، عن سِتٍّ وسبعينَ سنة.
هو أبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله مصغر بن أبي سعيد بن سليمان الأنباري النحوي صاحب التصانيف المفيدة، من الأئمَّة المشار إليهم في علمِ النحو، وُلِدَ في شهر ربيع الآخر سنة 513, وسكن بغداد من صباه إلى أن مات، وتفقَّه على مذهب الشافعي، بالمدرسة النظامية وتصدَّر لإقراءِ النحو بها، وصار شيخَ العراق في الأدب غيرَ مُدافَع له. تولى التدريس في بغداد, وقَصَده طلابُ العلم من سائر الأقطار, يقول ابنُ خَلِّكان: "اشتغل عليه خلقٌ كثيرٌ وصاروا عُلَماء، ولَقِيتُ جماعة منهم، وصَنَّف في النحو كتاب "أسرار العربية" وهو سهل المأخذ كثير الفائدة، وله كتاب "الميزان" في النحو، وله كتاب في "طبقات الأدباء" جمع فيه المتقَدِّمين والمتأخرين مع صغر حجمه، وكتُبُه كلها نافعة، وكان نفَسُه مباركًا ما قرأ عليه أحدٌ إلا وتميز". ثم انقطع ابن الأنباري في منزله مشتغلًا بالعلم والعبادة والإفادة، قال الموفق عبد اللطيف البغدادي: "لم أر في العُبَّاد والمنقطعين أقوى منه في طريقِه، ولا أصدق منه في أسلوبه، جِدٌّ مَحضٌ لا يعتريه تصَنُّع، ولا يَعرِف الشرورَ ولا أحوال العالَم. كانت له دارٌ يَسكُنُها، وحانوت ودار أخرى يتقَوَّت بأجرتهما، سيَّرَ له المستضيء خمس مائة دينار فردَّها، وكان لا يُوقَد عليه ضوء، وتحته حصير قصب، وثوبَا قُطن، وله مائة وثلاثون مصنفًا" ومن تصانيفه في المذهب "هداية الذاهب في معرفة المذاهب" و"بداية الهداية" وفي الأصول "الداعي إلى الإسلام في أصول الكلام" و"النور اللائح في اعتقاد السلف الصالح" وغير ذلك، وفي الخلاف "التنقيح في مسلك الترجيح"، و"الجمل في علم الجدل" وغير ذلك، وفي النحو واللغة ما يزيد على الخمسين مصنَّفًا، وله شعر حسن كثير, ثم انقطع في آخر عمره في بيته مشتغلًا بالعلم والعبادة، وتَرَك الدنيا ومجالسة أهلها، ولم يزل على سيرة حميدة إلى أن توفي ليلة الجمعة تاسع شعبان من هذه السنة ببغداد، ودُفِنَ بباب أبرز بتربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي.
هو كتبغانوين نائب هولاكو على بلاد الشَّامِ- لعنه الله، ومعنى نوين يعني أمير عشرة آلاف، وكان هذا الخبيث قد فتح لأستاذه هولاكو من أقصى بلاد العَجَمِ إلى الشام، وقد أدرك جنكيزخان جد هولاكو، وكان كتبغا هذا يعتمد في حروبه للمسلمين أشياءَ لم يسبِقْه أحد إليها، فكان إذا فتح بلدًا ساق مقاتِلةَ هذا البلد إلى البلد الآخر الذي يليه، ويطلب من أهل ذلك البلد أن يُؤوا هؤلاء إليهم، فإن فعلوا حصل مقصودُه في تضييقِ الأطعمةِ والأشربةِ عليهم، فتقصُر مدَّة الحصارِ عليه لِما ضاق على أهلِ البلد أقواتُهم، وإن امتنعوا من إيوائِهم عندهم قاتَلَهم بأولئك المقاتِلة الذين هم أهلُ البلد الذي فتحه قبل ذلك، فإن حصل الفتحُ وإلَّا كان قد أضعَفَ أولئك بهؤلاء حتى يفني تلك المقاتِلةَ، فإن حصل الفتحُ وإلَّا قاتَلَهم بجُندِه وأصحابِه مع راحةِ أصحابِه وتَعَبِ أهلِ البلد المحاصَرِ وضَعفِهم فيفتَحُها سريعًا. كان شيخًا كبيرًا قد أسَنَّ وكان يميل إلى دين النصارى ولكن لا يمكِنُه الخروجُ مِن حكم جنكيزخان في الياسق. قال الشيخ قطب الدين اليونيني: وقد رأيتُه ببعلبك حين حاصر قلعتَها، وكان شيخًا حسنًا له لحية طويلة مسترسلة قد ضفَرَها مثل الدبوقة، وتارة يعلِّقُها من خَلفِه بأُذنِه، وكان مَهيبًا شديد السَّطوة، قال: وقد دخل الجامِعَ فصَعِدَ المنارة ليتأمَّل القلعة منها، ثم خرج من الباب الغربي فدخل دكانًا خرابًا فقضى حاجتَه والنَّاسُ ينظرون إليه وهو مكشوفُ العورة، فلما فرغ من حاجته مسحه بعضُ أصحابه بقطن ملبدٍ مَسحةً واحدة, وكان قاِئَد التتار في عين جالوت, فقُتِلَ في المعركة وأُسِرَ ابنُه، وكان شابًّا حسنًا، فأُحضِرَ بين يدي المظفَّر قطز فقال له أهَرَب أبوك؟ قال: إنَّه لا يهرب، فطلبوه فوجَدوه بين القتلى، فلما رآه ابنُه صرخ وبكى، فلما تحقَّقَه المظفر سجَدَ لله تعالى، ثم قال: أنامُ طَيِّبًا. كان هذا سعادةَ التتارِ وبقَتلِه ذهب سَعدُهم، وهكذا كان كما قال، ولم يفلحوا بعده أبدًا، وكان قتلُه يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان، وكان الذي قتله الأميرُ جمال الدين آقوش الشمسي.
كانت قريةٌ بحوران- وهي خاص لنائب الشام وهم حلبية يمن، ويقال لهم بنو لبسة وبنو ناشي- وهي حصينة منيعة يضوي إليها كلُّ مُفسدٍ وقاطع ومارق، ولجأ إليهم أحَدُ شياطين رويمن العشير، وهو عمر المعروف بالدنيط، فأعدوا عددًا كثيرة ونهبوا ليغنَموا العشير، وفي هذا الحين بدَرَهم والي الولاة المعروف بشنكل منكل، فجاء إليهم ليرُدَّهم ويهديهم، وطلب الوالي منهم تسليمَ عمر الدنيط، فأبوا عليه وراموا مقاتلَتَه، وهم جمع كثير وجَمٌّ غفير، فتأخَّرَ عنهم وكتب إلى نائب السلطنة ليمُدَّه بجيشٍ عونًا له عليهم وعلى أمثالهم، فجهَّزَ له جماعة من أمراء الطبلخانات والعشراوات ومائة من جند الحلقة الرماة، فلمَّا بغَتَهم في بلدهم تجمَّعوا لقتال العسكر ورموه بالحجارة والمقاليع، وحَجَزوا بينهم وبين البلد، فعند ذلك رمَتْهم الأتراك بالنبال من كل جانب، فقتلوا منهم فوق المائة، فَفَرُّوا على أعقابهم، وأَسَر منهم والي الولاة نحوًا من ستين رجلًا، وأمر بقطع رؤوس القتلى وتعليقها في أعناق هؤلاء الأَسرى، ونُهِبَت بيوت الفلَّاحين كلهم، وسُلِّمَت إلى مماليك نائب السلطنة، لم يفقَدْ منها ما يساوي ثلاثمائة درهم، وكرَّ راجِعًا إلى بصرى وشيوخ العشيرات معه، فأخبر ابن الأمير صلاح الدين ابن خاص ترك، وكان من جملةِ أمراء الطبلخانات الذين قاتلوهم بمبسوط ما يخصُّه، وأنه كان إذا أعيا بعض تلك الأسرى من الجرحى أمر المشاعلي بذبحِه وتعليق رأسِه على بقية الأسرى، وفعل هذا بهم غيرَ مَرَّة حتى إنه قطع رأس شاب منهم وعَلَّقَ رأسه على أبيه، شيخٍ كبير، حتى قَدِمَ بهم بصرى، فشنكل طائفة من أولئك المأسورين، وشنكل آخرين، وقتل الآخرين وحبس بعضهم في القلعة، وعلَّق الرؤوسَ على أخشابٍ نَصَبها حول قلعة بصرى، فحصل بذلك تنكيلٌ شديد لم يقع مثلُه في هذا الأوان بأهل حوران، وهذا كلُّه سُلِّطَ عليهم بما كسَبَت أيديهم، وما ربُّك بظَلَّامٍ للعبيدِ!
استولى النصارى الأسبان على العرائش، وذلك بعد إخراجهم للمسلمين منها باتفاق مع حاكمها الشيخ المأمون ابن المنصور السعدي، الذي استعان بهم على أخيه السلطان زيدان، فاشترطوا عليه وقتها إعطاءهم العرائش وإخلاءها من سكَّانها، ففعل- خذَلَه اللهُ- ولما خرج منها المسلمون أقام بها القائد الكرني إلى أن دخلها النصارى واستولوا عليها في رابع رمضان من هذه السنة، ووقع في قلوب المسلمين من الامتعاض لأخذ العرائش أمرٌ عظيم، وأنكروا ذلك أشدَّ الإنكار، وقام الشريف أبو العباس أحمد بن إدريس العمراني ودار على مجالس العلم بفاس، ونادى بالجهاد والخروج لإغاثة المسلمين بالعرائش، فانضاف إليه أقوامٌ وعزموا على التوجه لذلك، ففَتَّ في عَضُدِهم قائدُهم حمو المعروف بأبي دبيرة وصرف وجوههم عما قصدوه في حكايةٍ طويلةٍ، وكان الشيخ المأمون لما خاف الفضيحةَ وإنكار الخاصة والعامة عليه إعطاءه بلدًا من بلاد الإسلام للكفَّار، احتال في ذلك وكتب سؤالًا إلى علماء فاس وغيرها يذكُرُ لهم فيه أنه لَمَّا وغل في بلاد العدو الكافرِ واقتحمها كرهًا بأولاده وحشَمِه، منعه النصارى من الخروج من بلادِهم حتى يعطيَهم ثغر العرائش وأنَّهم ما تركوه خرج بنفسِه حتى ترك لهم أولادَه رهنًا على ذلك، فهل يجوز له أن يفدِيَ أولاده من أيدي الكفار بهذا الثغرِ أم لا؟ فأجابوه: بأن فداء المسلمين سيما أولاد أمير المؤمنين سيما أولاد سيد المرسلين صلَّى الله عليه وسلم من يد العدو الكافر بإعطاء بلدٍ من بلاد الإسلام له- جائزٌ، وإنا موافقون على ذلك، ووقَّع هذا الاستفتاء بعد أن وقع ما وقع، وما أجاب من أجاب من العلماء عن ذلك إلا خوفًا على نفسه، وقد فرَّ جماعة من تلك الفتوى، كالإمام أبي عبد الله محمد الجنان صاحب الطرر على المختصر، وكالإمام أبي العباس أحمد المقري التلمساني مؤلف نفح الطيب، فاختفيا مدةً استبراءً لدينهما حتى صدرت الفتوى من غيرهما، وبسبب هذه الفتوى أيضًا فرَّ جماعة من علماء فاس إلى البادية، كالشيخ أبي علي الحسن الزياتي شارح جمل ابن المجراد، والحافظ أبي العباس أحمد بن يوسف الفاسي، وغيرهما.
وُلِدَ الشيخ عبد العزيز في الرياض في الثانيَ عَشَرَ من ذي الحِجة سنةَ 1330ه،ـ ونشأ في بيئة علمٍ وصلاحٍ، حفِظ القرآنَ قبل أنْ يبلُغَ سنَّ البلوغ، وكان قد بدأ يضعُفُ بصرُه إثْرَ مرضٍ أصابَه في عينَيْه حتى فقَدَ بصرَه نهائيًّا سنةَ 1350هـ، وعمرُه 20 عامًا، فزاد ذلك من هِمَّته لطلب العلمِ مُلازمًا العلماءَ بذكاءٍ مُفرطٍ، وذاكرةٍ حادَّةٍ، وسرعةِ بَديهةٍ، واستحضارٍ لمسائل العلمِ، معَ ما أُوتيَ من فِراسةٍ، وكان مُتواضِعًا زاهدًا حليمًا، واسعَ الصدرِ، كريمَ الأخلاق، وبرز -رحمه الله- في علومٍ شَتَّى في: التوحيد، والتفسير، والفقه، والأصول، والحديث، والفِرَق والمذاهب، وكان عالمًا ربَّانيًّا، تلقَّى علومَه على يد عدد من المشايخ مثلِ: الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وغيرهم، وكان قد عُيِّن قاضيًا في الخَرْج، ثم الدلم، ثم أصبحَ بعد وفاة المفتي ابن إبراهيم مفتيًا للملكة العربية السعودية، وكان قد تولَّى التدريس بعد القضاء في المعهد العلمي بالرياض سنةَ 1372هـ، ثم أصبَحَ رئيسًا للجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية سنةَ 1395هـ، بعد أنْ كان نائبًا لرئيسها الأسبق ابن إبراهيم، كانت حياته مليئةً بالعلم والتعليم، قدَّم للأمة الإسلامية خلالَها من علمه وفِقهِه ما نفع اللهُ به المسلمين، ممَّا جعلَه إمامَ عصره بحقٍّ، وقد تركَ تُراثًا كبيرًا في شَتَّى العلوم من فتاوى، وشروح، ودروس في الفقه والتوحيد، وغيرها من فنون الإسلام، ومؤلَّفاتُه شاهدةٌ على صفاء ذهنِه وعِلمِه، وقد جُمعت رسائلُه وفتاواه في مجلَّدات، أمَّا وفاته فقد كان يشكو من عدة أمراضٍ -رحمه الله- ثم في ليلة الخميس ضاق نَفَسُه حتى نُقِلَ إلى مُستشفى الملك فَيْصل بالطائف، حيث تُوفيَ هناك في السابع والعشرين من محرم 1420هـ، ثم صُلِّيَ عليه في المسجد الحرام بعد صلاة الجمُعة، ودُفنَ في مَقبرةِ العدل، رحمه اللهُ تعالى، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرَ الجزاء.
وقعت مَعركةُ "مَرْجِ الصُّفَّرِ" بين الرُّوم بقِيادةِ ماهان، والمسلمين بقِيادةِ خالدِ بن سعيدٍ، وذلك في بِدايات فتحِ المسلمين لبِلاد الشَّام، حيث أخذ خالدٌ طريقَهُ لِمَرْجِ الصُّفَّرِ للهُجومِ على الرُّومِ ممَّا أَدَّى بقائِدهِم ماهان إلى أن يَنحَدِرَ بجَيشِهِ حتَّى يَستدرِجَ جُيوشَ المسلمين التي اتَّجهَت إلى الجَنوبِ ووصلت إلى مَرْجِ الصُّفَّرِ شرق بُحيرَةِ طَبَرِيَّةَ، واغتنم الرُّومُ على المسلمين الفُرصةَ وأوقعوا بهم الهزيمةَ، وصادَف ماهانُ سعيدَ بن خالدِ بن سعيدٍ في كَتيبةٍ مِن العَسكَرِ فقتَلهم وقتَل سعيدًا في مُقدِّمتِهم، وبلغ خالدًا مَقتلُ ابنِه، ورأى نَفْسَهُ قد أُحيطَ به فخرَج هاربًا في كَتيبةٍ مِن أصحابِه على ظُهورِ الخيلِ والإبلِ، وقد نجَح عِكرِمةُ بن أبي جهلٍ في سَحْبِ بَقِيَّةِ الجيشِ إلى حُدودِ الشَّام، وانتهت المعركةُ بانتصارِ الرُّومِ.
كان مُعاويةُ بن أبي سُفيانَ قد أَلَحَّ على عُمَرَ بن الخطَّاب أنَّ يَغْزُوَ البحرَ ولكنَّه أَبَى ذلك، ثمَّ في زمنِ عُثمانَ طلَب ذلك فوافَق عُثمانُ بِشرطِ ألَّا يُجبِرَ أحدًا على ركُوبِ البحرِ؛ بل يُخَيِّرُهُم، مَن أراد الغَزْوَ معه فعَل وإلَّا فَلَا، ففعَل ذلك، واسْتَعْمَل على البحرِ عبدَ الله بن قيسٍ الجاسيَّ، ثمَّ غَزَا قبرصَ وصالَح أهلَها على سبعةِ آلافِ دِينارٍ كلَّ سَنةٍ، وقد ساعَد في ذلك الغَزْوِ أهلُ مِصْرَ بإمْرَةِ ابنِ أبي السَّرْحِ، وكان مُعاويةُ على النَّاسِ جميعًا، وكان بين الغُزاةِ عددٌ مِن الصَّحابةِ ومِن بينهم أُمُّ حَرامٍ زَوجةُ عُبادةَ بن الصَّامِتِ التي تُوفِّيَت في قبرص ودُفِنَتْ فيها، وكان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد بَشَّرَها بأنَّها تكون ممَّن يَغزو البحرَ كالمُلُوكِ على الأَسِرَّةِ.
أَسلَم أبو هُريرةَ سنةَ خَيبرَ، ولَزِمَ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى وَفاتِه، فكان ذلك ذُخْرًا له، فلا ضَيْرَ أن يكونَ أكثرَ الصَّحابةِ رِوايةً عن رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فهو مِن حُفَّاظِهم، ودَعا له النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالحِفْظِ فقارَبَت الأحاديثُ التي مِن رِوايَتِه إلى خمسةِ آلاف حديثٍ، وقد اخْتُلِف في اسمِه، وكان يدعو الله ألَّا تُدْرِكَه سَنَةُ سِتِّين فتُوفِّي قَبلَها، وصلَّى عليه الوَليدُ بن عُتبةَ بن أبي سُفيان نائبُ المدينةِ، وفي القَوْمِ ابنُ عُمَر، وأبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ، وخَلْقٌ مِن الصَّحابَةِ غيرُهم، وكان ذلك عند صلاةِ العصرِ، وكانت وَفاتُه في دارِه بالعَقيقِ، فحُمِلَ إلى المدينةِ فصُلِّيَ عليه، ثمَّ دُفِنَ بالبَقيعِ رحمه الله ورضِي عنه وجَزاهُ عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
خرجَ يوسف بن إبراهيم، المعروفُ بالبرم، بخراسان، منكِرًا هو ومن معه على المهديِّ سيرتَه التي يسيرُ بها، واجتمع معه بشَرٌ كثير، فتوجَّه إليه يزيد بن مزيد الشيباني، وهو ابنُ أخي معن بن زائدة، فلَقِيَه فاقتتلا، حتى صارا إلى المعانقة، فأسره يزيدُ بن مزيد وبعثَ به إلى المهدي، وبعثَ معه وجوهَ أصحابه، فلمَّا بلغوا النهروان حُمِلَ يوسفُ على بعيرٍ، قد حُوِّلَ وجهُه إلى ذَنَبه، وأصحابُه مثلُه، فأدخلوهم الرصافة على تلك الحال، وقُطِعَت يدا يوسُفَ ورِجلاه، وقُتِلَ هو وأصحابُه، وصُلِبوا على الجسر. وقد قيل: إنَّه كان حروريًّا، وتغلَّبَ على بوشنج وعليها مصعب بن زريق، جدُّ طاهر بن الحسين، فهرب منه، وتغلَّبَ أيضًا على مرو الروذ والطالقان والجوزجان، وقد كان من جملةِ أصحابه أبو معاذ الفريابي، فقُبِضَ معه.
هو عبدالله بن المبارك بن واضح، أبو عبد الرحمن الحنظليُّ، مولاهم التركيُّ، ثمَّ المروزي، الحافِظُ الغازي، أحدُ الأعلامِ، كان أبوه تركيًّا وأمُّه تركيَّةً، مِن خوارزمَ، وُلِدَ سنة ثماني عشرة ومائة. وطلبَ العِلمَ وهو ابنُ عشرين سنة، أفنى عمُرَه بالأسفارِ، صَنَّفَ الكتُبَ، وجاهَدَ في سبيلِ اللهِ، وجمَعَ الحديثَ والفقهَ والعربيَّةَ وأيَّامَ النَّاسِ، أوَّلُ مَن صنَّفَ في الجهادِ، اشتهَرَ بالزُّهدِ والورعِ، مع تجارتِه، وكان يُنفِقُ على أهلِ العبادةِ والزُّهدِ مِن مالِه، توفِّيَ في مدينة هيت- بين الرحبة وبغداد- مُنصَرِفًا من غزو الرومِ، وعمره 63 سنة، قال أبو عمر بن عبد البَرِّ: "أجمع العُلَماءُ على قَبولِه وجَلالتِه، وإمامتِه وعَدْلِه"، فرَحِمه الله تعالى، وجزاه عن الإسلامِ والمسلمينَ خَيرًا.
كان رافِعُ بن نصرِ بنِ الليث بن سيَّار من عظماء الجندِ فيما وراء النهر، وكان يحيى بن الأشعَثِ الطائي قد تزوَّجَ ابنةَ عَمٍّ له، وكانت ذاتَ يَسارٍ ولِسانٍ وجَمالٍ, ثم ترَكَها بسمرقند فترةً وأقام ببغداد، واتَّخذَ السَّراريَّ، فلما طال ذلك عليها، أرادت أن تخلصَ مِن زواجها له, فعَلِمَ رافِعٌ بأمرِها فتزوَّجَها بعد أن قال لها أن تُظهِرَ الشِّركَ ثم تتوبَ فيَنفَسِخَ نِكاحُها, فشكاه زوجُها يحيى بن الأشعث إلى الرشيدِ، فأمر الرشيدُ عامِلَه على سمرقند عليَّ بن عيسى بن ماهان أن يَحُدَّه ويُطلقَ منها ويُطيفه على حمارٍ في سمرقند للعبرةِ، ففعل لكِنَّه لم يحدَّه وحَبَسَه فهرب من الحبسِ، فلَحِقَ ببلخ فأراد عامِلُها علي بن عيسى قَتْلَه فشَفعَ فيه عيسى بن علي بن عيسى، وأمَرَه بالانصرافِ إلى سمرقند.