أمرت الجمهوريةُ الفرنسيَّةُ بونابرت بالمسيرِ إلى مصر لفتحِها بغير إعلانِ حربٍ على الدولة العليَّة، وأوصَتْه بكتمانِ الأمر حتى لا تعلَمَ به إنكلترا فتسعى في إحباطِه، وكان القصدُ من الحملة منعَ مرور تجارة الإنجليز من مصرَ إلى الهند, كانت تلك الحملةُ صدًى للثورة الفرنسية المتأثِّرة بأفكارِها الثوريَّة الماسونية اليهودية، ورَفْع شعاراتها (الحرية, العدل, المساواة). فجهَّز جيشًا من 36 ألف مقاتل وعشرة آلاف بحري، وأضاف إلى جيشه 122 عالِمًا على اختلافِ العلوم والمعارف لدراسةِ القُطر المصري والبحث عما يلزم لإصلاحِه واستغلاله, وكان هذا العددُ من العلماء يزيدُ عن أضعاف العدد الذي اعتاد بونابرت أن يصحَبَه في حملاته الأوروبية، وقد تأثَّر فكرُ هؤلاء العلماء في الغالب بالدَّورِ الفرنسي الذي يسعى لإصلاحِ الكنيسة الكاثوليكية، ويعادي حركاتِ الإصلاح البروتستانتية، كما أنَّهم قد تأثَّروا بأفكار روسو وفولتير ومونتسكيو: أبرز مفكِّري الثورة الفرنسية والمعروفين بانتمائِهم للمحافل الماسونية اليهودية، مِن خلال ما رفعوه من شعاراتِ (الحرية، الإخاء، المساواة)، وكانت أهداف الحملةِ خليطًا من أهدافٍ اقتصادية وتوسعيَّة وسياسية ودينية، أو بالأحرى غزو عسكري فكري. في 19 مايو سنة 1798 رحل بونابرت بهذا الجيش بدون أن يُعلِم أحدًا بوجهتِه، فوصل جزيرة مالطة واحتلها بعد أن دافعَ عنها رهبان القديس يوحنا، وفي 17 محرم سنة 1213. وصل بونابرت مدينة الإسكندرية فدخلها عَنوةً، ثم ترك بها القائِدَ كليبر وسار هو للقاهرةِ، فقابله مراد بيك بشرذمة من المماليكِ عند مدينة شبراخيت بالبحيرة في 29 محرم، فهزمه بونابرت وواصل السير حتى وصل إلى مدينة إنبابة مقابل القاهرة، وحصلت بينه وبين إبراهيم بيك ومراد بيك من أمراء المماليك واقعةُ الأهرام الشهيرة في 7 صفر التي أظهر فيها المماليكُ من الشجاعة ما أدهش الفرنسيين، لكنهم تقهقروا أمام المدافِعِ الفرنسية، فدخل بونابرت وجيوشُه مدينة القاهرة، وأصدرت الحملة نداءً إلى الشعبِ بالاستكانة والتعاون، زاعمةً أن نابليون قد اعتنق الإسلامَ وأصبح صديقًا وحاميًا للإسلامِ، وأنَّه لم يأتِ لفتح مصر، بل إنَّه حليفٌ للباب العالي، أتى لتوطيد سُلطتِه ومحاربة المماليك العاصين لأوامِرِ الخليفة العثماني, ووجَّه نابليون بونابرت رسالةً إلى الشعب المصري يحثُّهم فيها على الطاعة وعدمِ المعصية، وأنَّه إنما جاء ليخَلِّصَهم من ظلم المماليك, ثم وجَّه بونابرت فرقةً احتلت مدينة القصير على البحر الأحمر، فصارت مصر في قبضة نابليون، لكِنْ لم يلبث أن وصلَه خبر واقعة أبي قير البحرية التي دمَّرَ فيها نلسن أمير البحر الإنجليزي جميعَ المراكِبِ والسفنِ الحربية الفرنسية, وقطَعَ الإنجليزُ في البحر المتوسط المواصلاتِ بينه وبين فرنسا, ولَمَّا علمت الدولة العلية باحتلال الفرنسيين لمصرَ، أخذت في الاستعدادِ لمحاربتِهم، لا سيما وأنَّها كانت مطمئنةً مِن جهة النمسا وروسيا اللتين كانتا مشتغلتين بمحاربةِ فرنسا خوفًا من امتداد مبادئها الحرَّة إلى بلادهما، ومن جهة أخرى عرض الإنجليزُ على الدولة العثمانية مساعدتَها على إخراج فرنسا من مصرَ، لا رغبةً في حفظ أملاكِ الدولة بل خوفًا على طريق الهند من أن يكونَ في قبضة دولة قوية كفرنسا, فقَبِلت الدولة العلية مساعدتَها، وكذلك عَرَضت عليها روسيا إمدادَها بمراكبها الحربية. أعلنت الدولةُ العثمانية الحربَ رسميًّا على فرنسا في 21 ربيع الأول سنة 1213هـ / 2 سبتمبر 1798م واجتمعت الجيوشُ بمدينة دمشق وجزيرة رودس لإرسالها إلى مصرَ, وفي 22 أغسطس غادر نابليون بونابرت قائدُ الحملة الفرنسية الإسكندريةَ قاصدًا فرنسا خفيةً مع بعض قوَّادِه حتى لا يضبِطَه الإنجليز بعد أن بلَغَه خبر تغلُّب النمسا على فرنسا ووقوع الفوضى في داخل فرنسا، فأراد بونابرت الرجوعَ إليها لاستمالةِ الخواطر إليه وتأليفِ حِزبٍ يعضِّدُه في الوصولِ إلى غرضِه، وهو أن يعيَّن رئيسًا للجمهورية الفرنسية, فغادر مصرَ تاركا القائد كليبر وكيلًا عنه، ويقال: إنه أذِنَ له بإخلاءِ مصر لو رأى تغلُّب القوى الخارجية عليه؛ لعدم إمكان مساعدته بالمال أو الرجالِ نظرًا لوجود السفن الإنجليزية في البحر الأبيض طولًا وعرضًا. بقي الجيشُ الفرنسي بمصر بدون مراكِبَ تحميه من الإنجليز والعثمانيين؛ ولذلك اتَّفَق كليبر مع الباب العالي والأميرال سدني سميث على أن تنسَحِبَ العساكر الفرنسية بسلاحِها ومدافعِها وترجع فرنسا على مراكب إنجليزية، لكن الإنجليز لم يقبلوا بهذا الاتفاقِ إلَّا إذا ألقى الفرنسيون سلاحَهم بين أيادي الإنجليز، فاغتاظ كليبر لذلك وسار لمحاربةِ الجيش التركي الذي أتى إلى مصرَ تحت قيادة الوزير يوسف باشا لتسلُّمِها من الفرنسيين، فتقابل الجيشان عند المطرية في 23 شوال 1214هـ وبعد قتالٍ عنيفٍ انتصر كليبر وعاد إلى القاهرة فوجدها في قبضةِ إبراهيم بيك أحد الأمراء المصريين، وكان دخلها حالَ اشتغال الفرنسيين بالحرب، فأطلق كليبر القنابِلَ على القاهرة وخرب منها جزءًا عظيمًا، واستمَرَّت الحرب في شوارعها نحو عشرة أيام، وبعد ذلك ساد الأمنُ بالقاهرة, وفي 21 محرم سنة 1215هـ / 14 يونيه سنة 1800م قَتَل شخصٌ اسمه سليمان الحلبي القائِدَ كليبر, وبعد كليبر عُيِّن مكانه الجنرال مينو، وكان قد أظهر أنه اعتنق الدين الاسلاميَّ وتسمى عبد الله مينو. لَمَّا علم الإنجليز والعثمانيون بموت كليبر وخروج بونابرت من مصر، أنزلوا بأبي قير 30 ألف مقاتل, وتمكَّنوا من هزيمة القائد الفرنسي مينو الذي عاد إلى الإسكندرية وتحصَّن بها, ثم سار الإنجليز والأتراك إلى القاهرة، وحصروا من بَقِيَ فيها من الفرنسيين حتى أخلوا القاهرة في 28 صفر سنة 1216هـ, وخرجو منها بجميع أسلحتهم ومدافعهم. أما القائدُ مينو فبقي محصورًا في الإسكندرية ولم يقبَلْ بالتسليم إلا في 22 ربيع الآخر سنة 1216هـ / 1 سبتمبر سنة 1801م فخرج منها إلى بلادِه على مراكب الإنجليز، وبذلك انتهت الحملة الفرنسية، ورجعت البلاد إلى حُكمِ الدولة العثمانية بعد أن وطئَ هامتَها الأجنبيُّ, وارتكب الفرنسيُّون فيها فظائع شنيعة، فكم من القُرى أُحرِقَت، وكم من الدُّورِ والأموال قد سُرِقت، وكم من أعراضِ النساء الحرائر انتُهِكت, وكم من الأُسَرِ قد شُرِّدت على يد فرنسا زعيمةِ الحرية والإخاءِ والمساواةِ والإنسانية؟!
هو محمد جمال الدين بن صفدر -وتكتب صفتر- الحسيني الأفغاني الأسد آبادي، كان فيلسوفًا سياسيًّا، وكاتبًا وخطيبًا وصحفيًّا، ولد في شعبان 1254هـ / أكتوبر 1838م بأسد آباد بالقربِ من همذان من أعمال فارس، وقيل إنه ولد بأسد آباد الأفغانية؛ ولذا اختُلِفَ في أصل نسب أسرتِه، هل هو فارسي إيراني أم أفغاني, وقيل إنه من أسرة أفغانية عريقة ينتهي نسَبُها إلى الحسين بن علي رضي الله عنه, نشأ الأفغاني في كابول عاصمة الأفغان. وتعلَّم فيها بدايةَ تلقيه العلمَ اللغتينِ العربيةَ والفارسية، ودرَس القرآن وشيئًا من العلومِ الإسلامية، وفي سِنِّ الثامنة لفت أنظارَ من حوله بذكائه الشديد، مما جعل والِدَه يحفِّزُه إلى التعلم، وفي أوائل سنة 1266هـ / 1849م وقد بلغ الثانية عشرة من عمره انتقل به والده إلى طهران، وفي طهران سأل جمال الدين عن أكبَرِ علمائها في ذلك الوقت، فقيل له: إنه "أقاسيد صادق" فتوجَّه مباشرةً إلى مجلسه، ودار حوارٌ بينهما في مسألةٍ علميةٍ، فأُعجِبَ الشيخ من علمه وجرأتِه مع صِغَرِ سنه، فأقبل عليه وضمَّه إلى صدره وقبَّلَه، ثم أرسَلَ إلى والده يستدعيه، وأمره أن يشتريَ له عباءةً وعمامة، ثم قام الشيخُ بلَفِّ العمامة ووضَعَها بيده فوقَ رأسه تكريمًا له، واعتزازًا بعلمِه. ثم ترك جمال الدين طهران، وسافر مع والدِه -إلى مركز الشيعية العلمي- في النَّجفِ بالعراق في نفس العام، ومكث فيها أربعَ سنوات درس فيها العلومَ الإسلامية وغيرها؛ فدرس التفسير والحديث، والفلسفة والمنطق وعلم الكلام، وأصول الفقه، والرياضة، والطب والتشريح، والنجوم. وقرأ في اللغةِ والأدبِ، والتاريخ والتصوف، والشريعة، وظهر حُبُّه الشديد للمناقشة في المسائل الدينية، أتقن الأفغانيُّ الحديث باللغة العربية والأفغانية والفارسية والسنسكريتية والتركية، وتعلم الفرنسية والإنجليزية والروسية، وإذا تكَلَّم بالعربية فلغتُه فصحى، وهو واسِعُ الاطِّلاع على العلومِ القديمة والحديثة، كريمُ الأخلاقِ كبيرُ العقل، وعندما بلغ الثامنة عشرة أتمَّ دراستَه للعلوم، وظلَّ الأفغاني طوال حياته حريصًا على العلمِ والتعلُّم، وبرزت فيه هوايةُ التَّرحالِ والأسفار. فسافر إلى الهندِ لدراسة بعض العلوم العصرية، ثم عاد إلى أفغانستان. كان الأفغانيُّ يُظهِرُ في عمله السياسي مناهَضةَ استبداد الحكَّام ومناوأة الاستعمار عمومًا والإنجليزيِّ خصوصًا في كلِّ مكانٍ ينزِلُ فيه. حينما وقع خلافٌ بين الأمراء الأفغان انحاز جمال الدين إلى محمد أعظم خان الذي كان له بمثابةِ وزيرِ دولة، وحدث صدامٌ بين جمال الدين وبين الإنجليز، فرحل عن أفغانستان أو طرَدَه الإنجليزُ منها سنة 1285ه ـ/ 1868م، ومر بالهندِ في طريقِه فكان الإنجليز يمنعون العُلَماءَ وطلبة العلم الجلوسَ معه، فخرج منها إلى مصر حيث أقام بها مدةً قصيرة تردَّد في أثنائها على الأزهرِ، وكان بيته مزارًا لكثيرٍ مِن الطلاب والدارسين خاصةً السوريين. ثم دعاه السُّلطانُ العثماني عبد العزيز إلى زيارةِ الدولة العثمانية فأجاب الدعوة، وسافر إلى الأستانة في عهدِ الصدر عالي باشا، فعَظُم أمرُه بها، وذاعت شهرتُه وارتفعت منزلته، ثم عُيِّن جمالُ الدين وهو في الأستانة عضوًا في مجلس المعارِفِ الأعلى، وهناك لقِيَ معارضة وهجومًا من بعضِ علماء الأستانة وخطباءِ المساجد الذين لم يرُقْهم كثير من آرائِه وأقواله، وخاصة من شيخِ الإسلام حسين فهمي أفندي، فطُلب من الأفغاني أن يرحَلَ، فخرج من الأستانة عائدًا إلى مصر، فأقام فيها بضعَ سنوات خاض فيها غِمارَ السياسة المصرية، ودعا المصريِّين إلى ضرورةِ تنظيم أمورِ الحُكمِ، وتأثَّرَ به في مصر عددٌ من رموز الحركة الأدبيَّةِ والسياسية، منهم: محمد عبده، ومحمود سامي البارودي، وغيرهما، فقد أُعجِبوا بفكره وجرأتِه في مناهضة الاستبداد والاستعمار، ويُذكرُ أن للأفغان دورًا في إعطاء دفعةٍ قويةٍ للنَّهضةِ الأدبيَّةِ الحديثة بمصر، فلمَّا تولى الخديوي توفيق باشا حُكمَ البلاد أمَرَ بإخراجه مِن مِصرَ، فأُخرِجَ بطريقة عنيفةٍ بأمرٍ مِن الخديوي بعد أن أقام في مِصرَ نحوَ ثماني سنوات. انتقل إلى الهند سنة 1296هـ / 1879م، ثمَّ طُرِدَ من الهند بأمرٍ مِن الإنجليز، فاتَّجَه إلى أوروبا واختار أن يبدأ بلندن، ومنها انتَقَل إلى باريس، فشرع في تعلُّم الفرنسية فيها، وبذل كثيرًا من الجُهدِ والتصميمِ حتى خطا خطواتٍ جيدةً في تعلُّمِها، ثم اتصل بتلميذِه الشيخ محمد عبده المنفيِّ حينَها في بيروت، ودعاه إلى الحُضورِ إلى باريس، وأصدرا معًا جريدة "العُروة الوثقى"، ولكِنَّها ما لَبِثَت أن توقَّفَت عن الصدور بعد أن أُوصِدَت أمامَها أبوابُ كُلٍّ مِن مصر والسودان والهند، بأمرٍ مِن الحكومةِ الإنجليزيةِ, ثمَّ دعاه شاه إيران "ناصر الدين" للحُضورِ إلى طهران، واحتفى به وقَرَّبه، وهناك نال الأفغانيُّ تقدير الإيرانيين وحَظِيَ بحُبِّهم، ومالوا إلى تعاليمِه وأفكارِه، ثمَّ ذهب إلى روسيا فأقام فيها ثلاثَ سنواتٍ تنَقَّل بين موسكو وعاصمتِها بطرسبرج آنذاك، وزار كييف، والتقى بقيصرِها ألكسندر الثالث، ثمَّ أمر القيصَرُ بطَردِه من روسيا، فعاد مرةً أخرى لإيران بطلَبٍ من الشاه ناصر الدين، ثم انقَلَب عليه فطَرَده من إيران، فرحل إلى البصرة، ومنها إلى لندن للمرَّة الثانية؛ حيث اتخذ من جريدة "ضياء الخافقين" منبرًا للهُجومِ على الشاه ناصر الدين، وكشف ما آلت إليه أحوالُ إيران في عَهدِه، انتظم جمالُ الدين في سِلكِ الماسونيَّةِ بطَلبٍ منه؛ زعم أنَّ ذلك يُفسِحُ له المجالَ أمامَ أعماله السياسيَّةِ، وقد انتُخِبَ رئيسًا لمحفل "كوكب الشرق" سنة 1295هـ / 1878م، وقيل إنه استقال منه فيما بعدُ. يُعتَبَرُ الأفغانيُّ في نظرِ مُريديه وطنيًّا كبيرًا، بينما يَنظُرُ إليه خصومُه على أنَّه مهَيِّجٌ خطير، فقد كان له أثَرٌ كبير في الحركاتِ الحُرَّة والحركات الدستورية التي قامت في الدُّوَلِ العربية والإسلامية، وكان يَرمي من إثارة الخواطِرِ إلى تحريرِ هذه الدُّوَلِ من النفوذ الأوربي واستغلالِ الأوروبيِّين، ثم بعد ذلك النهوض بها نهوضًا ذاتيًّا من الداخل متوسِّلًا في ذلك بإدخالِ النظُمِ الحُرَّة إليها، كما كان يهدفُ إلى جمع كَلِمةِ الدول الإسلامية بما فيها فارس الشيعيَّة تحت راية خلافةٍ واحدةٍ، وإقامةِ إمبراطوريةٍ إسلاميةٍ قويةٍ تستطيعُ الوقوفَ في وجهِ التدَخُّلِ الأوربي؛ ولذلك دعاه السلطانُ عبد الحميد الثاني في عهدِه وقَرَّبه إليه وتعاون معه في تسويقِ فكرة الجامعة الإسلامية، ثم انقلب عليه السلطانُ عبد الحميد الثاني لَمَّا شك في علاقتِه بالإنجليز. لم يُكثِرِ الأفغاني من التصنيف اعتمادًا على ما كان يبُثُّه في نفوس العاملين، وانصرافًا إلى الدعوة بالسِّرِّ والعلن. له تاريخ الأفغان، ورسالة الرد على الدهريين، ترجمها إلى العربية تلميذه الشيخ محمد عبده, وجمع محمد باشا المخزومي كثيرًا من آرائه في كتاب خاطرات جمال الدين الأفغاني، ولمحمد سلام مدكور كتاب جمال الدين الأفغاني باعث النهضة الفكرية في الشرق. توفِّيَ الأفغاني في الأستانة بعد أن أُصيب بمرَضِ السرطان في فَكِّه، عن عمرٍ بلغ نحو ستين عامًا، وقد ثار الجدَلُ حول وفاته، وشكَّك البعضُ في أسبابها، وأشار آخرون إلى أنه اغتيلَ بالسمِّ. وكانت وفاته في 5 من شوال 1314هـ / 10 من مارس 1897م. قال عنه الفيلسوفُ إرنست رينان الذي التقى به وحاوَرَه: "قد خُيِّلَ إليَّ مِن حريَّةِ فِكرِه ونبالةِ شِيَمِه وصراحتِه وأنا أتحدث إليه، أنَّني أرى وجهًا لوجهِ أحدِ مَن عرفتُهم من القُدَماء، وأنني أشهَدُ ابنَ سينا أو ابنَ رشد, أو أحدَ أولئك الملاحدة العِظامِ الذين ظلُّوا خمسة قرون يعملونَ على تحريرِ الإنسانيةِ مِن الإسارِ" وتبقى شخصيةُ الأفغاني يحومُ حولَها كثيرٌ مِن الشُّكوكِ!
لَمَّا خُلِعَ السلطانُ الناصِرُ تحصَّن بالكركِ، فرَسَم السلطانُ الصَّالِحُ إسماعيلُ بإحضار المجرَّدين إلى الكرك وعيَّنَ عِوَضَهم تجريدةً أخرى إلى الكرك، وهي التجريدةُ السابعة، فيها الأميرُ بيبرس الأحمدي، والأمير كوكاي، وعشرون أمير طبلخاناه، وستة عشر أمير عشرة، وكتب بخروج عسكرٍ أيضًا من دمشق ومعهم المنجنيق والزحَّافات، وأرسل أيضًا مع الأحمدي أربعةَ آلاف دينار لِمن عساه ينزِلُ إليه من قلعة الكركِ طائعًا، وجهَّزَ معه تشاريفَ كثيرةً، وعُيِّنَت لهم الإقاماتُ، وكان الوقتُ شِتاءً، فقاسَوا من الأمطار مشقاتٍ كثيرة، وأقاموا نحو شهرين، فاستعَدَّ لهم المَلِكُ الناصر، وجمع الرجالَ وأنفق فيهم مالًا كثيرًا، وفَرَّق فيهم الأسلحةَ المُرصَدة بقلعة الكرك، ورَكِبَ المنجنيق الذي بها، ووقَعَ بينهم القتالُ والحصارُ، واشتَدَّ الحصارُ على المَلِك الناصر بالكرك، وضاقت عليه هو ومن معه لقِلَّة القوت، وتخلَّى عنه أهل الكرك، وضَجِروا من طولِ الحصار، ووعَدوا الأمراءَ بالمساعدة عليه، فحُمِلَت إليهم الخِلَع ومبلغَ ثمانين ألف درهم، هذا وقد استهَلَّ السلطان في أول سنة 745 بتجريدةٍ ثامنة إلى الكرك، وعيَّنَ فيها الأمير منكلي بغا الفخري والأميرَ قماري والأمير طشتمر طلليه؛ ولم يجِد السلطانُ في بيت المال ما ينفِقُه عليهم، فأخذ مالًا من تجارِ العَجَم ومن بنت الأمير بكتمر الساقي على سبيل القَرضِ، وأنفق فيهم، وخرج المجرَّدون في يوم الثلاثاء حادي عشر المحرم سنة 745، وهؤلاء نجدة لمن توجَّه قبلهم خوفًا أن يمَلَّ مَن كان توجَّه من القتال، فيجِدَ النَّاصِرُ فرجًا بعَودِهم عنه، وقُطِعَت الميرة عن الملك الناصر، ونَفِدَت أموالُه من كثرة نفقاته، فوقع الطَّمَعُ فيه، وأخَذَ بالغ- وكان أجَلَّ ثقات الناصر- في العمل عليه، وكاتَبَ الأمراء ووعدهم بأنه يُسَلِّمَ إليهم الكرك، وسأل الأمانَ، فكُتِب إليه من السلطانِ أمانٌ، وقَدِمَ إلى القاهرة ومعه مسعودٌ وابن أبي الليث، وهما أعيانُ مشايخ الكرك، فأكرمهم السلطان وأنعم عليهم، وكتب لهم مناشيرَ بجميع ما طلبوه من الإقطاعاتِ والأراضي، وكان من جملة ما طلبه بالِغ وحده نحو أربعمائة وخمسين ألف درهم في السنة، وكذلك أصحابُه، ثم أعيدوا إلى الكركِ بعدما حلفوا، ثم ركب العسكر للحرب، وخرج الكركيون فلم يكن غيرُ ساعة حتى انهزموا منهم إلى داخِلِ المدينة، فدخل العسكر أفواجًا واستوطنوها، وجَدُّوا في قتال أهل القلعةِ عِدَّة أيام، والناسُ تَنزِلُ إليهم منها شيئًا بعد شيءٍ حتى لم يبقَ عند الملك الناصر أحمد بقلعةِ الكرك سوى عشرة أنفُس، فأقام يرمي بهم على العسكر وهو يجِدُّ في القتال ويرمي بنفسِه، وكان قويَّ الرميِ شُجاعًا، إلى أن جُرِحَ في ثلاثة مواضع، وتمكَّنَت النقابة من البرج وعَلَّقوه وأضرموا النار تحته، حتى وقع، وكان الأميرُ سنجر الجاولي قد بالغ أشَدَّ مبالغة في الحصار، وبذل فيه مالًا كثيرًا، ثم هجم العسكرُ على القلعة في يوم الاثنين الثاني والعشرين من صفر سنة 745 فوجدوا الناصِرَ قد خرج من موضِعٍ وعليه زردية، وقد تنكَّب قَوسَه وشَهَر سَيفَه، فوقفوا وسَلَّموا عليه، فردَّ عليهم وهو متجَهِّم، وفي وجهِه جرحٌ وكَتِفُه أيضًا يسيلُ دمًا، فتقَدَّم إليه الأمير أرقطاي والأمير قماري في آخرين، وأخذوه ومَضَوا به إلى دهليز الموضِعِ الذي كان به وأجلَسوه، وطَيَّبوا قلبه وهو ساكِتٌ لا يجيبهم، فقَيَّدوه ووكَلوا به جماعة، ورتَّبوا له طعامًا، فأقام يومَه وليلته، ومن باكِرِ الغد يُقَدَّمُ إليه الطعام فلا يتناوَلُ منه شيئًا إلى أن سألوه أن يأكُلَ، فأبى أن يأكُلَ حتى يأتوه بشابٍّ يقال له عثمان، كان يهواه، فأتوَه به فأكل عند ذلك، وخرج الأميرُ ابن بيبغا حارس طير بالبشارةِ إلى السلطانِ الملك الصالح، وعلى يَدِه كتب الأمراء، فقَدِمَ قلعة الجبل في يوم السبت ثامن عشرين صفر، فدُقَّت البشائِرُ سبعة أيام، وأخرج السلطانُ منجك اليوسفي الناصريَّ السلاح دار ليلًا من القاهرة لقَتلِ الملك الناصر أحمد من غير مشاورةِ الأمراء في ذلك، فوصل إلى الكرك وأُدخِلَ على الملك الناصر وأخرَجَ الشابَّ مِن عنده، ثم خنَقَه في ليلة رابع شهر ربيع الأول، وقَطَع رأسه، وسار من ليلته ولم يَعلَمِ الأمراءُ ولا العسكَرُ بشيء من ذلك، حتى أصبحوا وقد قطع منجك مسافة بعيدةً، وقدم منجك بعد ثلاثةِ أيام قلعة الجبل ليلًا، وقَدَّم الرأسَ بين يدي السلطان- وكان ضخمًا مهولًا له شعر طويل- فاقشعَرَّ السلطان عند رؤيته وبات مرجوفًا، وطلب الأمير قبلاي الحاجب، ورسم له أن يتوجَّهَ لحفظ الكرك إلى أن يأتيَه نائبٌ لها، وكتب السلطانُ بعود الأمراء والعساكر المجردين إلى الكرك، فكانت مُدَّةُ حصار الملك الناصر بالكرك سنتين وشَهرًا وثلاثةَ أيام.
حاول الحلفاءُ إبقاءَ الدولة العثمانية على الحياد بإغرائِها بالقروض المالية، وإلغاء الامتيازات الأجنبية التي كانت قائمةً والتي كانت سببًا في كثير من المشكلات الداخلية، والسماح للبحَّارة الألمان بالعودة إلى ألمانيا، غيرَ أنَّ حكومة الاتحاد والترقي رفضت هذا كلَّه، وألغت الامتيازاتِ الأجنبيةَ بنفسها، وقدَّمت مذكِّرةً للحلفاء تطلب منهم إلغاء الامتيازات الأجنبية، وخروج إنجلترا من مصر، وإعادة الجُزُر في بحر إيجة للدولة العثمانية، ومنع روسيا من التدخُّل في الشؤون الداخلية للدولة العثمانية.
حاول الحلفاء التأخرَ في رد الجواب، وانقطعت العلاقاتُ. وكانت ألمانيا قد تقدَّمت في الأراضي الفرنسية، ولكنها توقَّفت عند نهر المارن أحد روافد نهر السين الذي يمرُّ من العاصمة باريس، فرأى الألمان يومذاك أن يضغطوا على الدولة العثمانية كي تشتركَ في الحرب إلى جانِبِهم، فعرضوا على الاتحاديين قرضًا ماليًّا بمبلغ خمسة ملايين ليرة ذهبية عثمانية مقابِلَ دخولهم إلى جانبهم، فأمر وزيرُ الحربية أنور باشا الأسطولَ العثماني بالتحَرُّك إلى البحر الأسود وضَرْب مرافئ روسيا على البحر الأسود، فلم يوافِقْ وزير البحرية جمال باشا، وكاد الخلافُ يقع بينهما إلا أن جمال عاد وامتثل لرأي أنور، وخاصةً أن القرض الألماني كان من أهم المغريات له. أعلنت الدولةُ العثمانية دخولَها الحربَ وانضمامَها إلى دول المحور ضِدَّ الحلفاء.كانت السيطرةُ على مقاليد الحكم في الدولة بيد الاتحاديين منذ عزل السلطان عبد الحميد الثاني؛ لذلك كان السلطان العثماني محمد الخامس رشاد ضِدَّ الحرب، ولكِنْ ليس له من الأمر شيءٌ، وأُجبر السلطانُ على قبول الأمر، وأعلن الجهاد الإسلامي ضد دول الحلفاء، لكن هذا الإعلان لم يجد صدًى عند المسلمين لعِلمِهم أنَّ الألمان نصارى مثل أعدائِهم من الحُلُفاء، فكُلُّهم كفَّار، فلم الخوض وإراقةُ دماء المسلمين في خصومةٍ بين الكُفَّار!! واشتعلت نارُ الحرب بين الحلفاء والدولة العثمانية على عِدَّةِ جبهات وقد جمعت الدولة بعد التعبئة نصف مليون جندي تحت السلاح وربع مليون تحت التدريب، والاحتفاظ بمائتي ألف جندي حول العاصمة والدردنيل، وأُرسل إلى فلسطين أربعون ألفًا وأكثر من مئة ألف على شكل قطعات موزعة في سوريا والقوقاز، وهاجم العثمانيون الروسَ مِن ناحية القوقاز لتخفيفِ الضغط عن الألمان غيرَ أنهم فَشِلوا وتراجعوا إلى أرضورم، أما على الجبهة المصرية فأرادت الدولةُ قطع قناة السويس عن إنجلترا، ولكِنْ تأخَّر مسيرُهم إليها بسبب فرار كثيرٍ مِن الجيش الشامي، فاضطر أن يستبدل به آخر من الأناضول؛ ولصعوبة إيصال المدافع إلى سيناء، ولإبقاء قطعات على سواحل الشام للخَوفِ من النصارى الكاثوليك التابعين لفرنسا، وأكثرهم في بيروت، ومن النصارى الأرثوذكس التابعين للروس، وهم متوزِّعون في بلاد الشام، ثم وصلت القوات العثمانية إلى القناة التي كان يحميها الهنودُ، ونَفِدَت الذخيرة العثمانية ولم تستطِعْ فعل شيء، فرجعت لقواعدها في غزة ومعان، وبعد شهرين جرت محاولةٌ أخرى للهجوم، وقاد الألمان العملياتِ ولكِنَّهم فشلوا أيضًا وأُعيدت الكَرَّة بعد ثلاثة أشهر وأيضًا فَشِلت، وأما على صعيد اليمن فكان الهدفُ هو قطع الطريق على الإنجليز إلى الهند ولم تنجح أيضًا، وعلى جبهة الدردنيل فقد كانت محصنةً من البر والبحر، وكانت قواتُ الحلفاء قريبةً من المضيق وقامت القوات العثمانية بالهجومِ عليها، لكنهم فشلوا أيضًا، وأما الإنجليز الذين استطاعوا جرَّ العرب لهم فتحركوا وهاجموا العثمانيين في سيناء وجبل الدروز وبعلبك، وتراجع الجيش العثماني وأصيب بالمجاعة أيضًا، وتقدَّم الإنجليز في فلسطين بقيادة الجنرال اللنبي ودخلوا القدس وأعلن يومها اللنبي صليبيته، فقال: الآن انتهت الحروب الصليبية، ثم قام الإنجليز بالهجوم على نابلس فتراجع الألمان والعثمانيون، ووصل الفيلق العربي بقيادة فيصل بن الحسين بمساعده لورانس الإنجليزي ودخلوا معان ودمشق، فأصبحت بلاد الشام في قبضة فيصل والإنجليز، وأما المعارك على مضيق الدردنيل فكانت متوازيةً، فلم ترجح كفَّة أيٍّ من المعسكرين على الآخر مع بدء ظهور مصطفى كمال ولمعان نجمه في هذه المعارك، ومع انسحاب العثمانيين من الشام والعراق بدأ الضعفُ يظهر عليهم وعلى حلفائهم الألمان إلى أن التقى المسؤولون العثمانيون مع الإنجليز على ظهر الباخرة الإنجليزية أغامنون، ووُضِعَت شروط هدنة مودروس، وأعلنت الدولة استسلامَها، فكان الاتحاديون في أثناء حكمهم القصير قد أضاعوا كلَّ أجزاء الدولة في أوربا؛ حيث استقلت بلغاريا، واحتَلَّت النمسا البوسنةَ والهرسك، وأخذ اليونانيون جزيرةَ كريت، واحتلت إيطاليا بعض جزر البحر المتوسط، وهكذا ضَعُفت الدولة العثمانية، وأصبحت على شفا الهاوية، وازداد ضعفها على ما كانت عليه.
هو السُّلطانُ الغازي أبو الفتح غيَّاث الدنيا والدين: مراد الأول بن أورخان بن عثمان القايوي المعروف بغازي خداوندكار، التُركماني، ولِدَ سنة 726 (1326م). لَمَّا توفِّيَ والده الغازي أورخان سنة 761 جلس على سرير السلطنة, ووُلِدَ ابنُه السلطان يلدرم بايزيد خان عقيب جلوسِه على سرير السلطنة, ولما استَقَرَّ على سرير الملك كان الغزاةُ في روم إيلي منتظرينَ قُدومَه إليهم، فسار وجاوز البحر فاحتَلَّ مدينة أنقرة مقَرَّ سلطنة القرمان، ثم افتتح مدينة أدرنه في أوروبا في هذه السنة، ونقل إليها عاصمته واستمَرَّت عاصمة للدولة العثمانية إلى أن فتح محمد الفاتح مدينة القُسطنطينية سنة 853 (1453م) وفتح أيضًا مراد الأول مدينةَ فيلبه عاصمة الرومللي الشرقية، وفتح القائد أفرينوس بك مدينتي وردار وكلجمينا باسم سلطان العثمانيين، وبذلك صارت مدينة القسطنطينية محاطةً مِن جهة أوروبا بأملاك آلِ عُثمان منذ عَهْدِ مراد الأول, وصارت الدولة العَليَّة متاخمةً لإمارات الصرب والبلغار وألبانيا المستقلة, ولَمَّا دخل الربيع في شعبان سنة 791 خرج السلطان مراد الأول بجيشٍ عَرَمرم فالتقى في أول شهر رمضان بالصِّربِ، وانتصر عليهم, فبينما كان السلطان يتفرج بين القتلى مع أصحابه إذ نهض من بين الصرعى رجلٌ من الصرب، وكان من أمرائِهم، فقصد السلطان، فهَمَّ الحواشي أن يمنَعُوه فنهاهم السلطانُ فجاء كأنَّه يُظهِرُ الطاعة، فضربه بخنجر كان قد خبَّأه في كمِّه فجَرحَه جُرحًا مُنكرًا فلَحِقَ القوم ذلك الصربي فقَتَلوه، ثم خَيَّموا على السلطان طاقةً، فأنزلوه فيها، فلم يمض عليه يوم حتى توفي, فتكون مدةُ سلطنته إحدى وثلاثون سنة، وعمره خمس وستون. وكان قد بنى لنفسِه تربة في قرب جامعه بقبلوجه، فحملوه إلى بروسا –بورصة- مع تابوت ابنه يعقوب جلبي، فدفنوهما في تلك القبَّة، وبنيت قبة في موضع شهادته. قال حاجي خليفة: "كان مرادُ الأول من أجلِّ الملوك قَدْرًا ودِينًا، وكان دائِمَ الغَزوِ بحيث أفنى عمُرَه في الجهاد، وكان منصورًا في حروبه كثيرَ الخير، مواظِبًا على الجماعات في الصَّلَواتِ" ثم جلس على سرير السلطنة بعده ابنُه السلطان بايزيد الأول.
في الوقتِ الذي كانت الحربُ دائرةً بين الشريف غالب وعثمان المضايفي في الطائفِ، كان الأميرُ سعود بن عبد العزيز يجمَعُ البواديَ والحاضرة في السبلة الموقع القريب من بلدة الزلفي، فلما اجتمعوا إليه رحَلَ بهم إلى الحجاز ونزل العقيقَ المعروف عند المعان، وكان ذلك وقتَ الحَجِّ, وكانت الحُجَّاج الشاميَّة والمصريَّة والمغربية وغيرُهم في مكة، وهم في قوَّةٍ هائلةٍ وعُدَّة عظيمة، فهَمُّوا بالخروج إلى سعود والمسير إلى قتاله، ثم تخاذَلوا وفسَد أمرُهم وانصرفوا إلى أوطانِهم، فألقى الله الرعبَ في قلب الشريفِ غالب وهو في مكَّة فلم يستقِرَّ فيها، فانهزم إلى جُدَّةَ هو وأتباعُه من العساكِرِ، وحمل خزائِنَه وذخائِرَه وبعضَ متاعِه وشوكتِه, وترك أخاه عبد المعين في مكَّةَ يدبِّرُ شؤونها فكتب عبد المعين إلى الأمير سعود يَعرِضُ عليه السَّمعَ والطاعة وعلى أن يستبقيَه في إمارةِ مكَّةَ، وأرسل الكتابَ مع بعض علماء مكة, فلما اجتمع هؤلاء العلماءُ بالأمير سعود في السَّيلِ وعرضوا عليه الكتاب قَبِلَ ما فيه وأعطاهم كتابًا بالأمان وموافقتِه على بقاءِ ولاية الشريف عبد المعين على مكَّةَ, ثم إنَّ سعودًا وجموعه أحرموا بالعُمرة، ودخلوا مكَّةَ واستولَوا عليها بدون قتال، وأعطى أهلَها الأمانَ وبذَلَ لهم من الصَّدَقاتِ والعطاء الشيءَ الكثير, فلما قضى سعودٌ العمرة فرَّق أهلَ النَّواحي يهدِمونَ القبابِ التي بُنِيت على القُبورِ والمشاهِدِ الشِّركيةِ بأنفُسِهم ففعلوا، وكان في مكَّةَ من هذا النوع شيءٌ كثيرٌ في أسفَلِها وأعلاها ووسَطَها وبيوتها، فأقام فيهم أكثَرَ من عشرينَ يومًا وأهل مكَّةَ يهدمونَها، حتى لم يبقَ مِن تلك المشاهِدِ والقِبابِ إلا أعدموها وجعلوها ترابًا! كانت العادة أن يصلِّيَ في المسجِدِ الحرامِ بالجماعةِ الحاضرةِ أحدُ الأئمَّةِ من المذاهب الأربعةِ، ثم يتلوه غيرُه، فأمر الأميرُ سعود بإبطال تلك العادةِ وألَّا يصلِّي في المسجِدِ الحرام إلَّا إمامٌ واحدٌ، فيصلي الصُّبحَ الشافعيُّ، والظُّهرَ المالكيُّ، وهكذا بقية الأوقات، ويصلِّي الجمعةَ مفتي مكَّةَ عبد الملك القلعي الحنفي, وأمر بتدريس كشفِ الشبُهاتِ في المسجد الحرام في حَلقةٍ يحضُرُها العلماء والأهالي ففعلوا, وكان الشريفُ في هذه المدةِ يراسل سعودًا، وطلبَ الصُّلحَ وبَذَل المالَ، وهو يريد أن يحصِّنَ جُدَّة.
هو الإمام يحيى بن محمد بن يحيى حميد الدين الحسني العلويُّ الطالبي: ملك اليمن، الإمام المتوكل على الله ابن المنصور بالله، من أئمة الزيدية. وُلِدَ بصنعاء، وتفقَّه وتأدب بها، وخرج منها مع أبيه إلى صعدة سنة 1307 هـ وولي الإمامةَ بعد وفاة أبيه سنة 1322هـ في "قفلة عذر" شماليَّ صنعاء. وكانت صنعاءُ في أيدي العثمانيين فحاصرها، حتى استسلمت له حاميتها ودخلها، فأعادوا الكرَّةَ عليها، فانسحب منها، وواصل القتالَ شماليَّ صنعاء وبلاد ذمار إلى سنة 1326، واشتدَّت المعارك ولَقِيت الجيوش العثمانية الشدائدَ في تلك الديار، فأرسلت حكومة الأستانة وفدًا برئاسة عزت باشا اتَّفق مع الإمام يحيى، وأمضيا شروطًا للصلح، وانتهى الأمر بجلاء الترك عن البلاد اليمنية سنة 1336 بعد دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى. دخل الإمام صنعاء، وخَلَص له مُلكُ اليمن استقلالًا. وطالت أيامه، وهو كلُّ شيء في اليمن، ومرجِعُ كل أمرٍ دقَّ أو جَلَّ، وما عداه من موظفين وعمال وعسكر وحكام أشباحٌ وشخوصٌ لا سلطان لهم ولا رأي، وكان شديدَ الحذر من الأجانب، آثَرَ العزلة والانكماش في حدود بلاده. وله اشتغال بالأدب ونظمٌ كثير. ومن كلامه: "لَأن تبقى بلادي خَرِبةً وهي تحكُمُ نفسَها، أولى من أن تكون عامرةً ويحكمها أجنبي"، وكان يرى الاستبدادَ في الحكم خيرًا من الشورى، حتى ضاقت صدورُ بعض بنيه وخاصته، وفيهم الطامع بالعرش، والمتذمِّر من سياسة القمع، والراغب بالإصلاح، فتألَّفت جماعات في السرِّ تظهر له الإخلاص وتُبطِن نقيضَه، وعلى رأس هؤلاء أقرب الناس إليه: عبد الله بن أحمد المعروف بابن الوزير، وخرج ولد له يدعى إبراهيم عن طاعته، فلجأ إلى عدن، وجعل دأبه التنديدَ بأبيه والتشهيرَ بمساوئ الحكم في عهده. وكان هذا على اتصالٍ بابن الوزير وحزبِه، ومرض الإمام يحيى، فدبَّر ابن الوزير مَن قتَلَه في 17 فبراير، ودُفِن في مقبرة كان قد أعدَّها لنفسه. وخلَّف 14 ولدًا يلقَّبون بسيوف الإسلام. وبعد مقتلِه نصب عبد الله ابن الوزير نفسَه إمامًا لليمن، لكِنَّ حكمه لم يدم أكثر من 24 يومًا؛ فقد ثار عليه سيف الإسلام أحمد ابن الإمام يحي وانتزع منه الحكم وقتَلَه.
لمَّا بلغ الملك المظفَّر سيف الدين قُطز صاحِبَ مِصرَ أنَّ التتارَ قد فعلوا بالشَّامِ ما فعلوه، وقد نهَبوا البلاد كلَّها حتى وصلوا إلى غزَّة، وقد عزم كتبغانوين نائب هولاكو في الشام على الدخولِ إلى مصر، وكان إذ ذاك في البقاع فاستشار الأشرفَ صاحِبَ حمص والمجير بن الزكي، فأشاروا عليه بأنَّه لا قِبَل له بالمظفَّر حتى يستَمِدَّ هولاكو فأبى إلا أن يناجزه سريعًا، فبادرهم المظفَّر قطز قبل أن يبادِروه ويبرز إليهم وقد اجتمعت الكلمةُ عليه، فبعد قدومِ الصاحب كمال الدين بن العديم رسولًا من الشام يطلبُ النَّجدةَ على التتار، جمعَ قُطز الأمراءَ والأعيان، وحضر معهم الشيخُ عز الدين بن عبد السلام والقاضي بدر الدين السنجاري، وجلس المَلِكُ المنصور في دَست السلطنة، فاعتمدوا على ما يقولُه الشيخ عز الدين، فكان خلاصته: "إذا طرق العدوُّ البلادَ وجب على العالمَ كُلِّهم قتالُهم، وجاز أن يؤخَذَ مِن الرعيَّة ما يُستعانُ به على جهادِهم، بشرط ألَّا يبقى في بيتِ المال شيءٌ، وأن تبيعوا ما لكم من الحوائِصِ والآلاتِ، ويَقتَصِر كل منكم على فَرَسِه وسلاحِه، ويتساووا في ذلك هم والعامَّة، وأما أخذ أموال العامة مع بقاءِ ما في أيدي الجُندِ مِن الأموال والآلاتِ الفاخرةِ فلا"، ثم بعد أيامٍ يسيرةٍ قَبَضَ على المنصور علي بن المعز وقال: هذا صبيٌّ والوقت صعبٌ، ولا بد من أن يقوم رجلٌ شجاع ينتصب للجهادِ فقبض عليه، وتسلطَنَ وتلقَّبَ بالملك المظفر. ثم قَدِمَ الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري من دمشق مهاجرًا إلى مصرَ؛ لخدمة الملك المظفر سيف الدين قطز, فدخل القاهرةَ يوم السبت ثاني وعشرين ربيع الأول سنة ثمان وخمسين، فركب المظفَّر للقائه وأنزله في دارِ الوَزارة وأقطعه قَصبةَ قيلوب لخاصَّتِه، وأشار عليه بيبرس بملاقاة التتار وقَوَّى جأشَه وحَرَّك عزائمه وحرَّضَه على التوجه للقائهم, فخرج المظفَّر قطز يوم الاثنين خامس عشر شعبان بجميع عساكِرِ مِصرَ مع ما انضاف إليهم من العَرَب وغيرهم لقصدِ التتار الذين بالشَّامِ، فلما وصل إلى مرج عكا بلغ بكتبغانوين، مُقَدَّمَ عسكر التتار بالشام خروجُ الملك المظفَّر، وكان في بلد حمص فتوجَّه إلى الغور، وبعث الملك المظفر للأمير ركن الدين البندقداري في عسكرٍ ليتجَسَّس خبَرَ التتار، فلما وقعت عينُه عليهم كتب للملك المظفر يعلِمُه بوصولهم ثمَّ انتهز الفرصةَ في مناوشتهم، فلم يزل يستدرجُهم تارة بالإقبال وتارة بالإحجام حتى وافى بهم إلى المَلِك المظفَّر على عين جالوت فكانت الوقعةُ التي أيَّدَ الله بها المُسلِمينَ على التتارِ، وأخَذَ بها منهم ثأرَ أهلِ الوَبَر والمَدَر، وحاقَ بهم مَكرُ السَّيفِ، وحكَمَ فيهم الحَتفُ بالحَيفِ، وقَتَلوهم وأخذوهم ومعهم مَلِكُهم كتبغانوين، فقُتِلَ وأُخِذَ رأسُه وأُسِرَ ابنه، وكانت الوقعةُ بين المسلمين والتتار على ((عين جالوت)) يومَ الجمعة خامس وعشرين من شهر رمضان المعظَّم، ووصل الخبَرُ إلى دمشق في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان فانهزم بتلك الليلة من كان بدمشقَ مِن التتار وأيل سبان نائب الملك وأتباعهم، وتبعهم النَّاسُ وأهل الضياع ينهبونهم ويقتلونَ مَن ظَفِروا به، فلله الحمدُ والشُّكر, ودخل السلطانُ الملك المظفَّر إلى دمشق يوم الأحد رابع شوال، فأقام بها إلى أن خرج منها طالبًا للدِّيار المصرية, ومن العجائِبِ أن التتار كُسِروا وأُهلِكوا بأبناء جنسِهم المماليكِ، وهم من التركِ!! وعَمِل الشيخُ شهاب الدين أبو شامة في ذلك شِعرًا:
غلبَ التَّتارُ على البلادِ فجاءهم
مِن مِصرَ تركيٌّ يجودُ بنَفسِه
بالشَّامِ بدَّدَهم وفَرَّق شَملَهم
ولكلِّ شَيءٍ آفةٌ مِن جِنسِه
وقد قاتل الملكُ المنصورُ صاحِبُ حماة مع المَلِك المظفَّر قِتالًا شَديدًا، وكذلك الأميرُ فارس الدين أقطاي المستعرب، وكان أتابك العسكَر، وقد أُسِرَ من جماعة كتبغانوين المَلِك السعيد بن العزيز بن العادل فأمَرَ المظفَّر بضَرب عُنُقِه، واستأمن الأشرفُ صاحِبُ حمص، وكان مع التَّتارِ وقد جعله هولاكو خان نائبًا على الشام كُلِّه، فأمنه الملك المظفَّر ورَدَّ إليه حمص، وكذلك ردَّ حماة إلى المنصور وزاده المَعَرَّة وغيرها، وأطلق سلمية للأميرِ شَرَف الدين عيسى بن مهنا بن مانع أمير العرب، واتَّبَع الأميرُ بيبرس البندقداري وجماعةٌ من الشجعان التتارَ يقتُلونَهم في كل مكان، إلى أن وصلوا خلفَهم إلى حَلَب، وهرب مَن بدمشقَ منهم يوم الأحد السابع والعشرين من رمضان، فتبعهم المسلمون من دمشق يقتلونَ فيهم ويفتِكونَ الأسارى من أيديهم، وجاءت بذلك البشارةُ، ولله الحمدُ على جبرِه إيَّاهم بلُطفِه فجاوبتها دقُّ البشائر من القلعة، وفرح المؤمنون بنصر الله فرحًا شديدًا، وأيَّدَ اللهُ الإسلامَ وأهله تأييدًا وكَبَت الله النصارى واليهودَ والمنافقين، وظهر دينُ الله وهم كارهون، فتبادر عند ذلك المسلمونَ إلى كنيسة النصارى التي خرج منها الصَّليبُ فانتَهَبوا ما فيها وأحرقوها وألقوا النَّارَ فيما حولها، فاحترق دُورٌ كثيرةٌ إلى النصارى، وملأ اللهُ بيوتَهم وقبورَهم نارًا، وأُحرِقَ بعضُ كنيسةِ اليعاقبة، وهمَّت طائفةٌ بنَهبِ اليهود، فقيل لهم إنَّه لم يكن منهم من الطغيانِ كما كان من عَبَدة الصُّلبان، وقَتَلَت العامَّة وسطَ الجامِعِ شَيخًا رافضيًّا كان مُصانِعًا للتتار على أموالِ النَّاسِ يقال له الفخر محمد بن يوسف بن محمد الكنجي، كان خبيثَ الطويَّة مشرقيًّا ممالئًا لهم على أموالِ المسلمين- قبَّحه الله- وقَتَلوا جماعةً مِثلَه من المنافقين، فقُطِعَ دابِرُ القَومِ الذين ظَلَموا والحمدُ لله رب العالَمينَ.
منَعَ الحاكِمُ صاحِبُ مِصرَ النِّساءَ مِن الخروجِ مِن منازلهم، أو أن يَطَّلِعنَ مِن الأسطِحةِ أو الطَّاقاتِ، ومنَعَ الخَفَّافينَ مِن عَمَلِ الخِفافِ لهن، ومنَعَهنَّ مِن الخروجِ إلى الحَمَّامات، وقتَلَ خَلقًا مِن النساءِ على مخالفتِه في ذلك، وهدَمَ بَعضَ الحَمَّامات عليهنَّ، وجَهَّزَ نساءً عَجائِزَ كثيرةً يَستَعلِمنَ أحوالَ النِّساءِ لِمَن يَعشَقْنَ أو يَعشَقُهنَّ، بأسمائِهنَّ وأسماءِ مَن يتعَرَّضُ لهن، فمَن وجَدَ منهن كذلك أطفأها وأهلَكَها، ثم إنَّه أكثَرَ مِن الدورانِ بنَفسِه ليلًا ونهارًا في البلد، في طلَبِ ذلك، وقد أكَّدَ على هذا المرسومِ في العام التالي، وبقي على ذلك من المنعِ إلى هلاكِ الحاكِمِ.
حاصَرَ بغا مدينة تفليس، وعلى مقَدِّمته زيرك التركي، فخرج إليه صاحبُ تفليس إسحاقُ بنُ إسماعيل فقاتله، فأُسِرَ إسحاق، فأمر بغا بضَربِ عُنُقِه وصَلبِه، وأمَرَ بإلقاء النارِ في النفطِ إلى نحو المدينة، وكان أكثَرُ بنائها من خشَبِ الصَّنَوبر، فأَحرَقَ أكثَرَها، وأحرقَ من أهلِها نحوًا من خمسين ألف إنسان، وخَمِدَت النار بعد يومينِ; لأنَّ نارَ الصنوبر لا بقاء لها، ودخل الجندُ فأسَروا من بقي من أهلِها، واستَلَبُوهم حتى استَلَبوا الموتى. ثمَّ سار بغا إلى مدنٍ أخرى ممَّن كان يمالئُ أهلُها مع من قَتَل نائبَ أرمينية يوسُفَ بن محمد بن يوسف؛ أخذًا بثأره، وعقوبةً لِمَن تجرَّأ عليه.
حاول الباطنية الإسماعيلية الاستيلاءَ على حصن شيزر مستغلين خروج أصحابه بني منقذ منه، ولكنَّ بني منقذ أدركوهم وقاتلوهم حتى أخرجوهم من الحصن وقُتل من الطرفين الكثير، كما قام الباطنية الإسماعيلية باغتيال عدد من القضاة، منهم: قاضي أصبهان عبيد الله بن علي الخطيبي، وقتلوا قاضي نيسابور صاعد بن محمد أبو العلاء البخاري، وقتلوا أيضًا قاضي آمد عبد الواحد بن إسماعيل الروياني الشافعي، وقام في السنة التالية بعض الباطنية على الوزير أبي نصر بن نظام الملك لقتله، فضربوه بالسكاكين فجرحه أحدُهم في رقبته، ثم أُخِذ الباطني فسُقِيَ الخمر فأقرَّ على جماعة من الباطنية، فأُخذوا فقُتلوا.
بعد أن استطاع الموحِّدون إخراجَ عليِّ بنِ أحمد من بني خراسان من إفريقيا وطرَدوا النورماند من المهديَّة ووصلوا إلى بُرقةَ، واستَخلَفَ عليها عبدُ المؤمن أبا محمد عبد السلام الكورميَّ، وجعل العاصمة تونس، ثم جاء الأميرُ يعقوب المنصور الذي خرج عليه يحيى بن إسحاق المنورقي المعروف بابن غانية، فقام بالثورة عليه حتى كاد يُنهي دولةَ الموحِّدينَ إلَّا قليلا خلال الفترة من 580 إلى 604 حتى اضطُرَّ السلطان الموحدي للحضورِ ومعه أبو محمد عبد الواحد الحفصي سنة 602؛ لإخماد ثورة ابن غانية حيث استطاع إخمادَها وهرب ابن غانية إلى أسبانيا، وكان هذا أيضًا بدءًا لظهور قوة الدولة الحَفصيَّة.
هو المَلِكُ المؤيَّد هزبر الدين داودُ بن الملك المظفَّر يوسف بن عمر بن رسول التركماني الأصل اليمني المولِد والمنشأ والوفاة صاحِبُ ممالك اليمن، تسلطنَ بعد أخيه في المحرَّم سنة 696 فملَك نيفًا وعشرينَ سنة، وكان قبل سلطنته تفَقَّه وحَفِظَ كفايةَ المتحَفِّظ، ومُقَدِّمة ابن بابشاذ، وبحث التنبيه وطالعَ وفضل وسمع الحديث، وجمعَ الكتب النفيسةَ في سَلطنَتِه، حتى قيل إن خزانةَ كُتُبِه اشتملت على مائة ألف مجلَّد، وكان مشكور السيرة محبًّا لأهل الخير وكانت وفاتُه في ذي الحجة، وتولى بعده ابنه الملك المجاهد علي، واضطربت ممالِكُ اليمن بعد موتِه، وتولَّى عِدَّةُ سلاطينَ.
عُقِدَت اتفاقيَّةٌ جانبية بين الدولة العثمانية وروسيا باسم (خونكار أسكله سي) تعهَّدت فيها روسيا بالدفاع عن الدولة ضِدَّ جيوش محمد علي أو أي معتدٍ آخر، وبذلك أصبح بإمكانِها التدخل في شؤون الدولة الخاصة وقتما تريد. وتُعتَبَرُ هذه المعاهدة قمةَ النفوذ الروسي في الدَّولةِ العثمانية والتي نَصَّت على: عقدِ تحالفٍ بين الدولة العثمانية وروسيا. عقدِ اتفاقية دفاعٍ مُشترك بين الدولة العثمانية وروسيا. مَنحِ روسيا حقَّ حماية الرعايا النصارى في البلقان. وحماية الأراضي المقدسة. وحق حرية الملاحة في المضائق والمياه العثمانية, وإغلاقها أمامَ السفن الحربية الأوروبية. وقد استمرت هذه المعاهدةُ لمدة ثماني سنواتٍ.
بعدَ أنِ انتهَت الحربُ الباكستانية الهِنْدية الثالثة التي لم تَستمِرَّ إلا أسبوعينِ، وانتهَت بهزيمة الجيشِ الباكستاني هَزيمة مُنكَرةً، أُسِر فيها 93 ألفَ جُنديٍّ باكستاني. كما أدَّت إلى انفصال القِسم الشرقيِّ من باكستانَ وقِيام دولة بنغلاديش، فخرَجَت مُظاهراتٌ في باكستانَ تطالِبُ باستمرار الحرْب، وتقديمِ الرئيسِ يحيى خان للمُحاكَمة بسبب تَقصيرِه، فاسْتَدعى الرئيسُ يحيى خان من نيويورك ذا الفقار علي بوتو (الذي كان هناك يَعرض قضيَّة بِلاده على هيئة الأُمَم)، فسلَّمه السُّلطة في 3 من ذي القعدة / 20 ديسمبر؛ ليصبحَ رئيسًا لباكستان، وغادر يحيى خان البلادَ إلى إيرانَ، لكنه لم يَلبَثْ طويلًا فعاد، وبقِيَ تحت الإقامة الجَبْرية في بَيته.