تَجَمَّعَت الفِرنجُ، وحَشَدَت الفارِسَ والرَّاشِدَ، وساروا نحوَ نُورِ الدين محمود، وهو ببلاد جوسلين، ليَمنَعوه عن مِلْكِها، فوَصَلوا إليه وهو بدلوك، فلمَّا قَرُبوا منه رجَعَ إليهم ولَقِيَهم، وجرى المصافُّ بينهم عند دلوك، واقتَتَلوا أشَدَّ قِتالٍ رآه النَّاسُ، وصَبَرَ الفريقان، ثم انهزمَ الفِرنجُ، وقُتِلَ منهم وأُسِرَ كَثيرٌ، وعاد نور الدين محمود إلى دلوك، فمَلَكَها واستولى عليها.
هو الأمير سيف الدين أبو بكر بن أسبهسلار وقد ولي شرطةَ مِصرَ عِدَّةَ سنين، وكان موصوفًا بالكرم المفرط، خيِّرًا في أموره، يشكُره الناس, وكان ممن زاد به السِّمَن– زيادة الوزن- حتى قاسى منه شِدَّة، وأشار عليه الطبيب بعدم النوم على جنبٍ، وبقي مدة لا يرمي جنبَه إلى الأرض خوفًا من أن يغرق في النومِ فيموت. مات في ربيع الآخر من هذه السنة، ودُفِنَ في القرافة.
في هذه السَّنةِ كان الغلاءُ والقحطُ في نجدٍ على حالِه في الشدَّةِ، وانتهى سعرُ البُرِّ أربعة أصوع بريال، والتمر عشر وزنات بريال، وعَمَّ الغلاء جميعَ نواحي نجد واليمن والتهايم والحجاز والأحساء, ووقع مع ذلك مرضٌ ووباءٌ مات فيه خلقٌ كثير من نواحي نجد، ودخلت السنةُ التالية والأمرُ على حالِه من الغلاءِ والمرضِ، ومات فيها والسَّنةِ التي قبلها مئاتٌ من سوادِ النَّاسِ.
لَمَّا أراد السُّلطانُ مسعود الرَّحيلَ مِن بغداد، أشار عليه الأميرُ المهلهل أن يَحبِسَ عليَّ بن دبيس بقلعةِ تكريت، فعَلِمَ ذلك، فهَرَب في جماعةٍ يَسيرةٍ نحو خمسة عشر، فمضى إلى الأزيز، وجمَعَ بني أسدٍ وغَيرَهم، وسار إلى الحلَّةِ وبها أخوه مُحمَّد بن دبيس، فقاتَلَه، فانهزَمَ مُحمَّد، ومَلَك عليٌّ الحلَّةَ، واستهان السُّلطانُ أمْرَه أوَّلًا، فاستفحل وضَمَّ إليه جَمعًا مِن غِلمانِه وغِلمانِ أبيه وأهلِ بيتِه وعساكِرِهم، وكَثُرَ جَمعُهم، فسار إليه مهلهل فيمن معه في بغداد من العسكَرِ، وضَرَبوا معه مصافًا، فكسَرَهم وعادوا مُنهَزِمينَ إلى بغداد وكان أهلُ الحلَّةِ يتعَصَّبونَ لعليِّ بنِ دبيس، وكانوا يَصيحون إذا رَكِبَ مُهلهَل وبعضُ أصحابه: يا عليُّ، كله. وكثر ذلك منهم بحيث امتنع مهلهل مِنَ الرُّكوبِ، ومَدَّ عليٌّ يَدَه في أقطاعِ الأُمَراءِ بالحلة، وتصَرَّف فيها، وصار شحنة بغداد ومَن فيها على وجَلٍ منه، وجمَعَ الخليفةُ جَماعةً وجَعَلَهم على السُّورِ لحِفظِه، وراسَل عليًّا، فأعاد الجوابَ بأنَّني العبدُ المطيعُ مهما رُسِمَ لي فعَلْتُ؛ فسكن النَّاسُ، ووصَلَت الأخبارُ بعد ذلك أنَّ السُّلطانَ مَسعودًا تفَرَّقَ خُصومُه عنه، فازداد سُكونُ النَّاسِ.
ثار على شروان شاه ولده فنزع منه الملك، وأخرجه من البلاد، ومَلَك بعده، وسبب ذلك أن شروان شاه كان سيئ السيرة، كثيرَ الفساد والظلم، يتعرض لأموال الرعايا وأملاكهم، وقيل أيضًا: إنه كان يتعرض للنِّساء والولدان، فاشتدت وطأتُه على الناس، فاتفق بعضُ العسكر مع ولده، وأخرجوا أباه من البلاد، وملك الابن وأحسن السيرة، فأحبه العساكر والرعيَّة، وأرسل الولد إلى أبيه يقول له: إني أردتُ أن أتركك في بعض القلاعِ وأجري لك الجرايات الكثيرة، ولكلِّ مَن تحب أن يكون عندك، والذي حملني على ما فعلتُ معك سوءُ سيرتك وظُلمُك لأهل البلاد، وكراهيتُهم لك ولدولتك, فلما رأى الأب ذلك سار إلى الكرج، واستصرخ بهم وقرَّرَ معهم أن يرسلوا معه عسكرًا يعيدونَه إلى ملكه، ويعطيهم نصفَ البلاد، فسيروا معه عسكرًا كثيرًا، فسار حتى قارب مدينة شروان، فجمع ولدُه العسكر، فخرج في عسكره، وهم قليل، نحو ألف فارس، ولقوا الكرجَ وهم في ثلاثة آلاف مقاتل، فالتقوا واقتتلوا، وصبَرَ أهل شروان، فانهزم الكرج، فقُتِلَ كثير منهم، وأُسِرَ كثير، ومن سلم عاد بأسوأ حال، وشروان شاه المخلوع معهم، فتشاءم الكرجُ منه فطردوه عن بلادِهم، واستقَرَّ ابنه في الملك، واغتبط الناسُ بولايته.
في هذا الشهر كانت واقعة الفرنج بطرابلس، وذلك أنهم نزلوا على طرابلس في ثلاثين شينيًا -سفينة كبيرة- وقراقر، وكان الأمير دمرداش غائبًا عن البلد، فقاتلهم الناس قتالًا شديدًا في يوم الثلاثاء ثاني عشره إلى الغد، فبلغ دمرداش وهو بنواحي بعلبك الخبر، فاستنجد الأمير شيخ المحمودي نائب الشام، وتوجه إلى طرابلس، فقَدِمَها يوم الخميس عشرينه، ونودي في دمشق بالنفير، فخرج الناس على الصعب والذلول، فمضى الفرنج إلى بيروت بعدما قاتلهم دمرداش قتالًا كبيرًا، قُتِل فيه من المسلمين اثنان وجُرح جماعة، فوصل الأمير شيخ إلى طرابلس وقد قضى الأمر، فسار إلى بيروت، فقدمها وقت الظهر من يوم الجمعة الحادي والعشرين، والقتال بين المسلمين وبين الفرنج من أمسه، وقتلى الفرنج مطروحون على الأرض، فحرق تلك الرمم، وتبع الفرنجَ وقد ساروا إلى صيدا بعدما حرقوا مواضع وأخذوا مركبًا قدم من دمياط ببضائع لها قيمة كبيرة، وقاتلوا أهل صيدا، فطرقهم الأمير شيخ وقت العصر وقاتلهم وهم في البر، فهزمهم إلى مراكبهم، وساروا إلى بيروت فلحقهم وقاتلهم، فمضَوا إلى جهة طرابلس، ومرُّوا عنها إلى جهة الماغوصة، فركز الأمير شيخ طائفة ببيروت، وطائفة بصيدا، وعاد إلى دمشق في ثاني صفر.
لَمَّا بلغ الأمير فاروق سن الرابعة عشرة طلب السير مايلز لامبسون من الملك فؤاد ضرورةَ سفر ابنه الأمير فاروق إلى بريطانيا لمواصلةِ الدراسة وأصَرَّ على ذلك بشدة رافضًا أيَّ محاولة من الملك فؤاد لتأجيل سفره حتى يبلغ سن السادسة عشرة، فتقرَّر سفرُ فاروق إلى بريطانيا ولكن دون أن يلتحِقَ بكلية إيتون، بل تم َّإلحاقه بكلية وولتش للعلوم العسكرية؛ ونظرًا لكونه لم يبلغ الثامنة عشرة -وهو أحد شروط الالتحاق بكلية وولتش- فقد تم الاتفاق على أن يكون تعليمُه خارج الكلية على يد معلِّمين من نفس الكلية، وقد رافق فاروق خلال سفرِه بعثةٌ مُرافِقةٌ له برئاسة أحمد حسنين باشا؛ ليكون رائدًا له -والذي كان له دور كبير في حياته بعد ذلك- بالإضافة إلى عزيز المصري الذي كان نائبًا لرئيس البعثة وكبيرًا للمعلمين، بالإضافة إلى عمر فتحي حارسًا للأمير وكبير الياوران فيما بعد، وكذلك الدكتور عباس الكفراوي كطبيب خاص، وصالح هاشم أستاذ اللغة العربية، بالإضافة إلى حسين باشا حسني كسكرتير خاص، والذي كان وجوده عاملًا مساعدًا للأمير على الانطلاق؛ فقد شجَّعه على الذهاب إلى المسارح والسينما ومصاحبة النساء ولعب القمار، بينما كان عزيز المصري دائم الاعتراض على كل تلك التصرفات، وكان فاروق بحُكمِ ظروف نشأته القاسية والصارمة يميل إلى حسين باشا ويتمرَّدُ على تعليمات وأوامر عزيز المصري، وفي تلك الفترة كان المرض قد اشتَدَّ على الملك فؤاد، وأصبح على فراش الموت، فاقترحت بريطانيا تشكيل مجلس وصاية مكوَّن من ثلاثة أعضاء، هم: الأمير محمد علي توفيق؛ ابن عم الأمير فاروق، وقد كان ذا ميول إنجليزية، وكان يرى دائمًا أنه أحق بعرش مصر، والثاني: هو محمد توفيق نسيم باشا، رئيس الوزراء الأسبق، وهو من رجال القصر، والثالث: هو الإمام الأكبر الشيخ المراغي، وعندما علم الأمير فاروق بشدَّةِ مرض والده ورغبته في أن يرى ابنه، طلب العودةَ إلى مصر لرؤية والده ووافقت بريطانيا بعد تردُّد على عودة فاروق إلى مصر في زيارة ليعودَ بعدها لاستكمال دراسته إلَّا أنه وقبل أن يسافر فاروق إلى مصر لرؤية والده كان والده الملك فؤاد الأول قد لقِيَ ربه في 28 أبريل 1936م. وعاد فاروق إلى مصر وقطع دراستَه ليجلس على كرسي العرش.
قُتِلَ الأميرُ الدمر جاندار بمكَّةَ في يوم الجمعة رابع عشر ذي الحجة، وكان مِن خَبَرِه أنَّ أميرَ الرَّكبِ العراقيِّ في هذه السنة كان من أهل توريز يُعرَفُ بمحمد الحجيج، وكان يتقَرَّب من أولاد جوبان، فترقَّى بهم إلى معرفةِ السلطان أبو سعيد بن خربندا ملك التتار بالعراق، فعَظُمَ أمرُه وجعَلَه من نُدَمائِه، وبَعَثَه رسولًا إلى مصرَ غَيرَ مَرَّة، فأُعجِبَ به السلطانُ الناصِرُ ولاق بخاطِرِه إلى أن بلغه عنه أنَّه تعَرَّض في مجلس أبي سعيد لشيءٍ ذكر مما يكرَهُه السلطان، فتنكَّرَ له وأسَرَّ ذلك في نفسِه، فلمَّا بلَغَه أنَّه سار أميرُ الركب العراقي كتب إلى الشَّريفِ عُطَيفة بن أبي نمي سرًّا أن يتحَيَّلَ في قتله، فلم يجِدْ عطيفة بدًّا من امتثال ما أُمِرَ به، وأطلَعَ ولده مبارك بن عطيفة ومن يثِقُ به على ذلك، وتقَدَّم إليهم بإعمال الحيلة فيه، فلما قضى الحاجُّ النُّسُكَ عاد منهم الأمير علم الدين سنجر الجاولي إلى مصر ومعه جماعةٌ في يومِ الأربعاء ثاني عشر ذي الحجة، وتأخَّرَ الأمير سيف الدين خاص ترك أمير الحاج، والأميرُ الدمر جاندار، والأمير أحمد ابن خالة السلطان، ليُصَلُّوا بمكَّةَ صلاة الجمعة، ومعهم بقيَّةُ حجَّاج مصر، فلما حضروا للجمعة وصَعِدَ الخطيب المنبر، أراد الشَّريفُ عَمَل ما رُسِمَ له به، وأخَذَ العبيدُ في إثارةِ الفِتنةِ بين الناس ليحصُلَ الغَرَضُ بذلك، وأوَّل ما بدؤوا به أن عبثوا ببعضِ حاجِّ العراق، وخطفوا شيئًا من أموالِهم، وكان الشريفُ عطيفة جالسًا إلى جانب الأمير خاص ترك أميرِ الركب، فصرخ النَّاسُ بالأمير الدمر وليس عندَه عِلمٌ بما كَتَب به السلطانُ إلى الشَّريفِ عُطَيفة، وكان مع ذلك شُجاعًا حادَّ المزاجِ قَويَّ النفس، فنهض ومعه من المماليكِ، وقد تزايد صراخُ النَّاسِ، وأتى الشَّريفَ وسَبَّه، وقَبَض بعضَ قُوَّادِه وأخرَقَ به، فلاطفه الشريفُ فلم يَلِنْ، واشتد صياحُ الناس، فركب الشريف مبارك بن عطيفة في قوَّادِ مكة بآلة الحَربِ، وركب جندُ مِصرَ، فبادر خليلٌ ولد الأمير الدمر وضرب أحدَ العبيد، فرماه العبدُ بحَربةٍ فقَتَله، فاشتَدَّ حنَقُ أبيه وحَمَل بنفسه لأخذ ثأرِ ولَدِه فقُتِلَ هو أيضًا، ويقال بل صادف الشريف مبارك بن عطيفة، وقد قصد ركبَ العراق وعليه آلةُ حَربِه، فقال له: "ويلك تريدُ أن تثيرَ فِتنةً، وهمَّ أن يَضرِبَه بالدبوس، فضربَه مبارك بحَربةٍ كانت في يده أنفَذَها من صدره فخَرَّ صريعًا، وقُتِلَ معه رجلان من جماعته، فركب أميرُ الركب عند ذلك ونجا بنَفسِه، ورُمِيَ مُبارك بن عطيفة بسَهمٍ في يده فشُلَّت، واختبط الناسُ بأسرهم، وركب أهلُ مكة سطحَ الحَرَم، ورموا الأميرَ أحمد ابن خالة السلطان ومن معه بالحجارة، وقد أفرغ نشَّابه بين يديه هو ومن معه، ورمى بها حتى خلَصَ أيضًا، وفَرَّ أمير ركب العراق وتحيَّرَ الشريف عطيفة في أمره، وما زال يداري الأمرَ حتى خرج الحاجُّ بأجمعهم من مكة، وتوجَّهوا إلى بلادِهم، وتراجع الأمراءُ المصريُّونَ إلى مكة لطَلَبِ بعض الثأر فلم يُنتِجْ أمرُهم وعادوا فارِّينَ، ثم أمَرَ أمير المصريين بالرَّحيل، وعادوا إلى القاهرة وأخبروا المَلِكَ الناصر محمد بن قلاوون، فجهَّزَ إلى مكة عسكرًا كثيفًا وعليه جمعٌ من الأمراء، فتوَجَّهوا وأخفَوا بثأرِ أيدمر وابنه، وقتلوا جماعةً كثيرةً مِن العبيد وغيرهم، وأسرفوا في ذلك وخرجوا عن الحَدِّ إلى الغاية، وتشَتَّت أشرافُ مَكَّة والعبيد عن أوطانِهم وأُخِذَت أموالهم، وحَكَمَت التركُ مَكَّةَ من تلك السنة، وزال منها سَطوةُ أشراف مكة الرَّافضة والعبيد، وانقَمَع أهلُها وارتدعوا، وكَرِهَهم المَلِكُ الناصر ومَقَتَهم وأقصاهم، حتى إنَّه لما حج بعد ذلك كان إذا أتاه صاحِبُ مكَّة لا يقومُ له مع تواضُعِ المَلِك الناصِرِ للفقهاء والأشراف والصُّلَحاءِ وغَيرِهم.
هو الشيخُ محمد عبده بن حسن خير الله مِن آلِ التركماني، مفتي الدِّيارِ المصريَّةِ، وأحَدُ دُعاةِ ما يسمى بالنهضة والإصلاح في العالمِ العربي والإسلاميِّ، وأحدُ رموزِ دعاةِ التجديدِ في الفِقهِ الإسلاميِّ، ساهمَ بعد التقائه بأستاذِه جمال الدين الأفغاني في إنشاءِ حركة فكريةٍ تجديديةٍ في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، تهدفُ إلى القضاء على الجُمودِ الفِكريِّ والحضاريِّ، وإعادةِ إحياء الأمَّة الإسلاميَّة لِتُواكِبَ مُتطلباتِ العصرِ. ولِدَ محمد عبده سنة 1849م مِن أبٍ تركماني وأم مصريةٍ في قرية محلة نصر بمركز شبراخيت في محافظة البحيرة, ونشأ في محلةِ نصر (بالبحيرة) وأحَبَّ في صباه الفروسيَّةَ والرمايةَ والسباحة. وتعلَّمَ بالجامِعِ الأحمدي بطنطا، ثم بالأزهرِ. تصَوَّف وتفلسَفَ، وعَمِلَ في التعليم، وكتَبَ في الصُّحُفِ. في سنة 1866م التحق بالجامِعِ الأزهر، وفي سنة 1877م حصل على الشهادة العالمية، وفي سنة 1879م عَمِلَ مدرسًا للتاريخِ في مدرسة دار العلوم، وفي سنة 1882 م اشترك في ثورة أحمد عرابي ضِدَّ الإنجليز، وبعد فَشَلِ الثورة حُكِمَ عليه بالسجنِ ثمَّ بالنفي إلى بيروتِ لِمدة ثلاث سنوات، ثم سافر بدعوةٍ مِن أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة 1884 م، وأسَّسا صحيفةَ العروة الوثقى، وفي سنة 1885 م غادر باريسَ إلى بيروت، وفي ذات العام أسَّسَ جمعية سرِّية بنفس الاسم: العروة الوثقى. قيل إنَّها ذات صلة بالمحافلِ الماسونية العالمية تحت زعمِ التقريبِ بين الأديان. وفي سنة 1886م اشتغل بالتدريسِ في المدرسة السُّلطانية في بيروت، وفي سنة 1889م-1306هـ عاد محمد عبده إلى مصر بعفوٍ مِن الخديوي توفيق، ووساطةِ تلميذه سعد زغلول، وبعد إلحاحِ الأميرة نازلي فاضل على اللورد كرومر كي يعفوَ عنه ويأمُرَ الخديوي توفيقًا أن يُصدِرَ العَفوَ عنه، أصدر الخديوي قرارَ العفوِ بعد أن اشترط اللورد كرومر على محمَّد عبده ألَّا يعمَلَ في السياسة، فقَبِلَ. وفي سنة 1889م عُيِّنَ قاضيًا بمحكمة بنها، ثم انتقل إلى محكمة الزقازيق، ثم محكمة عابدين، ثم ارتقى إلى منصبِ مُستشار في محكمةِ الاستئنافِ عام 1891م، وفي 3 يونيو عام 1899م (24 محرم عام 1317هـ) عيِّنَ في منصِبِ المفتي، وتبعًا لذلك أصبح عُضوًا في مجلس الأوقافِ الأعلى. وفي 25 يونيو عام 1890م عين عضوًا في مجلسِ شورى القوانين. وفي سنة 1900م (1318هـ) أسَّس جمعيةَ إحياء العلوم العربية لنشر المخطوطاتِ. وزار العديدَ من الدول الأوروبية والعربية. وقد تأثَّر به عددٌ من قادةِ النهضةِ الحديثةِ في الفكر والسياسة والعلم، منهم: محمد رشيد رضا، وسعد زغلول، وعبد الحميد بن باديس، وعبد الرحمن الكواكبي، وغيرهم, وفي الساعة الخامسة مساء يوم 7 جمادى الأولى توفِّي الشيخ بالإسكندرية بعد معاناةٍ مِن مرض السرطان عن سبع وخمسين سنة، ودُفِنَ بالقاهرة.
وقع بالبصرة بَرَد كثير، وهو مع كثرتِه عظيمُ القَدرِ، قيل: كان أصغرُه مثل النارنجة- نوع من الليمون- الكبيرة، وقيل في أكبرِه ما يستحي الإنسانُ أن يذكُرَه، فكسر كثيرًا من رؤوسِ النخيل. وفي صفَر من نفس العام هبَّت ببغداد ريحٌ سوداءُ شديدة، كثيرةُ الغبار والقتام، وألقت رملًا كثيرًا، وقلعت كثيرًا من الشَّجَر، فخاف الناسُ وتضَرَّعوا، ودامت من العشاءِ الآخرة إلى ثلث الليل ثم انكشَفَت.
كان الشُّروعُ ببِناءِ المَدرسَةِ النِّظامِيَّة نِسبةً إلى الوَزيرِ نِظامِ المُلْكِ، وَزيرِ ملكشاه في مَدينةِ بغداد، في ذي الحجَّةِ من عام 457هـ ونُقِضَ لأَجلِها دُورٌ كَثيرةٌ مِن مَشرعَةِ الزَّوايا وبابِ البَصرةِ، ثم في ذي القَعدةِ من سَنةِ 459هـ، فَرغَت عِمارةُ المَدرسَةِ النِّظامِيَّة، وتَقرَّر التَّدريسُ بها للشيخِ أبي إسحاقَ الشِّيرازيِّ الشافعيِّ، فجَمعَ العَميدُ أبو سعدٍ القاضي الناسَ على طَبقاتِهم إلى المَدرسةِ، وجَعَلَها بِرَسْمِ أبي إسحاقَ الشيرازيِّ الفيروزآبادي، صاحبِ كِتابِ ((التَّنْبيهُ)) في الفِقهِ على مَذهبِ الإمامِ الشافعيِّ بعدَ أن وَافَقَهُ على ذلك، فلمَّا كان يومُ اجتِماعِ الناسِ فيها وتَوقَّعوا مَجيءَ أبي إسحاقَ فلم يَحضُر، فطُلِبَ فلم يَظهَر، وكان السببُ أن شابًّا لَقِيَه فقال: يا سيدنا، تُريدُ تُدَرِّسُ في المدرسةِ؟ فقال: نعم. فقال: وكيف تُدَرِّسُ في مَكانٍ مَغصُوبٍ؟ فغَيَّرَ نِيَّتَه فلم يَحضُر، فلمَّا ارتَفعَ النَّهارُ، وأَيِسَ الناسُ مِن حُضورِه، أشارَ الشيخُ أبو منصورِ بن يُوسُف بأبي نَصرِ بن الصَّبَّاغِ، صاحبِ كتابِ ((الشامل))، وقال: لا يجوزُ أن يَنفَصِلَ هذا الجَمْعُ إلَّا عن مُدَرِّسٍ، ولم يَبقَ ببغداد مَن لم يَحضُر غيرَ الوَزيرِ، فجلسَ أبو نَصرٍ للدَّرْسِ، ثم ظَهرَ الشيخُ أبو إسحاقَ بعدَ ذلك، ولمَّا بَلغَ نِظامَ المُلْكِ الخَبَرُ أَقامَ القِيامةَ على العَميدِ أبي سعدٍ، ولم يَزَل يُرفِق بالشيخِ أبي إسحاقَ حتى دَرَّسَ بالمدرسةِ، وكانت مُدَّةُ تَدريسِ ابنِ الصَّبَّاغِ عشرين يومًا فقط. أَجرَى نِظامُ المُلْكِ للمُتَفَقِّهَةِ لِكلِّ واحدٍ أَربعةَ أَرطالِ خُبزٍ كلَّ يَومٍ, وقد أَشارَ ابنُ الجوزيِّ الى وَقْفِ هذه المدرسة ومُسْتَحِقِّيهِ بقَولِه: "هذه المَدرسةُ وسُقوفُها المَوقُوفُ عليها، وفي كِتابِ شَرْطِها أنَّها وُقِفَت على أَصحابِ الشافعيِّ أَصلًا، وكذلك الأَملاكُ المَوقوفةُ عليها شَرطٌ فيها أن تكونَ على أَصحابِ الشافعيِّ أَصلًا، وكذلك شَرْطٌ في المُدَرِّسِ الذي يكون فيها، والواعِظِ الذي يَعِظُ فيها ومُتَوَلِّي الكُتُبِ, وشَرْطٌ أن يكونَ فيها مُقرئٌ يَقرأُ القُرآنَ، ونَحْوِيٌّ يُدَرِّس العَربيَّةَ، وفُرِضَ لِكلٍّ قِسْطٌ مِن الوَقْفِ" ووَصفَها المَقرِيزيُّ بقَولِه: "أَشهَرُ ما بُنِيَ في القَديمِ المَدرسةُ النِّظامِيَّة ببغداد، لأنَّها أوَّلُ مَدرسةٍ قُرِّرَ بها للفُقهاءِ مَعاليمُ – أي مِقدار مِن المالِ-"
هو المَلِكُ القاهر عزُّ الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر، صاحِبُ الموصل، توفِّيَ ليلة الاثنين لثلاثٍ بقِينَ من شهر ربيع الأول، وكانت ولايتُه سبع سنين وتسعة أشهر، وكان سبب موته أنَّه أخذته حمى، ثم فارقته الغد، وبقي يومينِ موعوكًا، ثم عاودته الحُمَّى مع قيءٍ كثير، وكربٍ شديد، وقلق متتابعٍ، ثم برد بدَنُه، وعَرقَ، وبَقِيَ كذلك إلى وسط الليل، ثم توفِّيَ، وقيل مات مسمومًا، وكان لما حضرته الوفاة أوصى بالملك لولدِه الأكبر نور الدين أرسلان شاه، وعُمُره حينئذ نحو عشر سنين، وجعل الوصيَّ عليه والمدبِّر لدولته بدر الدين لؤلؤًا، وهو الذي كان يتولى دولة القاهر ودولة أبيه نور الدين قبله، فلما قضى نحبَه قام بدر الدين بأمر نور الدين، وأجلسه في مملكةِ أبيه، وأرسل إلى الخليفةِ يطلب له التقليدَ والتشريف، وأرسل إلى الملوك، وأصحاب الأطراف المجاورين لهم، يطلبُ منهم تجديد العهد لنور الدين على القاعدةِ التي كانت بينهم وبين أبيه، فلم يصبِحْ إلَّا وقد فرغ من كل ما يحتاج إليه، وجلس للعزاء، وحَلَف الجند والرعايا، وضبط المملكة، وبعد أيامٍ وصل التقليد من الخليفة لنور الدين بالولاية، ولبدر الدين بالنظرِ في أمر دولته، والتشريفات لهما أيضًا، وأتتهما رسلُ الملوك بالتعزية، وبذل ما طلب منهم من العهود، واستقَرَّت القواعد لهما. ثم تغلب بدر الدين لؤلؤ على الموصِلِ، وملكها 40 سنة، وكان من قبلُ نائبًا بها ثم استَقَلَّ بالسلطنة وتلَقَّب بالملك الرَّحيم.
بعد استيلاء الصالح إسماعيل والمجاهد أسد الدين شيركوه على دمشقَ ولَمَّا وصل الخبر إلى الصالح نجم الدين وهو مقيمٌ في نابلس يتجهَّزُ للمسير إلى مصر، افتَرَق عنه عسكرُه وبقي وحيدًا، فاستغل الفرصةَ الملك الناصر داودُ بن الملك المعظَّم صاحب الكرك والأردن فأرسل إليه من أخَذَه من نابلس مهانًا على بغلةٍ بلا مهماز ولا مُقَدمة، فاعتقله عنده سبعةَ أشهر، فأرسل العادِلُ من مصر إلى الناصر ِيطلب منه أخاه الصالحَ أيوبَ، ويعطيه مائة ألف دينار، فما أجابه إلى ذلك، بل عكس ما طلب منه بإخراجِ الصالحِ مِن سجنه والإفراج عنه وإطلاقه من الحبسِ، فعند ذلك حاربت الملوك من دمشق ومصر وغيرهما الناصرَ داود، وبرز العادِلُ من الديار المصرية إلى بلبيس قاصدًا قتال الناصر داود، فاضطرب الجيشُ عليه واختلفت الأمراءُ، وقَيَّدوا العادل واعتقلوه في خركاه- بيت من الخشب- وخُلِعَ العادل في يوم الجمعة تاسع شوال، فكانت مُدَّة ملكه سنتين وشهرين وثمانية عشر يومًا، وأرسلوا إلى الصالحِ أيوب يستدعونه إليهم، فامتنع الناصرُ داود من إرساله حتى اشتَرَط عليه أن يأخذ له دمشق وحمص وحلب وبلاد الجزيرة وبلاد ديار بكر ونصف مملكة مصر، ونصف ما في الخزائن من الحواصل والأموال والجواهر، فأجاب الصالحُ أيوب إلى ذلك مُكرهًا، وهو خائِفٌ أن تكونَ هذه الكائنة من المصريين مكيدةٌ، فلمَّا وصل الصالح أيوب إلى المصريين مَلَّكوه عليهم ودخل الديار المصرية سالِمًا مُؤيَّدًا منصورًا، مظفرا محبورًا مسرورًا، فأرسل إلى الناصر داود عشرين ألف دينار فرَدَّها عليه ولم يقبَلْها منه، واستقَرَّ مُلكه بمصر.
في ثاني ذي القعدة ورد البريدُ من حلب ودمشق بأن ألقان أحمد بن أويس صاحب بغداد، لما توجه إلى بغداد واستولى عليها، كان لقرا يوسف في مساعدته أثر كبير؛ فعندما تمكَّن قَبَض على كثير من أمراء دولته وقتَلَهم، وأكثَرَ من مصادرات أهل بغداد وأخذ أموالهم، فثار عليه من بقي من الأمراء، وأخرجوه منها، وكاتبوا صاحب شيراز أن يحضرَ إليهم، فلحق ابن أويس بقرا يوسف بن قرا محمد التركماني صاحب الموصل، واستنجد به، فسار معه إليها، فخرج أهل بغداد وكسروهما بعد حروب، فانهزما إلى شاطئ الفرات، وبعثا يسألان نائب حلب أن يستأذن السلطان في نزولهما بالشام، وأن الأمير دمرداش استدعى الأمير دقماق نائب حماة إلى حلب، وخرجا في عسكر جريدة يبلغ عددهم الألف، وكبسا ابن أويس وقرا يوسف، وهما في نحو سبعة آلاف فارس، فاقتتلا قتالًا شديدًا في يوم الجمعة رابع عشرين شوال، قتل فيه الأمير جاني بلث اليحياوي أتابك حلب، وأُسِر دقماق نائب حماة، وانهزم دمرداش نائب حلب، وصار إلى حلب ولحقه بعد أن افتَكَّ نفسه بمائة ألف درهم وَعَدَ بها، وأن سودون بن واده -القادم من مصر إلى حلب بالبشارة بقدوم السلطان إلى مصر سالِمًا- بعث المائة ألف إليهما مبعثًا إليه: إنَّا لم نأت محاربين وإنما جئنا مستجيرين، ومستنجدين بسلطان مصر، فحاربنا هؤلاء فدفَعْنا عن أنفسنا، فكتب إلى نائب الشام بمسير عساكر الشام جميعًا، وأخذ ابن أويس وقرا يوسف وإرسالهما إلى مصر.
لم تلبث تونس كثيرًا تحت يد العثمانيين حتى اتفق شارل الخامس (شارلكان) ملك إسبانيا وأسبان برشلونة ورهبان مالطة على الحرب واستعادة تونس التي كانت تحت يد الإسبان قبل أن يستعيدها خير الدين بربروسا العام الماضي، مستغلين انشغال العثمانيين بحربهم ضد الصفويين الرافضة، فتوجَّه الجيش بقيادة شارلكان نفسه ملك إسبانيا بحملة بحرية كبيرة، تكوَّنت من ثلاثين ألف مقاتل إسباني وهولندي وألماني ونابولي وصقلي، على ظهر خمسمائة سفينة، وركب الإمبراطور البحرَ من ميناء برشلونة، وعندما رست سفُنُه أمام تونس قامت المعارك العنيفة بين الطرفين، لم تكن قوة خير الدين كافيةً للرد على هذا الهجوم، فكان تعدادُ جيشه سبعةَ آلاف جندي عثماني وصلوا معه، ونحو خمسة آلاف تونسي، كما تخلَّف الأعراب عن الجهاد، فكانت النتيجة الحتمية أنَّ استيلاء شارل على معقِل حلق الوادي مرسى تونس، ونصَب الإسبان حليفَهم الحسن بن محمد الحفصي حاكمًا عليها، وعملًا بمنطوق المعاهدة كان الحسن بن محمد سيسلِّم بونة والمهدية إلى شارل الخامس، فاستولى على بونة، وبما أنَّ المهدية كانت في حوزة العثمانيين فإنَّ الحسن لم يستطع الوفاءَ بعهده، فاشترط الإسبان عليه أن يكون حليفًا ومساعِدًا لفرسان القديس يوحنا بطرابلس، وأن يقوم بمعاداة العثمانيين، وأن يتحمل نفقات ألفي إسباني على الأقل يُترَكون كحامية في قلعة حلق الواد، وعاد شارل الخامس إلى إسبانيا بعد أن ارتكبوا أفظع الجرائم في تونس عند دخولهم فيها، مُظهرين الحقدَ الدفين، فجعلوا جامِعَ الزيتونة إسطبلًا لخيولهم، وأحرقوا المساجِدَ والكتب النادرة فيها، غير قتلِهم النساء والأطفال!!