هو أبو عبدِ الرَّحمنِ عبدُ الله بنُ أحمدَ بنِ محمد بن حنبل الشيباني البغدادي، الحافظ، مِن أهل بغداد، والده هو الإمامُ أحمد بن حنبل، ولد سنة 213 وأمُّه اسمها ريحانة، تزوجَّها الإمام أحمد بعد وفاةِ زوجته الأولى عبَّاسة أم ابنِه صالحٍ، وأنجبت له ريحانةُ ابنَه عبد الله. تعلَّمَ على يدِ أبيه فسَمِعَ منه المُسنَد، فكان مُكثِرًا في الروايةِ عن أبيه وعن غيره, وكان إمامًا ثِقةً حافِظًا ثَبتًا، قال ابن المنادي: لم يكُنْ أحدٌ أروى عن أبيه منه، روى عنه المسندَ ثلاثينَ ألفًا، والتفسير مائة ألفِ حديث وعشرون ألفًا، من ذلك سماعٌ، ومن ذلك إجازة، ومن ذلك الناسِخُ والمنسوخ، والمقَدَّم والمؤخَّر، والمناسِك الكبير والصغير، وغير ذلك من التصانيف، وحديث الشيوخِ، وقال- أي ابن المنادي: وما زِلْنا نرى أكابِرَ شيوخِنا يشهدون له بمعرفةِ الرِّجالِ وعِلَل الحديث، والأسماءِ والكُنى، والمواظبة على طلَبِ الحديث في العراق وغيرها، ويذكُرونَ مِن أسلافهم الإقرارَ له بذلك، حتى إنَّ بعضَهم أسرفَ في تقريظه له بالمعرفة وزيادةِ السَّماعِ للحديث عن أبيه"، ولَمَّا مَرِضَ قيل له أين تُدفَنُ ؟ فقال: صحَّ عندي أنَّ بالقطعيَّة نبيًّا مدفونًا، ولَأن أكونَ بجوارِ نبيٍّ أحَبُّ إليَّ مِن أن أكونَ في جوار أبي، مات عن سبع وسبعين سنة، كما مات لها أبوه، واجتمع في جنازته خلقٌ كثيرٌ من الناس، وصلَّى عليه زهير ابن أخيه، ودُفِنَ في مقابِرِ باب التين- رحمَه الله تعالى.
حشد الفِرنجُ وأقبلوا يريدونَ استئصالَ المسلمين من الأندلس في غرناطةَ في عدَدٍ لا يُحصى، فيه خمسة وعشرونَ ملكًا بزعامة ألفونسو الحادي عشر ملك قشتالة، فقَلِقَ المسلمون بغرناطة ومَلِكُها الغالب بالله أبو الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر من بني الأحمر، واستنجدوا بالمريني مَلِك فاس فلم يُنجِدْهم، فلجؤوا إلى الله وحارَبوهم في الألبيرة وهم نحو ألف وخمسمائة فارس وأربعة آلاف راجل، فقتلوا الفرنجَ بأجمَعِهم، وأقلُّ ما قيل إنَّه قُتِلَ منهم خمسون ألفًا، وأكثَرُ ما قيل ثمانون ألفًا، ولم يُقتَلْ من المسلمين سوى ثلاثةَ عشر فارسًا، وغَنِمَ المسلمون ما لا يدخُلُ تحت حصر، وسُلِخَ الملكُ دون بتروا وحُشِيَ قُطنًا، وعُلِّقَ على بابِ غرناطة، فطَلَب الفرنجُ الهُدنةَ فعُقِدَت، وبَقِيَ دون بتروا مُعَلَّقًا عدَّةَ سنينَ.
هو السُّلطانُ أبو عبد الله محمد الخامس الغني بالله بن يوسف الأول إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر ملك دولة بني نصر أو بني الأحمر في غرناطة، الذى ساعده ملك البرتغال وسلطان بنى مرين على استرداد مُلكِه، وقام بالأمرِ بعده ابنُه أبو الحجَّاج يوسف الثاني، الذي أبرم معاهدةَ سلم مع ملك قشتالة بعد الحروبِ التي كانت بين أبيه وبين قشتالة. وبعد وفاةِ محمد الخامس تعاقَبَ على حكم غرناطة عددٌ من السلاطين الضِّعافِ، وتعَرَّضَت دولة بني الأحمر في الأندلس لكثيرٍ مِن الفتن والدسائس والمؤامرات وتحالفات مع ملوك النصارى، وبلغ الاضطراب حدًّا تعاقب فيه على مملكةِ غرناطة اثنا عشر سُلطانًا خلال القرن التاسع الهجري الخامس عشر الميلادي.
كان مُعاويةُ بن أبي سُفيانَ قد أَلَحَّ على عُمَرَ بن الخطَّاب أنَّ يَغْزُوَ البحرَ ولكنَّه أَبَى ذلك، ثمَّ في زمنِ عُثمانَ طلَب ذلك فوافَق عُثمانُ بِشرطِ ألَّا يُجبِرَ أحدًا على ركُوبِ البحرِ؛ بل يُخَيِّرُهُم، مَن أراد الغَزْوَ معه فعَل وإلَّا فَلَا، ففعَل ذلك، واسْتَعْمَل على البحرِ عبدَ الله بن قيسٍ الجاسيَّ، ثمَّ غَزَا قبرصَ وصالَح أهلَها على سبعةِ آلافِ دِينارٍ كلَّ سَنةٍ، وقد ساعَد في ذلك الغَزْوِ أهلُ مِصْرَ بإمْرَةِ ابنِ أبي السَّرْحِ، وكان مُعاويةُ على النَّاسِ جميعًا، وكان بين الغُزاةِ عددٌ مِن الصَّحابةِ ومِن بينهم أُمُّ حَرامٍ زَوجةُ عُبادةَ بن الصَّامِتِ التي تُوفِّيَت في قبرص ودُفِنَتْ فيها، وكان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد بَشَّرَها بأنَّها تكون ممَّن يَغزو البحرَ كالمُلُوكِ على الأَسِرَّةِ.
كَثُرَت الفِتَنُ ببغداد بين الشِّيعةِ من أَهلِ الكَرخِ وغَيرِها من المَحالِّ مِن أَهلِ السُّنَّةِ، وقُتِلَ بينهم عَددٌ كَثيرٌ، واستَولَى أَهلُ المَحالِّ على قِطعَةٍ كَبيرةٍ من نَهرِ الدَّجاجِ، فنَهَبوها، وأَحرَقوها، فنَزل شِحْنَةُ بغداد -المسؤول عن ضبط بغداد- وهو خمارتكين النائبُ عن كوهرائين، على دِجلَة في خَيْلِه ورَجِلِه، لِيَكُفَّ الناسَ عن الفِتنةِ، فلم يَنتَهوا، وكان أهلُ الكَرخِ يَجرُون عليه وعلى أَصحابِه الجِراياتِ والإقاماتِ، وفي بعضِ الأيامِ وَصَلَ أَهلُ بابِ البَصرَةِ إلى سُويقَةِ غالبٍ، فخَرجَ مِن أَهلِ الكَرخِ مَن لم تَجرِ عادَتُه بالقِتالِ، فقاتَلوهُم حتى كَشَفوهُ،. فرَكِبَ خَدَمُ الخَليفةِ، والحُجَّابُ، والنُّقَباءُ، وغَيرُهم من أَعيانِ الحَنابِلَةِ، إلى خمارتكين، وساروا معه إلى أَهلِ الكَرخِ، فقَرأَ عليهم كِتابًا من الخَليفةِ يَأمُرهم بالكَفِّ، ومُعاوَدَةِ السُّكونِ، وحُضورِ الجَماعةِ والجُمعةِ، والتَّدَيُّنِ بمَذهبِ أَهلِ السُّنَّةِ، فأجابوا إلى الطاعةِ، فبينما هم كذلك أَتاهُم الصَّارِخُ من نَهرِ الدَّجاجِ بأن السُّنَّةَ قد قَصَدوهُم، والقِتالُ عندهم، فمَضوا مع خمارتكين، ومُنِعوا من الفِتنَةِ، وسَكَنَ الناسُ، وكَتَبَ سُنَّةٌ مِن أَهلِ الكَرخِ على أَبوابِ مَساجِدِهم: "خَيرُ الناسِ بعدَ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أبو بكرٍ ثم عُمَرُ ثم عُثمانُ ثم عَلِيٌّ، ومِن عند هذا اليومِ ثارَ شِيعَةٌ من أَهلِ الكَرخِ، وقَصَدوا شارعَ ابنِ أبي عَوفٍ ونَهَبوهُ، ورَفعَ العامَّةُ الصُلبانَ وهَجَموا على الوَزيرِ في حُجرَتِه، وأَكثَروا من الكَلامِ الشَّنيعِ، وقُتِلَ ذلك اليومَ رَجلٌ هاشِميٌّ مِن أَهلِ بابِ الأزج بسَهمٍ أَصابَهُ، فثارَ العامَّةُ هناك بعَلَوِيٍّ كان مُقِيمًا بينهم، فقَتَلوهُ وحَرَقوهُ، وجَرَى مِن النَّهْبِ، والقَتْلِ، والفَسادِ أُمورٌ عَظيمةٌ، فأَرسلَ الخَليفةُ إلى سَيفِ الدَّولةِ صَدَقةَ بنِ مزيد، فأَرسلَ عَسكرًا إلى بغداد، فطَلَبوا المُفسِدين والعَيَّارِين، فهَرَبوا منهم، فهُدِمَت دُورُهم، وقُتِلَ منهم ونُفِيَ وسَكنَت الفِتنةُ، وأَمِنَ الناسُ.
هو الوَزيرُ الكَبيرُ، نِظامُ المُلْكِ، قِوامُ الدِّينِ، أبو عليٍّ الحَسنُ بن عليِّ بن إسحاقَ الطُّوسيُّ، وَزيرُ السُّلطانِ ملكشاه السلجوقي، عاقِلٌ، سائِسٌ، خَبيرٌ، سَعيدٌ، مُتَدَيِّنٌ، مُحتَشِمٌ، عامِرُ المَجلِس بالقُرَّاءِ والفُقَهاءِ. أَنشأَ المَدرسةَ النِّظامِيَّة الكُبرى ببغداد، ثم أَنشأَ مَدارسَ أُخرى في عَددٍ من البُلدانِ, ورَغَّبَ في العِلمِ، وأَدَرَّ على الطَّلَبَةِ الصِّلاتِ، وأَملَى الحَديثَ، وبَعُدَ صِيتُه. وُلِدَ سَنةَ 408هـ بنوقان، إحدى مَدينَتي طُوس، وكان من أَولادِ الدَّهَّاقِين بناحِيَةِ بيهق، وكان فَقيرًا مَشغولًا بسَماعِ الحَديثِ والفِقْهِ، وقَرأَ النَّحْوَ، خَتَمَ القُرآنَ وله إحدى عشرة سَنَةً، وعَمِلَ بالكِتابَةِ والدِّيوانِ، وخَدَمَ بغزنةَ، ثم بعدَ حينٍ اتَّصَلَ بداود بن ميكائيل السلجوقيِّ فظَهَرَ له منه النُّصْحُ والمَحَبَّةُ،، فأَخذَهُ بِيَدِهِ وسَلَّمَهُ إلى وَلَدِه ألب أرسلان، وقال له: يا محمد، هذا حَسَنٌ الطُّوسيُّ اتَّخِذهُ والِدًا ولا تُخالِفهُ. فلمَّا وَصَلَ المُلْكُ إلى ألب أرسلان استَوزَرَهُ، فدَبَّرَ مُلكَه عشر سنين. ولمَّا ماتَ ألب أرسلان، ازدَحَم أَولادُه على المُلْكِ، فقام بأَمْرِ ملكشاه حتّى تَمَّ أَمرُه ومَلَكَ السَّلطَنَةَ. كان نِظامُ المُلْكِ عاليَ الهِمَّةِ، وافِرَ العَقلِ، عارِفًا بتَدبيرِ الأُمورِ، وخَفَّفَ المَظالِمَ، ورَفَقَ بالرَّعايا، وبَنَى الوُقوفَ، وهاجَرَت الكِبارُ إلى جَنابِه، وازدادَت رِفعَتُه. قال الذهبيُّ: "كان شافِعيًّا أَشعَريًّا. سار إلى غزنة، فصار كاتِبًا نَجيبًا، إليه المُنتَهى في الحِسابِ، وبَرَعَ في الإنشاءِ، وكان ذَكِيًّا، لَبيبًا، يَقِظًا، كامِلَ السُّؤدَدِ. قيل: إنه ما جَلَسَ إلا على وُضوءٍ، وما تَوضَّأ إلا تَنَفَّلَ، ويَصومُ الاثنين والخميس، جَدَّدَ عِمارةَ خوارزم، ومَشهدَ طوس، وعَمِلَ بيمارستانا، وبَنَى مَدارِسَ بمَرو، وهراة، وبلخ، والبَصرَة، وأصبهان، وكان حَلِيمًا رَزينًا جَوادًا، صاحِبَ فُتُوَّةٍ واحتِمالٍ ومَعروفٍ كَثيرٍ إلى الغايَةِ، ويُبالِغ في الخُضوعِ للصَّالِحين". قال ابنُ عَقيلٍ: "بَهَرَ العُقولَ سِيرَةُ النِّظامِ جُودًا وكَرمًا وعَدلًا، وإحياءً لِمَعالِمِ الدِّين، كانت أيامُه دَولةَ أَهلِ العِلمِ، ثم خُتِمَ له بالقَتلِ وهو مارٌّ إلى الحَجِّ، في رمضان، فماتَ مَلِكًا في الدنيا، مَلِكًا في الآخرة" في عاشر رمضان قُتِلَ نِظامُ المُلْكِ أبو عليٍّ الحَسنُ بن عليِّ بن إسحاقَ الوَزيرُ بالقُرْبِ من نهاوند، وكان هو والسُّلطانُ في أصبهان، وقد عاد إلى بغداد، فلمَّا كان بهذا المكان، بعد أن فَرَغَ من إفطارِه، وخَرجَ في مَحِفَّتِه إلى خَيمةِ حَرَمِه، أَتاهُ صَبِيٌّ دَيلميٌّ من الباطِنيَّةِ، في صورة مُستَميحٍ، أو مُستَغيثٍ، فضَرَبَهُ بِسِكِّينٍ كانت معه، فقَضَى عليه وهَرَبَ، فعَثَرَ بطُنُبِ خَيمَةٍ، فأَدرَكوهُ فقَتَلوهُ، فسَكَنَ عَسكرُه وأَصحابُه، وقيل: إن قَتْلَهُ كان بتَدبيرِ السُّلطانِ، فلم يُمهَل بعدَه إلا نحوَ شَهرٍ، وبقي كانت وِزارتُه لبَنِي سلجوق أربعًا وثلاثين سَنةً- وقيل: أربعين سَنةً- تُوفِّي عن سِتٍّ وسبعين سَنةً.
هو الشَّريفُ مانعُ بن علي بن مسعود بن جماز بن شيحة الحسيني: صاحِبُ المدينة النبويَّة، وقد ذُكِرَت عنه أمورٌ شنيعة بَشِعةٌ مِن غُلُوِّه في الرَّفضِ المُفرِط، ومن قَولِه: إنه لو تمكن أخرج الشيخين من الحُجرة! وغير ذلك من عبارات مؤدية لعدم إيمانِه إن صح عنه، والله أعلم، وفي السابع والعشرين من ذي الحجَّة عدا عليه فداويان عند لُبسِه خِلعةَ السلطان، وقت دخول المَحمَل إلى المدينة الشريفة، فقتلاه، فعَدَت عبيدُه على الحجيج الذين هم داخِلَ المدينة فنهبوا من أموالِهم وقَتَلوا بعضَهم وخرجوا، وكانوا قد أغلقوا أبوابَ المدينة دون الجيشِ فأُحرِقَ بعضُها، ودخل الجيشُ السلطاني فأنقذوا النَّاسَ من أيدي الظالمين، ودخل المَحمَل السلطانيُّ إلى دمشق يوم السبت العشرين من شهر محرَّم على عادته إلى دمشق، وبين يدي المَحمَل الفداويان اللذان قَتَلا صاحب المدينة، ويُذكَرُ أنَّه تولى المدينةَ الشَّريفةَ بعده ابنُ عَمِّه فضل بن القاسم.
كان سبَب ذلك أنَّه لَمَّا وصل خبَرُ مقتل عمر بن عبيد الله، وعلي بن يحيى، أثناءَ غَزوِهما للروم للشاكريَّة والجند ببغداد وسامرَّا وما قرب منهما، وكانا من شجعان الإسلام، شَقَّ ذلك عليهم، وما لَحِقَهم من استعظامِهم قتلَ الأتراك للمتوكِّل، واستيلائِهم على أمور المسلمين، يقتلون من يريدون من الخُلَفاء، ويستخلفون من أحبُّوا من غير ديانةٍ، ولا نظَرٍ للمُسلمين، فاجتمعت العامَّة ببغداد وأخذوا في الصُّراخ، والنداء بالنفير، وانضَمَّ إليها الأبناء، والشاكرية تُظهِرُ أنَّها تطلب الأرزاق، ففَتَحوا السجون، وأخرجوا من فيها وأحرَقوا أحدَ الجسرين وقَطَعوا الآخَرَ، وانتهبوا دار بِشرٍ وإبراهيم ابنَي هارون، كاتبي محمد بن عبد الله، ثم أخرجَ أهلُ اليَسارِ من بغداد وسامرَّا أموالًا كثيرةً، ففَرَّقوها فيمن نهضَ إلى الثغور، وأقبلت العامَّةُ من نواحي الجبال وفارس والأهواز وغيرِها لغزو الروم، فلم يأمُر الخليفة في ذلك بشيءٍ ولم يوجِّهْ عسكرَه، ووثب نفرٌ من الناس لا يُدرى من هم بسامرَّا ففتحوا السجنَ، وأخرجوا من فيه، فبعث المستعينُ بالله في طَلَبِهم جماعةً من الموالي، فوثب العامَّةُ بهم فهزموهم، فركب بغا وأتامش ووصيفٌ وعامَّة الأتراك، فقَتَلوا من العامَّةِ جماعةً، فرُمِيَ وصيف بحجر، فأمَرَ بإحراق ذلك المكان، وانتهبت المغاربة، ثم سكَنَ ذلك آخرَ النهار.
هو عبدُ الملك بن مَرْوان بن الحَكَم بن أبي العاصِ بن أُمَيَّة، أبو الوَليد الأُمَويُّ أَميرُ المؤمنين، وُلِدَ سنة سِتٍّ وعشرين بالمدينة, شَهِدَ الدَّارَ –يعني يومَ مَقْتَل عُثمان-مع أبيه، وله عَشْرُ سِنين، وهو أوَّلُ مَن سَارَ بالنَّاس في بِلاد الرُّوم سنة ثنتين وأربعين، وكان أَميرًا على أهلِ المدينة وله سِتَّ عَشرةَ سنة، وَلَّاهُ إيَّاها مُعاوِيَةُ، وكان يُجالِس الفُقَهاء والعُلَماء والعُبَّاد والصُّلَحاء, بُويِعَ بالخِلافَة في سنة خَمس وسِتِّين في حَياةِ أبيهِ، في خِلافَة ابن الزُّبير، وبَقِيَ على الشَّامِ ومِصْرَ مُدَّة سَبْعِ سِنين، وابن الزُّبير على باقي البِلاد ثمَّ اسْتَقَلَّ بالخِلافَة على سائِر البِلاد والأقاليم بعدَ مَقْتَل ابنِ الزُّبير، وقد كان عبدُ الملك قبلَ الخِلافَة مِن العُبَّاد الزُّهَّاد الفُقَهاء المُلازِمين للمَسجِد، التَّالِين للقُرآن، وكان رِبْعَةً مِن الرِّجال أَقْرَب إلى القِصَر. قال عنه نافعٌ: رَأيتُ المدينةَ وما فيها شَابٌّ أَشَدُّ تَشْميرًا، ولا أَفْقَهُ ولا أَقْرَأُ لِكِتابِ الله مِن عبدِ الملكِ بن مَرْوان. قال عبدُ الملك: كُنتُ أُجالِس بَرِيرَةَ قبلَ أن أَلِيَ هذا الأَمْرَ، فكانت تَقولُ: يا عبدَ الملك، إنَّ فِيكَ خِصالًا، وإنَّك لَجَدِيرٌ أن تَلِيَ أَمْرَ هذه الأُمَّةِ، فاحْذَر الدِّماء ; فإنِّي سَمِعْتُ رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((إنَّ الرَّجُلَ لَيُدْفَع عن بابِ الجَنَّة أن يَنْظُرَ إليها على مِحْجَمَةٍ مِن دَمٍ يُريقُه مِن مُسلِم بِغيرِ حَقٍّ. كان فُقَهاء المَدينة أَربعَة: سَعيدُ بن المُسَيِّب، وعُرْوَةُ، وقَبيصَةُ بن ذُؤَيْب، وعبدُ الملك بن مَرْوان قبلَ أن يَدخُل في الإمارة. لم يَزَلْ عبدُ الملك مُقيمًا بالمدينة حتَّى كانت وَقْعَة الحَرَّةِ، واسْتَولى ابنُ الزُّبير على بِلادِ الحِجازِ، وأَجْلَى بَنِي أُمَيَّة منها، فقَدِمَ مع أَبيهِ الشَّامَ، ثمَّ لمَّا صارَت الإمارةُ مع أَبيهِ وبايَعه أهلُ الشَّام أَقامَ في الإمارةِ تَسعةَ أَشهُر، ثمَّ عَهِدَ إليه بالإمارةِ مِن بَعدِه. بُويِعَ عبدُ الملك بالخِلافَة في مُسْتَهَلِّ رَمضانَ سنة خَمسٍ وسِتِّين، واجْتَمع النَّاسُ عليه بعدَ مَقتلِ ابنِ الزُّبير سنة ثلاث وسَبعين. كان عبدُ الملك له إقْدامٌ على سَفْكِ الدِّماء، وكان عُمَّالُه على مَذهَبِه; منهم الحَجَّاجُ، والمُهَلَّبُ، وغيرُهم، وكان حازِمًا فَهِمًا فَطِنًا، سَائِسًا لِأُمُور الدُّنيا، لا يَكِلُ أَمْرَ دُنياهُ إلى غَيرِه، وكان عبدُ الملك يقول: أَخافُ المَوتَ في شَهْرِ رَمضان، فيه وُلِدْتُ وفيه فُطِمْتُ وفيه جَمَعْتُ القُرآنَ، وفيه بايَعَ لِيَ النَّاسُ، فمات في النِّصف مِن شَوَّال حين أَمِنَ الموتَ في نَفسِه. وكان عُمُرُهُ سِتِّين سنة، وقِيلَ: ثلاثًا وسِتِّين سنة. وكانت خلافَتُه مِن لَدُن قَتْلِ ابنِ الزُّبير ثلاث عَشرةَ سنةً وأربعة أَشهُر إلَّا سبع ليالٍ، وقِيلَ: وثلاثة أَشهُر وخمسة عَشرَ يومًا. ودُفن خارِجَ بابِ الجابِيَة. صلَّى عليه ابنُه الوَليدُ ووَلِيَ عَهْدَهُ مِن بَعدِه.
كان سببُها أنَّه لمَّا قُتِلَ أصحابُ بِئرِ مَعونةَ مِن أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا سبعين، وأَفْلَتَ منهم عَمرُو بنُ أُميَّةَ الضَّمريُّ، فلمَّا كان في أَثناءِ الطَّريقِ راجعًا إلى المدينةِ قَتَلَ رجُلينِ مِن بني عامرٍ، وكان معهما عهدٌ مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأَمانٌ لم يَعلَمْ به عَمرٌو، فلمَّا رجَع أَخبرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم... فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النَّضيرِ يَستَعينُهم في دِيَةِ ذَيْنِكَ الرَّجلينِ، وكانت مَنازِلُ بني النَّضيرِ ظاهِرَ المدينةِ على أَميالٍ منها شَرقِيَّها. قال محمَّدُ بنُ إسحاقَ بنِ يَسارٍ في كتابِه السِّيرة: ثمَّ خرج رسولُ الله إلى بني النَّضيرِ، يَستَعينُهم في دِيَةِ ذَيْنِكَ القَتيلَينِ مِن بني عامرٍ، اللَّذينِ قَتَلَ عَمرُو بنُ أُميَّةَ الضَّمريُّ؛ للجِوارِ الذي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عقَد لهما.... فلمَّا أتاهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَستَعينُهم في دِيَةِ ذَيْنِكَ القَتيلينِ قالوا: نعم، يا أبا القاسمِ، نُعينُك على ما أَحببتَ، ممَّا اسْتعَنتَ بِنا عليه. ثمَّ خلا بعضُهم ببعضٍ فقالوا: إنَّكم لن تَجِدوا الرَّجلَ على مِثلِ حالِه هذه -ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى جَنبِ جِدارٍ مِن بُيوتِهم- فَمَن رجلٌ يَعلو على هذا البيتِ، فيُلقي عليه صَخرةً، فيُريحُنا منه؟ فانْتدَب لذلك عَمرُو بنُ جَحَّاشِ بنِ كعبٍ أحدُهم، فقال: أنا لذلك. فصعَدَ ليُلقِيَ عليه صَخرةً كما قال، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في نَفَرٍ مِن أصحابِه، فيهم أبو بكرٍ وعُمَرُ وعليٌّ رضي الله عنهم. فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ مِن السَّماءِ بما أراد القومُ، فقام وخرج راجعًا إلى المدينةِ، فلمَّا اسْتَلْبَثَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أصحابُه قاموا في طَلبِه فلَقوا رجلًا مُقبِلًا مِنَ المدينةِ، فسألوهُ عنه، فقال: رأيتُه داخلًا المدينةَ. فأقبل أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حتَّى انتهوا إليه، فأخبرَهُم الخبرَ بما كانت يَهودُ أرادت مِنَ الغَدْرِ به، وأمَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالتَّهَيُّؤِ لِحربِهم والمَسيرِ إليهم. ثمَّ سار حتَّى نزل بهم فتَحصَّنوا منه في الحُصون، فأمَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقطعِ النَّخلِ والتَّحريقِ فيها. فنادوهُ: أن يا محمَّدُ، قد كنتَ تَنهى عن الفسادِ وتَعيبُه على مَن صنَعه، فما بالُ قطعِ النَّخلِ وتَحريقِها؟! وقد كان رَهْطٌ مِن بني عَوفِ بنِ الخَزرجِ، منهم عبدُ الله بنُ أُبَيٍّ بن ابنُ سَلولَ، ووَديعَةُ، ومالكُ بنُ أبي قَوْقَلٍ، وسُوَيدٌ، وداعِسٌ، قد بعثوا إلى بني النَّضيرِ: أنِ اثْبُتوا وتَمَنَّعوا فإنَّا لن نُسْلِمَكُم، إن قوتِلْتُم قاتلنا معكم، وإن أُخرِجتُم خَرَجنا معكم فتَرَبَّصوا ذلك مِن نَصرِهم، فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرُّعبَ، فسألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يُجْلِيَهم ويَكُفَّ عن دِمائهِم، على أنَّ لهم ما حمَلتِ الإبلُ مِن أموالهِم، إلَّا الحَلَقَةَ، ففعَل، فاحتملوا مِن أموالهم ما اسْتقلَّتْ به الإبلُ، فكان الرَّجلُ منهم يَهدِم بيتَه عن نِجافِ بابِه، فيضَعُه على ظهرِ بَعيرهِ فينطلِقُ به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم مَن سار إلى الشَّامِ، وخَلَّوْا الأموالَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فكانت لِرسولِ الله خاصَّةً)، وقد ثبَت في البُخاريِّ أنَّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قد أَجلى بني النَّضيرِ. وفيهم نزلت سورةُ الحَشْرِ.
خرج الأسوَدُ العَنْسيُّ -واسمُه عَبهلةُ بنُ كَعبِ بنِ غَوثٍ- في آخِرِ حياةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَبْعِمائةِ مقاتلٍ، فكَتَب إلى عمَّالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّها المتمَرِّدون علينا، أمسِكوا علينا ما أخَذْتُم مِن أرضِنا، ووفِّروا ما جمعتُم؛ فنحن أَولى به، وأنتم على ما أنتم عليه، ثمَّ توجَّه مع مقاتِلِيه إلى نجرانَ فأخَذَها، ثمَّ قَصَد صنعاءَ، فخرج إليه شَهرُ بنُ باذامَ فتقاتلا، فغَلَبه الأسوَدُ وقتَلَه وتزوَّج بامرأةِ شَهرِ بنِ باذامَ، وهي ابنةُ عَمِّ فيروز الدَّيلميِّ، واسمُه آزاذُ، وكانت مؤمنةً باللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومِن الصَّالحاتِ، واحتَلَّ العَنسيُّ صنعاءَ، فذهب معاذُ بنُ جبَلٍ وأبو موسى الأشعريِّ إلى حَضرَموتَ، وانحاز عُمَّالُ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى الطَّاهِرِ، ورجَعَ عُمَرُ بنُ حرامٍ وخالِدُ بنُ سعيدِ بنِ العاصِ إلى المدينةِ، واستوثقَت اليمَنُ للأسودِ العَنسيِّ، وجَعَل أمرُه يستطيرُ استطارةَ الشَّرارةِ، واشتَدَّ مُلكُه، واستغلظ أمرُه، وارتَدَّ خَلقٌ مِن أهلِ اليَمَنِ، وعامَله المسلمون الذين هناك بالتَّقِيَّةِ فبعث رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين بلغَه خَبَرُ الأسودِ العَنسيِّ كِتابَه مع قيسِ بنِ مكشوحٍ يأمرُ فيه المسلمين الذين هناك بمُقاتلةِ العَنْسيِّ ومُصاولتِه، فقام معاذُ بنُ جَبَلٍ بهذا الكتابِ أتمَّ قيامٍ، واتَّفَق معاذُ بنُ جبَلٍ ومَن التَفَّ حولَه مِن أهلِ اليَمَنِ، وقيسُ بنُ عبدِ يغوثَ أميرُ جندِ الأسوَدِ، وفَيروز الدَّيلميُّ؛ على الفتكِ بالأسوَدِ وقَتْلِه، وتعاقدوا عليه، فلمَّا كان الليلُ دَخَلوا عليه البيتَ؛ تقَدَّم إليه فيروز الدَّيلميُّ، وكان الأسوَدُ نائمًا على فراشٍ من حريرٍ، قد غَرِقَ رأسُه في جَسَدِه، وهو سَكْرانُ يَغطُّ، والمرأةُ جالسةٌ عنده، فعاجله وخالَطَه، وهو مِثلُ الجَمَلِ، فأخَذَ رأسَه، فدَقَّ عُنُقَه ووَضَع رُكبتَيه في ظَهْرِه حتى قَتَلَه، وجلس قيسٌ وداذويه وفيروز يأتمرونَ كيف يُعلِمونَ أشياعَهم، فاتَّفَقوا على أنَّه إذا كان الصَّباحُ ينادون بشِعارِهم الذي بينهم وبين المسلمين، فلمَّا كان الصَّباحُ قام أحَدُهم -وهو قيس- على سُورِ الحِصنِ، فنادى بشِعارِهم، فاجتمع المسلِمون والكافِرون حول الحِصنِ، فنادى قيسٌ: أشهَدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، وأنَّ عَبهلةَ كذَّابٌ، وألقى إليهم رأسَه، فانهزم أصحابُه، وتَبِعَهم النَّاسُ يأخُذونهم ويرصُدونهم في كلِّ طريقٍ يأسِرونَهم، وظهر الإسلامُ وأهلُه، وتراجَعَ نوَّابُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى أعمالِهم، واتَّفَقوا على معاذِ بنِ جَبَلٍ يصلِّي بالنَّاسِ، وكتبوا بالخَبَرِ إلى رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكانت مُدَّةُ مُلكِه منذ ظهر إلى أن قُتِلَ ثلاثةُ أشهُرٍ أو أربعةُ أشهرٍ.
انقطعت الأمطارُ بالكليَّةِ في سائِرِ البلاد الشاميَّة والجزيرة والبلاد العراقية، والديار البكريَّة، والموصل وبلاد الجَبَل وخلاط، وغير ذلك، واشتدَّ الغلاء، وكان عامًا في سائرِ البلاد، واستسقى الناسُ في أقطار الأرض، فلم يُسقَوا، وتعَذَّرَت الأقوات، وأكَلَت الناس الميتةَ وما ناسَبَها، ودام كذلك إلى آخِرِ سنة خمس وسبعين؛ ثم تَبِعَه بعد ذلك وباءٌ شديد عامٌّ أيضًا، كَثُرَ فيه الموت، وكان مَرَضُ الناس شيئًا واحدًا، وهو السرسام- ورم في حجاب الدماغ تَحدُثُ عنه حُمَّى دائمة- وكان الناسُ لا يلحقون يدفنون الموتى، إلا أنَّ بعض البلاد كان أشَدَّ مِن البَعضِ.
خرج رجلٌ يقال له محمودُ بن الفَرَج النيسابوري، وهو ممَّن كان يتردَّدُ إلى خشَبةِ بابك وهو مصلوبٌ فيقعُدُ قريبًا منه، وذلك بقُربِ دار الخلافةِ بسُرَّ من رأى، فادَّعى أنَّه نبيٌّ، وأنَّه ذو القرنينِ، وقد اتَّبَعه على هذه الضَّلالة ووافَقَه على هذه الجَهالةِ جماعةٌ قليلونَ، وهم تسعة وعشرون رجلًا، وقد نظَمَ لهم كلامًا في مصحَفٍ له- قبَّحه الله- زعم أنَّ جبريلَ جاءه به من الله، فأتيَ به وبأصحابِه المتوكِّل، فأمر به فضُرِبَ ضربًا شديدًا وحُمِلَ إلى بابِ العامَّة، فأكذب نَفسَه، وأمَرَ أصحابَه أن يَضرِبَه كلُّ رجلٍ منهم عشرَ صفعاتٍ، ففعلوا وأخذوا له مُصحفًا فيه كلامٌ قد جمعه، وذكر أنَّه قرآنٌ، وأنَّ جبريل نزل له، ثمَّ مات من الضَّربِ في ذي الحجَّة، وحُبِسَ أصحابُه، ثم اتَّفقَ مَوتُه في يوم الأربعاء لثلاثٍ خَلَونَ مِن ذي الحجة من هذه السَّنةِ.
إنَّ الملك الظاهر يلباي الإينالي لما تسلطن وتم أمره غطَّاه المنصب، وصار كالمذهول، ولزم السكوتَ وعدم الكلام، وضَعُف عن بتِّ الأمور، وردْع الأجلاب، بل صارت الأجلاب في أيامه كما كانت أولًا وأعظم، فلم يَحسُن ذلك ببال أحد، وصار الأمير خيربك الدوادار الثاني هو صاحب الحل والعقد في مملكته، وإليه جميعُ أمور المملكة، وشاع ذلك في الناس والأقطار، فبهذا وأشباهه اضطربت أحوالُ الديار المصرية، ولما كان عصر يوم الأربعاء رابع جمادى الأولى، وطلعت الأمراء الألوف إلى القلعة ليبيتوا بالقصرِ على العادة، امتنعت المؤيدية عن الطلوع بمن وافقهم ما خلا الأمير جانبك الإينالي الأشرفي المعروف بقلقسيز أمير مجلس، وهو كبير الأشرفية الكبار يومئذ، واستمالت الظاهرية أيضًا الأمير جانبك قلقسيز الأشرفي أمير مجلس، فمال إليهم، ووعدهم بممالأة خشداشيته- زملائه- الأشرفية إليهم، وخذلان يشبك الدوادار، فعند ذلك صار الملك الظاهر يلباي وحده أسيرًا في أيدي القلعيين، فلما أصبحوا يوم الخميس خامس جمادى الأولى أعلن الأمير يشبك الفقيه الوثوب على الخشقدمية، ولبسوا آلة الحرب، وركب بمن معه من المؤيدية والأشرفية الكبار والأشرفية الصغار، والسيفية، واجتمع عليهم خلائقُ من كل طائفة، ومالت زعر الديار المصرية إليهم، وبلغ مَن بالقلعة أمرهم، فخافوهم خوفًا شديدًا، ولَبِسوا هم أيضًا آلة الحرب، ونزلوا بالسلطان الملك الظاهر يلباي إلى مقعد الإسطبل السلطاني المطل على الرميلة، وشرعوا في قتال الأمير يشبك بمن معه في الأزقة والشوارع بالصليبية، وأصبح يوم الجمعة سادس جمادى الأولى والقتال قائم بين الفريقين بشارع الصليبية من أول النهار إلى آخره، فلما جاء الليل ليلة السبت أدخل يلباي إلى مبيت الحراقة، وبات به على هيئة عجيبة، إلى أن أصبح النهار وأخذوه وطلعوا به إلى القصر الأبلق، وحبسوه في المخبأة التي تحت الخرجة، بعد أن طلعوا به ماشيًا على هيئة الخَلعِ من السلطنة ثم سُجِنَ بعد ذلك بسجن الإسكندرية إلى أن توفي في العام التالي وقد جاوز السبعين من عمره، وأخذ الناس في سلطنة الملك الظاهر تمربغا، وزال ملك يلباي هذا كأنه لم يكن، وكانت مدة ملكه شهرين إلا أربعة أيام، ليس له فيها إلا مجرد الاسم فقط، أما السلطان الجديد الظاهر أبو سعيد تمربغا فجلس بصدر المقعد بالإسطبل السلطاني المعروف بالحراقة، وحضر الخليفة المستنجد بالله أبو المظفر يوسف، والقاضي الشافعي والقاضي الحنفي، وتخلف المالكي لتوعكه، والحنبلي لإبطائه، وحضر غالب أرباب الدولة والأعيان وبايعوه بالسلطنة، فقام من وقته ودخل مبيت الحراقة، ولبس خلعة السلطنة السواد الخليفتي.