هو أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن محمد بن نصر بن محمد بن سبعين، القرشي، المخزومي، بن قطب الدين المقدسي الصوفي الرقوطي، نسبة إلى رقوطة بلدة قريبة من مرسية بالأندلس. المشهور بابن سبعين، ولِدَ سنة أربع عشرة وستمائة، واشتغل بعلم الأوائل والفلسفة، فتولَّدَ له من ذلك نوع من الإلحاد، وصنَّفَ فيه، وكان يعرف السيميا، وكان يلَبِّسُ بذلك على الأغبياء من الأمراء والأغنياء، ويزعُمُ أنه حال من أحوال القوم، وله المصنفات منها كتاب البدوي، وكتاب الهو، رسالة النصيحة النورية، عهد ابن سبعين، الإحاطة، الرسالة الفقيرية، الحكم والمواعظ، الرسالة القبرصية, وقد أقام بمكة واستحوذ على عقل صاحبها أبي نمي بن أبي سعد. وشاع صيتُه وكثر أتباعه بين أهل مكة بسبب سخائه وعِلمِه، وقد ظل ابن سبعين في مكَّة حتى توفي به، وجاور في بعض الأوقاتِ بغار حراء يرتجي فيما يُنقَلُ عنه أن يأتيه فيه وحيٌ، كما أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم!! بناء على ما يعتقده من العقيدة الفاسدة من أن النبوة مكتسبة، وأنها فيض يفيض على العقل إذا صفا، فما حصل له إلا الخزي في الدنيا والآخرة، إن كان مات على ذلك, وقد كان إذا رأى ابن سبعين الطائفينَ حول البيت يقول عنهم كأنهم الحميرُ حول المدار، وأنهم لو طافوا به كان أفضَلَ من طوافهم بالبيتِ، وقد نُقِلَت عنه عظائم من الأقوال والأفعال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فصار بعضُهم يرى أن باب النبوة مفتوح لا يمكن إغلاقُه فيقول كما كان ابن سبعين يقول: "لقد زرَّب ابن آمنة حيث قال: لا نبي بعدي" أو يرى لكونه أشد تعظيمًا للشريعة أن باب النبوة قد أغلق فيدعي أن الولاية أعظم من النبوة، وأن خاتم الأولياء أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن خاتم الأنبياء بل وجميع الأنبياء إنما يستفيدون معرفة الله من مشكاة خاتم الأولياء!! ويقول إنه يوافق النبي في معرفة الشريعة العملية؛ لأنه يرى الأمر على ما هو عليه فلا بد أن يراه هكذا، وإنه أعلم من النبي بالحقائق العلمية؛ لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول!! وهذا بناء على أصول هؤلاء الفلاسفة الكفار الذين هم أكفر من اليهود والنصارى". وقال شيخ الإسلام: "ابن سبعين أحد أئمة الاتحادية ومحققيهم وأذكيائهم، أنه قال عن كلام ابن عربي: "فلسفة مخموجة" وكلامه هو أدخل في الفلسفة وأبعد عن الإسلام، ولا ريب أن هؤلاء من جنس الملاحدة الباطنية القرامطة، وهؤلاء الفلاسفة مشتركون في الضلال ومذاهب هؤلاء الفلاسفة في الإلهيات من أشد المذاهب اضطرابًا وتناقضًا وقولًا لا حقيقة له، فلما كان مذهبهم المقارنة التي هي في الحقيقة تعطيل الصنع والخلق والإبداع وإن كانوا يدَّعون أنهم يثبتون واجبًا غير العالم، فهذا دعواهم، وإلا ففي الحقيقة يلزمهم ألا يكون ثَمَّ واجِبُ الوجود غير العالم، وهذا حقيقة قول الاتحادية وهو الذي أظهره إمام هؤلاء فرعون؛ فإن الاتحادية تنتحله وتعظمه والباطنية تنتحله وتعظمه وهو على مقتضى أصول الفلاسفة الصابئة المشركين الذين هم من أعظم الناس إيمانًا بالجبت والطاغوت" قال الذهبي: "كان ابن سبعين صوفيًّا على قاعدة زهاد الفلاسفة وتصوفهم، وله كلام كثير في العرفان على طريق الاتحاد والزندقة, وقد ذكرنا محط هؤلاء الجنس في ترجمة " ابن الفارض "، و " ابن العربي " وغيرهما. فيا حسرة على العباد كيف لا يغضبون لله تعالى ولا يقومون في الذبِّ عن معبودهم، تبارك اسمُه وتقدست في ذاته، عن أن يمتزج بخَلقِه أو يحِلَّ فيهم, وتعالى الله عن أن يكون هو عينَ السموات والأرض وما بينهما, فإن هذا الكلام شر من مقالة من قال بقدم العالم، ومن عرف هؤلاء الباطنية عذرني، أو هو زنديق مبطن للاتحاد يذب عن الاتحادية والحلولية، ومن لم يعرفهم فالله يثيبه على حسن قصده. وينبغي للمرء أن يكون غضَبُه لربه إذا انتُهِكَت حرماته أكثَرَ من غضبه لفقير غير معصوم من الزَّلَل. فكيف بفقير يحتمل أن يكون في الباطن كافرًا، مع أنا لا نشهد على أعيان هؤلاء بإيمان ولا كفر لجواز توبتهم قبل الموت. وأمرهم مُشكِل وحسابُهم على الله, وأما مقالاتهم فلا ريب في أنها شر من الشرك، فيا أخي ويا حبيبي أعطِ القوس باريَها ودعني ومعرفتي بذلك، فإنني أخاف الله أن يعذبني على سكوتي، كما أخاف أن يعذبني على الكلام في أوليائه. وأنا لو قلت لرجل مسلم: يا كافر، لقد بؤتُ بالكفر، فكيف لو قلتُه لرجل صالح أو ولي لله تعالى؟ " توفي ابن سبعين في الثامن والعشرين من شوال بمكة.
حدثت معارك بين العثمانيين والمماليك على الحدود الشامية، إلا أنها لم تحتدم إلى حد التهديد بحدوث حرب شاملة بينهما، حيث استطاع قائد الجيوش المملوكية الأمير أزبك أن يأسر القائد العثماني أحمد بك بن هرسك، فأسهمت هذه الحرب في الشعور بعدم الثقة بينهما، الأمر الذي أدى إلى تعثر مفاوضات الصلح سنة 896. حتى إن السلطان المملوكي " قايتباي" قد ساورته مخاوف من احتمال قيام حرب واسعة بينه وبين العثمانيين؛ سواء لإدراكه ما كان عليه العثمانيون من قوة، أو لانشغال جزء هام من قواته في مواجهة البرتغاليين، إلا أن السلطان العثماني بايزيد الثاني قد بدَّد له هذه المخاوف؛ حيث قام بإرسال رسول من قِبَله إلى السلطان المملوكي معه مفاتيح القلاع التي استولى عليها العثمانيون على الحدود، وقد لقي هذا الأمر ترحيبًا لدى السلطان المملوكي، فقام بإطلاق سراح الأسرى العثمانيين، وأسهمت سياسة بايزيد السلمية في عقد صلح بين العثمانيين والمماليك في نفس السنة، وظل هذا الصلح ساريًا حتى نهاية عهد السلطان بايزيد الثاني سنة 917 وأكد هذا الحدث على حرص السلطان بايزيد في سياسة السلام مع المسلمين.
هو أبو طاهرٍ سُلَيمانُ بنُ أبي سعيد الحسن الجَنّابي الهَجري القرمطيُّ، رئيس القرامطة- قبَّحه الله- كان أبوه يحِبُّه ويرجِّحُه للأمرِ مِن بعده، وأوصى: إن حَدَث به موتٌ، فالأمرُ إلى ابنِه سعيدٍ إلى أن يكبَرَ أبو طاهر، فيُعيد سعيدٌ إليه الأمر. فلما كان في سنةِ خمس وثلاثمائة سلَّمَ سعيدٌ الأمرَ إلى أخيه أبي طاهر، فاستجاب لأبي طاهرٍ خَلقٌ وافتتنوا به؛ بسبب أنَّه دلَّهم على كنوزٍ كان والده أطلَعَه عليها وحده، فوقَعَ لهم أنَّه عِلمُ غَيْبٍ، وقد استباح البصرةَ، وأخذ الحجيجَ، وفعَلَ العظائم، وأرعَبَ الخلائِقَ وكُثُرَت جموعُه، وتزلزل له الخليفةُ. وزعم بعضُ أصحابه أنه إلهٌ، ومنهم من زعم أنَّه المسيح، ومنهم مَن قالَ هو نبيٌّ. وقيل: هو المهديُّ، وقيل: هو الممهِّدُ للمهديِّ. وقد هَزَمَ جيشَ الخليفة المقتدي غيرَ مرَّة، ثمّ إنَّه قصد بغداد ليأخذها، فدفَعَ اللهُ شَرَّه. وقتل الحجيجَ حولَ الكعبة وفي جوفِها، وسَلَبَها كسوتَها، وأخذ بابَها وحِليَتَها، واقتلع الحجرَ الأسودَ مِن مَوضِعِه وأخذه معه إلى بلَدِه هَجَر، فمكث عنده من سنة 319 ثم مات- قبَّحه الله ولعَنَه- وهو عندَهم, ولم يردُّوه إلَّا سنة 339، ولَمَّا مات هذا القرمطي قام بالأمرِ مِن بعده إخوتُه الثلاثة، وهم أبو العباس الفضل، وأبو القاسم سعيد، وأبو يعقوب يوسف، بنو أبي سعيد الجنابي، وكان أبو العبَّاسِ ضعيفَ البدن مُقبِلًا على قراءة الكتب، وكان أبو يعقوبَ مُقبِلًا على اللهو واللعب، ومع هذا كانت كلمةُ الثلاثة واحدةً، لا يختلفون في شيءٍ وكان لهم سبعةٌ من الوزراء متَّفِقونَ أيضًا.
دخل دمشق نهبُ إبل بني مدلج من العرب، قريب ألف ناقة وحمل وفصلان صغار، تجأر بصوتها الأمهات على أولادها، وأولادها على أمهاتها، حتى حزن الناس عليهم، ثم وضعوا في خان الجورة، وفارقوا بين الفصلان وأمهاتهم بالأكل والبيع، فزادوا في الجأر إلى الله، حتى سمعت من مكان بعيد، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ودخل معهم عدة رؤوس مقطعة من عرب بني مدلج.
هو أمينُ الأُمَّةِ عامرُ بن عبدِ الله بن الجَرَّاح رضِي الله عنه، اشْتَهَر بكُنْيَتِه, أبي عُبيدةَ، أحدُ العشرةِ المُبَشَّرين بالجنَّةِ، شَهِدَ بدرًا وأُحُدًا والمَشاهِدَ كُلَّها مع رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو مِن السَّابقين إلى الإسلامِ، وهاجَر إلى الحَبَشةِ وإلى المدينةِ أيضًا، وكان يُدْعى: القويَّ الأمينَ، آخَى النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بينه وبين أبي طَلحةَ الأنصاريِّ، كان مِن القُوَّادِ الفاتحين زَمَنَ عُمَر، حيث عَيَّنهُ قائدًا لِجُيوشِ الشَّام بعدَ عَزْلِ خالدِ بن الوَليد، وكان عُمَرُ يُجِلُّهُ كثيرًا حتَّى قِيلَ: إنَّ عُمَر قال: لو كان أبو عُبيدةَ حَيًّا لاسْتَخْلَفْتُه, وقال عُمَرُ لأصحابِه يومًا: تَمَنَّوْا. فقال رجلٌ أَتَمَنَّى لو أنَّ لي هذه الدَّارَ مَملوءةٌ ذهبًا انْفقتُه في سَبيلِ الله عزَّ وجلَّ. ثمَّ قال: تَمَنَّوْا. فقال رجلٌ: أَتَمَنَّى لو أنَّها مملوءةٌ لُؤْلُؤًا وزَبَرْجَدًا أو جَوْهرًا أُنْفِقُه في سَبيلِ الله عَزَّ وجلَّ وأَتَصدَّقُ به. ثمَّ قال: تَمَنَّوْا. فقالوا: ما نَدري يا أميرَ المؤمنين. فقال عُمَرُ: أَتَمَنَّى لو أنَّ هذا الدَّارَ مملوءةٌ رِجالًا مِثلَ أبي عُبيدةَ بن الجَرَّاحِ. تُوفِّيَ في طاعون عَمْواس على المشهورِ.
بعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً في ثلاثةِ آلافِ مُقاتلٍ على الجيشِ زيدُ بنُ حارثةَ، فإن أُصيبَ فجَعفرُ بنُ أبي طالبٍ، فإنْ أُصيبَ فعبدُ اللهِ بنُ رَواحةَ، وشَيَّعهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ووَدَّعهُم، ثمَّ انْصرَف ونهَضوا، فلمَّا بلغوا مَعانَ مِن أرضِ الشَّامِ، أَتاهُم الخبرُ: أنَّ هِرقلَ مَلِكَ الرُّومِ قد نزل أرضَ بني مآبٍ، -أرضَ البَلقاءِ- في مائةِ ألفٍ مِنَ الرُّومِ، ومائةِ ألفٍ أُخرى مِن نَصارى أهلِ الشَّامِ، فأقام المسلمون في مَعانَ لَيلتينِ، يتَشاوَرون في أمرِ اللِّقاءِ بِعَدُوِّهِم البالغِ مِائتي ألفٍ فقالوا: نَكتُب إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم نُخبِرُهُ بعَددِ عَدُوِّنا، فيَأمُرنا بأَمرِهِ أو يُمِدُّنا. فقال عبدُ الله بنُ رَواحةَ: يا قومُ، إنَّ الذي تَكرَهون لَلَّتِي خَرجتُم تَطلُبون -يعني الشَّهادةَ- وما نُقاتِلُ النَّاسَ بِعدَدٍ ولا قُوَّةٍ، وما نُقاتِلُهُم إلَّا بهذا الذي أَكرَمَنا الله به، فانْطَلِقوا فهي إحدى الحُسْنَيينِ: إمَّا ظُهورٌ، وإمَّا شَهادةٌ. فَوافقَهُ الجيشُ على هذا الرَّأيِ ونهَضوا، حتَّى إذا كانوا بتُخومِ البَلقاءِ لَقوا بعضَ الجُموعِ التي مع هِرقلَ بالقُربِ مِن قريةٍ يُقالُ لها: مُؤْتَةُ. فاقتَتَلوا، فقُتِلَ زيدُ بنُ حارثةَ، فأخَذ الرَّايةَ جعفرُ بنُ أبي طالبٍ، فقاتَل حتَّى قُطِعَتْ يَمينُه، فأخَذ الرَّايةَ بِيُسْراهُ فقُطِعَتْ، فاحْتضَنَها فقُتِلَ كذلك، فأخَذ عبدُ الله بنُ رَواحةَ الرَّايةَ، وتَرَدَّدَ عنِ النُّزولِ بعضَ التَّرَدُّدِ، ثمَّ صَمَّمَ، فقاتَل حتَّى قُتِلَ، فأخَذ الرَّايةَ ثابتُ بنُ أَقرمَ، وقال: يا مَعشرَ المسلمين، اصْطَلِحوا على رجلٍ منكم. فقالوا: أنت. قال: لا. فاصطَلَح النَّاسُ على خالدِ بنِ الوليدِ، فلمَّا أخَذ الرَّايةَ دافَع القَومَ وحاشى بهِم، ثمَّ انْحازَ وانْحِيزَ عنه، حتَّى انْصرَف بالنَّاسِ، فتَمَكَّنَ مِنَ الانْسِحابِ بمَن معه مِنَ المسلمين، قال خالدُ بنُ الوليدِ: لقد انقْطَعَتْ في يَدي يومَ مُؤْتَةَ تِسعةُ أَسيافٍ فما بَقِيَ في يَدي إلَّا صَفيحةٌ يَمانِيَّةٌ». وهذا يقتضي أنَّهم أثْخَنوا فيهم قَتْلًا، ولو لم يكن كذلك لَما قَدَروا على التَّخَلُّصِ منهم، ولهذا السَّببِ ولِغيرِهِ ذهَب بعضُ المُحقِّقين إلى أنَّ المسلمين قد انتصروا في هذه المعركةِ ولم يُهزَموا. عن أنسٍ رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، نَعَى زيدًا، وجعفرًا، وابنَ رَواحةَ للنَّاسِ، قبلَ أن يَأتِيَهُم خَبرُهُم، فقال: «أخَذ الرَّايةَ زيدٌ فأُصيبَ، ثمَّ أخَذ جعفرٌ فأُصيبَ، ثمَّ أخَذ ابنُ رَواحةَ فأُصيبَ، وعَيناهُ تَذْرِفانِ حتَّى أخَذ سيفٌ مِن سُيوفِ الله حتَّى فتَح الله عليهم».
عن أنسِ بنِ مالكٍ: أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عَليهِ وسلَّم أتاهُ جبريلُ صلَّى الله عَليهِ وسلَّم وهو يلعبُ مع الغِلمانِ، فأخذهُ فصرعهُ، فشَقَّ عن قَلبِه، فاستخرجَ القلبَ، فاستخرجَ منه عَلَقَةً، فقال: هذا حَظُّ الشَّيطانِ منكَ، ثمَّ غسلهُ في طِسْتٍ من ذهبٍ بماءِ زمزمَ، ثمَّ لَأَمَهُ، ثمَّ أعادهُ في مكانِه، وجاء الغِلمانُ يَسعَون إلى أمِّه -يعني ظِئْرَهُ-فقالوا: إنَّ محمَّدًا قد قُتل، فاستقبلوه وهو مُنْتَقِعُ اللَّونِ". قال أنسٌ: «وقد كنتُ أَرى أثرَ ذلكَ المِخْيَطِ في صدرِه».
كان الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم قد أَجْلى اليَهودَ مِن المدينة تِباعًا؛ وذلك لِنَقْضِهم العُهود، واسْتِثارتِهم الفِتَن والحُروب، وقد كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (لا يَجتَمِع دِينانِ في أرضِ العَربِ). وكانت اليَهودُ قد اسْتقرَّت في خَيبرَ وما حولها بعدَ جَلائِهم مِن المدينةِ، وبقوا على ذلك حتَّى قام عُمَر بإجلائِهم مِن خَيبرَ إلى الشَّامِ عملًا بحَديثِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأمَّا نصارى نجران فقد أجلاهم عمر إلى الشَّام لما كثُر عددُهم وعَظُمَ خطرُهم على معقْل الإسلام.
لما كان شهر ربيع الأول من هذه السنة، شغَّب العبيد على السلطان مولاي عبد الله بن إسماعيل بن مولاي علي الشريف العلوي, وهمُّوا بخلعه والإيقاع به، فنذرت بذلك أمه الحرة خناثى بنت بكار، ففرت من مكناسة إلى فاس الجديد، ومن الغد تبِعَها ابنها السلطان المولى عبد الله، ونزل برأس الماء فخرج إليه الودايا وأهل فاس وأجَلُّوا مَقدَمَه واهتزُّوا له، فاستعطفهم السلطان وقال لهم: أنتم جيشي وعدتي، ويميني وشمالي، وأريد منكم أن تكونوا معي على كلمة واحدة، وعاهدهم وعاهدوه ورجعوا، وفي أثناء ذلك بلغه أن أحمد بن علي الريفي قد كاتب عبيد مشرع الرملة وكاتبوه واتفق معهم على خلع السلطان مولاي عبد الله وبيعة أخيه مولاي زين العابدين، وكان يومئذ عنده بطنجة وأنهم وافقوه، فوجم لها السلطان مولاي عبد الله، ثم استعجل أمر المولى زين العابدين ففرَّ مولاي عبد الله إلى بلاد البربر.
كان رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدْعو إلى الله تعالى في كُلِّ أحوالِهِ؛ ليلًا ونهارًا، وسِرًّا وجهرًا، لا يَصرِفُه عن ذلك صارِفٌ ولا يَرُدُّه عن ذلك رادٌّ، ولا يَصُدُّه عن ذلك صادٌّ، يَتبَعُ الناسَ في أنديَتِهم، ومَجامِعِهم ومَحافِلِهم وفي المَواسمِ، ومَواقفِ الحَجِّ؛ يدعو مَن لَقيَه مِن حرٍّ وعبدٍ، وضعيفٍ وقويٍّ، وغنيٍّ وفقيرٍ.
وتسلَّط عليه وعلى مَنِ اتَّبَعه كفارُ قَومِه من مُشرِكي قُريشٍ، بل كان من أشدِّ الناسِ عليه عمُّه أبو لَهَبٍ وامرأتُه أُمُّ جَميلٍ حَمَّالةُ الحَطَبِ -أرْوَى بِنتُ حَربِ بن أُمَيَّةَ أختُ أبي سُفيانَ-، وكان عمُّه أبو طالبِ بن عبد المُطَّلب يحنو عليه، ويُحسِنُ إليه، ويُدافِعُ عنه ويُحامي، ويُخالِفُ قَومَه في ذلك؛ مع أنه على دِينِهم، وكان استِمرارُه على دينِ قَومِه من حكمةِ الله تعالى، ومَّما صَنَعه لرَسولِه من الحِمايةِ؛ إذ لو كان أسلَمَ أبو طالب لَمَا كان له عند مُشرِكي قُريشٍ وَجاهةٌ ولا كلمةٌ، ولا كانوا يَهابونه ويَحتَرِمونَه.
روى أصحاب السِّير أنَّ قريشًا جاءتْ إلى أبي طالبٍ فقالوا: "إنَّ ابنَ أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومَسجِدِنا فانْهَهُ عنَّا". فقال: "يا عَقيلُ، انطلِقْ فأْتِني بمُحمَّدٍ"، فجاء به في الظَّهيرةِ في شدَّةِ الحَرِّ. فلمَّا أتاهم قال: "إنَّ بني عمِّك هؤلاء زعموا أنَّك تُؤذيهم في ناديهم ومَسجدِهم؛ فانتَهِ عن أذاهم"، فحلَّق رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ببصرِه إلى السماءِ؛ فقال: "تَرَونَ هذه الشَّمسَ؟" قالوا: "نعم"، قال: "فما أنا بأقدَرَ أن أدَعَ ذلك منكم على أن تَشتَعِلوا منها بشُعلةٍ". فقال أبو طالبٍ: "واللهِ ما كَذَب ابنُ أخي قطُّ فارجِعوا".
عنِ البَراءِ بنِ عازبٍ رضِي الله عنهما قال: "لمَّا قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ صلَّى نحوَ بيتِ المَقدسِ سِتَّةَ عشرَ أو سَبعةَ عشرَ شهرًا، وكان يُحِبُّ أن يُوَجَّهَ إلى الكعبةِ، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144]، فَوُجِّهَ نحوَ الكعبةِ، وصلَّى معه رجلٌ العصرَ، ثمَّ خرج فمَرَّ على قومٍ مِنَ الأنصارِ فقال: هو يَشْهَدُ أنَّه صلَّى مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّه قد وُجِّهَ إلى الكعبةِ، فانحرفوا وهُم ركوعٌ في صلاةِ العصرِ.
وردَ إلى الخليفةِ القادِرِ بالله كِتابٌ مِن الأميرِ يَمينِ الدَّولة محمود بنِ سبكتكين الغزنوي أنَّه أحَلَّ بطائفةٍ مِن أهلِ الرَّيِّ مِن الباطنيَّة وغُلاة الرَّوافِضِ قَتلًا ذريعًا، وصَلبًا شَنيعًا، وأنَّه انتَهَب أموالَ رَئيسِهم رستُم بن علي الديلمي، فحصَلَ منها ما يُقارِبُ ألف ألف دينار، وقد كان في حيازتِه نحوٌ مِن خمسين امرأةً حُرَّة، وقد وَلَدْنَ له ثلاثًا وثلاثين ولدًا بين ذكَرٍ وأنثى، وكانوا يَرَونَ إباحةَ ذلك. وقد جاء في الكِتابِ: "إنَّ كِتابَ العَبدِ صَدَر مِن مُعسكَرِه بظاهِرِ الرَّيِّ غُرَّةَ جُمادى الآخرة سنة 420، وقد أزال اللهُ عن هذه البُقعةِ أيديَ الظَّلَمةِ وطَهَّرَها من دعوةِ الباطنيَّةِ الكَفَرة والمُبتَدِعة الفَجَرة، وقد كانت مدينةُ الرَّيِّ مَخصوصةً بالْتِجائِهم إليها وإعلانِهم بالدُّعاءِ إلى كُفرِهم، فيها يَختَلِطونَ بالمُعتَزِلة المُبتَدِعة، والغاليةِ مِن الرَّوافِضِ المُخالفةِ لِكِتابِ اللهِ والسُّنَّة، يتجاهرون بشَتمِ الصَّحابةِ ويُسِرُّونَ اعتقادَ الكُفرِ ومَذهَب الإباحة، وكان زعيمُهم رُستُم بنُ عليٍّ الدَّيلميُّ، فعطَفَ العَبدُ عِنانَه بالعساكرِ فطَلَع بجُرجان وتوقَّفَ بها إلى انصرافِ الشِّتاءِ، ثمَّ دَلَف منها إلى دامغان، ووجَّه عَلِيًّا الحاجب في مقَدِّمة العسكَرِ إلى الري، فبرز رُستُم بن علي على حُكمِ الاستسلامِ والاضطرارِ، فقُبِضَ عليه وعلى أعيانِ الباطنيَّةِ مِن قُوَّادِه, ثمَّ خرج الدَّيالِمة مُعتَرِفينَ بذُنوبِهم شاهِدينَ بالكُفرِ والرَّفضِ على نُفوسِهم، فرُجِعَ إلى الفُقَهاءِ في تعَرُّفِ أحوالهم، فاتَّفَقوا على أنَّهم خارِجونَ عن الطَّاعةِ وداخِلونَ في أهل الفَسادِ، مُستَمِرُّونَ على العنادِ، فيَجِبُ عليهم القَتلُ والقَطعُ والنَّفيُ على مراتِبِ جِناياتِهم، وذَكَر هؤلاء الفُقَهاءُ أنَّ أكثَرَ القَومِ لا يُقيمونَ الصَّلاةَ، ولا يُؤتُونَ الزَّكاةَ، ولا يَعرِفونَ شَرائِطَ الإسلامِ، ولا يُمَيِّزونَ بين الحلالِ والحرامِ، بل يجاهِرونَ بالقَذفِ وشَتمِ الصَّحابةِ، ويعتَقِدونَ ذلك ديانةً، والأمثَلُ منهم يتقَلَّدُ مذهَبَ الاعتزالِ، والباطِنيَّةُ منهم لا يُؤمِنونَ باللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وملائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليومِ الآخر، وأنَّهم يَعُدُّونَ جَميعَ المِلَلِ مَخاريقَ الحُكَماءِ، ويَعتَقِدونَ مَذهَبَ المَزدكيَّةِ: الإباحةَ في الأموالِ والفُروجِ والدِّماءِ، يَدَّعونَ الإسلامَ بإعلانِ الشَّهادةِ، ثمَّ يُجاهِرونَ بتَركِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ، والصَّومِ والغُسلِ، وأكْلِ المَيتةِ، فقضى الانتصارُ لدينِ اللهِ تعالى بتَميُّزِ هؤلاء الباطنيَّةِ عنهم، فصُلِبوا على شارِعِ مدينةٍ طالَما تمَلَّكوها غَصبًا، واقتسموا أموالها نهبًا، وقد كانوا بذلوا أموالًا جَمَّةً يَفتَدونَ بها نُفوسَهم، وضَمَّ إليهم أعيانَ المُعتَزِلة والغُلاة مِن الرَّوافِضِ؛ ليتخَلَّصَ النَّاسُ من فِتنَتِهم، ثمَّ نَظَرَ فيما اختَزَنَه رُستم بن علي فعَثَر على أموالٍ طائلةٍ وأثاثٍ عظيمٍ. ومن الكُتُب خمسون حِملًا ما خلا كتُبَ المُعتَزِلة والفَلاسِفة والرَّوافِض، فأُحرِقَت تحت جُذوعِ المَصلوبين؛ إذ كانت أصولَ البِدَع، فخَلَت هذه البُقعةُ مِن دُعاةِ الباطنيَّةِ وأعيانِ المُعتَزِلة وغُلاةِ الرَّوافِضِ، وانتَصَرت السُّنَّة، فطالَعَ العبدُ بحقيقةِ ما يَسَّرَه اللهُ تعالى لأنصارِ الدَّولةِ القاهرةِ".
هو الخليفة الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله يوسف بن المقتفي محمد بن المستظهر بالله أحمد بن المقتدي الهاشمي، العباسي، البغدادي. ولد في عاشر رجب، سنة 553.كان أبيض معتدل القامة، تركيَّ الوجه، مليح العينين، أنور الجبهة، أقنى الأنف، خفيف العارضين، أشقر، رقيق المحاسن، نَقشُ خاتمه: رجائي من الله عَفوُه. وبويع في أول ذي القعدة سنة 575، وكانت خلافته ستًّا وأربعين سنة وعشرة أشهر وثمانية وعشرين يومًا، فلم يلِ الخلافةَ أطولَ مدة منه إلَّا ما قيل عن المستنصر بالله العُبيدي، صاحب مصر، فإنَّه ولي ستين سنة، ولا اعتبارَ به، فإنَّه ولي وله سبع سنين، وكذا ولي الأندلس عبد الرحمن الناصر خمسين سنة. كان المستضيء والد الناصر قد تخوَّف منه فحَبَسَه، ومال إلى أخيه أبي منصور، وكان ابن العطار وكبراء الدولة ميلهم إلى أبي منصور، وكانت حظية المستضيء بنفشا والدة الناصر, والمجد بن الصاحب وطائفة مع الناصر، فلما بويع قبض على ابن العطار، وقتله, ثم سحب في الشوارع ميتًا، وطغى ابن الصاحب إلى أن قُتِل. قال الموفق عبد اللطيف: كان الناصر شابًّا مرحًا عنده ميعة الشباب، يشقُّ الدروب والأسواق أكثر الليل، والناس يتهيبون لقياه، وكان الرفضُ قد ظهر بسبب ابن الصاحب، ثم انطفأ بهلاكه وظهر التسنن، ثم زال, وقد خطب الناصر بولاية العهد لولده الأكبر أبي نصر، ثم ضيَّق عليه لما استشعر منه، وعيَّن أخاه، وأخذ خطًّا باعتراف أبي نصر بالعجز، أفسد ما بينهما النصير بن مهدي الوزير، وأفسد قلوب الرعية والجند على الناصر وبَغَّضَه إلى الملوك، وزاد الفساد، ثم قبض على الوزير، وتمكن بخراسان أيام الناصر خوارزمشاه محمد بن تكش وتجبَّرَ واستعبد الملوك وأباد الأمم من الترك والخطا، وظلم وعسف، وقطع خطبة الناصر من بلاده، ونال منه، وقصد بغداد، وجمع الناصرُ الجيش وأنفق الأموال، واستعد، فجاءت الأخبار إلى خوارزمشاه أن التتر قد حشدوا، وطمعوا في بلاده، فكرَّ إليهم وقصدهم فقصدوه وكثروه إلى أن مزَّقوه، وبلبلوا لبَّه وشتتوا شمله، وملكوا الأقطار، وصار أين توجَّه وجد سيوفَهم متحكمة فيه، وتقاذفت به البلاد، فشَرَّق وغرب، وأنجدَ وأسهَل، وأصحَرَ وأجبَلَ، والرعب قد زلزل لبه، فعند ذلك قضى نحبه. وقد جرى له ولابنه جلال الدين منكوبرتي عجائب. قال الموفق: "لم يزل الناصر في عز وقمع الأعداء، ولا خرج عليه خارجيٌّ إلا قمعه، ولا مخالفٌ إلا دمغه، ولا عدوٌّ إلا خُذِل، كان شديد الاهتمام بالمُلك، لا يخفى عليه كبيرُ شيء من أمور رعيته، أصحاب أخباره في البلاد، حتى كأنه شاهد جميعَ البلاد دفعة واحدة، كانت له حِيَل لطيفة، وخُدَع لا يفطِنُ إليها أحد، يوقع صداقةً بين ملوك متعادين، ويوقع عداوةً بين ملوك متوادين ولا يفطِنون. إلى أن قال: ولما دخل رسولُ صاحب مازندران بغداد كانت تأتيه كل صباح ورقة بما فعل في الليل، فصار يبالغ في التكتم، واختلى ليلة بامرأة فصبحته ورقة بذلك، فتحيَّرَ، وخرج لا يرتاب أن الخليفة يعلم الغيب, وجاءه مرة رسول لخوارزم شاه فحبس أشهرًا ثم أعطي عشرة آلاف دينار فذهب وصار مناصحًا للخليفة. وكان الناصرُ إذا أطعم أشبع، وإذا ضرب أوجع. قلت (الذهبي): أظنُّه كان مخدومًا من الجنِّ, وما تحت هذا الفعل طائلٌ، فكلُّ مخدوم وكاهن يتأتى له أضعاف ذلك. قال الموفق عبد اللطيف: وفي وسط ولايته اشتغل بروايةِ الحديث، واستناب نوابًا يروونَ عنه، وأجرى عليهم جراياتٍ، وكتب للملوك والعلماء إجازات، وجمع كتابًا سبعين حديثًا وصل على يد السهروردي إلى حلب فسمعه الظاهر، وجماهير الدولة وشرحته. قلت (الذهبي): ممن يروي عن الناصر بالإجازة عبد الوهاب بن سكينة، وابن الأخضر، وقاضي القضاة ابن الدامغاني، وولي عهده الظاهر بأمر الله, والملك العادل، وبنوه، وشيخانا: محمود الزنجاني، والمقداد القيسي. قال ابن النجار: "شرفني الناصر بالإجازة، ورويت عنه بالحرمين ودمشق والقدس وحلب، وبغداد وأصبهان، ونيسابور ومرو وهمذان", قال الموفق: "وكان الناصرُ قد ملأ القلوب هيبةً وخيفةً، حتى كان يرهبُه أهل الهند، وأهل مصر، فأحيا هيبة الخلافة، لقد كنت بمصر وبالشام في خلوات الملوك والأكابر إذا جرى ذكره خفضوا أصواتَهم إجلالًا له". قال ابن النجار: "دانت السلاطين للناصر، ودخل في طاعتِه مَن كان من المخالفين، وذُلِّلت له العتاة والطغاة، وانقهرت بسيفه الجبابرة، واندحض أعداؤه، وكثُر أنصاره، وفتح البلاد العديدة، ومَلَك من الممالك مالم يملكْه أحد ممن تقدمه من الخلفاء والملوك، وخطب له ببلاد الأندلس وبلاد الصين, وبعث صلاح الدين الأيوبي برايته وترسه للخليفة دليلًا على تبعيته- وكان أسد بني العباس تتصدع لهيبته الجبال، وتذل لسطوته الأقيال، وكان حسن الخلق أطيف الخلق، كامل الظرف، فصيحًا بليغًا، له التوقيعات المسددة والكلمات المؤيدة، كانت أيامه غرة في وجه الدهر، ودرة في تاج الفخر" وكان لا يخلو من قبح السيرة في رعيته، والتعدي على أموالهم، كما اتهم بخراب العراق في أيامه، وأنه هو من أطمع التتار بالبلاد من كثرة ما فعله وما تلهى به، بقي الناصر لدين الله في آخر عمره ثلاث سنين عاطلًا عن الحركة بالكلية، وقد ذهبت إحدى عينيه والأخرى يبصر بها إبصارًا ضعيفًا، ثم أصابه دوسنطاريا (وهو مرض عدم استطاعة التبول) عشرين يومًا، ومات في شهر رمضان، وكان عمره نحو سبعين سنة تقريبًا، وقد كانت سنة 585 الخطبة للأمير أبي نصر محمد بن الخليفة الناصر لدين الله بولاية العهد في العراق وغيره من البلاد، ثم بعد ذلك خلعه الخليفةُ من ولاية العهد، وأرسل إلى البلاد في قطعِ الخطبة له، وإنما فعل ذلك لأنه كان يميل إلى ولَدِه الصغير علي، فاتفق أن الولد الصغير توفي سنة 612، ولم يكن للخليفة ولد غير ولي العهد، فاضطر إلى إعادته، إلا أنه تحت الاحتياط والحجر لا يتصرف في شيءٍ، فلما توفي أبوه وليَ الخلافة، وأحضر الناس لأخذ البيعة، وتلقَّب بالظاهر بأمر الله، وعلم أنَّ أباه وجميع أصحابه أرادوا صرفَ الأمر عنه، فظهر وولي الخلافة بأمر الله لا بسعي أحدٍ، ولَمَّا ولي الخلافة أظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سنَّة العُمَرين.
هو الطاغية تيمورلنك كوركان بن أيتمش قنلغ بن زنكي بن سنيا بن طارم بن طغريل بن قليج بن سنقور بن كنجك بن طغر سبوقا بن التاخان، المغولي الأصل، من طائفة جغتاي، واسمه تمرلنك وقيل تيمور، كلاهما بمعنى واحد، والثاني أفصح، وهو باللغة التركية: الحديد. ومعنى لنك: الأعرج، ومعنى كوركان: صهر الملك، وهو ينتمي إلى قبيلة البرلاس التركية، وقد كان أحد أجداده وهو قراجا رنويان قد دعم جنكيز خان فأحبَّه وجعله وصيًّا على ابنه جغطاي، فبرز بين المغول وعرف. ولد تيمور عام 736 في كش، وقيل: إنه دخل في الإسلام على مذهب الشيعة. وكان تيمور طويل القامة، كبير الجبهة، عظيم الهامة، شديد القوَّة، أبيض اللون مشربًا بحمرة، عريض الأكتاف، غليظ الأصابع، مسترسل اللِّحية، أشلَّ اليد، أعرج اليمنى، تتوقَّد عيناه، جهير الصَّوت، لا يهاب الموت، قد بلغ الثمانين، وهو متمتِّع بحواسه وقوَّته. وكان يكره المزاَّح ويبغض الكذّاب، قليل الميل إلى اللهو، على أنّه كان يعجبه الصوت الحسن، وكان نقش خاتمه: رستى رستى، ومعناه: "صدقت نجوت" وكان له فراسات عجيبة، وسعد عظيم، وحظ زائد في رعيته، وكان له عزم ثابت، وفهم دقيق، محجاجًا سريع الإدراك، متيقِّظَا يفهم الرَّمز ويدرك اللمحة، ولا يخفى عليه تلبيس ملبِّس، وكان إذا عزم على شيء لا ينثني عنه، وكان يقال له: صاحب قران الأقاليم السبعة، وقهرمان الماء والطين، وقاهر الملوك والسَّلاطين، وكان مغرمًا بسماع التاريخ وقصص الأنبياء عليهم السَّلام ليلًا ونهارا، حتى صار-لكثرة سماعه للتاريخ- يردُّ على القارئ إذا غلط فيها، وكان يحبُّ العلم والعلماء، ويقرِّب السَّادة الأشراف، ويُدني أرباب الفنون والصَّنائع. وكان انبساطه بهيبة ووقار، وكان يباحث أهل العلم وينصف في بحثه، ويبغض الشُّعراء والمضحكين، ويعتمد على أقوال الأطبَّاء والمنجِّمين، حتى إنَّه كان لا يتحرَّك بحركة إلا باختيار فلكي, وكان يلازم لعب الشطرنج، وكان الشيخ عبد الجبَّار بن عبد الله المعتزلي الحنفي الخوارزمي عالم الدّشت، صاحب تيمورلنك وإمامه وعالمه وترجمانه. ولتيمور واقعة مع العلَّامة القاضي محب الدين أبي الوليد محمد بن محمد بن محمود الحلبي قاضيها الحنفي المعروف بابن الشحنة: لما أخذ تيمور قلعة حلب بالأمان والأيمان فاستحضر علماءها وقضاتها فحضروا إليه وطلب من معه من أهل العلم، فقال لكبيرهم عنده، وهو عبد الجبار ابن العلامة نعمان الدين الحنفي، قُل لهم: إني سائلهم عن مسائل سألت عنها علماء سمرقند وبخارى وهراة وخراسان وسائر البلاد التي افتتحتها فلم يفصحوا الجواب، فلا تكونوا مثلهم، ولا يجاوبني إلا أعلمكم وأفضلكم، وليعرف ما يتكلم به؛ فإني خالطت العلماء، وكان يعنت العلماء في الأسئلة ويجعل ذلك سببًا إلى قتلهم أو تعذيبهم، قال القاضي ابن الشحنة، فقال القاضي شرف الدين موسى الأنصاري الشافعي: هذا شيخنا ومدرس هذه البلاد ومفتيها مشيرًا إليَّ، سلوه. قال: فقال لي قاضيه عبد الجبار: سلطاننا يقول: إنه بالأمس قُتِل منا ومنكم، فمن الشهيد: قتيلُنا أم قتيلكم؟ فوجم الجميع وقلنا في أنفسنا: هذا الذي كان يبلغنا عنه من التعنت، وسكت القوم ففتح الله عليَّ بجواب سريع بديع فألقى إلي تيمور سمعه وبصره، وقال لعبد الجبار يسخر من كلامي: كيف سئل رسول الله عن هذا؟ وكيف أجاب؟ فقلت: جاء أعرابي إلى رسول الله، فقال: يا رسول الله، إن الرجل يُقاتِلُ حميةً ويقاتل ليريَ مكانه من الشجاعة، فأينا الشهيد في سبيل الله؟ فقال: ((من قاتل لتكونَ كلمة الله هي العليا، فهو الشهيد)). فقال تيمورلنك: خوب خوب! فانفتح باب المؤانسة، فكثر منه السؤال وكثر مني الجواب، وكان آخر ما سأل أن قال: ما تقولون في علي ومعاوية ويزيد؟ فأسرَّ إلى القاضي شرف الدين: أن اعرِفْ كيف تجاوبُه؛ فإنه شيعي، فلم أفرغ من سماع كلامه إلا وقد قال القاضي علم الدين القفصي المالكي كلامًا معناه: إن الكل مجتهدون، فغضب لذلك غضبًا شديدًا، وقال: علي على الحق، ومعاوية ظالم، ويزيد فاسق، وأنتم حلبيون تبع لأهل دمشق، وهم يزيدون قتلوا الحسين، قال: فأخذت في ملاطفته والاعتذار عن المالكي بأنه أجاب بشيء وجده في كتاب لا يعرف معناه، فعاد إليَّ دون ما كان عليه من البسط, وحضر صلاة المغرب وأقيمت الصلاة وأمَّنا عبد الجبار، وصلى تيمورلنك إلى جانبي قائمًا يركع ويسجد، ثم تفرقنا، وفي اليوم الثاني: غدر بكل من في القلعة وأخذ جميع ما كان فيها من الأموال والأقمشة والأمتعة ما لا يحصى، أخبرني بعض كُتابه أنه لم يكن أخذ من مدينة قط ما أخذ من هذه القلعة، وعوقب غالب المسلمين بأنواع من العقوبة، وحبسوا بالقلعة. بعد أن عاد تيمورلنك من حربه مع العثمانيين واستقر في سمرقند استعدَّ لغزو الصين، فتوجه بجيوشه إليها، ولكن وفي الطريق هاجت العواصف الثلجية فتأثر ببردها، فكانت وفاته في ليلة الأربعاء سابع عشر شعبان سنة 807 وهو نازل بالقرب من أترار، وأترار بالقرب من آهنكران، ومعنى آهنكران باللغة العربية: الحدادون، وكان سبب موته أنَّه خرج من بلاده لأخذ بلاد الصِّين، وقد انقضى فصل الصيف ودخل الخريف، وكتب إلى عساكره أن يأخذوا الأُهبة لمدة أربع سنين، فاستعدوا لذلك وأتوه من كلِّ جهة، وصُنِع له خمسمائة عجلة لحمل أثقاله. ثمَّ خرج من سمرقند في شهر رجب وقد اشتد البرد، ونزل على سيحون وهو جامد، فعبره ومرَّ سائرا، فأرسل الله عليه من عذابه جبالًا من الثلج التي لم يُعهَد بمثلها مع قوَّة البرد الشديد، فلم يبقَ أحد من عساكره حتى امتلأت آذانهم وعيونهم وخياشيمهم، وآذان دوابهم وأعينها من الثلج، إلى أن كادت أرواحهم تذهب. ثمَّ اشتدت تلك الرِّياح، وملأ الثلج جميع الأرض -مع سعتها- فهلكت بهائمهم. وجمد كثير من النّاس، وتساقطوا عن خيولهم موتًا. وجاء بعقب هذا الثَّلج والرّيح أمطار كالبحار، وتيمور مع ذلك لا يرقُّ لأحد، ولا يبالي بما نزل بالناس، بل يجدُّ في السَّير، فما أن وصل تيمور إلى مدينة أترار حتى هلك خلق كثير من قواته, ثمَّ أمر تيمور أن يستقطر له الخمر حتى يستعمله بأدوية حارَّة لدفع البرد وتقوية الحرارة، فعُمِل له ما أراد من ذلك, فشرع تيمور يستعمله ولا يسأل عن أخبار عساكره وما هم فيه، إلى أن أثَّرت حرارة ذلك وأخذت في إحراق كبده وأمعائه، فالتهب مزاجه حتى ضَعُف بدنه، وهو يتجلَّد ويسير السَّير السّريع، وأطبَّاؤه يعالجونه بتدبير مزاجه إلى أن صاروا يضعون الثلج على بطنه؛ لعِظَمِ ما به من التلهب، وهو مطروح مدة ثلاثة أيام، فتَلِفَت كَبِده، وصار يضطرب ولونه يحمرُّ، ونساؤه وخواصُّه في صراخ، إلى أن هلك إلى لعنة الله وسَخَطِه، ولما مات لبسوا عليه المسوح، ولم يكن معه أحد من أولاده سوى حفيده سلطان خليل بن ميران شاه بن تيمور، فعاد إلى سمرقند برمَّة جده تيمور. فخرج النَّاس إلى لقائه لابسين المسوح بأسرهم، وهم يبكون ويصرخون، ودخل ورمَّةُ تيمور بين يديه في تابوت أبنوس، والملوك والأمراء وكافة النَّاس مشاة بين يديه، وقد كشفوا رؤوسهم وعليهم المسوح، إلى أن دفنوه على حفيده محمد سلطان بمدرسته، وأقيم عليه العزاء أيَّامًا، وقُرِئَت عنده الختمات، وفُرِّقت الصَّدقات، ومدَّت الحلاوات والأسمطة بتلك الهمم العظيمة، ونُشِرت أقمشته على قبره، وعلَّقوا سلاحه وأمتعته على الحيطان حوالي قبره، وكلُّها ما بين مرصع ومكلل ومزركش، في تلك القبّة العظيمة، وعُلِّقت بالقبَّة قناديل الذَّهب والفضَّة، من جملتها قنديل من ذهب زنته أربعة آلاف مثقال -وهو رطل بالسَّمرقندي، وعشرة أرطال بالدِّمشقي، وأربعون رطلًا بالمصري- وفرشت المدرسة بالبُسُط الحرير والدِّيباج. ثمَّ نُقِلت رمَّتُه إلى تابوت من فولاذ عُمِل بشيراز، وهو على قبره إلى الآن، وتحمل إليه النَّذورة من الأعمال البعيدة، ويُقصَد قبره للزِّيارة والتّبرُّك به، ويأتي قبره من له حاجة ويدعو عنده!! وإذا مرَّ على هذه المدرسة أمير أو جليل خضع ونزل عن فرسه إجلالًا لقبره؛ لِما له في صدورهم من الهيبة. فتسلطن بعده حفيده خليل بن ميران شاه فاستولى خليل على خزائن جده وبذل الأموال، وتم أمرُه إلا أن ولدَي تيمور: شاه رخ، وجلال الدين ميرانشاه، اقتسموا المملكة بينهما بخط ممتد على حدود إيران، فأخذ شاه رخ الغرب، وفيه العراق وأذربيجان وأجزاء من بلاد القفجاق القوقاز، وأخذ ميانشاه الشرق، وفيه خراسان وسجستان وأصفهان وشيراز.
هو أميرُ المؤمنين عبدُ اللهِ بنُ الزُّبَير بنِ العوَّام بن خُوَيلد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قُصَي بن كلِاب بن مُرَّة: أبو بكر، وأبو خُبَيب القرشيُّ الأَسديُّ المكيُّ، ثم المدنيُّ, أحد الأعلام، كان عبدُ الله أول مولودٍ للمهاجرين بالمدينةِ, وُلِدَ سنة اثنتين، وقيل: السنة الأولى من الهجرة, ولَمَّا بلغ سبع سنين جاء ليبايِعَ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فتبسَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم حين رآه مُقبِلًا، ثم بايَعَه. له رواية أحاديثَ، وهو من صِغار الصَّحابة، وإن كان كبيرًا في العِلمِ والشَّرفِ والجهادِ والعبادةِ، وقد روى عن أبيه وجَدِّه لأمه الصِّدِّيق، وأمِّه أسماءَ، وخالتِه عائشةَ، وعن عُمَر وعُثمان، وغيرِهم، وحدث عنه: أخوه عُروةُ الفقيهُ، وابناه: عامرٌ وعَبَّاد، وابنُ أخيه: محمد بن عروة، وكان فارسَ قُريشٍ في زمانه، وله مواقِفُ مشهودة. أدرك ابنُ الزبير من حياةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانيةَ أعوام وأربعة أشهر, وكان ملازمًا لبيت رسول الله؛ لكونِه من آله، فكان يتردَّدُ إلى بيت خالته عائشةَ, وفي يوم اليرموك أركب الزبيرُ وَلَده عبد الله فرسًا وهو ابن عشر سنين، ووكل به رجلًا، شَهِدَ يوم الجمَلِ مع خالته، كما شهد فتح المغرب، وغزوَ القُسطنطينية. كان معاوية رضي الله عنه في عهدِه إذا لقي ابنَ الزبير يقول: مرحبًا بابنِ عَمَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنِ حواريِّ رسولِ الله، لما توفي يزيدُ بويعُ ابنُ الزبير بالخِلافةِ سنة 64هـ، فحكم الحِجازَ واليمن ومصر والعراق وخراسان، وبعضَ الشام، ولم يستوسق له الأمر، ومن ثم لم يَعُدَّه بعض العلماء في أمراء المؤمنين، وعَدَّ دولتَه زمَنَ فُرقة، فإنَّ مروان غلب على الشامِ ثم مصر، وقام بعد مَصرَعِه ابنُه عبد الملك بن مروان، وحاربَ ابنَ الزُّبير، فلم يزَلْ يحاربه حتى ظَفِر به, فأخذ العراقَ، ثم أرسل الحجَّاجَ إلى مكة وأخذها مِن ابن الزبير بعد أن خذله من كان معه خِذلانًا شديدًا، وجعلوا يتسلَّلون إلى الحَجَّاج، وجعل الحجَّاج يَصيح: أيها الناسُ, علامَ تقتُلون أنفُسَكم? من خرج إلينا فهو آمِنٌ, لكم عهدُ الله وميثاقُه، ورَبِّ هذه البِنيةِ لا أغدِرُ بكم، ولا حاجةَ في دمائكم. قتله الحجَّاجُ ثم صَلَبه، وكان آدم نحيفًا, ليس بالطويلِ, بين عينيه أثرُ السجود, فغسَّلَتْه والدته أسماءُ بنت أبي بكر بعد ما تقَطَّعت أوصاله، فحنَّطَتْه وكفَّنَتْه، وصَلَّت عليه، وجعلت فيه شيئًا حين رأته يتفسَّخُ إذا مسَّتْه, ثم حملته فدفنته بالمدينة في دار صفيةَ أم المؤمنين. قال عروة بن الزبير: لم يكن أحدٌ أحَبَّ إلى عائشة بعد رسول الله من أبي بكرٍ، وبعدَه ابنُ الزبير، وإذا ذُكِرَ ابن الزبير عند ابن عباس، قال: (قارئٌ لكتاب الله, عفيفٌ في الإسلام, أبوه الزُّبَير، وأمُّه أسماء، وجَدُّه أبو بكر، وعَمَّته خديجةُ، وخالته عائشةُ، وجدَّتُه صفية)، وكان عمرُو بن دينار يقول: (ما رأيت مُصليًّا قطُّ أحسَنَ صلاةً من عبد الله بن الزبير، وكان يسمى حمامةَ المسجِدِ).