عندما وصل سعودٌ بجيوشِه إلى مشارف الشام وقراها واكتسح ما أمامه من القرى والعربان، وقبل ذلك غزا كربلاء وهدد العراق وهزم جميعَ الجيوش التي أرسلها ولاةُ الشام والعراق لمحاربته، حتى اضطرت الدولةُ العثمانية أن تطلُبَ من سعود المهادنةَ والمسابلة وتَبذُل له مقابِلَ ذلك كلَّ سنة ثلاثين ألف مثقال ذهبي، وأوفدت الدولة لهذ الغرض رجلًا يسمَّى عبد العزيز القديمي وأوفدت بعده رجلًا آخر يسمى عبد العزيز بيك، فرجع كما رجع الأول بعدم القبول وبرسالة طويلة من سعود، ومما ورد فيها: "وأما المهادنة والمسابلة على غير الإسلامِ، فهذا أمر محال بحولِ الله وقوَّتِه، وأنت تفهم أن هذا أمرٌ طلبتموه منا مرَّةً بعد مرة، أرسلتم لنا عبد العزيز القديمي ثم أرسلتم لنا عبد العزيز بيك، وطلبتم منا المهادنة والمسابلة، وبذلتم الجزيةَ على أنفُسِكم كلَّ سنة ثلاثين ألف مثقالٍ ذهبًا، فلم نقبل ذلك منكم ولم نُجِبْكم بالمهادنة، فإن قبلتم الإسلامَ فخيرتها لكم وهو مطلبنا، وإن توليتم فنقول كما قال الله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] فلما أصبحت الدولةُ العثمانيةُ عاجزةً عن مهادنة الإمام سعود بن عبد العزيز بن سعود فضلًا عن محاربته، طلب عندئذ السلطان العثماني من والي مصر محمد علي باشا القيامَ بمحاربة الإمام سعود وإخراجِه من الحجاز، فتردَّد محمد علي أولًا ثم أخيرًا لبَّى طلب السلطان وسيَّرَ ابنَه طوسون سنة 1226هـ ثم خرج هو بنفسِه إلى أن سقطت الدولة السعودية سنة 1233هـ على يد إبراهيم باشا، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
هو الخليفةُ العثماني السلطان محمود خان الثاني بن عبد الحميد الأول بن أحمد الثالث بن محمد الرابع بن إبراهيم الأول بن أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني. تولى السلطنةَ في 20 يوليو 1785م، وكان السلطان الثلاثين للدولة العثمانية، شَهِدَ عَصرُه خطواتِ إصلاحٍ واسِعةً، وقد اتَّسم عهدُه بالتوجه للغرب العلماني، وهو الذي أمَرَ محمد علي باشا مصرَ أن يجهِّزَ الجيوش على الدَّولةِ السعودية الأولى بعد أن ضَمَّت بلاد الحجاز لحُكمِها، فأغار عليها الباشا محمد علي بجيوشِه المتتالية حتى قضى عليها ودمَّر الدرعيَّةَ مَقَرَّ الحكمِ فيها، ولا تزال جيوشُه تتابع على غزو نجد بعد استرجاعِ الإمام تركي بن عبد الله الحُكمَ السعودي في نجد. والسلطانُ محمود هو الذي تخلَّصَ من الانكشارية لَمَّا وقفوا ضِدَّ الإصلاحات والتنظيمات المدنية والعسكرية التي تبنَّاها، فقضى عليهم تمامًا عام 1240هـ، وفي عهده استقَلَّت اليونان عن الدولة العثمانية بدعمٍ وتأييدٍ فرنسي وروسي وبريطاني، كما أنهكت الدولةَ العثمانية كثرةُ الحروبِ مع روسيا، ومحمد علي باشا والي مصر الطَّموح الذي يتطَلَّعُ إلى ضَمِّ بلاد الشام إلى ولايته، ووقعت الجزائِرُ تحت الاحتلال الفرنسي في سنة 1245 هـ 1830م. تعَرَّض السلطان محمود للإصابةِ بعدوى السل، ولَمَّا اشتَدَّ به المرض نُقِلَ إلى إحدى ضواحي استانبول للاستشفاء بهوائها النقي، ثم لم يلبَثْ أن عاجلته المنية، فتوفي في التاسع عشر من ربيع الثاني من هذا العام عن عمر أربع وخمسين سنة، بعد أن دام في الحُكمِ ثلاثًا وعشرين سنة وعدة أشهر، وتولَّى ابنُه عبد المجيد الأول خلَفًا له، وعمرُه دون الثامنة عشرة.
حصل خِلافٌ بين أهل عُنيزة وأميرهم جلوي بن تركي، فأخرجوه منها ونزل بُرَيدة وكاتَبَ أخاه الإمام فيصلًا، وأخبره بالأمر، وكتب أهلُ عنيزة إلى الإمام فيصل ينتَقِدون شِدَّةَ وطأة الأمير جَلَوي عليهم، وعدم مراعاته لذوي المقامات منهم، وتكليفهم بأمورٍ ليست من مقامهم، وأنه يتعمَّدُ اضطهاد الأعيان وإذلالَهم مِمَّا لم يسَعْهم الصبر عليه، وإنهم اختاروا له العزلةَ إلى أن يأتي أمرُه بإرسال من يَخلفُه، ولكنه فارق البلاد، ونحن لم نخرُج عن الطاعة، وما زلنا بالسمع والطاعة. ولكِنَّ الإمام أرجع الرسولَ ورسالتَه لم يقرأها، وكأنَّ عبد الله الفيصل قد أخذ يتدخَّلُ في الأمور، وكان يميلُ إلى الشدة في التعامُل معهم، فصَمَّم على حربهم، فلما كان في شهر ذي الحجة من هذه السنة خرج عبد الله ومعه غزوُ الرياض، والخرج، والجنوب، والمحمل، وسدير، والوشم، فأغار على وادي عُنيزة، فخرج إليه أهلُ عنيزة وحصل بينهم قتالٌ شديدٌ قُتِلَ فيه سعد بن محمد بن سويلم، أمير ثادق، فرحل عبد الله الفيصل ونزل العوشرية. ثم رحل ونزل روضةَ العربيين، ثم ركب الأميرُ عبد الله اليحيى السليم إلى الإمام فيصل وبسَطَ له الأمر، وقال: إنَّنا لا نزال على السمعِ والطاعة ولا نحتاجُ إلى تجريد الجيوشِ وأمرُك نافذ، فرَضِيَ عنهم، وكتب لابنِه عبد الله أن يرجِعَ مع عمه جلوي إلى الرياض، فرجعوا دون أن تكون مصادمةٌ غير الأولى، وبهذا رجع آل سليم إلى إمارة بلدِهم ولم يوجِدوا هذه الحركةَ إلَّا لهذا القصد؛ لأنهم خشُوا أن يطول الأمر فتكونَ عُنيزة مركزًا لإمارة القصيم من قِبَلِ الحاكم بدلًا من بُرَيدة فتضيعَ إمارتُهم بذلك.
ولِدَ الشيخُ الدكتورُ محمد أديب الصالح في مدينةِ قطنا -جنوبَ غَربِ دِمَشقَ- في العامِ 1926 م، وعاش يتيمًا، ولكنَّ والدتَه عوَّضَتْه عن عنايةِ الوالدِ بانقطاعِها لرِعايتِه، والاهتمامِ بشَأنِه، وقد بدأ تعليمَه في إحدى مدارسِ قطنا الابتدائيةِ، ومنها انتقل إلى دِمَشقَ، حيثُ أحرَزَ شهادةَ الكفاءةِ العامَّةِ ثم شَهادةَ الكليةِ الشرعيةِ، التي كانتْ تُعَدُّ مَعهدًا عِلميًّا رفيعَ المستوى، ثم حصَلَ على الثانويةِ الشرعيةِ مع الثانويةِ العامَّةِ عامَ 1946م، وبذلك تهيَّأ للدراسةِ الجامعيةِ، ثم أُوفد إلى الأزهَرِ عامَ 1947م، والتحَقَ بكليَّةِ أصولِ الدِّينِ، ثم تفرَّغَ للتدريسِ، فعَمِلَ في ثانويَّاتِ حلَبَ ودِمَشقَ ودُورِ المعلِّمين ما بين العامَينِ 1949 و1956. وأُسنِدَت إليه مُهمَّةُ مُعيدٍ في كليَّةِ الشريعةِ بجامعةِ دِمَشقَ، وأُوفِدَ إلى جامعةِ القاهرةِ لتحضيرِ الإجازةِ العليا -الدكتوراه- في كليةِ الحقوقِ، وكان موضوعُ أُطروحَتِه (تفسيرَ النصوصِ في الفقهِ الإسلاميِّ- دراسة مقارِنة) التي أحرَزَ بها مرتبةَ الشَّرَفِ الأولى مع التبادلِ بين الجامعاتِ. من شُيوخِه: الشيخُ محمد أبو زهرة، والشيخُ علي الخفيف، والشيخُ فرج السنهوريُّ. ثم عادَ إلى دمشقَ ليستأنِفَ عمَلَه في جامِعَتِها والتدريسَ فيها، ثم أُعيرَ إلى الجامعةِ الأردنيَّةِ لتدريسِ التفسيرِ والحديثِ والثقافةِ الإسلاميةِ على مدى سنتَينِ، ثم استُقدِمَ بعدَها أستاذًا زائرًا إلى جامعةِ الملكِ سُعودٍ -الرياض آنَذاك-، وكذلك دُعِيَ زائرًا إلى جامعةِ الإمامِ محمدِ بنِ سعودٍ الإسلاميةِ، وإلى كليةِ التربيةِ للمعلمين والمعلمات في قطَرَ، حتى استقرَّ أخيرًا في جامعةِ الإمامِ محمد بنِ سعودٍ الإسلاميةِ. تولى فيها رئاسةَ قِسمِ السُّنَّة وعلومِها، إلى جانبِ مُشاركاتِه في مناقشةِ رسائلِ الماجستير والدكتوراه فيها، وفي كلٍّ من الجامعةِ الإسلاميةِ في المدينةِ المُنوَّرةِ، وجامعةِ أمِّ القرى بمكةَ المكرمةِ، إلى أنْ تُوفِّيَ -رحمه الله- بمدينةِ الرياضِ.
لم يزلْ أفتكين الشَّرابيُّ مولى مُعِزِّ الدولة بن بُوَيه طُولَ مُقامِه بدمشق يكاتِبُ القَرامِطةَ ويكاتِبونَه بأنَّهم سائرون إلى الشام، إلى أن وافَوا دمشق بعد موتِ المعِزِّ الفاطمي في هذه السنة، وكان الذي وافى منهم: إسحاقُ، وكِسرى، وجعفر، فنزلوا على ظاهرِ دمشق، ومعهم كثيرٌ مِن العجم أصحابِ أفتكين الذين تشَتَّتوا في البلاد وقتَ وَقعتِه مع الديلم، فلَقُوهم بالكوفة في الموقعات، فأركبوهم الإبِلَ، وساروا بهم إلى دمشق، فكساهم أفتكين؛ فقَوِيَ عسكَرُه بهم وتلَقَّى أفتكين القرامِطةَ وحَمَل إليهم وأكرَمَهم وفَرِحَ بهم، وأمِنَ مِن الخوف، فأقاموا على دمشق أيامًا ثم ساروا إلى الرملةِ وبها أبو محمود إبراهيم بن جعفر فالتجأ إلى يافا، ونزل القرامطةُ الرملة، ونصبوا القتالَ على يافا حتى مَلَّ كُلٌّ مِن الفريقين القِتالَ، وصار يُحَدِّثُ بَعضُهم بعضًا. وجبى القرامطةُ المال فأمِنَ أفتكين من مصرَ، وظَنَّ أن القرامِطةَ قد كَفَوه ذلك الوجهَ، وعمِلَ على أخذ الساحل، فسار بمن اجتمَعَ إليه، ونزل على صيدا، وبها ابنُ الشيخ، ورؤساءُ المغاربة، ومعهم ظالم بن موهوب العقيلي، فقاتلوه قتالًا شديدًا، فانهزم عنهم أميالًا، فخرجوا إليه، فواقعهم وهَزَمهم وقتل منهم، وصار ظالمُ إلى صُور، فيقال إنَّه قتل يومئذٍ أربعة آلافٍ مِن عساكِرِ المغاربة، قُطِعَت أيمانُهم وحُمِلَت إلى دمشق، فطِيفَ بها. ونزل أفتكين على عكَّا، وبها جمَعَ مِن المغاربة، فقاتلوه، فسيَّرَ العزيز بالله القائِدَ جَوهرًا بخزائن السلاح والأموال إلى بلاد الشام في عسكرٍ عظيمٍ لم يَخرُجْ قَبلَه مثلُه إلى الشام، من كثرة الكراعِ والسِّلاح والمال والرجال، بلَغَت عِدَّتُهم عشرين ألفًا بين فارسٍ وراجل، فبلغ ذلك أفتكين وهو على عكَّا، والقرامطة بالرملة، فسار أفتكين مِن عكَّا ونزل طبَريَّة، وخرج القرامِطةُ مِن الرملة، ونزلها جوهرٌ. وسار إسحاق وكسرى مِن القرامطة بمن معهم إلى الأحساءِ؛ لقِلَّةِ مَن معهم من الرجالِ الذين يلقَونَ بها جوهرًا، وتأخَّرَ جعفر من القرامطة فلَحِقَ بأفتكين وهو بطبرية، وقد بعث في جمعٍ في حوران والبثنية، وسار جوهر من الرملة يريدُ طَبَريَّة، فرحل أفتكين، واستحَثَّ النَّاسَ في حَملِ الغَلَّة من حوران والبثنية إلى دمشقَ، وصار أفتكين إلى دمشقَ، ومعه جعفر القرمطي، فنزل جوهرٌ على دمشق لثمانٍ بَقِينَ مِن ذي القعدة فيما بين داريا والشماسية، فجمَعَ أفتكين أحداثَ البلد، وأمَّنَ مَن كان قد فزع منه، فاجتمع حُمَّال السِّلاح والذعار إليه، ورئيسُهم قسام التراب. وأخذ جوهرٌ في حفر خندقٍ عظيمٍ على عسكره، وجعل له أبوابًا، وكان ظالمُ بنُ موهوب معه، فأنزله بعسكَرِه خارج الخندق، وصار أفتكين فيمن جمعَ مِن الذعار، وأجرى لكبيرِهم قسَّام رِزقًا. ووقع النفيُ على قُبَّة الجامع والمنابر، وساروا فجرى بينهم وبين جوهرٍ وقائِعُ وحُروبٌ شديدة وقتالٌ عظيم، وقُتِلَ بينهم خلقٌ كثيرٌ مِن يوم عرفةَ، فجرى بينهم اثنتا عشرة وقيعةً إلى آخر ذي الحجة. ولم يزل إلى الحادي عشر من ربيع الأول سنة 367 فكانت بين الفريقينِ وقعةٌ عظيمة، انهزم فيها أفتكين بمَن معه، وهَمَّ بالهرب إلى أنطاكية، ثم إنَّه استظهر. ورأى جوهرٌ أنَّ الأموال قد تَلِفَت، والرجالَ قد قُتِلَت والشِّتاءَ قد هجم، فأرسل في الصُّلح،ِ فلم يُجِب أفتكين، وذلك أنَّ الحُسَين بن أحمد الأعصم القرمطيَّ بعَثَ إلى ابنِ عَمِّه جعفر المقيم عند أفتكين بدمشقَ: إنِّي سائِرٌ إلى الشام، وبلغ ذلك جوهرًا، فتردَّدَت الرسل بينه وبين أفتكين حتى تقرَّرَ الأمرُ أنَّ جوهرًا يرحل، ولا يتبَعُ عَسكَرَه أحد، فسُرَّ أفتكين بذلك، وبعَثَ إلى جوهرٍ بجِمالٍ ليَحمِلَ عليها ثِقْلَه؛ لقِلَّة الظهر عنده، وبقي من السلاح والخزائنِ ما لم يَقدِرْ جَوهرٌ على حَملِه، فأحرقه، ورحل عن دمشق في ثالث جمادى الأولى. وقَدِمَ البشيرُ مِن الحسن بن أحمد القرمطي إلى عمِّه جعفر بمجيئه، وبلغ ذلك جوهرًا، فجَدَّ في السَّيرَ، وكان قد هلك من عسكرِه ناسٌ كثير من الثَّلجِ، فأسرع بالمسيرِ مِن طبرية، ووافى الحسَنُ بنُ أحمد من البريَّة إلى طبرية، فوجد جوهرًا قد سار عنها، فبعث خلْفَه سريَّةً أدركَتْه، فقابلهم جوهرٌ، وقتل منهم جماعةً، وسار فنزل ظاهِرَ الرملة، وتَبِعَه القرمطي، وقد لَحِقَه أفتكين، فسارا إلى الرملة، ودخل جوهرٌ زيتون الرملة، فتحصَّنَ به، فلما نزل الحسنُ بنُ أحمد القرمطي الرملةَ هلك فيها، وقامَ مِن بعده بأمرِ القرامطةِ ابنُ عَمِّه أبو جعفر، فكانت بينه وبين جوهرٍ حروب كثيرة. ثم إنَّ أفتكين فسَدَ ما بينه وبين أبي جعفرٍ القرمطيِّ، فرجع عنه إلى الأحساءِ، وكان حسَّانُ بنُ علي بن مفرج بن دغفل بن الجراح الطائي أيضًا مع أفتكين على محاربةِ جَوهرٍ، فلم يرَ منه ما يحِبُّ، وراسله العزيزُ فانصرف عن أفتكين، وقَدِمَ القاهرة على العزيز، واشتدَّ الأمر على جوهر، وخاف على رجالِه، فسار يريدُ عسقلان، فتَبِعَه أفتكين. واستولى قَسَّام التراب على دمشقَ وخطَبَ للعزيز، فسار أبو تغلِبَ بنُ حمدان إلى دمشق، فقاتله قسَّام ومنعه، فسارَ إلى طبرية. وأدرك أفتكين جوهرًا، فكانت بينهما وقعةٌ امتدت ثلاثة أيام انهزم في آخرها جوهَرٌ، وأخذ أصحابَه السَّيفُ، فجَلوا عما معهم، والتحَقوا بعسقلان، فظَفِرَ أفتكين من عسكرِ جوهرٍ بما يَعظُمُ قَدرُه، واستغنى به ناسٌ كثيرون. ونزل أفتكين على عسقلانَ، فجَدَّ جوهرٌ حتى بلغ من الضُّرِّ والجَهدِ مَبلغًا عظيما، وغَلَت عنده الأسعارُ، فبلغ قفيزُ القمح أربعين دينارًا، وأخذت كتامة تسُبُّ جوهرًا وتنتَقِصُه، وكانوا قد كايَدوه في قتالهم، فراسل أفتكين يسألُه: ماذا يريدُ بهذا الحصار، فبعث إليه: لا يزولُ هذا الحصارُ إلا بمالٍ تؤدِّيه إليَّ عن أنفُسِكم. فأجابه إلى ذلك، وكان المالُ قد بقي منه شيءٌ يسير، فجمع من كان معه من كتامة، وجمع منهم مالًا، وبعث إليه أفتكين يقول: إذا أمَّنتُكم لابدَّ أن تخرجوا من هذا الحِصنِ مِن تحت السيفِ، وأمَّنَهم وعَلَّقَ السَّيفَ على باب عسقلان، فخرجوا من تحتِه. وسار جوهر إلى مصر، فكان مدَّة قتالهم على الزيتون وقَفلتِهم إلى عسقلان حتى خرجوا منها نحوًا من سبعة عشر شهرًا بقية سنة 366 إلى أن دنا خروجُ سنة 367. وقدم جوهرٌ على العزيز، فأخبره بتخاذُلِ كتامةَ، فغَضِبَ غضبًا شديدًا، وعذر جوهر في باطنه، وأظهر التنكير له، وعزَلَه عن الوزارة، وولَّى يعقوبَ بنَ كلس عوضَه في المحرم سنة 368.
كانت سَريَّةُ أبي سَلَمةَ عبدِ الله بنِ عبدِ الأسَدِ، وهو ابنُ عمَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَرَّةَ بنتِ عبد المطلب، وأخوه من الرَّضاعةِ، أرضَعَتهما ثُوَيبةُ. وقَطَنٌ: هو جبلٌ، وقيل: ماءٌ مِن مياهِ بني أسَدٍ. وسَبَبُها: أن رجلًا مِن طيِّئٍ اسمُه الوليدُ بن زُهَيرِ بن طَريفٍ قَدِم المدينةَ زائرًا ابنةَ أخيه زَينَبَ، وكانت تَحتَ طُلَيبِ بنِ عُمَيرِ بن وَهبٍ، فأُخبِرَ أنَّ طُليحةَ وسَلَمةَ ابنَي خوَيلِدٍ تَرَكَهما قد سارا في قَومِهِما ومَن أطاعَهما لحَربِ رسولِ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فنَهاهم قَيسُ بن الحارِثِ فعَصَوه؛ فلمَّا بَلَغ ذلك رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دعا أبا سَلَمةَ رضي اللَّه تعالى عنه وقال: "اخرُج في هذه السَّريَّةِ فقدِ استَعمَلتُكَ عليها". وعَقَد له لِواءً وقال: "سِر حتَّى تَرِدَ أرضَ بَني أسَدِ بنِ خُزَيمةَ، فأغِرْ عليهم قبلَ أن يَتلاقَى عليك جُموعُهم". وأوصاه بتقوى اللَّه تعالى وبمَن معه من المسلمين خيرًا.
فخَرَج معه في تلك السَّريَّةِ خمسون ومئةُ رجلٍ، ومعه الرَّجلُ الطَّائيُّ دَليلًا، فأسرَعَ السَّيرَ وعَدَل بهم عن سَيفِ الطَّريقِ، وسار بهم ليلًا ونهارًا، فسَبَقوا الأخبارَ وانتَهَوا إلى ذي قَطَنٍ -ماءٍ من مياهِ بني أسَدٍ وهو الذي كان عليه جَمعُهم-، فأغاروا على سَرحٍ لهم، وأسَروا ثلاثةً من الرُّعاةِ وأفلَتَ سائِرُهم، فجاؤوا جَمْعَهم فأخبَروهم الخَبَرَ وحَذَّروهم جَمْعَ أبي سَلَمةَ، وكثَّروه عندهم، فتَفرَّق الجمعُ في كُلِّ وَجهٍ، ووَرَدَ أبو سَلَمةَ الماءَ، فوَجَد الجَمْعَ قد تَفرَّق. فعَسكَرَ وفرَّق أصحابَه في طَلَبِ النَّعَمِ والشَّاءِ؛ فجَعَلهم ثلاثَ فِرَقٍ: فِرقةٌ أقامت معه، وفِرقَتان أغارَتا في ناحيَتينِ شتَّى، وأوعَزَ إليهما ألا يُمعِنوا في الطلب، وألَّا يَبيتوا إلَّا عنده إن سَلِموا، وأمَرَهم ألَّا يَفتَرِقوا، واستَعمَل على كلِّ فِرقةٍ عامِلًا منهم فآبوا إليه جَميعًا سالِمين قد أصابوا إبِلًا وشاءً، ولم يَلْقَوا أحدًا، فانحَدَر أبو سَلَمةَ بذلك كُلِّه راجعًا إلى المدينةِ ورَجَع معه الطَّائيُّ.
فلمَّا ساروا ليلةً قسَّمَ أبو سَلَمةَ الغنائِمَ، وأخرَجَ صَفيَّ رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عبدًا وأخرَجَ الخُمُسَ وأعطَى الطائيَّ الدليلَ رِضاهُ من المَغنَمِ، ثم قَسَّم ما بَقي بين أصحابِه فأصاب كلُّ إنسانٍ سبعةَ أبعِرةٍ، وقَدِم بذلك إلى المدينةِ ولم يَلْقَ كَيدًا.
لمَّا أَخَذ زَيدُ بن عَلِيٍّ زين العابدين بن الحُسينِ البَيْعَةَ ممَّن بايَعهُ مِن أَهلِ الكوفَة، أَمرَهم في أوَّلِ هذه السَّنَة بالخُروجِ والتَّأَهُّبِ له، فشَرَعوا في أَخذِ الأُهْبَةِ لذلك. فانطَلَق رَجلٌ يُقالُ له: سُليمان بن سُراقَة. إلى يُوسُف بن عُمَر الثَّقَفي نائِب العِراق فأَخبَره - وهو بالحِيرَةِ يَومَئذٍ - خَبَرَ زَيدِ بن عَلِيٍّ هذا ومَن معه مِن أَهلِ الكوفَة، فبَعَث يُوسُف بن عُمَر يَتَطلَّبه ويُلِحُّ في طَلَبِه، فلمَّا عَلِمَت الشِّيعَةُ ذلك اجْتَمعوا عند زَيدِ بن عَلِيٍّ فقالوا له: ما قَولُك -يَرحمُك الله- في أبي بَكرٍ وعُمَر؟ فقال: غَفَر اللهُ لهما، ما سَمِعتُ أَحدًا مِن أَهلِ بَيتِي تَبَرَّأَ منهما، وأنا لا أَقولُ فيها إلَّا خَيرًا، قالوا: فلِمَ تَطلُب إذًا بِدَمِ أَهلِ البَيت؟ فقال: إنَّا كُنَّا أَحَقَّ النَّاس بهذا الأَمرِ، ولكنَّ القَومَ اسْتَأثَروا علينا به ودَفَعونا عنه، ولم يَبلُغ ذلك عندنا بِهم كُفرًا، قد وُلُّوا فعَدَلوا، وعَمِلوا بالكِتابِ والسُّنَّة. قالوا: فلِمَ تُقاتِل هؤلاء إذًا؟ قال: إنَّ هؤلاء لَيسوا كأُولئِك، إنَّ هؤلاء ظَلَموا النَّاسَ وظَلَموا أَنفُسَهم، وإنِّي أَدعو إلى كِتابِ الله وسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وإحياءِ السُّنَنِ وإماتَةِ البِدَع، فإنْ تَسمَعوا يكُن خَيرًا لكم وَلِي، وإنْ تَأْبَوا فلَستُ عليكم بِوَكيل فَرَفضوه وانصَرَفوا عنه، ونَقَضوا بَيْعَتَه وتَرَكوه، فلهذا سُمُّوا الرَّافِضَة مِن يَومِئذ، ومَن تابَعَه مِن النَّاس على قَولِه سُمُّوا الزَّيْدِيَّة ثمَّ إنَّ زَيدًا عَزَم على الخُروجِ بِمَن بَقِيَ معه مِن أَصحابِه، فَوَاعَدَهم لَيلةَ الأَربعاء مِن مُسْتَهَلِّ صَفَر، فبَلَغ ذلك يُوسُف فأَمَر عامِلَه بأن يَحبِس النَّاسَ في المَسجِد لَيلَتها حتَّى لا يَخرجوا إليه، ثمَّ خَرَج زَيدٌ مع الذين اجتمعوا معه فسار إليه نائِبُ الكوفَة الحَكَمُ وسار إليه يُوسُف بن عُمَر في جَيشٍ، وحَصل قِتالٌ في عِدَّةِ أَماكن بينهم حتَّى أُصيبَ زَيدٌ بِسَهم في جَبهَتِه ثمَّ دُفِن، ثمَّ جاء يُوسُف وأَخرَجَه وصَلَبَه، وقِيلَ: بَقِيَ كذلك طَويلًا ثمَّ أُنزِلَ وحُرِق، فما حصل لزيد بن علي هو نفس ما حصل للحسين بن علي رضي الله عنه في كربلاء.
سار الأميرُ أبو القاسم، أميرُ صقليَّة، من المدينةِ يريدُ الجِهادَ، وسببُ ذلك أنَّ مَلِكًا مِن مُلوكِ الفِرنجِ، يقال له بردويل، خرجَ في جموعٍ كثيرةٍ مِن الفرنجِ إلى صقليَّةَ، فحصَرَ قَلعةَ مَلطةَ ومَلَكَها، وأصاب سريتَينِ للمُسلمينِ، فسار الأميرُ أبو القاسم بعساكِرِه ليُرحِّلَه عن القلعة، فلمَّا قاربَها خاف وجَبُن، فجمع وجوهَ أصحابِه، وقال لهم: إنِّي راجِعٌ مِن مكاني هذا، فلا تكسروا عليَّ رأيي. فرجع هو وعساكِرُه، وكان أسطولُ الكُفَّارِ يُسايرُ المُسلِمينَ في البَحرِ، فلمَّا رأَوا المُسلِمينَ راجِعينَ أرسَلوا إلى بردويل، ملِكِ الرُّومِ، يُعلِمونَه ويقولونَ له: إنَّ المُسلِمينَ خائِفونَ منك، فالحَقْ بهم فإنَّك تظفَرُ. فجَرَّد الفرنجيُّ عَسكَرَه من أثقالِهم، وجَدَّ في السير، فأدركهم في العشرينَ مِن المحرم، فتعبَّأ المسلمون للقتال، واقتتلوا، واشتَدَّت الحرب بينهم، فحَمَلَت طائفةٌ مِن الفرنج على القلبِ والأعلام، فشَقُّوا العسكر ووصلوا إليها، وقد تفَرَّق كثيرٌ مِن المسلمين عن أميرِهم أبي القاسم، واختَلَّ نِظامُهم، فوصل الفرنجُ إليه، فأصابته ضربةٌ على أمِّ رأسِه فقُتِل، وقُتِلَ معه جماعةٌ مِن أعيانِ النَّاسِ وشُجعانِهم، ثم إنَّ المنهزمين من المسلمين رجعوا مُصَمِّمينَ على القتال ليظفَروا أو يموتوا، واشتَدَّ حينئذ الأمرُ، وعَظُمَ الخَطبُ على الطائفتين، فانهزم الفرنجُ أقبَحَ هَزيمةٍ، وقُتِلَ منهم نحوُ أربعة آلافِ قَتيلٍ، وأُسِرَ مِن بطارقتهم كثيرٌ، وتبعوهم إلى أن أدركَهم الليل، وغَنِموا من أموالِهم كثيرًا. وأفلَتَ مَلِكُ الفِرنجِ هاربًا ومعه رجلٌ يهوديٌّ كان خصيصًا به، فوقف فرَسُ الملك، فقال له اليهودي: اركَبْ فَرَسي، فإن قُتِلْتُ فأنت لوَلَدي. فرَكِبَه المَلِكُ وقُتِلَ اليهودي، فنجا المَلِكُ إلى خيامِه وبها زوجتُه وأصحابه فأخذهم وعاد إلى روميَّة، ولَمَّا قُتِلَ الأميرُ أبو القاسم كان معه ابنُه جابر، فقام مقامَ أبيه، ورحل بالمسلمينَ لِوَقتِهم، ولم يمكِّنْهم من إتمام الغنيمةِ، فتركوا كثيرًا منها، وسأله أصحابُه ليُقيمَ إلى أن يجمَعَ السِّلاحَ وغَيرَه ويَعمُرَ به الخزائِنَ، فلم يفعل، وكانت ولايةُ أبي القاسم على صقلية اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام. وكان عادلًا، حسنَ السيرة، كثيرَ الشَّفَقة على رعيَّتِه والإحسانِ إليهم، عظيمَ الصدقةِ، لم يُخَلِّفْ دينارًا ولا درهمًا ولا عقارًا؛ فإنه كان قد وقف جميعَ أملاكِه على الفُقَراء وأبوابِ البِرِّ.
هو الخليفةُ أبو العَبَّاسِ أحمَدُ بنُ الأميرِ إسحاقَ بنِ المُقتَدِرِ جَعفرِ بنِ المُعتَضِدِ العباسيِّ البغداديِّ. ولِدَ سنة 336. وأمُّه اسمُها: تمني, ماتت في دولتِه، وكان أبيضَ كَثَّ اللِّحيةِ يَخضِبُ, دَيِّنًا عالِمًا متعَبِّدًا وقورًا، مِن جِلَّةِ الخُلفاءِ وأمثَلِهم. عَدَّه ابنُ الصَّلاحِ في الشَّافعيَّة؛ فقد تفَقَّه على أبي بشرٍ أحمَدُ بنُ محمَّدٍ الهَرَويِّ. قال الخطيبُ البغدادي: "كان القادِرُ باللهِ مِن السِّترِ والدِّيانةِ، وإدامةِ التهَجُّدِ باللَّيلِ وكثرةِ البِرِّ والصَّدَقات على صِفةٍ اشتُهِرَت عنه" وكان قد صَنَّفَ كِتابًا في الأصولِ ذكر فيه فضائِلَ الصَّحابةِ على ترتيبِ مَذهَبِ أهل الحديث, وأورد في كتابِه فضائِلَ عُمَرَ بنِ عبد العزيز، وإكفارَ المُعتَزِلة والقائلينَ بخَلقِ القُرآنِ, وكان الكِتابُ يُقرأُ كُلَّ جُمعةٍ في حلقةِ أصحابِ الحديث. قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ: "كان في أيَّامِ المتوكِّلِ قد عَزَّ الإسلامُ حتى ألزَمَ أهلَ الذِّمَّةِ بالشُّروطِ العُمَرِيَّة وألزموا الصِّغارَ، فعَزَّت السُّنَّة والجماعة, وقُمِعَت الجَهميَّةُ والرَّافِضةُ ونحوهم، وكذلك في أيَّامِ المُعتَضِد، والمُهتدي، والقادرِ بالله، وغيرِهم من الخُلفاِء الذين كانوا أحمَدَ سِيرةً وأحسَنَ طريقةً مِن غَيرِهم, وكان الإسلامُ في زَمَنِهم أعَزَّ، وكانت السُّنَّةُ بحَسَبِ ذلك" أمَرَ القادِرُ باللهِ بعَمَلِ مَحضَرٍ يتضَمَّنُ القَدحَ في نَسَبِ العُبَيديَّة، وأنَّهم منسوبونَ إلى ديصان بنِ سعيدٍ الخرَّميِّ، أخذَ عليه خُطوطَ العُلَماءِ والقُضاة والطَّالبيِّينَ، كما استتابَ فُقَهاءَ المُعتَزِلة، فأظهروا الرُّجوعَ وتبَرَّؤوا من الاعتزالِ والرَّفضِ والمقالاتِ المخالفةِ للإسلامِ. تُوفِّيَ القادِرُ بالله وكانت خلافتُه إحدى وأربعينَ سَنةً وثلاثةَ أشهُرٍ وعشرين يومًا، وكانت الخلافةُ قَبلَه قد طَمِعَ فيها الديلَمُ والأتراك، فلَمَّا وَلِيَها القادِرُ بالله أعاد جِدَّتَها، وجَدَّد ناموسَها، وألقى اللهُ هَيبَتَه في قلوبِ الخَلقِ، فأطاعوه أحسَنَ طاعةٍ وأتَمَّها، فلمَّا مات القادِرُ بالله جلَسَ ابنُه القائِمُ بأمرِ الله أبو جعفرٍ عبدُ الله، وجُدِّدَت له البيعةُ، وكان أبوه قد بايَعَ له بولايةِ العهدِ سنةَ 421، واستقَرَّت الخلافةُ له، وأوَّلُ مَن بايَعَه الشَّريفُ أبو القاسِمِ المرتضى، وأرسل القائِمُ بأمرِ اللهِ قاضيَ القُضاةِ أبا الحسَن الماوَرديَّ إلى المَلِك أبي كاليجار؛ ليَأخُذَ عليه البَيعةَ، ويَخطُبَ له في بلادِه، فأجابَ وبايَعَ، وخَطَب له في بلادِه.
وقعَ غَلاءٌ وفَناءٌ عَظيمان ببغداد وغَيرِها مِن البلادِ، بحيث خَلَتْ أَكثرُ الدُّورِ وَسُدَّتْ على أَهلِها أَبوابُها بما فيها، وأَهلُها مَوتى فيها، ثم صار المارُ في الطَّريقِ لا يَلقى الواحدَ بعدَ الواحدِ، وأكلَ النَّاسُ الجِيَفَ والنَّتَنَ مِن قِلَّةِ الطَّعامِ، ووُجِدَ مع امرأةٍ فَخِذُ كَلْبٍ قد اخْضَرَّ, وشَوَى رَجلٌ صَبِيَّةً في الأَتُونِ وأَكَلَها، وسَقطَ طائرٌ مَيِّتٌ مِن حائطٍ فاحْتَوَشَتْهُ خمسُ أَنفُسٍ فاقتَسموهُ وأَكلوهُ. قال ابنُ الجوزي يَصِفُ خبرَ هذا الوباءِ: " في جُمادى الآخِرة: وَردَ كِتابٌ مِن تُجَّارِ ما وَراءَ النَّهرِ قد وقع في هذه الدِّيارِ وَباءٌ عَظيمٌ مُسرِفٌ زَائِدٌ عن الحَدِّ، حتى أنَّه خَرجَ من هذا الإقليمِ في يَومٍ واحدٍ ثمانية عشر ألف جِنازةٍ، وأحصى مَن مات إلى أن كُتِبَ هذا الكِتاب فكانوا ألف ألف وستمائة ألف وخمسين ألفًا، والنَّاسُ يَمُرُّون في هذه البلادِ فلا يَرونَ إلَّا أسواقًا فارغةً، وطُرقاتٍ خاليةً، وأبوابًا مُغلقةً، حتى إنَّ البَقرَ نَفَقَت. وجاء الخَبرُ من أذربيجان وتلك البلادِ بالوباءِ العظيمِ، وأنَّه لم يَسْلَم من تلك البلادِ إلا العَددُ اليَسيرُ جدًّا. وَقعَ وباءٌ بالأهواز وبواط وأَعمالِها وغَيرِها، حتى طَبَقَ البلادَ، وكان أكثرَ سَببِ ذلك الجوعُ، كان الفقراءُ يَشوون الكِلابَ، ويَنبُشون القُبورَ، ويَشوون المَوتى ويَأكلُونهم، وليس للناسِ شُغلٌ في اللَّيلِ والنَّهارِ إلا غَسلُ الأمواتِ وتَجهيزُهُم ودَفنُهُم، فكان يُحفَر الحُفَير فيُدفَن فيه العشرون والثلاثون، وكان الإنسانُ بينما هو جالس إذ انشَقَّ قَلبُه عن دَمِ المُهْجَةِ، فيَخرُج منه إلى الفَمِ قَطرةٌ فيموتُ الإنسانُ مِن وَقتِه، وتاب النَّاسُ، وتَصدَّقوا بأَكثرِ أَموالِهم فلم يَجِدوا أحدًا يَقبَل منهم، وكان الفَقيرُ تُعرَض عليه الدَّنانيرُ الكَثيرة والدَّراهِم والثِّياب فيقول: أنا أُريدُ كَسرةً، أُريدُ ما يَسُدُّ جُوعي. فلا يجد ذلك، وأَراقَ النَّاسُ الخُمورَ وكَسَروا آلات اللَّهوِ، ولَزِموا المساجِدَ للعِبادةِ وقِراءةِ القُرآن, وفي يومِ الأربعاءِ لِسَبعٍ بَقِينَ مِن جُمادى الآخرة احتَرقَت قَطِيعةُ عيسى، وسُوقُ الطَّعامِ، والكَنِيسُ، وأَصحابُ السَّقْطِ، وبابُ الشَّعيرِ، وسُوقُ العَطَّارين، وسُوقُ العَروسِ، والأَنماطِيِّين، والخَشَّابين، والجَزَّارين، والتَّمَّارين، والقَطيعَةُ، وسُوقُ مُخَوَّل، ونَهرُ الزُّجاجِ، وسُوَيْقَةُ غالبٍ، والصَّفَّارين، والصَّبَّاغين، وغَيرُ ذلك مِن المواضع، وهذه مُصيبةٌ أُخرى إلى ما بالنَّاسِ مِن الجُوعِ والغَلاءِ والفَناءِ، فضَعُفَ النَّاسُ حتى طَغَت النَّارُ فعَمِلَت أَعمَالَها، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون".
في سَنةِ خَمسٍ وتسعين حَصَر الأفضَلُ والظاهِرُ وَلَدا صلاح الدين دمشقَ؛ لأخذها مِن عَمِّهما الملك العادل ورحلا عنها، على عَزمِ المقام بحوران إلى أن يخرُجَ الشتاء، فلمَّا أقاموا برأس الماء وجد العسكَرُ بردًا شديدًا، لأنَّ البَردَ في ذلك المكان في الصَّيفِ موجود، فكيف في الشِّتاءِ، فتغَيَّرَ العزم عن المقام، واتَّفَقوا على أن يعود كلُّ إنسانٍ منهم إلى بلده، ويعودوا إلى الاجتماعِ، فتفَرَّقوا تاسع ربيع الأول، فعاد الظاهِرُ وصاحب حمص إلى بلادِهما، وسار الأفضَلُ إلى مصر، فوصل بلبيس، فأقام بها، ووصَلَتْه الأخبارُ بأنَّ عَمَّه الملك العادل قد سار من دمشقَ قاصِدًا مصر ومعه المماليكُ الناصريَّة، وكان عسكَرُه بمصر قد تفَرَّقَ عن الأفضل، فسار كلٌّ منهم إلى إقطاعِه ليربعوا دوابهم، فرام الأفضَلُ جَمْعَهم من أطراف البلاد، فأعجَلَه الأمر عن ذلك، ولم يجتَمِعْ منهم إلا طائفة يسيرة ممَّن قَرُب إقطاعه، ووصل العادل، فسار عن بلبيس، ونزل موضعًا يقال له السائحُ إلى طرف البلاد، ولقاء العادل قبل دخول البلادِ سابع ربيع الآخر، فانهزم الأفضَلُ، ودخل القاهرةَ ليلًا، وسار العادِلُ فنزل على القاهرة وحَصَرَها، فجمع الأفضَلُ مَن عنده من الأمراء واستشارهم، فرأى منهم تخاذلًا، فأرسل رسولًا إلى عَمِّه في الصلحِ وتسليم البلاد إليه، وأخْذِ العوض عنها، وطَلَب دمشق، فلم يجِبْه العادل، فنزل عنها إلى حرَّان والرَّها فلم يُجِبْه، فنزل إلى ميافارقين وحاني وجبل جور، فأجابه إلى ذلك، وتحالَفوا عليه، وخرج الأفضَلُ مِن مصر ليلة السبت ثامن عشر ربيع الآخر، واجتمع بالعادِل، وسار إلى صرخد، ودخل العادِلُ إلى القاهرة يوم السبت ثامن عشر ربيع الآخر، ولَمَّا وصل الأفضل إلى صرخد أرسل مَن تسَلَّمَ ميافارقين وحاني وجبل جور، فامتنع نجمُ الدين أيوب بن الملك العادل من تسليم ميافارقين، وسَلَّمَ ما عداها، فتردَّدَت الرسل بين الأفضل والعادل في ذلك، والعادِلُ يزعم أنَّ ابنَه عصاه، فأمسك عن المُراسلة في ذلك؛ لعِلمِه أن هذا فِعلٌ بأمر العادل، ولَمَّا ثبتت قدم العادل بمصرَ قَطَعَ خطبة الملك المنصور بن الملك العزيز في شوال وخَطَب لنفسه، وحاقَقَ الجندَ في إقطاعاتهم، واعتراضهم في أصحابِهم ومن عليهم من العسكر المقَرَّر، فتغَيَّرَت لذلك نياتُهم.
هو الشيخُ شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أبي القاسم الهمذاني ثم الدمشقي السكاكيني المتشيِّع، ولِدَ سنة 635 بدمشق، وطلب الحديثَ وتأدَّبَ وسَمِعَ وهو شابٌّ من إسماعيل بن العراقي والرشيد بن مسلمة، ومكي بن علان في آخرين، وتلا بالسبع، ومن مسموعاته مُسنَدُ أنس للحنيني على إسماعيل عن السلفي، ومن فوائد أبي النرسي بالسند عنه روى عنه البرزالي والذهبي وآخرون، من آخرهم أبو بكر بن المحب، وبالإجازة برهانُ الدين التنوخي. رُبِّي يتيمًا فأُقعِدَ في صناعة السكاكين عند شيخ رافضيٍّ فأفسد عقيدتَه, ثم أخذ عن جماعةٍ مِن الإمامية وله نظمٌ وفضائِلُ وردٌّ على العفيف التلمساني في الاتحاد، وأَمَّ بِقَريةِ جسرينَ مُدَّةً، وأقام بالمدينةِ النبويَّة عند أميرها منصور ابن جماز مدةً طويلةً، ولم يُحفَظْ له سبٌّ في الصحابةِ، بل له نظم في فضائِلِهم إلَّا أنه كان يناظر على القَدَرِ ويُنكِرُ الجَبْرَ وعنده تعبُّدٌ وسَعةُ عِلمٍ. قال الذهبي: "كان حلوَ المجالسة ذكيًّا عالِمًا فيه اعتزالٌ، وينطوي على دينٍ وإسلام وتعبُّدٍ، سَمِعْنا منه وكان صديقًا لأبي، وكان ينكر الجبرَ ويناظرُ على القَدَر" قال الصفدي: "وترَفَّضَ به أناسٌ من أهل القرى؛ لذا قال تقيُّ الدينِ ابنُ تيميَّة: "هو ممَّن يتسَنَّنُ به الشيعيُّ، ويتشَيَّعُ به السُّنيُّ!" وكان يجتَمِعُ به شيخُ الإسلام كثيرًا، وقيل إنَّه رجع في آخِرِ عُمُرِه ونسخ صحيحَ البخاري، وجد بعد موته بمدة في سنه 750 بخطٍّ يشبه خَطَّه كتابٌ يسمَّى الطرائف في معرفة الطوائف يتضمَّنُ الطعن على دين الإسلام وأورد فيه أحاديثَ مُشكِلة وتكلَّم على متونِها بكلامِ عارفٍ بما يقولُ إلَّا أنَّ وضعَ الكتابِ يدُلُّ على زندقةٍ فيه، وقال في آخره: وكتبه مصنِّفُه عبد الحميد بن داود المصري، وهذا الاسمُ لا وجود له، وشَهِدَ جماعة من أهل دمشق أنَّه خطُّه فأخذه تقي الدين السبكي عنده وقطَّعَه في اللَّيلِ وغَسَلَه بالماء، ونَسَب إليه عمادُ الدين ابن كثير الأبياتَ التي أوَّلُها: يا معشر الإسلام ذمي دينكم... الأبيات. مات شمس الدين في صفر في هذه السنة. وابنُه حسن نشأ في الرفضِ، فثبت عليه ذلك عند القاضي شرف الدين المالكي بدمشق وثبت عليه أنَّه يكَفِّرُ الشيخين وقَذَف ابنَتَيهما ونَسَب جبريل إلى الغلط في الرِّسالة، فحكم بزندقته وبِضَرب عُنُقِه فضُرِبَت سنة 744.
توعَّكَ السلطانُ المَلِكُ الناصر حسن بن محمد بن قلاوون ولَزِمَ الفراشُ أيامًا، فبلغ الأميرَ طاز ومغلطاي ومنكلي بغا أنَّه أراد بإظهار توعُّكِه القَبضَ عليهم إذا دخلوا إليه، وأنَّه قد اتَّفَقَ مع قشتمر وألطنبغا الزامر وملكتمر المارديني وتنكز بغا على ذلك، وأن ينعِمَ عليهم بإقطاعاتِهم وإمراتهم، فواعدوا أصحابَهم، واتَّفَقوا مع الأمير بيبغا ططر حارس الطير النائب، والأمير طيبغا المجدي والأمير رسلان بصل، وركبوا يوم الأحدِ سابِعَ عشر جمادى الآخرة بأطلابِهم، ووقفوا عند قبة النصر، فخرج السلطانُ إلى القصر الأبلق، وبعث يسألُهم عن سبب ركوبهم، فقالوا: "أنت اتفقت مع مماليكِك على مَسْكِنا، ولا بدَّ من إرسالهم إلينا، فبعث السلطانُ إليهم تنكز بغا وقشتمر وألطنبغا الزامر وملكتمر، فعندما وصلوا إليهم قَيَّدوهم، وبَعَثوهم إلى خزانة كايل، فسُجِنوا بها، فشَقَّ ذلك على السلطان، وقال: " قد نزلت عن السَّلطنةِ "، وسير إليهم النمجاة، فسلَّموها للأمير طيبغا المجدي، وقام السلطانُ إلى حريمه، فبعث الأمراءُ الأمير صرغتش، ومعه الأمير قطلوبغا الذهبي وجماعة؛ ليأخُذَه ويحبِسَه، فأخرجه صرغتمش وقد غطَّى وجهه إلى الرحبة، فلما رآه الخدام والمماليك تباكَوا عليه بكاءً كثيرًا، وطلع صرغتمش به إلى رُواق فوق الإيوان، ووكَلَ به من يحفَظُه، وعاد إلى الأمراء، وكانت مُدَّتُه ثلاث سنين وتسعة أشهر وأربعة عشر يومًا، منها مُدَّة الحجر عليه ثلاث سنين، ومدة استبداده تسعة أشهر، وكان القائِمُ بدولته الأمير شيخو رأس نوبة، ثم تولَّى صلاح الدين صالح بن الناصر محمد بن قلاوون حيث أقيمَ سُلطانًا بعد خَلْعِ أخيه الناصر حسن، وكان عمره أربع عشرة سنة، في يوم الاثنين ثامن عشر جمادى الآخرة، وذلك أنَّ الأمراء لَمَّا حُمِلَت إليهم النمجاة، باتوا ليلة الاثنين بإسطبلاتهم، وبكَّروا يوم الاثنين إلى القلعة، واجتمعوا بالرحبة داخل باب النحاس، وطلَبوا الخليفةَ والقضاة وسائر أهل الدولة، واستدعَوا به، فلمَّا خرج إليهم ألبَسوه شِعارَ السلطنة، وأركبوه فرسَ النوبة من داخل باب الستارة، ورُفِعَت الغاشية بين يديه، وكان الأميرُ طاز والأمير منكلي بغا الفخري آخذَينِ بشكيمةِ الفَرَسِ حتى جلس على التخت، وحَلَفوا له، وحلَّفوه على العادة، ولقَّبوه بالملك الصالح، ونودِيَ بسَلطنتِه في القاهرة ومصرَ.
بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحربِ العالمية الأولى، وإعلان هُدنةِ مودروس؛ وصل الجنرال اللنبي قائِدُ الإنجليز استانبولَ وطلب من الحكومةِ التركية تعيينَ مصطفى كمال قائدًا للجيش السادس بالقُربِ مِن الموصل حيث تهمُّ هذه المنطقة إنجلترا، وأثناء انسحاب مصطفى كمال من حلبٍ اقترح تشكيلَ وزارة جديدة برئاسةِ عزة باشا الأرناؤوط؛ لتخلُف وزارة الاتحاديين برئاسة طلعت باشا، وعلى أن يتولى هو في هذه الوَزارةِ الجديدة وزارةَ الحربية. تشَكَّلَت وزارةٌ جديدة برئاسة الأرناؤوط وضَمَّت عددًا ممن رشَّحهم مصطفى كمال لمناصِبَ وزارية، أما هو فلم يوافِقْ عليه الخليفةُ العثماني. فأخذ مصطفى يتقَرَّب من حزب أنصار الحرية والائتلاف الذي كان يتعاونُ مع سلطات الاحتلال، لكِنَّ الحزب لم يهتَمَّ به، ثم خطب مصطفى صبيحةَ بنت الخليفة العثماني وحيد الدين، فرفض طلَبه مباشرةً، كانت سلطاتُ الاحتلال تقبِضُ على كلِّ من يعود من القادة الأتراك من الجبهاتِ، ثم يُنفى إلى مالطة إلا مصطفى كمال فقد تركوه وشأنَه. كان الخليفةُ وحيد الدين ورئيسُ وزرائه فريد باشا يحسِنانِ الظَّنَّ بمصطفى كمال، فكَلَّفاه سرًّا بالقيام بثورة في شرق الأناضول، لعَلَّ هذه الثورة تُسهِمُ في الحدِّ من شروط الصلح القاسية التي فُرِضَت على الدولة. قَبِلَ مصطفى بالمهمَّة وزوَّده الخليفةُ بالمال ومَنَحَه منصِبَ مفتشٍ عامٍّ على الجيوش، ولَمَّا بُلِّغت الحكومةُ العثمانيةُ مِن الحلفاء بأنَّ الجيشَ اليونانيَّ سينزل أزمير، وعلى الحكومةِ عدَمُ مقاومتِه، فبعد نزولِ اليونانيين بيومين نزل مصطفى في ميناء أزمير من سفينة إنجليزية بشكلٍ مفاجئٍ للجميع، ثم أعلن الثورةَ على الدولة العثمانية، وتمرَّد على السلطان العثماني، وانزعجت الحكومةُ من تصرفاته، واحتجَّ الحُلَفاءُ في استانبول على الأعمالِ التي يقومُ بها مصطفى كمال في الأناضول؛ لإعطائه صفةَ الوطنية والإخلاصِ لأمَّتِه، فظهر كمال كمُنقذٍ للأمة، وتبعه وأيَّده كثيرٌ من الأتراك، ثم طلب الحلفاءُ مِن الحكومة استقدامَه إلى استانبول ووضْعَه تحت الرقابة، فدُعِيَ مِن قِبَل الوزارة، لكِنَّه لم يستجِبْ، فهدَّد الحلفاءُ بإعادة الحرب، فاضطرَّت الحكومةُ إلى إقالة مصطفى من منصِبِ المفتِّش العام، فقابل الإقالةَ بالاستقالة من الجيشِ، واتصل سرًّا بالإنجليز، ثم دعا إلى عقد مؤتمر في أرضروم، فانتُخب مصطفى رئيسًا له، ثم دعا مصطفى إلى مؤتمر أوسَعَ يشمَلُ تركيا كلَّها، فعُقِدَ مؤتمرُ سيواس في 13 ذي الحجة 1337هـ، وكانت الحكومةُ في استانبول ترى إلغاءَ المؤتمر واعتقالَ أعضائه، والحلفاءُ يؤيِّدون الحكومةَ في رأيهم لإعطاء مصطفى كمال مزيدًا من القوة، وجَعْله زعيمًا وطنيًّا يقاوم المحتَلَّ. عُقِد المؤتمَرُ وانتُخِبَ مصطفى رئيسًا له وشُكِّلَت فيه جمعيةٌ تُعنى بالدفاع عن كامل الوطنِ، وانتُخِبَت هيئةٌ تمثيليةٌ بقي أعضاؤها في سيواس. غادر مصطفى كمال سيواس إلى أنقرة التي اتخذَها مقرًّا له. احتلَّ الإنجليز باسم الحلفاء استانبول بشكلٍ كاملٍ في جمادى الآخرة 1338هـ / آذار 1920م، وبدأت الاعتقالاتُ في صفوف المؤيِّدين لمصطفى كمال، ثم نُفُوا إلى مالطة؛ لإظهارِ خلافهم مع مصطفى، وفَرَضت الحكومةُ الرقابةَ على الصحُفِ ووسائِلِ الإعلام، وراقب الإنجليزُ الوزارةَ وطلبوا بطاعةِ أوامر الخليفة؛ لينفِرَ منه الشعبُ ويتعلَّقَ أكثَرَ بمصطفى كمال الذي يعمَلُ فيما يبدو للناس ضِدَّ الإنجليز المحتلين، وأنَّه لم يتحرَّكْ ضِدَّ الخليفة إلا لأنَّه مؤيَّدٌ مِن قِبَل المحتلين، وهذا ما جعل الأتراك يرتبطون بكمال ويؤيدونه ويسيرون وراءه. في رجب 1338هـ حُلَّ المجلسُ النيابي وشُكِّل مجلِسٌ جديدٌ برئاسة فريد باشا صِهرِ الخليفة بطلبٍ مِن الإنجليز وضَغطٍ منهم؛ ليظهَرَ للنَّاسِ أن الخليفةَ وحكومتَه يسيرانِ برأي الأعداء، فيتَّجِهَ الناسُ أكثر إلى مصطفى كمال الذي يبدو أنَّه على خلاف مع المحتلين، وأنَّه عدوُّهم الأول، فلما استبَدَّ فريد باشا بحُكمِه تضايقَ السكانُ وأحبُّوا الخلاص منه، وليس لهم من طريقٍ سوى مصطفى كمال. جرت انتخاباتٌ ونجح مصطفى غيابيًّا عن أنقرة، فعُقِد مؤتمرٌ ونصب نفسه رئيسًا للمجلس وللهيئة التنفيذية، ثم أظهر التدينَ ولَبِسَ شعاره، وأعلن أن أولَ جلسة ستُفتتح بعد صلاة الجمعة في هذا اليوم المبارك في أنقرة، وعندما ألقى الخطبةَ الافتتاحية أكثَرَ من مدح الخلافةِ، وأنَّ كُلَّ ما فعله في الأناضول وانتقاله إليها كان بمعرفة الخليفة وأمرِه. أصدر شيخ الإسلام في استانبول فتوى ضدَّ مصطفى كمال فضَعُف مركزُه، وسيَّرَ الخليفةُ حملةً إلى كردستان فانضَمَّت لها كلُّ أجزاء الأناضول باستثناء أنقرة التي أرسل إليها الخليفةُ حملةً لإخضاعها لسلطانه، وكادت أوراقُ مصطفى كمال تتساقط وينتهي أمرُه، لولا تدارُكُ أسيادِه الإنجليز بإعلانِ معاهدة سيفر المجحفة بأسلوبٍ إعلامي مثيرٍ، فهاج الشعبُ ضِدَّ الخليفة الذي وقَّع عليها هو وحكومته برئاسة فريد باشا، وإن كانا مُكرَهينِ، فعاد الناسُ إلى تأييد مصطفى كمال ورجال الحملة التي وجهها الخليفةُ إلى أنقرة انقلبت من ضد كمال لتصبِحَ معه، حتى أصبح مصطفى يفكِّرُ في الهجوم على العاصمة استانبول، فالأمرُ في غاية الوضوح أنَّ الخليفةَ والحكومة مع الإنجليز في الظاهر، وهما أعداء لها واقعًا, ومصطفى كمال يهاجِمُ الإنجليز في الظاهر ويتَّفِقُ معهم في الحقيقة. جاء إعلان معاهدة سيفر في الوقت المناسِب، فانتصر مصطفى كمال على حملةِ الخليفة في أنقرة، وعلت مكانتُه وأرادت إنجلترا أن تقطِفَ ثمار تخطيطها؛ فقد غدا صنيعتُها في موقفٍ يؤهِّلُه لتسلُّم المنصِبِ الأول، فدعت بريطانيا إلى عقدِ مؤتمر في لندن لحلِّ المسألة الشرقية مع تركيا، فوجَّهت دعوةً لحكومة استانبول الحكومةِ الشرعيةِ، وهي المعنيةُ بالتفاوض بشأن الصلحِ، كما أن الإنجليزَ وجَّهوا دعوةً كذلك لحكومة مصطفي كمال في أنقرة، وهذا اعترافٌ منهم ضمنيًّا بحكومة أنقرة، وبلغ من جرأةِ حكومة أنقرة أنَّها رفضت دعوةَ حكومة استانبول؛ لأنَّها هي الممثِّل الوحيد للشعب التركي والمدافِع عن حقوقه. حضر في لندن ممثِّلون عن الحكومتين، وحرصًا على وحدة الصَّفِّ ترك وفدُ استانبول الحديثَ لوفد أنقرة، وفَشِلَ المؤتمر لكِنْ ظَهَرت حكومةُ أنقرة كممَثِّل رئيس للشعب التركي. اتصل مصطفى كمال بالفرنسيين واعترف لهم بحقِّهم في سوريا ولبنان، فكسب رضاهم واعترفوا به كممثِّل لدولة تركيا الحديثة، ثم اتصل بروسيا الشيوعية وعقدَ معهم معاهدةً في رجب 1339هـ / 16 آذار 1921م تنازل لها عن منطقة آجاريا (جورجيا) فرَضِيَت عنه واعترفت بحكومته في أنقرة، على أنها تمثِّل الدولة الحديثة للأتراك، واتصل بإيطاليا التي اعترفت بحكومتِه وتنازل لها عن منطقة أضاليا -جنوب غرب تركيا- التي دخلتها أثناء الحرب، فاتجهت الأنظارُ إلى مصطفى كمال كمنقذٍ لتركيا وممثِّل لدولة تركيا الحديثة، وأُغلِقَت كلُّ القنوات أمام الخليفة وبهذا نجحت اللعبةُ الدولية التي حبكتها إنجلترا مع دول الحُلفاء؛ وفي 17 ربيع الأول أُقيلَت حكومةُ السلطان في استانبول بضغطٍ مِن إنجلترا، وتنازل السلطانُ وأُبعِدَ عن البلاد، ثم بحثت إنجلترا مع حكومةِ أنقرة موضوع إلغاء السلطنة وإعلان تركيا دولة علمانيةً، وهو شرطُ اعتراف الحلفاء بدولة تركيا الحديثة، فأعلنت حكومةُ أنقرة إلغاءَ السلطنة، وفَصْل الدين عن الدولة، فسُرَّ الحلفاءُ بهذا الإعلان، ودَعَوا حكومةَ أنقرة إلى لوزان؛ لإعادة النظر في بنود معاهدة سيفر، وكان مصطفى كمال يشكِّل حكوماتٍ بدون برامج، ويعَيِّنُ من يشاء ويعزل من يشاء حسَبَ مزاجِه الخاص، أو ما يقَدَّمُ له من خِدماتٍ. تشكَّلَ الوفدُ إلى مؤتمر الصلح في لوزان من وزير الخارجية عصمت إينونو، ووزير الصحة، وخبير مالي، وجاء الحلفاءُ، وهم: إنجلترا، وفرنسا، وإيطاليا، واليابان، واليونان، والولايات المتحدة الأمريكية، وكان الأمرُ كُلُّه بيد إنجلترا، وتم تعديل بنودِ معاهدة سيفر بعد جولتينِ تمَّت بين الأطراف بعد أن أعدَّ البنودَ الجديدة كبيرُ حاخام اليهود في الدولة العثمانية حاييم ناعوم، ومستشار إيطاليا ماتر سالم -يحمل جنسية عثمانية- مع الوفد التركي إلى لوزان، وكان إلغاءُ الخلافة وتَرْك الموصِل شرطين أساسيين لاستقلال تركيا. اجتمع المجلسُ النيابي في أنقرة بن20 ربيع الأول 1342هـ/ 30 أكتوبر 1923م وقرَّر إلغاءَ السلطنة وإعلان الجمهورية، وانتُخِبَ مصطفى كمال رئيسًا للجمهورية، وبعد يومين وُقِّع الصلحُ في لوزان، وأُطلِقَت المدافعُ في تركيا؛ ابتهاجًا بهذا التوقيع.
لمَّا خرَج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى بني المُصطلِقِ لِغَزوِهِم أَقرعَ بين نِسائِه مَن يَخرُج معه، فكانت القُرعَةُ على عائشةَ الطَّاهرةِ رضي الله عنها وأَرضاها، وفي طريقِ العَودةِ كانت تُحمَلُ على هَودجٍ، فقدَّرَ الله في ذلك اليومِ أن تكونَ خارجَ هَودَجِها لِتبحثَ عن عِقْدٍ سقَط منها، فلمَّا أرادوا الرَّحيلَ لم يَشعُروا بعدمِ وُجودِها ورَحلوا؛ فقد كانت صَغيرةً خَفيفةَ الوَزنِ، فلمَّا رجعت لم تَرَهُم. قالت عائشةُ رضِي الله عنها: (فتَيَمَّمْتُ مَنزلي الذي كنتُ فيه، وظَننتُ أنَّ القومَ سَيفْقِدوني فيَرجِعون إليَّ، فبينا أنا جالسةٌ في مَنزلي غَلبتْني عَيني فنِمْتُ، وكان صَفوانُ بنُ المُعَطَّلِ السُّلميُّ ثمَّ الذَّكْوانيُّ قد عَرَّسَ مِن وَراءِ الجيشِ فأَدْلَجَ، فأصبحَ عند مَنزلي فرَأى سَوادَ إنسانٍ نائمٍ، فأتاني فعَرفَني حين رآني، وقد كان يَراني قبلَ أن يُضرَبَ الحِجابُ عَليَّ، فاسْتيقَظتُ بِاسْتِرجاعِه حين عَرفَني، فخَمَّرتُ وجهي بِجِلبابي، ووالله ما يُكلِّمُني كَلمةً، ولا سمِعتُ منه كَلمةً غيرَ اسْتِرجاعِه، حتَّى أناخ راحلتَه، فوَطِئَ على يَدِها فرَكِبتُها، فانطلق يَقود بي الرَّاحلةَ، حتَّى أَتينا الجيشَ، بعدما نزلوا مُوغِرين في نَحْرِ الظَّهيرةِ، فهلَك مَن هلَك في شأني، وكان الذي تَولَّى كِبْرَهُ عبدُ الله بنُ أُبَيٍّ بن ابنُ سَلولَ،...) فاتَّهموها مع صَفوانَ وبدَأ هذا الإفكُ المُبينُ يَنتشِرُ في المدينةِ، وبَقِيتْ عائشةُ شهرًا لا تعلمُ شيئًا عن ذلك، حتَّى عَلِمتْ بذلك صَراحةً مِن أمِّ مِسْطَحٍ، وكُلُّ ذلك ولم تَتَبيَّنْ الحقيقةُ، ثمَّ نزلت آياتٌ تُتْلى إلى يومِ القيامةِ مِن قولِه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 11] إلى قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21] آياتٌ تُبرِّئُ الطَّاهرةَ المُطَهَّرةَ ممَّا افْتَراهُ المُفتَرون.