هو الفيلسوف الشَّهيرُ، الرَّئيسُ أبو علي الحُسَين بنُ عبدِ الله بن الحَسَن بن علي بن سينا البلخي ثم البخاري، صاحِبُ التصانيف في الطبِّ والفلسفة والمنطق. الحكيمُ المشهور، كان بارعًا في الطبِّ في زمانه، وكان أبوه من أهلِ بلخ، وانتقل إلى بخارى، وهو من العُمَّال فيها، ومن دعاة الإسماعيليَّة، تولَّى العملَ بقرية من ضياعِ بخارى يقال لها خرميثنا، وُلِدَ ابنُ سينا بها سنة 370، واسم أمِّه ستارة. تعلَّم بها فقرأ القرآنَ وأتقَنَه، وهو ابنُ عشر سنين، وأتقن الحسابَ والجبر والمقابلة، ثم اشتغلَ على أبي عبد الله الناتلي الحكيم، فقرأ عليه كتابَ إيساغوجي، وأحكم على يديه عِلمَ المنطقِ وإقليدس والمجسطي، وفاقَه أضعافًا كثيرةً، فبرع فيه وَفاقَ أهلَ زَمانِه في ذلك، كذلك تفَقَّه على كُتُبِ الفارابي، قال ابن كثير في الفارابي الذي تتلمذ ابنُ سينا على كتُبِه: "تفَقَّه ابنُ سينا على كتب أبي نصرٍ الفارابي التركيِّ الفيلسوف، الذي كان حاذقًا في الفلسفة، ويقول: بالمعادِ الروحاني لا الجُثَماني، ويَخصُص بالمعادِ الأرواحَ العالِمة لا الجاهلةَ، وله مذاهِبُ في ذلك يخالِفُ المسلمينَ والفلاسفةَ مِن سَلَفِه الأقدمين، فعليه- إن كان مات على ذلك- لعنةُ رَبِّ العالمينَ". وتردَّد النَّاسُ على ابنِ سينا واشتغلوا عليه، وهو ابنُ سِتَّ عشرة سنة، وعالج بعضَ الملوك السامانيَّة، وهو الأميرُ نوح بن نصر، فأعطاه جائزةً سَنيَّةً، وحَكَّمَه في خِزانةِ كُتُبِه، فرأى فيها مِن العجائب والمحاسِن ما لا يوجَدُ في غيرِها قبل أن تحتَرق، فيقال إنَّه عزا بعضَ تلك الكتب إلى نَفسِه، وله في الإلهيَّات والطبيعيَّات كتبٌ كثيرة. قال ابن سينا: "كان أبي تولى التصرُّفَ بقريةٍ كبيرة، وهو ممَّن آخى داعيَ المصريين، ويُعَدُّ من الإسماعيليَّة. ثمَّ نزل بخارى، فقرأت القُرآنَ وكثيرًا مِن الأدبِ ولي عَشرٌ، ثم رَغِبتُ في الطبِّ، وبَرَزتُ فيه، وقرؤوا عليَّ، وأنا مع ذلك أختَلِفُ إلى الفقه، وأناظِرُ ولي ستَّ عشرة سنة. ثم قرأت جميعَ أجزاء الفلسفة، وكنتُ كلمَّا أتحير في مسألة، أو لم أظفَرْ بالحد الأوسط في قياسٍ، تردَّدتُ إلى الجامِعِ، وصَلَّيتُ، وابتهلتُ إلى مُبدعِ الكُلِّ حتى فُتِح لي المنغَلِقُ منه، وكنت أسهَرُ، فمهما غلبني النومُ، شَربتُ قدحًا, حتى استحكم معي جميع العلوم، وقرأتُ كتاب "ما بعد الطبيعة"، فأشكَلَ عليَّ حتى أعدتُ قراءتَه أربعينَ مَرَّة، فحَفِظتُه ولا أفهَمُه، فأَيِستُ, ثمَّ وقع لي مجلدٌ لأبي نصر الفارابي في أغراضِ كتاب "ما بعد الحكمة الطبيعية"، ففَتَحَ عليَّ أغراضَ الكتب، ففَرِحتُ، وتصَدَّقتُ بشيء كثير, واتَّفَق لسلطانِ بخارى نوح مَرَضٌ صَعبٌ، فأُحضِرْتُ مع الأطباء، وشاركتُهم في مداواته، فسألت إذنًا في نَظَرِ خزانة كتبه، فدخلت فإذا كتُبٌ لا تُحصى في كلِّ فنٍّ، فظَفِرتُ بفوائدَ, فلما بلَغتُ ثمانية عشر عامًا، فَرَغتُ من هذه العلوم كلِّها، وكنت إذ ذاك للعِلمِ أحفَظَ، ولكنَّه معي اليومَ أنضجُ". صنَّف ابنُ سينا كتبًا كثيرة نحوًا من مِئَة مُصَنَّف، صغار وكبار، منها "الإنصاف" عشرون مجلَّدًا، "البر والإثم" مجلدان، "الشفاء" ثمانية عشر مجلدًا، "القانون" مجلدات، "الإرصاد" مجلَّد، "النجاة" ثلاث مجلدات، "الإشارات" مجلد، "القولنج" مجلد، "اللغة" عشر مجلدات، "أدوية القلب" مجلد، "الموجز" مجلد، "المعاد" مجلد، وسلامان، وإنسان، وحي بن يقظان، وأشياء كثيرة، ورسائل. قال ابن كثير: "حصر الغزاليُّ كلامَه في مقاصِدِ الفلاسفةِ، ثمَّ رَدَّ عليه في تهافُتِ الفلاسفة في عشرينَ مجلِسًا له، كَفَّرَه في ثلاثٍ منها، وهي قوله بقِدَمِ العالمِ، وعدمِ المعادِ الجُثماني، وأنَّ اللهَ لا يعلمُ الجزئيات، وبَدَّعَه في البواقي، ويقالُ: إنه تاب عند الموت، فالله أعلم". وذُكِرَ أنه مات بدمشق بالقولنج في همذان، وقيل بأصبهان، والأول أصحُّ، يوم الجمعة في شهر رمضان منها، عن 58 سنة، قال ابن كثير: "ولم أر الحافِظَ ابنَ عساكر ذكَرَ ابن سينا في تاريخه; لِنَتنِه وقباحَتِه, فالله أعلم".
أمَرَ الظَّاهِرُ بنُ الحاكِمِ العُبَيديُّ حاكِمُ مِصرَ بنَفيِ مَن وُجِدَ مِن الفُقَهاءِ المالكيَّة وغيرِهم. وأمَرَ الدُّعاةَ أن يُحفِّظوا النَّاسَ كِتابَ دعائِمِ الإسلامِ لابنِ بابويهِ القُمِّي الرَّافضي، وكتاب الوزير يعقوبَ بنِ كلس في الفقهِ على مذهَبِ آلِ البَيتِ، وفرَضَ الظَّاهِرُ لِمَن يحفَظُ ذلك مالًا، وجلسَ الدُّعاةُ بالجامِعِ للمُناظرة.
قَلَّ المطَرُ وغَلَت الأسعار، فصار البُرُّ سِتةُ أصواعٍ وخمسة بريال فرنسي، والتمر خمسة عشر وزنة، وأصاب الناسَ مجاعةٌ، وجلا كثيرٌ من أهل سدير للزبير والبصرة، ولم يأتِ من السيل إلا قليلٌ في الصيف، وكان هذا الغلاء والقحط وقع بعد قتلِ الإمام تركي، وعلى وجه إقبال خالد بن سعود مع العسكرِ المصري.
سَدُّ "بوط" يقَعُ على مَجرى النِّيل الأزرق، قَريب مِن مَدينة بوط في وِلاية النِّيل الأزرق جَنوبَ شَرقَي السُّودان.
انهار السَّدُّ ودمَّر مئاتِ المنازل، وشرَّد آلافَ النَّاس، وكان السدُّ يُخزِّن 5 ملايين مِترِ مكعَّب من المياه القادمةِ مِن وُدْيان جِبال «الإنقسنا». وتَسبَّبت الأمطار الغزيرةُ التي شهِدتها المنطقةُ بانهيارِه.
لَمَّا كان مِن أمرِ دُخولِ الرُّومِ وبُلوغِ الخبر إلى بغداد، وتجهَّزت العامَّةُ للغَزاةِ، وقعت بينهم فتنةٌ شديدة بين الروافض وأهل السُّنة، وأحرق أهلُ السُّنَّة دُورَ الرَّوافِضِ في الكرخ، وقالوا: الشَّرُّ كُلُّه منكم، وثار العيَّارون ببغداد يأخذون أموالَ النَّاسِ، وتناقَضَ النَّقيبُ أبو أحمد الموسوي والوزيرُ أبو الفضل الشيرازي، وأرسل بختيار عزُّ الدولة بن معز الدولة إلى الخليفةِ المُطيع لله يطلُبُ منه أموالًا يستعين بها على هذه الغزوةِ، فبعث إليه الخليفةُ يقول: لو كان الخراجُ يجيء إلي لدَفَعتُ منه ما يحتاج المُسلِمونَ إليه، ولكن أنت تصرِفُ منه في وُجوهِ ليس بالمُسلمينَ إليها ضرورةٌ، وأمَّا أنا فليس عندي شيءٌ أُرسِلُه إليك, فتردَّدَت الرُّسُلُ بينهم وأغلَظَ بختيار للخليفةِ في الكلامِ وتهَدَّده، فاحتاج الخليفةُ أن يحَصِّلَ له شيئًا فباع بعضَ ثيابِ بَدَنِه وشيئًا مِن أثاث بيته، ونقضَ بعضَ سُقوفِ داره وحصَلَ له أربعمائة ألف درهم فصَرَفَها بختيار في مصالحِ نَفسِه، وأبطل تلك الغزاةَ، فنَقِمَ الناس للخليفةِ وساءهم ما فعَلَ به ابنُ بُوَيه الرافضيُّ مِن أخْذِه مالَ الخليفةِ وتَرْكِ الجِهاد.
لَمَّا توقَّفَ الحجُّ مِن العِراقِ عِدَّةَ سَنَواتٍ مُتَتالياتٍ خَوفًا مِن الأعرابِ قُطَّاعِ الطُّرُقِ، قَصَد النَّاسُ يَمينَ الدَّولةِ محمودَ بنَ سبكتكين وقالوا له: أنت سُلطانُ الإسلامِ وأعظَمُ مُلوكِ الأرض، وفي كلِّ سَنةٍ تَفتَحُ مِن بلادِ الكُفرِ ما تُحِبُّه، والثَّوابُ في فَتحِ طَريقِ الحَجِّ أعظَمُ، وقد كان الأميرُ بَدرُ بنُ حسنويه، وما في أمرائِك إلَّا مَن هو أكبَرُ منه شأنًا، يُسَيِّرُ الحاجَّ بمالِه وتدبيرِه عشرينَ سَنةً، فتقَدَّمَ ابنُ سبكتكين إلى قاضيه أبي مُحمَّدٍ الناصحي بالتأهُّبِ للحَجِّ، ونادى في أعمالِ خُراسان بالحَجِّ، وأطلق للعَرَبِ ثلاثينَ ألفَ دينارٍ سَلَّمَها إلى النَّاصحيِّ المذكورِ غيرَ ما للصَّدَقاتِ، فحَجَّ بالنَّاسِ أبو الحَسَن ِالأقساسي، فلمَّا بلغوا فيدَ حاصَرَتْهم العرَبُ، فبذل لهم القاضي النَّاصحي خمسةَ آلافِ دينارٍ، فلم يَقنَعوا وصَمَّموا على أخذِ الحافي، فرَكِبَ رأسَهم جَمَّازُ بنُ عديٍّ، وقد انضم عليه ألفا رجُلٍ مِن بني نبهان، وأخذ بِيَدِه رمحًا وجال حولَ الحاجِّ، وكان في السَّمَرْقنديِّينَ غُلامٌ يُعرَفُ بابنِ عَفَّان، فرماه بسَهمٍ فسَقَط منه مَيِّتًا وهَرَب جَمعُه، وعاد الحاجُّ في سلامةٍ.
قُتِلَ الفتح أحمدُ بن البققي بالدِّيار المصريَّة في يوم الاثنين الرابعَ والعشرين من ربيع الأول، حَكَم فيه القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي بما ثَبَت عنده من تنقيصِه للشَّريعةِ واستهزائِه بالآيات المحكماتِ، ومعارضةِ المُشتَبِهاتِ بَعضِها ببعض، فيُذكَرُ عنه أنه كان يحِلُّ المحَرَّمات من اللواطِ والخمر وغير ذلك، لمن كان يجتَمِعُ به من الفَسَقةِ من الترك وغيرِهم من الجهلة، هذا وقد كان له اشتغالٌ وهيئةٌ جميلة في الظاهر، وبزّتُه ولبستُه جيدة، وقد كان ذكيًّا حاد الخاطِرِ له معرفةٌ بالأدب والعلوم القديمة، فحُفِظَت عنه سقطاتٌ، منها أنه قال: لو كان لصاحِبِ مقامات الحريري حظٌّ لتُلِيَت مقاماتُه في المحاريبِ، وأنَّه كان يُنكِرُ على من يصوم شهر رمضانَ، ولا يصوم هو، وأنه كان إذا تناوَلَ حاجةً مِن الرَّفِّ صَعِدَ بقدميه على الربعةِ، وكان مع ذلك جريئًا بلسانِه، مستخفًّا بالقضاة يَطنُزُ بهم ويستجهِلُهم، ثم أكثَرَ من الوقيعة في حقِّ زين الدين على بن مخلوف قاضي قضاة المالكيَّة وتنَقَّصَه وسَبَّه، فلما بلغه ذلك عنه اشتَدَّ حَنَقُه وقام في أمرِه، فتقَرَّبَ الناس إليه بالشَّهادةِ على ابن البققي، فاستدعاه وأحضَرَ الشهود فشَهِدوا وحكَم بقتله، وأراد مِن ابن دقيق العيد تنفيذَ ما حَكَم به فتوقَّفَ، وقام في مساعدةِ ابن البققي ناصرُ الدين محمد بن الشيخي وجماعةٌ من الكُتَّاب، وأرادوا إثباتَ جنِّه ليُعفى من القتل، فصَمَّمَ ابن مخلوف على قتله، واجتمع بالسلطانِ ومعه قاضي القضاة شمس الدين السروجي الحنفي، وما زالا به حتى أذِنَ في قتله، فنزلا إلى المدرسة الصالحيَّة بين القصرين ومعهما ابن الشيخي والحاجب، وأحضر ابن البققي من السجنِ في الحديد ليُقتَلَ، فصار يصيحُ ويقول: أتقتلون رجلًا أن يقولَ ربِّيَ اللهُ، ويتشَهَّد؟!! فلم يلتَفِتوا إلى ذلك، وضُرِبَ عُنُقُه وطيف برأسِه على رمح، وعُلِّقَ جَسَدُه على باب زويلة، وفيه يقولُ شهاب الدين أحمد بن عبد الملك الأعزازي يحَرِّضُ على قتله، وكتَبَ بها إلى ابنِ دقيق العيد:
قل للإمامِ العادل المرتضي
وكاشِفِ المُشكِلِ والمبهَمِ
لا تمهِلِ الكافِرَ واعمَلْ بما
قد جاء في الكافِرِ عن مُسلمِ
ومن شعر ابن البققي ما كتب به إلى القاضي المالكي من السجن، وهو من جملةِ حماقاته:
يا لابسًا لي حُلَّةً مِن مَكْرِه
بسلاسة نعمت كلمس الأرقم
اعتد لي زردًا تضايقَ نَسجُه
وعلى خرق عيونها بالأسهم
فلما وقف عليهما القاضي المالكي، قال: نرجو أنَّ اللهَ لا يُمهِلُه لذلك.
سأل المَلِكُ المجاهِدُ صاحِبُ اليمن إنجادَه بعسكَرٍ من مصر، وأكثَرَ من ترغيب السلطان الناصر محمد بن قلاوون في المالِ الذي باليمن، وكان قدومُ رُسُلِه في مستَهَلِّ صفر، فرسم السلطانُ بتجهيز العسكر صحبة الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، وهو مُقَدَّم العسكر، فسار إلى مكَّةَ، فوصل في السادس والعشرين من جمادى الأولى، ودخلها وأقامَ بها حتى قَدِمَت المراكِبُ بالغلال وغيرِها من مصر إلى جُدَّة، وتقَدَّم الخادِمُ كافور الشبيلي خادِمُ الملك المجاهد إلى زَبيد لِيُعلِمَ مولاه بالعساكر، وكتب الأميرُ ركن الدين بيبرس بن الحاجب، وهو مُقَدَّم العسكر إلى أهل حلي بني يعقوب بالأمان، وأن يجلِبوا البضائِعَ للعسكَرِ، ورحل العسكَرُ في خامس جمادى الآخرة من مكَّة، ومعه الشَّريفُ عطفة والشريف عقيل، وتأخَّر الشريف رميثة، فوصل العسكَرُ إلى حلي بني يعقوب في اثني عشر يومًا، فتلقَّاهم أهلُها، ودُهِشوا لرؤية العساكر، فنودي فيهم بالأمانِ، ورحل العسكَرُ بعد ثلاثة أيام في العشرين منه، فقَدِمَت الأخبار باجتماعِ رأي أهل زبيد على الدخولِ في طاعة المَلِك المجاهد خوفًا من مَعَرَّة قدوم العسكر المصري، وأنهم ثاروا بالمتمَلِّك عليهم وهو المَلِك الظاهِر، ونهبوا أموالَه ففَرَّ عنهم، وكتَبوا إلى المجاهد بذلك، فقَوِيَ ونزل من قلعة تعز يريدُ زبيدَ، فكتب أمراءُ العسكر المصري إليه، وهم قُربَ حدود اليمن، بأن يكون على أُهْبةِ اللقاء، ونزل العسكَرُ على زبيد، ووافاهم المجاهِدُ بجُندِه، فسَخِرَ منهم الناسُ من أجل أنَّهم عراةٌ، وسلاحُهم الجريدُ والخَشَبُ، وسيوفُهم مشدودةٌ على أذرِعَتِهم، ويقادُ للأميرِ فَرَسٌ واحِدٌ مُجَلَّل، وعلى رأسِ المجاهِدِ عِصابةٌ مُلَوَّنةٌ فوقَ العمامة، وعندما عاين المجاهِدُ العساكِرَ المصريَّةَ وهي لابسةٌ آلة الحَربِ رُعِبَ، ومضى العسكَرُ صَفَّين والأمراءُ في الوسط حتى قَرُبوا منه، فألقى المجاهِدُ نَفسَه ومن معه إلى الأرضِ، وترجل له أيضًا الأمراء وأكرموه وأركبوه في الوَسَطِ، وساروا إلى المخَيَّم، وألبسوه تشريفًا سلطانيًّا وقُرِئَ كتاب السلطان، فقَبَّلوا بأجمعِهم الأرض، وقالوا سمعًا وطاعةً، وكتب الأميرُ بيبرس الحاجِبُ لممالك اليمَنِ بالحضور، فحضروا، ولم يُجَهِّز المَلِكُ المجاهد للعسكَرِ شيئًا من الإقامات، وعَنَّفه الأمير بيبرس على ذلك، فاعتذر بخرابِ البلاد، وكَتَب لهم على البلاد بغنمٍ وأذرة، وسار المجاهِدُ إلى تعز لتجهيز الإقاماتِ، ومعه الأميرانِ سيف الدين ططر العفيفي السلاح الدار وسيف الدين قجمار في مائتي فارس، وتأخَّر العسكر بزبيد، وعادت قُصَّاد الأمراء بغير شيءٍ فرحل العسكَرُ من زبيد في نصف رجب يريدون تعز، فتلقَّاهم المجاهد، ونزلوا خارجَ البلد، وشكَوا ما هم فيه من قِلَّة الإقامات، فوعد بخير، وكتب الأمراءُ إلى الملك الظاهر المقيم بدملوة -حصن عظيم باليمن من بلاد الحجرية تعز-، وبعَثوا إليه الشريفَ عطفة أميرَ مكَّةَ وعِزَّ الدين الكوندكي، وكتب إليه المجاهِدُ أيضًا يحُثُّه على الطاعة، وأقام العسكَرُ في جَهدٍ، فأغاروا على الضياع، وأخذوا ما قَدَروا عليه، واتُّهِم أن ذلك بمواطأة المجاهِد خوفًا من العسكَرِ أن يَملِكَ منه البلاد، ثمَّ إنَّ أهل جبل صبر قطَعوا الماء عن العسكر، وتخَطَّفوا الجمال والغِلمان، وزاد أمرُهم إلى أن ركب العسكَرُ في طَلَبِهم، فامتنعوا بالجَبَلِ، ورموا بالمقاليعِ على العسكر، فرَمَوهم بالنشاب، وأتاهم المجاهِدُ فخَذَّلَهم عن الصُّعودِ إلى الجبل، فلم يعبؤوا بكلامه، ونازلوا الجبَلَ يَومَهم، ففُقِدَ من العسكر ثمانيةٌ من الغلمان، وبات العسكَرُ تحته، فبلغ الأميرَ بيبرس أن المجاهدَ قَرَّر مع أصحابه بأن العسكرَ إذا صَعِدَ الجَبَل يُضرِمونَ النار في الوطاقِ وينهبون ما فيه، فبادر بيبرس وقَبَض على بهاء الدين بهادر الصقري وأخذ موجودَه، ووسَّطَه قطعتينِ وعَلَّقه على الطريق، ففَرِحَ أهل تعز بقَتلِه، وكان بهادر قد تغَلَّب على زبيد، وتسَمَّى بالسلطنة، وتلَقَّب بالملك الكامل، وظَلَّ متسَلِّطًا عليها، حتى طرده أهلُها عند قدوم العسكر، وقَدِمَ الشريف عطفة والكوندكي من عند الملك الظاهر صاحب دملوة، وأَخبَرا بأنَّه في طاعة السلطان الناصر ابن قلاوون، وطلب بيبرس من المجاهِدِ ما وَعَد به السلطان، فأجاب بأنه لا قُدرةَ له إلا بما في دملوة فأشهَدَ عليه بيبرس قضاةَ تَعز بذلك، وأنه أذِنَ للعسكر في العود، لخرابِ البلاد وعَجْزِه عمَّا يقومُ به للسُّلطانِ، وأنَّه امتَنَع بقلعة تعز، ورحل العسكَرُ إلى حلي بني يعقوب، فقَدِمَها في تاسع شعبان، ورحلوا منها أوَّلَ رمضان إلى مكَّة، فدخلوها في حادي عشره بعد مشقةٍ زائدة، وساروا من مكَّةَ يوم عيد الفطرِ.
لَمَّا وصل الرشيدُ إلى مكَّة، ومعه أولادُه والفُقَهاء والقُضاة والقُوَّاد، فكتب كتابًا أشهَدَ فيه على محمَّد الأمين، وأشهدَ فيه من حضرَ بالوفاء للمأمونِ، وكتَبَ كتابًا للمأمونِ أشهَدَهم عليه فيه بالوفاءِ للأمين، وعلَّقَ الكتابينِ في الكعبةِ، وجَدَّد العهودَ عليهما في الكعبة. ولَمَّا فعل الرشيد ذلك قال الناس: قد ألقى بينهم شَرًّا وحَربًا. وخافوا عاقبةَ ذلك، فكان ما خافوه.
خرج بأذربيجان رجلٌ ادَّعى حُرمةَ اللُّحومِ وما يخرُجُ مِن الحيوان، وأنَّه يعلَمُ الغَيبَ، فأضافه رجلٌ وأطعَمَه كشكيَّةً بشَحمٍ، فلمَّا أكَلَها قال له: ألستَ تُحَرِّمُ اللحم، وما يخرجُ مِن الحيوان، وأنَّك تعلمُ الغيبَ؟ قال: بلى! قال: فهذه الكشكيَّة بشَحمٍ، ولو عِلمْتَ الغيبَ لَمَا خَفِيَ عليك ذلك، فأعرض النَّاسُ عنه.
أنشأ العُبَيديُّونَ في عَهدِ الحاكِمِ "دارَ الحِكمةِ" بالقاهرةِ؛ لِنَشرِ مَذهَبِهم الباطنيِّ, فجَلَس الفُقَهاءُ فيها، وحُمِلَت الكتُبُ إليها، ودخَلَها النَّاسُ للنَّسخِ مِن كُتُبِها وللقِراءةِ، وانتصَبَ فيها الفُقَهاء والقُرَّاء والنُّحاة وغيرُهم من أربابِ العُلومِ، وفُرِشَت وأُقيمَ فيها خُدَّامٌ لخِدمتِها، وأُجرِيَت الأرزاقُ على مَن بها مِن فَقيهٍ وغَيرِه، وجُعِلَ فيها ما يُحتاجُ إليه مِن الحِبرِ والأوراقِ والأقلامِ.
أصاب بغدادَ غَرَقٌ عظيمٌ حتى طفح الماء من أعلى أسوارِ بغداد إليها، وغرق كثيرٌ منها، ودخل الماءُ دار الخلافة وسَطَ البلد، وانهدمت دارُ الوزير وثلاثمائة وثمانون دارًا، وانهدم مخزنُ الخليفة، وهلك مِن خزانة السلاحِ شيء كثير، وأشرف الناسُ على الهلاك وعادت السفُنُ تدخل إلى وسط البلدة، وتخترق أزقَّة بغدادَ.
قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بتسعة أشهر أعلنت إيطاليا ضمَّ طرابلس وبرقة إلى ليبيا سابقًا (ليبيا بالأصل تُطلَق على الصحراء التي تقع غربَ نهر النيل وجنوب برقة وطرابلس) ومنحت للسكَّان الجنسية الإيطالية، وألزمَتْهم تعلُّمَ اللغة الإيطالية، ومن عارضها هتكت عِرْضَه، وألقت كثيرًا من الناسِ مِن الطائرة وهم أحياء، إلى غير ذلك من الأعمال الوحشية.
وقع بالعِراقِ غَلاءٌ شديدٌ، فاستسقى النَّاسُ في ربيع الأول، فسُقُوا مطرًا قليلًا لم يجْرِ منه ميزابٌ، ثمَّ اشتد الغلاءُ والوَباءُ، وكثُرَ الموتُ حتى كان يُدفَنُ الجماعة في القبرِ الواحدِ ولا يُغسَّلونَ، ولا يُصَلَّى عليهم، ورخَصَ العَقارُ ببغداد والأثاث حتى بيعَ ما ثمنُه دينارٌ بدِرهم. وانقضى ربيع أول، ربيع ثاني، ولم يجئ غيرُ المطرة التي عند الاستسقاءِ، ثم جاء المطرُ في شعبان.
عَمَّ الوَباءُ والقَحْطُ بغدادَ والشامَ ومِصرَ ومَكَّةَ والحِجازَ ودِيارَ بَكْرٍ والمَوْصِلَ وبِلادَ الرُّومِ وخُراسان والجِبالَ؛ وكان النَّاسُ يأكلون المَيْتَةَ، وانقَطعَ ماءُ النِّيلِ بمصر، وكان يموتُ بها في كلِّ يَومٍ عَشرةُ آلافِ إنسانٍ، ووقع بمصر أنَّ ثَلاثةَ لُصوصٍ نَقَبُوا نَقْبًا فوُجِدُوا عند الصَّباحِ مَوْتَى: أَحدُهم على بابِ النَّقْبِ، والثَّاني على رَأسِ الدَّرَجَةِ، والثَّالثُ على الكارَّةِ التي سَرقَها.