هو السلطانُ حسين كامل سلطان ابن الخديوي إسماعيل، حَكَمَ مصر تحت الاحتلال البريطاني، ولِدَ في القاهرة، ولما بلغ الثامنة التحق بمدرسة قصر النيل التي أنشأها والده ليتعلَّم فيها، بخاصة أولاده وأولاد الأعيان. ولي حسين كامل سلسلةً من المناصب الإدارية. وأقام في طنطا فترةً بوصفه مفتشًا للدلتا، وأشرف على النهوض بقنوات الري في هذه المنطقة. وكذلك خدم مراتٍ عدةً في وزارات المعارف والأوقاف والأشغال العمومية، والداخلية والمالية. وعمل في مجالس إدارة كثيرٍ مِن الشركات الأجنبية، مثل سكة حديد الدلتا. على أنَّ خير ما أسداه من فضلٍ هو نهوضه بالزراعة في مصر، وأنشأ في دمنهور مدرسةً تجارية صناعية، ورأس مدة قصيرة مجلس شورى القوانين والمجلس التشريعي، ولكنه استقال من المجلسين سنة 1909 إثرَ الأزمة التي نشأت حول تمديدِ امتياز قناة السويس. ولما أعلنت تركيا الحربَ على بريطانيا سنة 1914. وشكَّت بريطانيا في أن الخديوي عباس حلمي الثاني يتعاطفُ مع تركيا فضلًا على تأييده للوطنيين في مصر، فعزلته وأقامت الأميرَ حسين كامل حاكمًا على مصر، وأطلقت عليه لقب سلطان؛ نكاية بالسلطان العثماني، وكان قبولُ حسين كامل للسلطنة قد قوبِلَ بمعارضة العناصر الوطنية؛ إذ رأوا أنَّ قبولَه لها في ظِلِّ الاحتلال البريطاني والحكومة العسكرية مَهانةٌ قومية. بل إن كثيرًا من هذه العناصر رأت أنها خيانةٌ عظمى ارتكبها في حَقِّ الدولة العثمانية المُسلِمة في حربها مع بريطانيا. بل نظر بعضُ الوطنيين إلى السلطان وحكومةِ الحرب التي يرأسُها حسين رشدي باشا إلى أنها أدواتٌ في يد سلطات الاحتلال البريطاني، فاستفحلت الوحشةُ بين الجمهور وبين الحكومة والسلطان؛ ولذلك ما إن تربَّع السلطان حسين على دست الحكمِ حتى باشر واجباتِه فمضى يمحو البقيةَ الباقية من آثار السلطان التركي على مصر ومظاهره الإدارية والقضائية، وعلى الرغم من كل هذا إلا أن علاقة السلطان حسين كامل بالسلطات البريطانية في مصر لم تكن في جميع ِالأحوال علاقاتٍ وديةً أو وثيقة؛ فقد كانت بريطانيا في مصر تنظر بعين السخط إلى أنه يعمَلُ على تقوية الروابط بينه وبين الحركة الوطنية؛ ومن ثم فإن البريطانيين كانوا لا يقرُّون محاولات السلطان بالظهور في صورة الزعيم الشعبي، في حين أن الشعب المصري كان ينكِرُ منه أنه أداةٌ في يد البريطانيين. بدأت صِحَّةُ السلطان حسين تضمحِلُّ إلى أن توفي في هذا العام، وكان ابنه الأمير كمال الدين حسين قد أعلن من قَبلُ نزوله عن حقه في وراثة عرش مصر، فخَلَف السلطانَ حسين أخوه الأميرُ فؤاد الذي أصبح ملكًا بعد ذلك.
قالتْ أمُّ سَلمةَ رضي الله عنها: لمَّا ضاقتْ علينا مكَّة، وأوذِيَ أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وفُتنوا، ورَأَوْا ما يُصيبهُم مِنَ البلاءِ والفِتنةِ في دينهِم، وأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيعُ دفعَ ذلك عنهُم، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مَنَعَةٍ من قومهِ وعمِّه، لا يَصِلُ إليه شيءٌ ممَّا يَكرهُ ممَّا ينالُ أصحابَه، فقال لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ بأرضِ الحَبشةِ مَلِكًا لا يُظلمُ عنده، فالحقوا ببلادهِ حتَّى يجعلَ الله لكم فَرَجًا ومَخرجًا ممَّا أنتم فيهِ. فخرجنا إليها حتَّى اجتمعنا بها، فنزلنا بخيرِ دارٍ إلى خيرِ جارٍ، أَمَّنَّا على ديننا، ولم نخشَ منه ظُلمًا.... وقيل: كان مخرجهُم إلى الحَبشةِ في رجبٍ في السَّنةِ الخامسةِ مِنَ البِعثةِ النَّبويَّةِ. هاجر مِنَ المسلمين فيها اثنا عشرَ رجلًا، وأربعُ نِسوةٍ، منهم عُثمانُ بنُ عفَّانَ، وهو أوَّلُ من خرج ومعه زوجتُه رُقيَّةُ بنتُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
لمَّا عَزمتْ قُريشٌ أنْ تَقتُلَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أجمع بَنو عبدِ المُطَّلِبِ أمرَهم على أنْ يُدخِلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم شِعبَهم ويَحموهُ فيه، فعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه، قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الغَدِ يومَ النَّحْرِ، وهو بمِنًى: «نحن نازِلون غدًا بِخَيْفِ بني كِنانةَ؛ حيث تقاسموا على الكُفرِ» يعني ذلك المُحَصَّبَ، وذلك أنَّ قُريشًا وكِنانةَ، تحالفتْ على بني هاشمٍ وبني عبدِ المُطَّلبِ، أو بني المُطَّلبِ: أنْ لا يُناكِحوهُم ولا يُبايِعوهُم، حتَّى يُسلِموا إليهِمُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فدخلوا الشِّعْبَ جميعًا مُسلِمهُم وكافِرهُم، وأجمعَ المشركون أمرَهُم على أنْ لا يُجالِسوهُم، ولا يُخالِطوهُم، ولا يُبايِعوهُم، ولا يَدخُلوا بُيوتَهم، حتَّى يُسلِموا رسولَ الله للقتلِ، وكتبوا في ذلك صَحيفةً، فلبِث بنو هاشمٍ في شِعبهِم ثلاثَ سِنينَ، واشتدَّ عليهِم البلاءُ والجهدُ والجوعُ، فلمَّا كان رأس ثلاثِ سِنينَ تَلاوَمَ رجالٌ من قُريشٍ على ما حدث وأجمعوا على نَقضِ الصَّحيفةِ، وهكذا انتهتْ المقاطعةُ.
بعدَ وفاةِ أمِّ المؤمنين خَديجةَ بنتِ خويلدٍ رضي الله عنها والتي كانت مِن نِعَمِ الله الجَليلةِ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، تَزوَّج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سَودةَ بنتَ زَمْعَةَ بنِ قَيسِ بنِ عبدِ شمسِ بنِ عبدِ وُدِّ بنِ نصرِ بنِ مالكِ بن حِسْلِ بنِ عامرِ بن لُؤَيٍّ، القُرشيَّةَ، تَزوَّجها بمكَّة قبلَ الهِجرةِ، وكانت ممَّن أسلمَ قديمًا, وهاجرتْ الهِجرةَ الثَّانيةَ إلى الحَبشةِ، وكان زوجُها السَّكرانَ بنَ عَمرٍو، وكان قد أَسلمَ وهاجر معها، فمات بأرضِ الحَبشةِ، أو بعدَ الرُّجوعِ إلى مكَّة، فلمَّا حَلَّتْ خطبَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وتَزوَّجها، وكانتْ أوَّلَ امرأةٍ تَزوَّجها بعدَ وفاةِ خَديجةَ، وكانتْ في العَقْدِ السَّادسِ من عُمُرِها وقتَها، ولمَّا أراد النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم طلاقَها صالَحَتْهُ بأنْ وَهبتْ نَوْبَتَها لِعائشةَ رضي الله عنها فأَمْسَكها، ولمْ يُصِبْ منها ولدًا حتَّى مات صلى الله عليه وسلم.
لمَّا رجَع خالدُ بنُ الوليدِ مِن هَدْمِ العُزَّى بعَثهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بني جَذيمَةَ داعِيًا إلى الإسلامِ لا مُقاتِلًا, فخرَج في ثلاثمائةٍ وخمسين رجلًا مِنَ المُهاجرين والأنصارِ وبني سُليمٍ، فانتهى إليهم فدَعاهُم إلى الإسلامِ فلم يُحسِنوا أن يَقولوا: أَسلَمْنا، فجعلوا يَقولون: صَبَأْنا، صَبَأْنا. -فحملها خالد على أنها سُخرية بالإسلام لأن قريشًا كانت تقول لمن أسلم صبأ تعييرا له- فجعَل خالدٌ يَقتُلُهم ويَأْسِرُهُم, ودفَع إلى كُلِّ رجلٍ ممَّن كان معه أَسِيرًا، فأمَر يومًا أن يَقتُلَ كُلُّ رجلٍ أَسِيرَهُ, فأبى ابنُ عُمَرَ وأصحابُه حتَّى قَدِموا على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فذكَروا له، فرفَع صلى الله عليه وسلم يَديهِ وقال: (اللَّهمَّ إنِّي أَبْرَأُ إليك ممَّا صنَع خالدٌ) مَرَّتين. وكانت بنو سُليمٍ هُم الذين قَتَلوا أَسْراهُم دون المُهاجرين والأنصارِ, وبعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم علِيًّا, فَوَدَى لهم قَتلاهُم وما ذهَب منهم.
هو أَصْحَمَةُ بنُ أَبْجَرَ مَلِكُ الحَبشةِ، والنَّجاشيُّ لَقبٌ له ولمُلوكِ الحَبشةِ، ومَعْنى: أَصْحَمَةَ: عَطِيَّةُ، وقِيلَ: عَطِيَّةُ الله، وقِيلَ: عَطاءٌ.
تَوَلَّى الحُكمَ بعدَ مَوتِ عَمِّهِ، وبعدَ سَنواتٍ مِن حُكمِهِ وانْتِشارِ عَدْلِه أَسلمَ في عَهدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأَحسنَ إلى المسلمين الذين هاجَروا إلى أَرضِه، قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأَصحابِه عن النَّجاشيِّ: لو خَرجتُم إلى أرضِ الحَبشةِ فإنَّ بها مَلِكًا لا يُظْلَمُ عنده أحدٌ، وهي أرضُ صِدْقٍ، حتَّى يَجعلَ الله لكم فَرَجًا. ولمَّا ماتَ صلَّى عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ صَلاةَ الغائِبِ، فعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نَعى لهم النَّجاشيَّ صاحِبَ الحَبشةِ، في اليَومِ الذي مات فيه، وقال: «اسْتَغْفِروا لأَخيكُم». وعن جابرٍ رضي الله عنه: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حين مات النَّجاشيُّ: «مات اليَومَ رَجلٌ صالِحٌ، فقوموا فصَلُّوا على أَخيكُم أَصْحَمَةَ».
لمَّا رأى المسلمون مُطاوَلةَ الرُّومِ لهم بالشَّام اسْتمَدُّوا أبا بكرٍ، فكتَب إلى خالدِ بن الوَليد يأمُرهُ بالمَسيرِ إليهم وبالحَثِّ، وأن يَأخُذَ نِصفَ النَّاس ويَسْتخلِفَ على النِّصفِ الآخرِ المُثَنَّى بن حارِثةَ الشَّيبانيَّ، ولا يَأْخُذَنَّ مَن فيه نَجْدَةٌ إلَّا وَيَتْرك عند المُثَنَّى مِثْلَهُ، وإذا فتَح الله عليهم رجَع خالدٌ وأصحابُه إلى العِراقِ. اتَّجَه خالدٌ مِن العِراقِ إلى الشَّام وفتَح عددًا مِن المُدُنِ، وصالَح بعضَها، وصل شَرقِيَّ جَبَلِ حَوْرانَ، ثمَّ تَدْمُرَ، ثمَّ القَرْيَتينِ مِن أَعمالِ حِمْصَ، ثمَّ قاتَل غَسَّانَ في مَرْجِ راهِطٍ وانتصر عليهم، ثمَّ سار إلى بُصْرى الشَّامِ وكانت أوَّلَ مدينةٍ افتتَحها مِن بِلادِ الشَّامِ حتَّى بلَغ جموع المسلمين في اليرموك، وكان ممَّا مَرَّ به خالدٌ مع جَيْشِهِ مَفازَة بين قُراقِر وسُوَى لا ماءَ فيها ولا كَلَأ، الدَّاخِلُ فيها مَفقودٌ، والخارِجُ منها مَولودٌ، لكنَّ خالدًا استعان بدَليلٍ يُقال له: رافِعُ بن عُميرَةَ الطَّائيُّ، ساعَدهُ على تَجاوُزِ المَفازةِ بسَلامٍ مع جَيشٍ قِوامُه تِسعةُ آلافِ مُقاتلٍ.
لمَّا فتَح أبو عُبيدةَ الجابِيَةَ مِن أعمالِ دِمشقَ وقِنَّسرينَ وحاصَر أهلَ مَسجدِ إيليا -أي بيت المَقدِس- فأَبَوْا أن يَفتَحوا له، وسَألوه أن يُرْسِلَ إلى صاحِبِه عُمَرَ لِيَقْدُمَ فيكون هو الذي يَتوَلَّى مُصالحَتَهُم، فكتَب بذلك إلى عُمَرَ فاسْتخلفَ علِيَّ بن أبي طالبٍ على المدينةِ, ثمَّ قَدِمَ للشَّامِ, وكتَب إلى أُمراءِ الأجنادِ أن يُوافُوه بالجابِيَةِ ليومٍ سَمَّاهُ لهم في المُجَرَّدَةِ، ويَستخلِفوا على أعمالِهم، وكان أوَّلَ مَن لَقِيَهُ فيها أبو عُبيدةَ, فلمَّا دخَل الجابِيَةَ قال له رجلٌ مِن اليَهودِ: يا أميرَ المؤمنين، إنَّك لا تَرجِع إلى بِلادِك حتَّى يفتحَ الله عليك إيلياء. فبينما عُمَر مُعسكرٌ بالجابِيَةِ فزَع النَّاسُ إلى السِّلاحِ، فقال: ما شَأنُكم؟ فقالوا: ألا ترى إلى الخيلِ والسُّيوفِ؟ فنظَر فإذا جَمْعٌ يلمعون بالسُّيوفِ. فقال عُمَرُ: مُسْتَأْمِنَةً فلا تُراعُوا، فأَمِّنُوهُم. وإذا أهلُ إيلياء، فصالَحهُم على الجِزيةِ, وعلى أن لا يَهْدِمَ كَنائِسَها، ولا يُجْلِيَ رُهْبانَها، ففَتَحوها له، وبَنَى بها مَسجِدًا، وأقام أيَّامًا ثمَّ رجَع إلى المدينةِ.
هو محمَّدُ بن سِيرينَ أبو بَكر بن أبي عَمرٍو الأَنصارِي، مَوْلَى أَنَسِ بن مالِكٍ النَّضْرِي، كان أبوه مِن سَبْيِ عَيْنِ التَّمْر، أَسَرَهُ في جُملَةِ السَّبْيِ خالدُ بن الوَليدِ، فاشْتَراهُ أَنسُ بن مالِك ثمَّ كاتَبَهُ. وُلِدَ ابنُ سِيرينَ لِسَنَتينِ بَقِيَتا في خِلافَة عُثمان، كان مِن جُلَّةِ التَّابِعين، قال هِشامُ بن حَسَّان: هو أَصْدَقُ مَن أَدركْتُ مِن البَشَرِ. ولمَّا مات أَنسُ بن مالِك أَوْصى أن يُغَسِّلَه محمَّدُ بن سِيرينَ، قال ابنُ عَوْنٍ: كان محمَّد يأتي بالحَديثِ على حُروفِه. قال أَشْعَثُ: كان ابنُ سِيرينَ إذا سُئِلَ عن الحَلالِ والحَرامِ تَغَيَّرَ لَونُه حتَّى يكونَ كأنَّه ليس بالذي كان. قال مُوَرِّقٌ العِجْلِي: ما رَأيتُ أَحَدًا أَفْقَهَ في وَرَعِه ولا أَوْرَعَ في فِقْهِهِ مِن محمَّدِ بن سِيرينَ. كان مَشهورًا في تَعبيرِ الرُّؤى والأَحلامِ، وأمَّا الكِتابُ المَوجودُ اليومَ على أنَّه مِن تَألِيفِه فغَيْر صَحيح، فهو لم يُؤَلِّف كِتابًا في تَفسير الرُّؤى، وتَعْبِيراتُه للرُّؤَى مَبْثُوثَة في كُتُب التَّراجِم والتَّاريخ.
لَمَّا خُلِعَ إبراهيمُ بن المهدي واختفى وانقطعت الفِتَن، قَدِمَ المأمونُ بغداد، وكان قد أقام بجرجان شَهرًا وجعل يقيمُ بالمنزل اليومَ واليومينِ والثلاثةَ، وأقام بالنهروان ثمانيةَ أيام، فخرج إليه أهلُ بيته والقوَّاد، ووجوهُ الناس، وسَلَّموا عليه. وكان قد كتب إلى طاهرِ بنِ الحُسين، وهو بالرقَّة، ليوافيَه بالنهروان، فأتاه بها ودخل بغدادَ مُنتصَفَ صفر، ولباسُه ولباسُ أصحابِه الخُضرة، فلمَّا قَدِمَ بغدادَ نزل الرصافةَ، ثمَّ تحوَّل ونزل قصرَه على شاطئِ دِجلةَ، وأمر القوادَ أن يقيموا في مُعسكَرِهم. وكان الناسُ يدخلونَ عليه في الثياب الخُضر، وكانوا يَخرقونَ كلَّ ملبوسٍ يرونه من السَّوادِ على إنسان، فمكثوا بذلك ثمانية أيام، فتكلَّم بنو العباس وقوَّاد أهل خراسان، وقيل: إنَّه أمر طاهر بن الحسين أن يسألَه حوائِجَه، فكان أوَّلَ حاجةٍ سأله أن يلبَسَ السوادَ، فأجابه إلى ذلك، وجلس للنَّاسِ، وأحضر سوادًا فلَبِسَه، ودعا بخِلعةٍ سوداءَ فألبسَها طاهِرًا، وخلع على قوَّادِه السَّوادَ، فعاد الناسُ إليه.
هو بابَك الخُرَّمي (بابک خرمدین) زعيمٌ ديني فارسيٌّ، وقائدُ فرقة الخُرَّميَّة ظهر سنة 201هـ الموافق 816 م، في خلافةِ المأمون العباسي, وكثُرَ أتباعهُ، وقاد ثورةً على العباسيِّينَ بعد مصرعِ أبي مسلم الخراساني، استمَرَّت حوالى عشرينَ سنة، وكان أحد الشُّجعانِ، أخاف الإسلامَ وأهلَه، وهزم الجيوشَ العباسيَّة عشرين سنة، وغلبَ على أذربيجانَ وغَيرِها، وأراد أن يقيم المِلَّةَ المجوسيَّة، وعَظُم البلاء. فأنفق المأمونُ والمعتَصِمُ على حربِ بابك قناطيرَ مُقنطرةً مِن الذهَبِ والفِضَّة، وفي هذه السنة بعث المعتَصِمُ نفقاتٍ إلى جيشِه مع الأفشين، فكانت ثلاثينَ ألف ألف درهم، فكانت الحربُ مع بابك الخرمي فطَحَنه الأفشين، واستباح عسكَرَه، وأُخِذَت البذُّ- مدينةُ بابك- وهرب واختفى في غيضةٍ، ثم أُسِرَ بعد فصولٍ طويلة, ولَمَّا أُحضِرَ بابك بين يدي المعتَصِمَ، أمَرَ بقطع يَدَيه ورِجلَيه وجَزِّ رأسِه وشَقِّ بَطنِه، ثم أمَرَ بحَملِ رأسِه إلى خراسانَ، وصَلْبِ جُثَّتِه على خشبةٍ بسامِرَّا، فقُطِعَ دابِرُ الخرَّميَّة.
هي ثاني دولة مستقِلَّة تقوم في اليمَنِ ويُنسَبُ اليعفريون إلى الملوك الحِمْيَريين، ويعتبر يعفرُ بن عبد الرحيم المؤسِّسَ الفعليَّ لهذه الدولة، وكان الخليفةُ المعتَمِد قد عيَّنه عاملًا على صنعاءَ قبل أن يستقِلَّ بالسلطة ويؤسِّسَ الدولة، ولكِنَّ الخلافاتِ نَشَبت بين أفراد الأسرة اليعفريَّة، فضَعُف مركزُها لتنتهي لاحقًا وتدخُلَ في طاعة دولة الأئمَّة. في آخِرِ عهدِ المتوكِّلِ ابتدأت الدولةُ اليعفرية بصنعاء، وكان جَدُّهم عبدُ الرحيم بن إبراهيم الحوالي نائبًا عن جعفرِ بنِ سليمان بن علي الهاشميِّ، الذي كان واليًا للمعتَصِم على نجدٍ واليمَنِ وصَنعاءَ وما إليها، ولَمَّا توفي عبد الرحيم قام في الولايةِ مقامَه ابنُه يعفر بن عبد الرحيم، وهو رأس الدولة ومبدأُ استقلالِها إلَّا أنَّه كان يهابُ آلَ زياد ويدفَعُ لهم خَراجًا يُحمَلُ إلى زَبيدٍ، كأنَّه عامِلٌ لهم ونائبٌ عنهم، وكان ابتداءُ استقلالِ يعفر بن عبد الرحيم سنة 247هـ، واستمَرَّ مُلْكُ صنعاءَ في أعقابِه إلى سنة 387هـ
عَظُمَ على الخليفةِ المكتفي ما أصاب جيشَه بقيادة أبي الأغَرِّ في مصر على يدِ الخلنجي، فجهَّزَ إليه العساكِرَ ثانيًا بصحبة فاتك مولى المعتَضِد في البَرِّ، وجهَّزَ دميانة غلامَ بازمان في البحر، فقَدِمَ فاتك بجيوشِه حتى نزل بالنويرة, وقد عَظُم أمر الخلنجي وأخرج عيسى النوشري عن مصرَ وأعمالِها, ولَمَّا بلغ الخلنجيَّ مجيءُ عسكر العراق بصُحبة فاتك، جمعَ عَسكرَه وخرج إلى بابِ المدينة وعسكَرَ به، وقام بالليل بأربعةِ آلاف من أصحابِه ليُبيِّتَ فاتكًا وأصحابه، فضلَّ الخلنجيُّ وجيشُه الطريقَ وأصبحوا قبل أن يَصِلوا إلى النويرة، فعَلِمَ بهم فاتِكٌ فنهض بأصحابِه والتقى مع الخلنجي قبل أن يَصِلوا إلى النويرة، فتقاتلا قتالًا شديدًا, فانهزم الخلنجيُّ بعد أن ثبت ساعةً بعد فرار أصحابِه عنه، ودخل إلى مصر واستتر بها لثلاثٍ خَلَونَ من شهر رجب، ثم قُبِضَ عليه وحُبِسَ, فكتب المكتفي إلى فاتكٍ في حملِ الخلنجي ومَن معه إلى بغداد، فوجه فاتكٌ مولى المعتَضِد الخلنجيَّ إلى بغداد، فدخلها هو ومن معه في شهر رمضان، فأمر المكتفي بحَبسِهم.
كان- قَبَّحَه الله- سيئَ السِّيرةِ والسَّريرة، يزعُمُ أنَّ روحَ سُلَيمانَ بنِ داود حلَّت فيه، وله سريرٌ من ذهب يجلِسُ عليه والأتراكُ بين يديه، ويزعُمُ أنَّهم الجِنُّ الذين سُخِّروا لسليمان بن داود، وكان يسيئ المعاملةَ لجُندِه ويحتَقِرُهم غايةَ الاحتقار، فما زال ذلك دأبَه حتى أمكنهم اللهُ منه فقتلوه شَرَّ قِتلةٍ في حمَّام، وكان الذي مالأَ على قتله غلامَه بجكم التركي، وكان رُكنُ الدَّولةِ بنُ بُوَيه رهينةً عنده فأُطلِقَ لَمَّا قُتِل، فذهب إلى أخيه عمادِ الدَّولة، وذهبت طائفةٌ من الأتراك معه إلى أخيه، والتَفَّتْ طائفةٌ منهم على بجكم فسار بهم إلى بغدادَ بإذن الخليفةِ له في ذلك، ثم صُرِفوا إلى البصرة فكانوا بها، وأمَّا الديلم فإنَّهم بعثوا إلى أخي مرداويج وهو وشمكير، فلمَّا قَدِمَ عليهم تلقَّوه إلى أثناء الطريق حُفاةً مُشاةً، فمَلَّكوه عليهم لئلَّا يذهَبَ مُلكُهم، فانتدب إلى محاربتِه المَلِك السعيد نصر بن أحمد الساماني نائب خراسان وما وراء النَّهر، وما والاها من تلك البلاد والأقاليم، فانتزع منه بلدانًا هائلةً.
حضر مُعِزُّ الدولة إلى الحضرةِ، فجلس على سريرٍ بين يدي الخليفة، وجاء رجلان من الدَّيلم فمَدَّا أيديَهم إلى الخليفة فأنزلاه عن كُرسِيِّه، وسحباه، ونهض معِزُّ الدولةِ واضطربَت دارُ الخلافة حتى خُلِصَ إلى الحريمِ، وتفاقَمَ الحالُ، وسيق الخليفةُ ماشيًا إلى دار معز الدولة فاعتُقِل بها، وأُحضِرَ أبو القاسم الفضلُ بن المُقتَدِر، فبويع بالخلافة، وسُمِلَت عينا المستكفي وأودعَ السِّجنَ، فلم يزَلْ به مسجونا حتى كانت وفاته في سنة 338، وتمَّت خلافة المطيع لله. لَمَّا قدم معز الدولة بغدادَ استدعى أبا القاسِم الفضلَ بنَ المقتدر وقد كان مختفيًا من المستكفي وهو يُحِثُّ على طلبه ويجتَهِدُ، فلم يقدِرْ عليه، ويقال إنَّه اجتمع بمعزِّ الدولة سِرَّا فحرضه على المُستكفي، حتى كان من أمْرِه ما كان، ثم أُحضِرَ الفَضلُ بن المُقتَدر وبويع له بالخلافةِ، ولقب بالمطيعِ لله، وبايعه الأمراءُ والأعيانُ والعامَّة، وضَعُفَ أمر الخلافة جدًّا حتى لم يبقَ للخليفةِ أمرٌ ولا نهيٌ ولا وزيرٌ أيضًا، فكانت مُدَّة خلافة المستكفي سنة وأربعة أشهر.