انتهت الحربُ العالمية الأولى وخرجت إنجلترا ومن معها منتَشِين بالنصر، وكانت تُمنِّي المصريين بمنحِهم الاستقلالَ فورَ انتصارهم في الحرب، ولما كان الاحتلالُ مكَلِّفًا أكثر من إبقاء الدولة تابعةً لها بوضع أناسٍ يُخضِعون إدارتها، فتحصُلُ على ما تريد دون خسائرَ بشرية ولا خسائِرَ اقتصادية، فأظهرت اللِّينَ وأبدت الاستعدادَ لفكرة الاستقلالِ، وهيَّأت أشخاصًا مناسبين لها لهذا العمل الجديد، فأوحت لسعد زغلول بالتحرُّكِ، فدعا لاجتماع في صفر تمخَّض عن المطالبة بالاستقلال وتشكيلِ وفدٍ للسَّفَر إلى باريس لعرض القضية على مؤتمر الصُّلحِ، وتشكَّل الوفدُ مِن سعد زغلول، وعلي الشعراوي، وعبد العزيز فهمي، ولكِنَّ الأمر لا بدَّ له من ضجةٍ وضوءٍ ليبدوَ طبيعيًّا، فقامت إنجلترا بمنع الوفدِ مِن السفر وقبضت على سعد زغلول وغيره، ونُفيَ إلى مالطة فأصبح بطلًا وطنيًّا!! وقامت المظاهرات، ومنها المظاهرة النسائية المشهورة في ميدان التحرير، التي قادتها هدى شعراوي، وخلعت فيها الحجابَ وأحرقت صفية فهمي -زوجة سعد زغلول- حجابَها، وفعل بعضُ الساذجات المغفَّلات مثلَهنَّ، وكأن الحجابَ فرضته إنجلترا حتى يكون هذا مظهرًا من التنديد بالاستعمارِ!!! وقامت المظاهراتُ بالتخريب والتدمير بلا هدفٍ ولا مبرِّرٍ، ليس إلا التقليد الأعمى، فهم يدمرون بلادَهم هم لا بلادَ العدو، بل وسمِّيَ هذا الميدان فيما بعد "ميدان التحرير"!! واستقالت الوزارةُ واندلعت الثورةُ في أرجاء مصر، واعترفت أمريكا بالحماية الإنجليزية على مصر، ثم رُفِع الحظر على السفر، وأطلق سراح المنفيين في مالطة، فتألَّف وفدٌ جديد ضمَّ سعد زغلول، وعلي الشعراوي، وسينوت حنا، وجورج خياط، وغيرهم، وفي 11 رجب 1337هـ / 11 نيسان 1919م غادر الوفد البلادَ ووصل باريس، وبدأ الاتصال بالمسؤولين في مؤتمر الصلح، غير أن الأمور كانت مرتبةً وجاهزة كما يريد الصليبيون، وحدثت اضطراباتٌ بمصر، واتفقت كلمة شعب مصر أن الرأي للمفاوِضين في باريس ولهم القرار، ورفَضَ أيٌّ منهم المفاوضةَ داخل مصر َبغياب الوفد المصري، فسافرت لجنةُ ملنر التي جاءت إلى مصر للمفاوضة إلى لندن، ودعت المفاوضين للسفر من باريس إلى لندن للمفاوضة معهم، وتبيَّن أن أعضاء الوفد متفاوتون في درجة رضوخِهم للمفاوضات وشروطها، فرجع البعض لمصر وبقي البعض، منهم سعد زغلول، وبقيت الأمورُ بين أخذٍ وردٍّ، وكل ذلك إنجلترا تصِرُّ على إبقاء حامية إنجليزية في مصر، وفشلت المباحثات. ثم جرى اتفاقٌ بين المعتمد البريطاني في القاهرة وبين عبد الخالق ثروت، وعدلي يكن، وإسماعيل صدقي، وذلك في 14 جمادى الأولى 1340هـ / 12 كانون الثاني 1922م، نص الاتفاق على تأليف وزارة برئاسة عبد الخالق ثروت؛ شريطة موافقة الحكومة البريطانية على نقاطٍ، منها إلغاء الحماية والاعتراف بمصر مستقلةً، وإلغاء الأحكام العسكرية، وحماية المصالح الأجنبية وغيرها.
صار الأمرُ في المملكة لأيبك البدري وَحْدَه من غير منازع، وأخذ أيبك في المملكة وأعطى، وحكم بما اختاره وأراده، فمِن ذلك أنَّه في رابع شهر ربيع الأول رَسَم بنفي الخليفة المتوكِّل على الله إلى مدينة قوص، فخرج المتوكِّلُ على الله، ثم شُفِعَ فيه فعاد إلى بيته، ومن الغَدِ طَلَب أيبك نجم الدين زكريا بن إبراهيم ابن الخلفية الحاكمِ بأمر الله وخَلَع عليه واستقَرَّ به في الخلافة عِوَضًا عن المتوكل على الله من غير مبايعةٍ ولا خَلعِ المتوكِّلِ مِن الخلافةِ نَفسَه، ولُقِّبَ زكريا بالمعتصم بالله، ثم في العشرين من شهر ربيع الأول تكلَّم الأمراء مع أيبك فيما فعله مع الخليفةِ، ورَغَّبوه في إعادته، فطلبه وأخلع عليه على عادتِه بالخلافةِ، وعزل زكريَّا, ومن الناس من لم يُثبِتْ خلافة زكريا؛ فإنَّه لم يخلَع المتوكِّلُ نَفسَه من الخلافة حتى يبايَعَ زكريا!
بعدَ أن فُتِحَت نَهاوَنْد أَمَرَ عُمَرُ بن الخطَّاب بالانْسِياح في فارِسَ كُلِّها، وأُعْطِيَت الأوامرُ لِسبعَةِ أُمَراء بالتَّوَغُّلِ في أَعماقِ فارِسَ، فسار النُّعمانُ بن مُقَرِّن إلى هَمْدان ففَتَحها، ثمَّ إلى الرَّيِّ "طِهْران اليوم" ففَتَحها ثمَّ قُوس فأخَذَها سِلْمًا أخوهُ سُويدٌ، ثمَّ جاءَ هو إلى جُرجان وطَبَرِستان وصالَحوه، ثمَّ بعضِ بِلادِ أَذْرَبِيجان، وأمَّا سُراقةُ بن عَمرٍو فذهَب إلى بابِ الأبوابِ على سَواحلِ بحرِ الخَزَرِ، وسار الأَحْنَفُ بن قيسٍ إلى خُراسان ففتح هَراة عَنْوَةً، ثمَّ إلى مَرْو، ثمَّ بَلْخ حتَّى أصبح الأحنفُ سَيِّدَ خُراسان، واتَّجه عُثمانُ بن أبي العاصِ إلى إصْطَخْر وفتَح جَزيرةَ بَرْكاوان وإصْطَخْر وشِيراز، واتَّجه سارِيةُ بن زنيم وقاتَل بعضَ حُشودِ الفُرْس، وفيها الحادِثةُ المشهورة التي قال فيها عُمَرُ مِن المدينةِ: يا سارِيَةَ، الجَبَلَ. أمَّا عاصمُ بن عَمرٍو سار إلى سِجِسْتان ففتَحها ودخَل زَرَنْج فصالَحُوه بعدَ حِصارٍ طويلٍ، وأمَّا سُهَيل بن عَدِيٍّ ففتَح كَرْمان، وانْطلَق الحكيمُ بن عُميرٍ إلى مُكْران وفتَحها، واتَّجه عُتبةُ بن فَرْقَدٍ إلى شَمالِ غَربِ فارِسَ فافْتَتَحَها.
هو أبو فِراسٍ الحارِثُ بنُ سعيد بن حمدان بن حمدون الحمداني ابنُ عَمِّ ناصر الدولة وسيف الدولة ابني حمدان، كان رأسًا في الفروسية والجُود, وبراعةِ الأدب وكان شاعِرًا وأميرًا, قال الصاحِبُ بن عبَّاد: " بُدئَ الشِّعرُ بمَلِك وهو امرؤُ القَيسِ, وخُتِمَ بمَلِك وهو أبو فراسٍ". فكان عامِلَ منبج لسيفِ الدَّولة الحمداني، وله وقائِعُ كثيرة. أُسِرَ مِن قِبَلِ الرومِ، وبقي أربع سنين في أسْرِهم، تناوَلَ في شِعرِه تَشَيُّعَه لآل البيت. أمَّا سبَبُ قَتلِه فأنَّه كان مقيمًا بحمص، فجرى بينه وبين أبي المعالي بن سيفِ الدولة بن حمدان وحشةٌ، فطلبه أبو المعالي، فانحاز أبو فِراسٍ إلى صدد، وهي قرية في طرفِ البرية عند حمص، فجمع أبو المعالي الأعرابَ مِن بني كلاب وغيرهم، وسَيَّرَهم في طلبه مع قرعويه، فأدركه بصدد، فكَبَسوه، فاستأمن أصحابُه، واختلط هو بمن استأمَنَ منهم، فقال قرعويه لغلامٍ له: اقتُلْه، فقَتَله وأخَذَ رأسَه، وتُرِكَت جُثَّتُه في البرية، حتى دفنها بعضُ الأعراب. له ديوانٌ مشهور. قُتِلَ وكان عمُرُه سبعًا وثلاثين سنة.
هو أبو منصور بُوَيه مؤيَّدُ الدولة بنُ رُكن الدولة الحسَن بن بُوَيه بن فناخسرو الديلمي الشيعي. كان وزيرُه هو الصَّاحِبَ إسماعيلَ بنَ عَبَّاد، الذي صحبه منذ صباه حتى صار وزيرًا له، فضبَطَ مملكتَه وأحسَنَ تدبيرَها. قال الصاحِبُ بنُ عَبَّاد لمؤيَّد الدولة في مرضِه: لو عهدْتَ إلى أحدٍ؟ فقال: أنا في شُغُلٍ عن هذا، ولم يَعهَدْ بالملك إلى أحدٍ، توفِّيَ مؤيَّد الدولة بجرجان، من خوانيقَ أصابته، وله ثلاثٌ وأربعون سنة. وكانت دولتُه سبع سنين, وجلس صمصام الدولة بنُ عَضُد الدولة للعزاء ببغداد، فأتاه الطائعُ لله معزيًا، ثم تشاور أكابِرُ دولة مؤيَّد الدولة فيمن يقوم مقامَه، فأشار الصاحِبُ إسماعيل بن عباد بإعادةِ فَخرِ الدَّولة بنِ رُكنِ الدولة، وأخي مؤيَّد الدولة إلى مملكتِه؛ إذ هو كبيرُ البيتِ، ومالِكُ تلك البلادِ قبل مُؤَيَّد الدولة، فلما وصَلَت الأخبارُ إلى فخر الدولة سار إلى جرجان، فلَقِيَه العسكر بالطاعة، وجلس في دست ملكيٍّ في رمضان بغير مِنَّةٍ لأحدٍ، وسُيِّرَت الخِلَعُ من الخليفةِ إلى فَخرِ الدولة، واتفَقَ فَخرُ الدولة وابنُ عَمِّه صمصام الدولة فصارا يدًا واحدةً.
هو خَلَفُ بنُ عَبَّاس الزهراوي الأندلُسيُّ، طبيبٌ وعالمٌ وخبيرٌ بالأدويةِ المُفرَدة والمُرَكَّبة، وكان طبيبَ البَلاطِ في عهدِ الحُكمِ الثَّاني الأُمويِّ، كان مِن أهلِ الفَضلِ والدِّينِ والعِلمِ، وعِلمُه الذي سبَقَ عِلمَ الطِّبِّ, وله تصانيفُ مَشهورةٌ في صناعة الطب، أفضَلُها كتابُه الكبيرُ المعروف "بالزهراوي" وله كتابٌ كبيرٌ مَشهورٌ كبيرُ الفائدة، سمَّاه كتاب "التَّصريف لِمَن عجَزَ عن التَّأليف" في 30 جزءًا. ذكرَه ابنُ حَزمٍ وأثنى عليه، وقال: "ولئِنْ قُلنْا: إنَّه لم يُؤَلَّفْ في الطِّبِّ أجمَعُ منه للقَولِ والعمَلِ في الطبائِعِ، لَنَصْدُقنَّ". وكان أكبَرَ جرَّاحي زمانِه، وهو أوَّلُ مَن ألَّفَ في الجِراحةِ، وأوَّلُ مَن استعملَ رَبطَ الشِّريانِ بخَيطِ الحرير، له اهتمامٌ بجراحة العيونِ، اخترع كثيرًا من الأدواتِ الجراحيَّةِ، وكان له الفَضلُ في معرفة كيفيَّةِ جراحةِ كثيرٍ مِن العمَليَّات، وصناعة الأدواتِ المُساعدة، وكان بارعًا كذلك بصُنعِ العقاقيرِ والأدويةِ، تُرجِمَت كتُبُه، واقتَبَس منه أطبَّاءُ أوربَّا، وقد استفادوا مِن عِلمِه كثيرًا وخاصَّةً مُختَرعاتِه، بل إنَّ بَعضَ اختراعاتِه يُستعمَلُ إلى اليومِ كما هو، وبعضُها عُدِّلَ قليلًا بما يلائِمُ صناعاتِ اليوم، وقد اختُلِفَ في موتِه، والراجح موتُه في هذا العام عن 79 عامًا.
كانت وقعة بين طنكري الفرنجي، صاحب أنطاكية، وبين الملك رضوان، صاحب حلب، انهزم فيها رضوان وسببها أن طنكري حصر حصن أرتاح، وبه نائب الملك رضوان، فضيق الفرنجُ على المسلمين، فأرسل النائِبُ بالحصن إلى رضوان يعرِّفه ما هو فيه من الحصر الذي أضعف نفسَه، ويطلب النجدة، فسار رضوان في عسكر كثير من الخيَّالة، وسبعة آلاف من الرجَّالة، منهم ثلاثة آلاف من المتطوِّعة، فساروا حتى وصلوا إلى قِنَّسرين، وبينهم وبين الفرنج قليل، فلما رأى طنكري كثرة المسلمين أرسل إلى رضوان يطلب الصلح، فأراد أن يجيبَ فمنعه أصبهبذ صباوة، وكان قد قصده وصار معه بعد قتل إياز، فامتنع من الصلح واصطفُّوا للحرب، فانهزمت الفرنجُ من غير قتال، ثم قال الفرنج: نعود ونحمِلُ عليهم حملة واحدة، فإن كانت لنا، وإلا انهزمنا، فحملوا على المسلمين فلم يثبتوا وانهزموا، وقُتِل من المسلمين وأُسِر الكثير، وأما الرَّجَّالة فإنهم كانوا قد دخلوا معسكر الفرنج لما انهزموا، فاشتغلوا بالنهب، فقتلهم الفرنج، ولم ينجُ إلا الشريد فأُخِذ أسيرًا، وهرب من في أرتاح إلى حلب، وملكه الفرنج، وهرب أصبهبذ صباوة إلى طغتكين أتابك بدمشق، فصار معه ومن أصحابه.
هو الشيخ الإمام العلَّامة القدوة الحافظ، شيخ الإسلام، محيي السنة: أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي، الشافعي، نسبة إلى بغا من قرى خراسان، صاحب التفسير المعروف بمعالم التنزيل، وشرح السنة، والتهذيب في الفقه الشافعي، والجمع بين الصحيحين، والمصابيح في الصحاح والحسان، والأربعين حديثًا، وغير ذلك. اشتغل على القاضي حسين بن محمد المروروذي صاحب التعليقة قبل سنة 460. وبرع في هذه العلوم، وكان علَّامة زمانه فيها، وكان ديِّنًا ورعًا زاهدًا عابدًا صالحًا. قال الذهبي: "كان البغوي يُلقَّب بمحيي السنة وبرُكنِ الدين، وكان سيدًا إمامًا، عالِمًا علَّامة، زاهدًا قانعًا باليسير، كان يأكل الخبز وحده، فعُذِل في ذلك، فصار يأتدم بزيتٍ، وكان أبوه يعمل الفِرَاء ويبيعها، بورك له في تصانيفه، ورُزق فيها القَبول التام؛ لحُسن قصده، وصِدقِ نيته، وتنافسَ العلماءُ في تحصيلها، وكان لا يلقي الدرس إلا على طهارة، وكان مقتصدًا في لباسه، له ثوبٌ خام، وعمامة صغيرة, وكان على منهاج السلف حالًا واعتقادًا، وله القدمُ الراسخة في التفسير، والباع المديد في الفقه" توفي بمروالروذ -وهي مدينة من مدائن خراسان- في شوال، ودفن بجنب شيخه القاضي حسين، وعاش بضعًا وسبعين سنة.
لَمَّا ملك صلاحُ الدين حلَب كان بقلعةِ حارم- وهي من أعمالِ حلب- أحَدُ المماليك النوريَّة، واسمه سرحك، وولَّاه عليها الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، فامتنع مِن تسليمها إلى صلاح الدين، فراسله صلاحُ الدين في التسليم، وقال له: اطلُبْ مِن الإقطاع ما أردت، ووعده الإحسانَ، فاشتَطَّ في الطلب، وتردَّدَت الرسلُ بينهما، فراسل الفرنجَ ليحتميَ بهم، فسَمِعَ مَن معه من الأجناد أنَّه يراسِلُ الفرنج، فخافوا أن يسَلِّمَها إليهم، فوَثَبوا عليه وقَبَضوه وحبسوه، وراسلوا صلاحَ الدين يَطلُبونَ منه الأمان والإنعام، فأجابهم إلى ما طلبوا، وسَلَّموا إليه الحصنَ، فرتب به دزدارًا: بعضَ خواصه، وأما باقي قلاعِ حلب، فإنَّ صلاح الدين أقرَّ عين تاب بيد صاحبها، وأقطع تَلَّ خالد لأميرٍ يقال له داروم الباروقي، وهو صاحِبُ تل باشر، وأمَّا قلعة إعزاز، فإنَّ عماد الدين إسماعيل كان قد خَربَها، فأقطعها صلاحُ الدين لأميرٍ يقال له دلدرم سلمان بن جندر، فعَمَرها. وأقام صلاحُ الدين بحلب إلى أن فرغ مِن تقرير قواعِدِها وأحوالِها ودِيوانِها، وأقطع أعمالَها، وأرسل منها فجمع العساكِرَ من جميع بلادِه.
في يوم الأثنين الثاني عشر محرم نودي بشوارع القاهرة أن أحدًا من الأعيان لا يستخدم ذميًّا في ديوانه من الكَتَبة وغيرهم، فمنعت هذه المناداة أهل الذمة قاطبةً من التصرف والمباشرة بقلم الديوان بوجه من الوجوه في أعمال مصر، وكُتِب بذلك إلى سائر الأقطار، ثم عقد السلطان بالصالحية ببين القصرين مجلسَ بالقضاة الأربعة، وحضره الدوادار الكبير، وجماعة من الأعيان، وقُرئت العهود المكتوبة قديمًا على أهل الذمة، فوجدوا في بعضِها أن أحدًا من أهل الذمة لا يباشِرُ بقلم الديوان عند أحد من الأعيان، ولا في عمل من الأعمال، وأشياء من هذه المقولة، إلى أن قال فيها: ولا يلفُّ على رأسه أكثر من عشرة أذرع، وأن نساءَهم يتميزن من نساء المسلمين بالأزرق والأصفر على رؤوسهن في مشيهن بالأسواق، وكذلك بشيء في الحمامات، فحكم قاضي القضاة علم الدين صالح البلقيني الشافعي بإلزام أهل الذمة بذلك جميعه، ما عدا الصرفَ والطبَّ بشروطه، وصمَّم السلطان على هذا الأمر، وفرح المسلمون بذلك قاطبةً، فأسلم بسبب ذلك جماعةٌ من أهل الذمة من المباشرين، وعظُمَ ذلك على أقباط مصر، ودام ذلك نحو السنة، وعاد كل شيء على حالِه أولًا، وبلغ السلطان ذلك فلم يتكلَّم بكلمة واحدة!!
عَيَّنَ الوَليدُ بن عبدِ الملك عُمَرَ بنَ عبدِ العزيز على إِمارَةِ المَدينَة بعدَ أن عَزَلَ هِشامَ بن إسماعيلَ عن وِلَايَتِها، ثمَّ ضَمَّ إليه وِلايَةَ الطَّائِف سنة 91هـ، وبذلك صار وَالِيًا على الحِجازِ كُلِّها, وكانت إمارتُه عليها أربعَ سِنين غير شَهرٍ أو نَحوِه، فقَدِمَها وَالِيًا وثَقَلُه على ثلاثين بَعِيرًا، فنَزَل دارَ مَرْوان، وجَعَل يَدخُل عليه النَّاسُ فيُسَلِّمون، فلمَّا صلَّى الظُّهْرَ دَعَا عَشرةً مِن الفُقَهاء الذين في المدينة: عُرْوَةَ بن الزُّبير، وأبا بَكْر بن سُليمان بن أبي خَيْثَمَة، وعُبيدَ الله بن عبدِ الله بن عُتْبَة بن مَسْعود، وأبا بَكْر بن عبدِ الرَّحمن بن الحارِث، وسُليمان بن يَسار، والقاسِم بن محمَّد، وسالِم بن عبدِ الله بن عُمَرَ، وعبدَ الله بن عُبيدِ الله بن عُمَرَ، وعبدَ الله بن عامِر بن ربِيعَة، وخارِجَة بن زَيدٍ، فدَخَلُوا عليه، فقال لهم: إنَّما دَعَوْتُكم لِأَمْرٍ تُؤْجَرُون عليه, وتَكُونون فيه أَعوانًا على الحَقِّ، لا أُريدُ أن أَقْطَعَ أَمْرًا إلَّا بِرَأْيِكم، أو بِرَأْيِ مَن حَضَر منكم، فإن رَأيتُم أَحدًا يَتَعَدَّى, أو بَلَغَكُم عن عامِلٍ لي ظُلْمٌ، فأُحَرِّجُ اللهَ على مَن بَلغَهُ ذلك إلَّا بَلَّغَنِي. فخَرجُوا يَجْزُونَهُ خَيْرًا وافْتَرقوا.
هو الحُسينُ بنُ أحمد بن محمد بن زكريا أبو عبد الله الشيعي المعروف بالقائم؛ فهو الذي قام بالدعوة لعُبيد الله المهدي جَدِّ ملوك مصر, ويُعرَفُ كذلك بالمعلِّم؛ لأنه يعلِّمُ الناسَ عقائِدَ الباطنية, وأصلُه من اليمن من صنعاء، وقيل: كان من أهل الكوفة، سار من سلمية من عند عُبيد الله المهدي داعيًا له في البلاد، وتنقَّلت به الأحوال إلى أن دخل المغرِبَ, وكان من دُهاة العالم، وأفرادِ بني آدم دَهاءً ومَكرًا ورأيًا. دخل إفريقيةَ وحيدًا بلا مال ولا رجال، فلم يزَلْ يسعى ويتحَيَّل ويستحوذ على النُّفوسِ بإظهار الزهادة والقيامِ لله، حتى تَبِعَه خلقٌ وبايعوه، وحاربوا صاحِبَ إفريقية مرَّات. وآل أمرُه إلى أن تمَلَّك القيروان، وهرب صاحِبُها أبو مضر زيادة الله الأغلبي آخِرُ ملوك بني الأغلب منه إلى بلادِ الشرق. كما قضى على دولتَي بني مدرار والرستمية في أفريقيةَ، حتى مهَّد القواعِدَ للمهديِّ ووطَّدَ البلاد, فأقبل المهديُّ من الشرق وسَلَّمَه الأمر، ثمَّ كفَّ المهديُّ يَدَه ويدَ أخيه أبي العباس، فندم أبو عبد الله على ما صنع وأضمَرَ الغَدرَ هو وأخوه بعُبيد الله، فاستشعر منهما المهديُّ الغدرَ, فدَسَّ إليهما من قتَلَهما في ساعةٍ واحدةٍ، وذلك بمدينة رقادة, فتوطَّدَ المُلكُ لعُبيد الله.
هو الخليفةُ العباسي الواثِقُ عُمَرُ ابن الخليفة المستعصم بالله أبي إسحاق إبراهيم بن المستمسك بالله أبي عبد الله محمد بن الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد بن الحسن بن أبي بكر بن أبي علي إسحاق بن علي القبي. في يوم الاثنين الخامس والعشرين من شوال استدعى السلطانُ برقوق زكريَّا ابنَ الخليفة المعتصم بالله وأعلمه أنَّه يريد أن ينصِبَه في الخلافةِ بعد وفاة أخيه الواثق بالله عمر، ثم استدعى السلطانُ القضاة والأمراء والأعيان، فلما اجتمعوا أظهر زكريا المذكور عَهدَ عَمِّه المعتضد له بالخلافة، فخلع السلطانُ عليه خِلعةً غير خلعة الخلافةِ ونزل إلى داره، فلما كان يوم الخميس الثامن والعشرين منه طلع الخليفة زكريا إلى القلعةِ وأحضر أعيانَ الأمراء والقضاة والشيخ سراج الدين عمر البلقيني، فبدأ البلقينيُّ بالكلام مع السلطان في مبايعة زكريا على الخلافةِ، فبايعه السلطان أولًا، ثم بايعه من حضر على مراتِبِهم، ونُعِتَ بالمستعصم بالله، وخُلِعَ عليه خِلعةُ الخلافة على العادة، ونزل إلى داره وبين يديه القضاة وأعيان الدولة، ثم طلع زكريا في يوم الاثنين ثاني ذي القعدة وخلع عليه السلطان ثانيًا بنَظَرِ المشهد النفيسي على عادة من كان قبلَه مِن الخلفاء.
لَمَّا قبل إبراهيم باشا الصلحَ خرج له من أعيان الدرعية عبد الله بن عبد العزيز بن محمد، والشيخ العالم علي ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومحمد بن مشاري بن معمر، فأرادوا منه أن يصالِحَهم على البلدِ كُلِّه فأبى أن يصالِحَهم إلا على السهلِ، أو يحضُرَ الإمام عبد الله بن سعود فرفضوا، فدخل الرومُ الدرعية ووقعت الحربُ عند مسجد الطريف أيامًا ثم انفَضَّ عن عبد الله بن سعود كثيرٌ ممن كان عنده، فلما رأى عبد الله ذلك بذل نفسَه للروم وفدى بها عن النِّساء والولدان والأموال، فأرسل إلى الباشا وطلب المصالحةَ، فأمره أن يخرج إليه فخرج إليه وتصالحَ على أن يركَبَ إلى السلطانِ فيُحسِنَ إليه أو يسيءَ، وانعقد الصلحُ على ذلك، ودخل عبد الله منزله وأطاعت البلدُ كُلُّها، فسلّم عبد الله بن سعود نفسَه للباشا في 8 ذي القعدة بعد حصارٍ شديد للدرعية دام ستة أشهر، ثم أرسله إلى القاهرة، واقتاد إبراهيم باشا بعض أمراء آل سعود وأفرادًا من أسرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أسرى، وأرسلهم إلى مصر، ومن هناك أُرسِلَ عبد الله بن سعود إلى استانبول، حيث أُعدِمَ في صفر سنة 1234هـ, وبهذا انتهت الدولةُ السعودية الأولى التي امتَدَّ نفوذُها إلى معظم أنحاء الجزيرة العربية على مدى 77 سنة.
هو أبو عبد الله محمَّد بن يزيد بن ماجه، صاحِبُ كتابِ السُّنَن المشهورِ، وهي دالَّةٌ على عَمَلِه وعِلمِه وتبحُّرِه واطلاعِه واتِّباعِه للسُّنَّة في الأصول والفروع، حُكِيَ عن أبي زُرعةَ الرازي أنه انتقَدَ منها بضعة عشر حديثًا، كان عالِمًا بهذا الشأن، صاحِبَ تصانيف، منها (التاريخ والسُّنَن)، ارتحل إلى العراقَينِ- الكوفة والبصرة- ومصر والشام، مات وعمره أربعٌ وستون سنة، وصلَّى عليه أخوه أبو بكر، تولى دفنه مع أخيه الآخَرِ أبي عبد الله وابنه عبد الله بن محمد بن يزيد رحمه الله.