كان الفِداءُ بين المُسلِمينَ والروم، بعد أن قَتَلَت تدورة- ملكةُ الرُّومِ- من أسرى المسلمينَ اثني عشر ألفًا، فإنَّها عَرَضت النصرانيَّة على الأسرى، فمن تنَصَّرَ جعَلَتْه أسوةَ مَن قَبلَه من المتنصِّرة، ومن أبى قتَلَتْه، وأرسلت تطلُبُ المفاداةَ لِمَن بقي منهم، فأرسل المتوكِّلُ شنيفًا الخادم، فأذِنَ له فحضره واستخلف على القضاءِ ابنَ أبي الشوارب، وهو شابٌّ، ووقع الفداءُ على نهر اللامس، فكان أسرى المُسلمينَ مِن الرجال سبعمائة وخمسة وثمانين رجلًا، ومن النساء مائة وخمسًا وعشرينَ امرأة.
عُقِدَ مجلسٌ بحَضرةِ الخَليفةِ فيه القضاةُ وأعيان الدولة، وجُدِّدَت البيعة بين الطائعِ وبين شَرَف الدولة بن عَضُد الدولة، وكان يومًا مشهودًا، ثمَّ في ربيعها الأوَّل ركب شرف الدولة من داره إلى دارِ الخليفة وزُيِّنَت البلد وضُرِبَت البوقات والطُّبول والدبادب، فخَلَعَ عليه الخليفةُ وسَوَّره وأعطاه لواءَينِ معه، وعقَدَ له على ما وراء دارِه، واستخلفه على ذلك، ولَمَّا قُضِيَت البيعة دخل شرَفُ الدولة على أختِه امرأةِ الخليفةِ، فمكث عندها إلى العَصرِ والنَّاسُ ينتظرونه، ثم خرج وسار إلى داره للتهنئةِ.
اشتَدَّ فسادُ العُربان بالصعيد والفيوم والإطفيحيَّة، فأخرج الأميرُ غرلو إلى إطفيح فأمَّنَ غرلو شيخَ العربان مغنى، وأخذ في التحيُّل على نُمَي حتى قَبَض عليه، وسَلَّمَه لمغنى، فعذبه عذابًا شديدًا، فثار أصحابُه، وكبسوا الحيَّ وتلك النواحيَ، وكَسَروا عرب المغنى، وقتلوا منهم ثلاثمائةِ رَجُل وستين امرأة، وذبحوا الأطفالَ، ونهبوا الأجرانَ وهدموا البيوت، ولَحِقوا بعربان الصعيد والفيوم فكانت عِدَّةُ مَن قُتِلَ منهم في هذه السنة نحو الألفي إنسان، لم يُفَكِّر أحدٌ في أمرهم، ولا فيما أفسدوه!
عندما تناهى المنصورُ بن أبي عامر في هذا الوقتِ على الاقتدار، والنَّصر على ملوك النصارى، سما إلى مدينة شنت ياقوب قاصية غلبسية، وأعظَمِ مَشاهِدِ النَّصارى الكائنةِ ببلاد الأندلُس وما يتَّصِلُ بها من الأرضِ الكبيرة. وكانت كَنيستُها عندهم بمنزلةِ الكَعبةِ عند المُسلِمينَ، فبِها يحلِفونَ وإليها يَحُجُّونَ مِن أقصى بلاد رومة وما وراءها، ويَزعُمونَ أنَّ القبر المزوَّرَ فيها قبر ياقوب أحد الحواريِّين الاثني عشر, ولم يطمَعْ أحدٌ من ملوك الإسلام في قَصْدِها قبل المنصور، ولا الوصول إليها؛ لصُعوبةِ مَدخَلِها وخشونةِ مكانِها، وبُعدِ شُقَّتِها, فخرج المنصورُ إليها من قرطبة غازيًا بالصائفة يومَ السبت لسِتٍّ بَقِينَ مِن جمادى الآخرة سنة 387، وهي غزوته الثامنة والأربعون- تجاوزت غزوات المنصورِ بنِ أبي عامر لنصارى الأندلُس أكثَرَ من خمسين غزوة مُدَّةَ حُكمِه نيِّفًا وعشرين سنة، انتصر فيها كلِّها- وكان المنصور قد أنشأ أُسطولًا كبيرًا في ساحل غرب الأندلس، وجهَّزه برِجالِه البَحريِّين وصنوف المترجِّلين، وحُمِلَت الأقواتُ والأطعِمةُ والعُدَد والأسلحة؛ استظهارًا على نفوذ العزيمة، إلى أن خرج بموضع برتقال على نهر دويره، فدخل في النهر إلى المكان الذي عَمِلَ المنصور على العبور منه، فعقد هناك من هذا الأسطول جسرًا بقرب الحصن الذي هناك، ووزع المنصور ما كان فيه من الميرة على الجُندِ، فتوسَّعوا في التزوُّدِ منه إلى أرض العدو, ثمَّ نهض يريد شنت ياقوب، فقطع أرضَينَ متباعدة الأقطار، وقطَعَ بالعبور عِدَّة أنهار كبار وخلجان يمدُّها البحر الأخضر, ثم أفضى إلى جبلٍ شامخ شديدِ الوعورة، لا مسلَكَ فيه ولا طريقَ، لم تهتَدِ الأدِلَّاء إلى سواه، فقَدَّمَ المنصورُ الفَعَلة بالحديد لِتَوسعةِ شِعابِه وتسهيلِ مَسالِكِه، فقطعه العسكَرُ وعبروا واديَ منية، وانبسط المسلمون بعد ذلك في بسائِطَ عريضة وأرضين أريضة، وانتهت مغيرتُهم إلى دير قسطان على البحر المحيط، وفتحوا حِصنَ شنت بلايه الذي استعصى على طارق بن زياد وموسى بن نُصير في حينِه؛ لحصانتِه، وغَنِموه، وعَبَروا سياخه إلى جزيرة من البحر المحيط لجأ إليها خلقٌ عظيم من أهل تلك النواحي، فسَبَوا مَن فيها ممَّن لجأ إليها، وانتهى العسكَرُ إلى جبل مراسية المتَّصِل من أكثَرِ جِهاتِه بالبحر المحيط، فتخَلَّلوا أقطارَه، واستخرجوا من كان فيه، وحازوا غنائِمَه, ثمَّ انتَهَوا إلى مدينة شنت ياقوب البائسة، وذلك يومَ الأربعاء للَيلتينِ خلتا من شعبان، فوجدها المسلمون خاليةً مِن أهلها، فحازوا غنائِمَها، وهَدَموا مصانِعَها وأسوارَها وكنيسَتَها، وعَفوا آثارَها, ووكل المنصورُ بقَبرِ ياقوب من يحفَظُه ويدفَعُ الأذى عنه، وكانت مصانِعُها بديعةً مُحكَمةً، فغودرت هشيمًا، كأنْ لم تغْنَ بالأمسِ، وانتشرت بعوثُه بعد ذلك سائر البسائط، وانتهت إلى جزيرةِ شنت مانكش مُنقطَعَ هذا الصِّقعِ على البحر المحيط، وهي غايةٌ لم يبلُغْها قبلهم مُسلِمٌ، ولا وَطِئَتها لغير أهلها قَدَمٌ، فلم يكُنْ بعدها للخَيلِ مجالٌ، ولا وراءها انتقال. وانكفأ المنصورُ عن باب شنت ياقوب، ولم يجِد المنصور بشنت ياقوب إلَّا شيخًا من الرَّهبان جالسًا على القبر، فسأله عن مقامِه، فقال: (أوانس يعقوب) فأمر المنصورُ بالكَفِّ عنه. قال الفتح من خاقان: "تمرس المنصور ببلاد الشِّركِ أعظَمَ تَمَرُّس، ومحا من طواغيتِها كُلَّ تَعَجرُف وتغَطرُس؛ وغادرهم صرعى البِقاع، وترَكَهم أذَلَّ مِن وَتدٍ بِقاع، ووالى على بلادهم الوقائع، وسَدَّد إلى أكبادهم سِهامَ الفجائع، وأغصَّ بالحِمام أرواحَهم، ونغَّصَ بتلك الآلامِ بُكورَهم ورَواحَهم ".
هو السلطان الأعظم الملك الظاهر ركن الدين بيبرس بن عبد الله، البندقداري الصالحي؛ يُعد المؤسِّسَ الفعلي لدولة المماليك وأعظَمَ سلاطينها، اجتمعت فيه صفاتُ العدل والفروسية والإقدام. ولِدَ بيبرس- بيبرس كلمة تركية تعني أمير فهد- بأرض القبجاق سنة 625، تعرضت ديارهم في القبجاق لغارات فأُسِرَ جماعة منهم، وكان بيبرس فيمن أُسِرَ وحُمِلَ إلى القاهرة، فاشتراه الأميرُ علاء الدين البندقدار الصالحي فطلع بطلًا شجاعًا نجيبًا لا ينبغي أن يكونَ إلَّا عند ملك. فأخذه الملِكُ الصالح إليه وصار من جملةِ البحرية. وشَهِدَ وقعة المنصورة بدمياط وصار أميرًا في دولة المعز عز الدين أيبك. وتقلبت به الأمور وجرت له أحوال, واشتهر بالشجاعةِ والإقدام وبَعُدَ صِيتُه. ولما سارت الجيوشُ المنصورة من مصر لحرب التتار في عين جالوت كان هو طليعةَ الإسلام. وجلس على سريرِ المُلكِ بعد قتل الملكِ المظفَّر وذلك في سابع عشر ذي القعدة من سنة ثمان وخمسين بقلعة الجبل, فصار أستاذُه البندقدار بعض أمرائه وكان الظاهر غازيا، مجاهدا، مرابطا، خليقا للملك، لولا ما كان فيه من الظلم والله يرحمه ويغفر له ويسامحه، فإن له أياما بيضاء في الإسلام ومواقف مشهودة وفتوحات معدودة. وله سيرتان كبيرتان لابن عبد الظاهر ولابن شداد. كانت وفاته يوم الخميس السابِعَ عشَرَ من محرم بعد الزوال، وقد تجاوز الخمسين سنة، ومُدَّة ملكه سبعَ عشرة سنة وشهران واثنا عشر يومًا، أما عن سبب موته فقيل إنه شرب القمز، وهو نوعٌ من النبيذ فمَرِضَ بعده أيامًا ثم إنَّه أخذ دواءً فزاد مرضُه وأصيبَ بإسهالٍ حادٍّ وحاول الأطباءُ علاجه بدواء آخر فأفرط الإسهال حتى إنه رمى دمًا قيل إنه كَبِدُه، ثم لم يلبث أيامًا حتى توفي، وقيل بل إن وفاته كانت بالسُّمِّ حيث إنه وُضِعَ السم في القمز للملك القاهر بهاء الدين عبد الملك بن الملك المعظم عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب، الذي أبلى بلاءً عظيمًا ضد المغول وكان بيبرس قد قيل له إنه يموت في دمشق مَلِكٌ بالسمِّ في هذا العام فأراد أن يكون هذا الملك هو القاهر بهاء، وخاصة أنه خاف منه لما ظهر منه أمام المغول فوضع له السمُّ فشربه القاهر ومات من فَورِه ولكِنَّ الله أنسى بيبرس أمر الكأسِ وسقاه خادِمُه من نفس الكأس ثانيةً، فكانت بقايا السم هي سبب حتفه، فالله أعلم كيف كانت وفاته، ودفن في دمشق قريبًا من المكتبة الظاهرية، فجزاه الله خيرًا على ما قام به من فتح كثير من البلاد التي كانت استعصت على من قَبلَه، وعلى العمران الذي شيَّدَه وعلى الهيبةِ التي ردها للمُسلمينَ بعد أن كانت تحطَّمَت أمام أفعال المغول، وبالجملة أقامه الله في هذا الوقت المتأخر عونًا ونصرًا للإسلام وأهله، وشجًا في حلوق المارقين من الفرنج والتتار، والمشركين، وكان الملك الظاهر بيبرس قد عَهِدَ بالملك لابنه الملك السعيد بركة الذي أصبح ملكًا بعد أن أخفي موت الظاهر بيبرس أيامًا حتى استحلف الأمراء مرة أخرى على بيعته، ثم أعلنت وفاة الظاهر وبويع الملكُ السعيدُ بالمُلكِ بعده.
هو الربيعُ بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل أبو محمد المراثي الفقيهُ، صاحِبُ الشافعيِّ، نقل عنه مُعظَمَ أقاويلِه، وكان فقيهًا فاضلًا ثقةً دَيِّنًا، وهو أوَّلُ من أملى الحديثَ بجامع ابن طولون، مات بمصر عن عمر 96 عامًا، وصلى عليه صاحِبُ مصر خِمارَوَيه بن أحمد بن طولون.
ثار رجلٌ من القرامطةِ اسمُه مَروانُ، كان يحفُظُ الطُّرُقاتِ لِسَيفِ الدولة، ثار بحِمص فمَلَكها وما حولها، فقَصَده جيشٌ من حلب مع الأميرِ بدرٍ فاقتتلوا معه فرماه بدرٌ بسَهمٍ مسمومٍ فأصابَه، واتَّفَق أنْ أسَرَ أصحابُ مَروانَ بدرًا فقَتَله مروانُ بين يديه صبرًا، ومات مروان بعد أيَّامٍ وتفَرَّقَ عنه أصحابُه.
كانت طنجة مُستعمَرة من قبل البرتغاليين وبقيت تحتهم قرنين من الزمن ثم تنازلت الأميرة البرتغالية عنه لملك إنكلترا، فأصبحت تحت السيطرة البريطانية إلى أن قام إسماعيل السعدي ملك العلويين في مراكش بمحاصرة ثغر طنجة، واستمر الأمر ست سنوات إلى أن انتزعه في هذا العام من البريطانيين، وكان من أهم الثغور التجارية والمواقع الاستراتيجية على البحر الأبيض المتوسط.
قَدِمَ يوسفُ الكيمياوي إلى مِصرَ في يوم الخميس سابعَ عشر رمضان، وكان من خبَرِ هذا الرجل أنه كان نصرانيًّا من أهل الكرك فأسلم، ومضى إلى دمشقَ بعدما خَدَع بمدينة صفد الأميرَ بهادر التقوى حتى انخدع له وأتلَفَ عليه مالًا جزيلًا، فلما ظهَرَ له أمْرُه سَجَنه مُدَّةً، ثم أفرج عنه، فاتصَلَ يوسف بالأمير تنكز نائب الشام، وقَصَد خديعته فلم ينخَدِعْ له، وأمر والي دمشق بشَنقِه، فصاح وقال: أنا جيت للسُّلطانِ حتى أملأَ خِزانَتَه ذهبًا وفِضَّة، فلم يجِدْ تنكز بدًّا من إرساله إلى السلطان، فقَيَّده وأركَبَه البريدَ مع بعض ثقاتِه، وكتب بخَبَرِه وحَذَّر منه، فلما اجتمع يوسفُ بالسلطان مال إلى قَولِه، وفَكَّ قَيدَه، وأنزله عند الأمير بكتمر الساق وأجرى عليه الرواتِبَ السَّنِيَّة، وأقام له عِدَّةً مِن الخدم يتولَّون أمره، وخلع عليه، وأحضر له ما طلَبَ من الحوائج لتدبيرِ الصَّنعةِ، حتى تمَّ ما أراده، فحضر يوسف بين يدي السلطان، وقد حضر الفخر ناظِرُ الجيش والتاج إسحاق وابن هلال الدولة والأمير بكتمر الساقي في عِدَّةٍ من الأمراء، والشيخ إبراهيم الصائغ وعِدَّة من الصواغ، فأوقدوا النَّارَ على بوطقة قد مُلِئَت بالنُّحاسِ والقصدير والفضة حتى ذاب الجميعُ، فألقى عليه يوسفُ شيئًا من صنعته، وساقوا بالنَّارِ عليها ساعةً، ثم أفرغوا ما فيها فإذا سبيكةُ ذَهَبٍ كأجوَدِ ما يكونُ، زِنَتُها ألفُ مثقالٍ، فأعجَبَ السلطانَ ذلك إعجابًا كثيرًا، وسُرَّ سرورًا زائدًا، وأنعم على يوسف بهذه الألفِ مِثقالٍ، وخلع عليه خِلعةً ثانية، وأركبه فرسًا مُسرَجًا مُلَجَّمًا بكنبوش حرير، وبالغ في إكرامِه، ومكَّنَه من جميع أغراضه، فاتصل به خُدَّام السلطان، وقَدَّموا له أشياء كثيرة مستحسنة، فاستخَفَّ عُقولَهم حتى ملكها بكَثرةِ خُدَعِه، فبذلوا له مالًا جزيلًا، ثم سَبَك يوسف للسلطان سبيكةً ثانية من ذهب، فكاد يطيرُ به فرحًا، وصار يستحضِرُه بالليل ويحادِثُه، فيزيده طَمَعًا ورغبة فيه، فأذِنَ له أن يركب من الخيولِ السُّلطانيَّة ويمضي حيث شاء من القاهرةِ ومصر، فركب وأقبَلَ على اللهو، وأتاه عِدَّةٌ من الناس يسألونَه في أخذِ أموالهم، طمعًا في أن يُفيدَهم الصَّنعةَ أو يُغنيهم منها، فمَرَّت له أوقاتٌ لا يتهيَّأُ لكلِّ أحَدٍ مِثلُها مِن طِيبتِها، ثم إنَّه سأل أن يتوجَّه إلى الكرك لإحضارِ نبات هناك، فأركبه السلطانُ البريد، وبعث معه الأميرَ طقطاي مُقَدَّم البريدية، بعدما كتب إلى نائب غَزَّة ونائب الكرك بخدمتِه وقضاء ما يُرسَم به والقيام بجميع ما يحتاجُ إليه من ديوان الخاص، فمضى يوسفُ إلى الكرك وأبطأ خبَرُه، ثم قَدِمَ وقد ظهر كَذِبُه للسلطان، فضَيَّق عليه وحبسه في القاهرة، ثم إنَّه في عام 731 هرب من السجنِ ثمَّ بعد عدة أشهر وُجِدَ في أحميم فمَثُلَ بين يدي السلطان فسأله عن المال، فقال: عَدِمَ مني، فسأله السلطانُ عن صناعته فقال: كُلُّ ما كنتُ أفعَلُه إنما هو خِفَّةُ يدٍ، فعوقب عُقوبةً شديدة بالضرب، ثم حُمِلَ إلى خزانة شمائل سجن أرباب الجرائم بجوار باب زويلة من القاهرة، فمات ليلة الأحد خامس عشر ذي الحجة، فسُمِّرَ وهو ميت وطيف به القاهرة على جملٍ في يوم الأحَدِ.
جرت حروب بأفريقية من بلاد المغرب، وذلك أنه لما مات أبو فارس عبد العزيز، وقام من بعده حفيده المنتصر أبو عبد الله محمد بن أبى عبد الله، ولى عمه أبا الحسن على بن أبي فارس بجاية وأعمالها، فلما مات المنتصر، وقام من بعده أخوه أبو عمرو عثمان بن أبي عبد الله، امتنع عمه أبو الحسن من مبايعته، ورأى أنه أحق منه، ووافقه فقيه بجاية منصور بن علي بن عثمان وله عصبة وقوة، فاستبد بأمر بجاية وأعمالها، فسار أبو عمرو من تونس في جمع كبير لقتاله، فالتقيا قريبًا من تبسة وتحاربا، فانهزم أبو الحسن إلى بجاية، ورجع أبو عمرو إلى تونس، ثم خرج أبو الحسن من بجاية، وضم إليه عبد الله بن صخر من شيوخ إفريقية، ونزل بقسنطينة وحصرها وقاتل أهلها مدة، فسار إليه أبو عمرو من تونس في جمع كبير، فلما قرب منه سار أبو الحسن عائدًا إلى جهة بجاية، فتبعه أبو عمرو حتى لقيه وقاتله، فانهزم أبو عمرو بعدما قتل أبو الحسن عدةً من أصحابه، وعاد كل منهما إلى بلده، فلما كان في هذه السنة أعمل أبو عمرو الحيلةَ في قتل عبد الله بن صخر حتى قتله، وحُمِل رأسه إليه بتونس، ففَتَّ ذلك في عضد أبي الحسن، ثم جهز أبو عمرو العساكر من تونس في إثر ذلك، فنازلت العساكر بجاية عدة أيام، حتى خرج الفقيه منصور بن علي إلى قائد العسكر، وعقد معه الصلح ودخل به إلى بجاية، وعبر الجامع وقد اجتمع به الأعيان، وجاء أبو الحسن ووافق على الصلح، وأن تكون الخطبة لأبي عمرو، ويكون هو ببجاية في طاعته، وترجع العساكر عن بجاية إلى تونس، فلما تم عقد الصلح أقيمت الخطة باسم أبي عمرو، وعادت العساكر تريد تونس، فبلغهم أن أبا عمرو خرج من تونس نحوهم لقتال أبي الحسن، فأقاموا حتى وافاهم، ووقف على ما كان من أمر الصلح، فرضي به، وأخذ في العود إلى جهة تونس، فورد عليه الخبر بأن أبا الحسن خاف على نفسه من أهل بجاية، فخرج ليلًا حتى نزل جبل عجيسة، فأقر عساكرَه حيث ورد عليه الخبر، وسار جريدة في ثقاته، ودخل مدينة بجاية، فسُرَّ أهلها بقدومه، وزينوا البلد، فرتب أحوالها واستخلف بها أصحابه، وعاد إلى معسكره، واستدعي شيوخ عجيسة، فأتاه طائفة منهم فأرادهم على تسليم أبى الحسن إليه، وبذل لهم المال، فأبوا أن يسلموه، فتركهم وعاد إلى تونس، فكثُرَ جمع أبي الحسن بالجبل، وأقام به مدة، ثم خاف من عجيسة أن تغدر به، ولم يأمنهم على نفسه، فسار ونزل جبل عياض قريبًا من الصحراء.
هو نظام الملك مسعود بن علي، وزير خوارزم شاه تكش، وكان صالحًا كثيرَ الخير، حَسَن السِّيرة، شافعيَّ المذهب، بنى للشافعية بمرو جامعًا مُشرفًا على جامع الحنفيَّة، وبنى أيضًا مدرسة عظيمة بخوارزم وجامعًا، وجعل فيها خزانة كتب، وله آثارٌ حسنة بخراسان باقية، وثب الملاحدة الإسماعيليَّة عليه فقتلوه، ولَمَّا مات خلَّف ولدًا صغيرًا، فاستوزره خوارزم شاه رعايةً لحق أبيه، فأشيرَ على الصبيِّ أن يَستعفيَ، فأرسل يقول: إنني صبيٌّ لا أصلُحُ لهذا المنصب الجليل، فيولِّي السلطانُ فيه من يَصلُحُ له إلى أن أكبر، فإن كنتُ أصلُحُ فأنا المملوكُ، فقال خوارزم شاه: لستُ أُعفيك، وأنا وزيرُك، فكُن مراجعي في الأمورِ؛ فإنه لا يقِفُ منها شيءٌ، فاستحسن النَّاسُ هذا، ثمَّ إن الصبي لم تَطُل أيَّامُه، فتوفي قبل خوارزم شاه بيسيرٍ.
أول من بدأ بالعصيان على السلطان هو تغري برمش الذي استطاع أن يستحوذ على حلب وأعلن عصيانه، فقام السلطان بإنابة غيره على حلب، وبعث بعض الأمراء لتولية الأمراء النواب الجدد، وكانت الأخبار تَرِدُ أن نائب دمشق الأمير إينال الجكمي أيضًا يريد الخروج عن الطاعة، لكن أمره لم يتحقق إلى أن كان يوم الاثنين تاسع رمضان، كان جميع أمراء دمشق وسائر المباشرين بين يدي الأمير إينال، وقد اطمأنَّ كل أحد بأن ملك الأمراء مستمِرٌّ على الطاعة، فما هو إلا أن استقر في مجلسه أشار بالقبض على أعيان أمراء دمشق، فأغلق الباب وقبض على جميع الأمراء والمباشرين، فلما سمع السلطان هذا الخبر اضطرب وتشوش غاية التشويش، وجمع الأمراء واستشارهم في أمر إينال وتغري برمش، فأشار الجميع بسفره، وانفضَّ الموكبُ على أن السلطان يسافر لقتالهما، ثم في يوم الأربعاء ورد الخبر على السلطان أن الأمير قطج أتابك حلب وصل أيضًا إلى حماة، وأن تغري برمش أخذ مدينة عينتاب وقلعتها، وأن عدة من قَبَض عليه الأمير إينال الجكمي من أمراء دمشق تسعة عشر أميرًا، ثم ورد على السلطان كتابُ الأمير فارس نائب قلعة دمشق بأن الأمير إينال الجكمي أمر فنُوديَ بدمشق بالأمان والاطمئنان والدعاء للسلطان الملك العزيز يوسف، ثم في يوم الأربعاء الخامس والعشرين عيَّن السلطان للسفر من أمراء الألوف اثنين، ومن أمراء العشرات عشرة، ثم ورد الخبر على السلطان من الأمير طوغان العثماني نائب القدس بأن إينال الجكمي أطلق الأمراء الذين قبض عليهم قبل تاريخه، وحَلَّفهم للملك العزيز يوسف، ولكن نفرت القلوب بذلك عن إينال الجكمي، وأول من نفر عنه تغري برمش نائب حلب، وقال في نفسه عن إينال: هذا في الحقيقة ليس بخارج عن الطاعة، وإنما قصد بالإشاعة عنه أنه عاصٍ حتى أقدم عليه ويقبض عليَّ تقربًا لخاطر السلطان جقمق، ومن يومئذ أخذ أمر إينال الجكمي في الاضمحلال قليلًا، واستخَفَّ كُلُّ أحد عَقْلَه وتعجَّب من سوء تدبيره، وكاد أخوه سودون العجمي أن يموت قهرًا لَمَّا بلغه عن أخيه إينال ذلك، وهو يوم ذاك من جملة أمراء العشرات بالديار المصرية، ثم ورد الخبر بانكسار تغري برمش وهروبه من حلب إلى الرملة، ثم ورد الخبر على السلطان بأن إينال الجكمي برز بمخيَّمِه من مدينة دمشق إلى ظاهرها، فلما كان يوم الخميس ثالث شوال، عزم هو على الخروج من المدينة بنفسه إلى مخيمه؛ ليسير بمن معه إلى نحو الديار المصرية، فبينما هو في ذلك ركب عليه الأمير قاني باي الأبوبكري الناصري البهلوان أتابك دمشق، وكان ممن وافق الجكمي على العصيان وحسَّن له ذلك ثم تركه ومال إلى جهة السلطان، وركب معه الأمير برسباي الناصري حاجب الحجاب بدمشق، وجميع أمراء دمشق وعساكرها، ولم يبقَ مع إينال من أعيان أمراء دمشق إلا جماعة يسيرة، فلما بلغ إينال الجكمي ركوب هؤلاء عليه، مال عليهم وقاتلهم، فلم يثبتوا له وانهزموا أقبح هزيمة، ثم تراجعوا فحمل عليهم فانكسروا وتمزقوا شذر مذر، ثم إن العسكر المصري وصل إلى الشام وتصادم مع العسكر الشامي بقيادة إينال، وحصلت بينهم وقائع كانت بدايتها بانهزام العسكر المصري ثم تخلى عن إينال أصحابه ومدوا أيديهم إلى النهب في أطلاب النواب لما انهزموا أمام العسكر الشامي، وبقي إينال في أناس قليلة، فحطَّ بهم على العسكر المصري، فثبتوا له وقاتلوه ساعة، وقد تفرقت عنه أصحابه بسبب النهب، فلم يجد مساعدًا، فانهزم بعد أن قتِل من الفريقين جماعة كبيرة جدًّا، فلما أصبح العسكر يوم الخميس ثاني ذي القعدة ورد الخبر عليهم من دمشق بالقبض على إينال الجكمي من قرية حرستا من عمل دمشق ثم في يوم الأحد ثاني عشر ذي القعدة كُتِبَ بقتل إينال الجكمي بسَجنِه بقلعة دمشق، بعد تقريره على أمواله وذخائره، وبقتل جماعة من أصحابه ممن قُبِضَ عليه في الوقعة، وكان قتله بقلعة دمشق في ليلة الاثنين عشرين ذي القعدة، ثم قَدِمَ الخبر على السلطان بأن العساكر توجهت من دمشق في الحادي عشر ذي القعدة إلى حلب؛ لقتال تغري برمش، هذا وأهل حلب يد واحدة على قتاله، ثم إن العسكر المصري بمن معه من العسكر الشامي لما ساروا من دمشق إلى جهة حلب وافاهم الأمير قاني باي محمزاوي وغيره وصاروا جمعًا واحدًا، فلقيهم تغري برمش بجموعه التي كانت معه قريبًا من حماة، في يوم الجمعة السابع عشر ذي القعدة، وقد صفَّ عساكره من التركمان وغيرهم، حتى ملؤوا الفضاء، فلما وقع بصر عسكره على العساكر السلطانية أخذوا في الانهزام من غير مصافَّة، بل حدث بعض التناوش من صغار الطائفتين، فولوا الأدبارَ ومدت العساكر السلطانية أيديها إلى عساكر تغري برمش، فغنموا منهم غنائم لا تُحصى كثرة، ونُهِبَ جميع وطاق تغري برمش وماله، وانهزم هو في جماعة يسيرة من خواصه إلى جهة التركمان الصوجية، ثم قبضوا عليه بعد ذلك، وكُتِبَ بقتل تغري برمش بعد عقوبته ليقِرَّ على أمواله، فعوقِبَ، فأقر على شيء من ماله، نحو الخمسين ألف دينار؛ ثم أُنزِلَ ونودي عليه تحت قلعة حلب، ثم ضُرِبَت عنُقُه.
هو الأميرُ محمدُ بنُ عبد الله بن علي بن رشيد، من شمر، أكبَرُ أمراءِ آل رشيد أيامَ حُكمِهم في حائل وما حولها. كان أبوه عبدُ الله قد لجأ إلى آل سعودٍ وأقامه الأميرُ فيصل بن تركي بن عبد الله أميرًا على حائل، وتوفِّيَ بها سنة 1263هـ، وخلفه ابنُه طلال فتوفي سنة 1283 وخَلَفه أخوه متعب فقتله ولَدَا أخيه بندر وبدر ابنا طلال سنة 1285، وقام محمد سنة 1288 فقتل خمسةً من أبناء أخيه طلال بينهم بندر وبدر، وترك سادسًا لهم اسمه نايف لصغر سنه، وتوطَّدَت له الإمارة. وامتَدَّ حُكمُه إلى أطراف العراق ومشارف الشام، ونواحي المدينة واليمامة وما يلي اليمن. وغلب على نجدٍ، وانتهز فرصةَ الخلاف بين أمراء آلِ سعود، فأدخل نجدًا في طاعتِه بعد أن قضى على دولتِهم في مرحلتها الثانية سنة 1309ه. وأَمِنَت المسالك في أيامِه، وفكَّرَ في إنشاءِ ميناء بحريٍّ لنجد، فحالت منيَّتُه دون ذلك. توفِّيَ بحائلٍ ولم يُعقِب ولدًا، فلمَّا مات خلفه ابنُ أخيه عبد العزيز بن متعب الذي قُتِلَ في المواجهة مع الملك عبد العزيز في معركة روضة مهنا بالقصيم سنة 1324.
هو الشيخُ خليفةُ بنُ حمد بن عبد الله بن قاسم بن محمد آل ثاني سادسُ أُمراءِ قطَرَ. وُلِدَ في 17 سبتمبر سنةَ 1932م، وكان قد تولَّى حُكمَ قطرَ بعدَ قِيامِه بانقلابٍ أبيضَ في عامِ 1971م استطاَع فيه أنْ يخلَعَ ابنَ عَمِّه أحمدَ بنَ عليِّ بنِ عبدِ اللهِ بنِ قاسمٍ، ويستوليَ على السُّلْطةِ، وتولَّى مقاليدَ الحكمِ. وفي بدايةِ عَهدِه أُقيمَت عَلاقات دُبلوماسية مع عددٍ من الدولِ على مُستوى السفراءِ لأولِ مرَّةٍ، وشارك الجيشُ القطريُّ في حربِ تحريرِ الكويتِ بقُوَّاتٍ بريَّةٍ وبَحريَّةٍ. وفي عامِ 1995 انقلَبَ عليه ابنُه وليُّ العهدِ الشيخُ حَمَدٌ وتولَّى مقاليدَ الحُكمِ. وعاشَ الشيخُ خليفةُ بعدها فترةً خارجَ قطرَ بينَ المملكةِ العربيَّةِ السعوديَّةِ ودولةِ الإماراتِ العربيةِ المتحدةِ وعِدَّةِ عواصمَ أوروبيةٍ في منفًى اختياريٍّ لمدةِ 9 سنَواتٍ. إلى أنْ عادَ لقطرَ سنةَ 2004 ليشارِكَ في تشييعِ جَنازةِ إحدى زوجاتِه التي كانَت تَعيشُ معه خارجَ قطَرَ، واستقبَلَه ابنُه حمَدٌ أميرُ قَطَرَ، وبقيَ الشيخُ خليفةُ في قطَرَ بعدَ تشييعِه لزَوجتِه، ولم تظهَرْ له أيُّ مُشاركةٍ سِياسيةٍ، وتُوفِّي -رحِمَه اللهُ- عن عمرٍ يُناهِزُ 84 عامًا.
وصل عسكرٌ كثيرٌ من مصر إلى ثغر صور بساحل الشام، فحصرها وملَكَها، وسبب ذلك أنَّ الواليَ بها -ويعرف بكتيلة- أظهر العصيانَ على المستعلي الفاطمي العبيدي صاحب مصر، والخروجَ عن طاعته؛ فسيَّرَ إليه جيشًا، فحصروه بها وضيقوا عليه وعلى من معه من جنديٍّ وعامي، ثم افتتحها عَنوةً بالسيف، وقُتِل بها خلقٌ كثير، ونُهِب منها المال الجزيل، وأُخذ الوالي أسيرًا بغير أمان، وحُمِل إلى مصر فقُتِل بها.