في منتصف جمادى الآخرة حمل عبدُ الله بن سعود وقواته على قواتِ إبراهيم باشا حتى قربوا من محطة العسكر, فثوَّرَ الروم مدافعَهم فخَفَّ بعض البوادي مع عبد الله ومَن نزلوا قرب جبل ماوية قبالةَ الروم، فثبت الرومُ بواديهم لَمَّا رأوه نزل فوجه مدافِعَهم إلى المسلمين ورموهم فأثَّرت فيهم، فأمر عبد الله على بعض المسلمين أن يرحَلوا وينزلوا الماء، فلما هموا بالرحيل خفَّت البوادي فتتابعت فيهم الهزيمةُ ووقع الرعبُ في قلوبهم فاتَّصلت الهزيمة في جموع قوات عبد الله، واختلطت الجموعُ بَعضُها في بعضٍ وتَبِعَهم الروم والبوادي وقتلوا رجالًا وأخذوا كثيرًا من السلاح وغيره، سقط في الأرض من أهل الركائب وركب عبد الله في كتيبةٍ مِن الخيل وحمى ساقة قواتِه، وهلك في تلك الهزيمة بين القتل والأسر والظمأ نحو 200 رجل، وهذا أول وهَنٍ في الدولة السعودية الأولى.
هو الأميرُ رابح بنُ فضل الله أو رابِحُ الزبير، كان زعيمًا سودانيًّا، وُلِدَ في عائلةٍ عربية في حلفاية الملوك، أحدِ ضواحي الخرطوم، كان والدهُ زعيمًا أو مَلِكًا على إحدى القبائل التي استوطَنَت مِنطقةَ بحر الغزال، التحق رابح بجيش "الزبير" إلَّا أنه عند بلوغه سن العشرين سافَر رابِحٌ إلى القاهرة، والتحق بجيش الخديوي إسماعيل في مصر، وعَمِلَ في سلاح الفرسان غيرِ النظاميِّين المصري أثناء حملةِ الحبشة، وقد أُصيبَ في تلك الحملة فأُبعِدَ عن الخدمة بالجيشِ، فآثر العودةَ إلى بلادِه، وكان والِدُه قد توفِّيَ قبل عودته، فانضمَّ رابحٌ إلى جيش الزبير، وأصبح في خدمتِه، حتى عُدَّ من كبار معاونيه المقرَّبين له؛ ولشِدَّةِ قُربِه من الزبير كان يسمَّى برابح الزبير وعُرِفَ به أكثر من رابح بن فضل الله، ولَمَّا توفي الزبير تولى رابحٌ قيادة الجيش، وتمكَّن من إقامة مملكةٍ إسلامية في منطقة "تشاد"، كانت عاصمتُها مدينة "ديكوا" ومات بعد قيام الفرنسيِّين بغزو مملكتِه والدخولِ إلى العاصمةِ "ديكوا" وقَتْلِه في المعركةِ.
إنَّ مما قام به الإنجليز في الهند لتوطيدِ بقائهم وسيطرتهم فيها أنْ عَمِلوا على إنشاءِ الفِرَق الضالَّة، أو على الأقلِّ دعمها أو السكوت عنها وتَرْكها تنشُرُ ضلالها، فكان مما عَمِلَته أن شجَّعَت مرزا غلام أحمد القادياني على إحياءِ ما دعا إليه المَلِك المغولي في الهند جلال الدين أكبر شاه المتوفَّى عام 1014ه. فأنشأ مرزا غلام القاديانية، وكتب البراهينَ الأحمدية، ثم تطوَّر أمره فادَّعى عام 1322هـ أنَّه المهدي المنتظَرُ، وأعلن أنَّ الإنجليز هم أولو الأمر، فيَجِبُ طاعتهم، ولا يصِحُّ الخروجُ عليهم ولا قتالُهم ولا الجهاد ضِدَّهم مع أحدٍ، وعَمِلَ على التوفيق بين الأديان، فادعى أنَّه يتقَمَّصُ روح المسيح عليه السلام وروحَ الإله كرشنا ربِّ الخير عند الهندوس!! وأصبح له أتباعٌ, وقَوِيَ أمرُه، وكان البريطانيون يدعمونه ويحمونه، ثم لَمَّا توفِّيَ عام 1326هـ انقَسَمت جماعتُه إلى قسمين: الأحمدية وتدَّعي أنه كان رجلًا مُصلِحًا، والقاديانية: وتقول بنبُوَّتِه وتدعو إلى ما كان عليه من أفكارٍ ومعتقداتٍ باطلةٍ.
في موسِمِ حَجِّ تلك السَّنةِ، في اليومِ الأوَّلِ مِن عيدِ الأضحى،رأى الإخوان (إخوان من أطاع الله) المحمَلَ القادِمَ مع الحجِّ المصري على جملٍ يتهادى بين الجموع، تحيطُ به موسيقاه وعساكِرُه، فقاموا يرشقونَه بالحجارة وهم بملابسِ الإحرام، ولم يكنْ مِن أمير الحج المصريِّ إلَّا أنْ أمَرَ بنَصبِ المدافع والرشَّاشات وإطلاق نيرانها على جموعِ الإخوانِ (إخوان من أطاع الله)، فقتل منهم خمسةً، وجرح آخَرون، ولَمَّا علم عبد العزيز بالخبر نهض من سرادِقِه، وأسرع يعدو إلى أن توسَّطَ بين الإخوان ونار الجند، وبَسَط ذراعيه يصيح: أنا عبد العزيز، أنا عبد العزيز، فهدأ إطلاقُ النار، وتدخَّل الجندُ السعودي، وانكَفَّ النَّاسُ، وأمَرَ بحجزِ المحمَلِ عن الأنظار، وترتَّبَ على هذا الحَدَث قَطعُ العلاقةِ مع مصرَ، وغضب الإخوان لأنَّه لم يقدِّمْ أميرَ الحجِّ المصري للشَّرعِ لِيُحاكمَ على قتله خمسةِ رجالٍ منهم وجَرْح آخرين.
لما رأى الحاج أمين الحسيني انحياز الإنجليز مع اليهود، لجأَ إلى قوة العالم الإسلامي؛ حيث دعا إلى عقد مؤتمر إسلامي رسمي في القُدس؛ ليُشعِرَ سلطات الانتداب بأنَّ عَرَبَ فلسطين ليسوا وحدهم، فهناك الملايين من العرب والمسلمين يساندونَهم. وافتتح المؤتمر الإسلامي الأول رسميًّا يوم الإسراء 7/12/1931، حضره حشدٌ كبير من العلماء والشخصيات السياسية، من أمثال الشيخ رشيد رضا، وعبد العزيز الثعالبي، وضياء الدين الطباطبائي، والشاعر محمد إقبال، وقد استنكروا فيه جميعَ أنواع الاستعمار وفي أي قطر من الأقطار الإسلامية، وأصدر المؤتمرُ عِدَّةَ قراراتٍ، منها: تأليف دائرة معارف إسلامية، وإنشاء جامعة أُطلِقَ عليها جامعة المسجد الأقصى، وتكوين شركة زراعية لإنقاذ الأراضي الفلسطينية. وكانت قراراتُ هذا المؤتمر دون طموحات الجماهير التي خرجت في مظاهراتٍ عَفْوية كبيرة عامي 1931 و1933 عمَّت معظم المدن الفلسطينية، وواجهَتْها السلطات البريطانية بالقمع الشديد.
بعد أن عاد هيلا سيلاسي إلى الحكم في عام 1361 / 1942م وبعد أن أتمَّ استئناف برامجه لتنصير المسلمين، جاءت الهيئاتُ التنصيرية السويدية بإيعازٍ منه إلى منطقة القراقي الإسلامية، والتي لا يوجَدُ فيها نصراني واحد، أو يهودي أو وثني، فهَبَّ شيخ المقاطعة عبد السلام يطالبُ عن طريق القانون منعَ دخول المنصِّرين إلى هذه المقاطعة الإسلامية؛ تجنُّبًا لِما يحدث من أضرار للمنَصِّرين، فاتهمته السلطاتُ بأنه يبَيِّت العدوان على المنصِّرين، فاعتقلَتْه وزجَّتْه في السجن، فاحتشد المسلمون في تلك المقاطعة أمام بيت الحاكم الأمهري، وطلبوا الإفراجَ عن الشيخ عبد السلام، فأخذ الجنود بضرب المسلمين، ثم تلاه إطلاقُ النار الذي خلَّف عشرات القتلى، وأعلن عن موت الشيخ بالسَّجنِ، فانتقم الأهالي بإحراقِ مراكز التنصير، فقام الإمبراطور هيلا سيلاسي بمنحِ أراضيهم الزراعية للمنَصِّرين، وشَرَّد من نجا مِن رَصاص جنودِه، وأصبحت القرية مِلكًا للنصارى بكامِلِها بعد أن كانت للمسلمين بأكمَلِها!
سيَّرَ نور الدين محمود بن زنكي عسكرًا كثيرًا إلى مصر، وجعل عليهم الأميرَ أسد الدين شيركوه بن شاذي، وهو مُقَدَّم عسكره، وأكبَرُ أمراء دولته، وأشجعُهم، وكان سبب إرسال هذا الجيش أنَّ شاور السعديَّ- وزيرَ العاضد لدين الله العُبَيدي، صاحِبِ مِصرَ- نازعه في الوزارة ضرغام، وغَلَبَ عليها، فهرب شاور منه إلى الشام، ملتجئًا إلى نور الدينِ ومُستجيرًا به، فأكرَمَ مثواه، وأحسَنَ إليه، وأنعم عليه، وكان وصولُه في ربيع الأول من هذه السنة، وطلب منه إرسالَ العساكر معه إلى مصر؛ ليعود إلى منصبه، ويكون لنور الدين ثلث دخل البلادِ بعد إقطاعات العسكَرِ، ويكون شيركوه مُقيمًا بعساكِرِه في مصر، ويتَصَرَّف هو بأمر نور الدين واختياره، ثمَّ قَوَّى عزمه على إرسال الجيوش، فتقدم بتجهيزِها وإزالة عِلَلِها، وكان هوى أسد الدين في ذلك، وعنده من الشجاعة وقُوَّةِ النفس ما لا يبالي بمخافة، فتجهز، وساروا جميعًا وشاوِر في صحبتهم، في جمادى الأولى، وتقدم نورُ الدين إلى شيركوه أن يعيدَ شاوِر إلى مَنصِبِه، وينتقم له ممَّن نازعه فيه، وسار نور الدين إلى طرفِ بلاد الفرنج مما يلي دمشق بعساكره؛ ليمنع الفرنج من التعرُّض لأسد الدين ومن معه، فكان قصارى الفرنج حِفظُ بلادهم من نور الدين، ووصل أسدُ الدين ومَن معه من العساكر إلى مدينة بلبيس، فخرج إليهم ناصر الدين أخو ضرغام بعسكَرِ المصريين ولَقِيَهم، فانهزم وعاد إلى القاهرة مهزومًا، ووصل أسدُ الدين فنزل على القاهرة أواخِرَ جمادى الآخرة، فخرج ضرغام من القاهرة آخر الشهر، فقُتل عند مشهد السيدة نفيسة، وبَقِيَ يومين، ثم حُمِل ودُفِن بالقرافة، وقُتل أخوه فارس، وخُلع على شاور مُستهَلَّ رجب، وأعيد إلى الوزارة، وتمكَّن منها، وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة، فغدر به شاوِر، وعاد عمَّا كان قرَّره لنور الدين من البلاد المصرية، ولأسد الدين أيضًا، وأرسلَ إليه يأمُرُه بالعود إلى الشام، فأعاد الجوابَ بالامتناع، وطلب ما كان قد استقَرَّ بينهم، فلم يُجِبْه شاوِر إليه، فلما رأى ذلك أرسَلَ نُوَّابَه فتسلموا مدينة بلبيس، وحكَمَ على البلاد الشرقية، فأرسل شاوِر إلى الفرنج يستمِدُّهم ويخوِّفُهم من نور الدينِ إن مَلَك مصر، وكان الفرنجُ قد أيقنوا بالهلاكِ إن تَمَّ مِلكُ نور الدين لمصر، فلما أرسل شاوِر يطلب منهم أن يساعِدوه على إخراجِ أسد الدين من البلاد جاءهم فَرَجٌ لم يحتَسِبوه، وسارعوا إلى تلبية دعوته ونُصرتِه، وطمعوا في ملك الديار المصرية، وكان قد بذل لهم مالًا على المَسيرِ إليه، وتجهَّزوا وساروا، فلما بلغ نور الدين ذلك سار بعساكِرِه إلى أطراف بلادِهم ليمتنعوا عن المسيرِ، فلم يمنَعْهم ذلك؛ لعِلمِهم أن الخطرَ في مُقامِهم إذا ملك أسدُ الدين مصر، أشدُّ، فتركوا في بلادِهم من يحفَظُها، وسار مَلِكُ القدس في الباقين إلى مصر، وكان قد وصل إلى الساحل جمعٌ كثير من الفرنج في البحرِ لزيارة البيت المقدس، فاستعان بهم الفرنجُ الساحلية، فأعانوهم، فسار بعضُهم معهم، وأقام بعضُهم في البلاد لحفظها، فلما قارب الفرنجُ مصر فارقها أسد الدين، وقصد مدينة بلبيس، فأقام بها هو وعسكَرُه، وجعلها له ظهرًا يتحصَّنُ به، فاجتمعت العساكرُ المصرية والفرنج، ونازلوا أسدَ الدين شيركوه بمدينة بلبيس، وحصروه بها ثلاثةَ أشهر، وهو ممتنعٌ بها مع أنَّ سورَها قصير جدًّا، وليس لها خندق، ولا فصيل يحميها، وهو يغاديهم القتالَ ويُراوِحُهم، فلم يبلغوا منه غرضًا، ولا نالوا منه شيئًا، فبينما هم كذلك إذ أتاهم الخبَرُ بهزيمة الفرنج على حارم، ومِلكُ نور الدين حارم، ومسيره إلى بانياس، فحينئذ سُقِطَ في أيديهم، وأرادوا العودةَ إلى بلادهم؛ ليحفظوها، فراسلوا أسدَ الدين في الصُّلحِ والعود إلى الشام، ومفارقة مِصرَ، وتسليم ما بيده منها إلى المصريِّين، فأجابهم إلى ذلك؛ لأنه لم يعلم ما فعله نورُ الدين بالشام بالفرنج، ولأنَّ الأقوات والذخائر قَلَّت عليهم، وخرج من بلبيس في ذي الحجة.
هو أميرُ المؤمنين، الناصِرُ لدينِ الله، أبو المطرِّف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن الداخل عبد الرحمن، كان أبوه محمَّدٌ وَلِي عَهْد والده عبد الله بن محمد، فقَتَله أخوه أبو القاسِمِ المطرِّف، فقَتَله أبوهما به. ولَمَّا قُتِلَ محمد، كان لابنِه عبد الرحمن عشرونَ يومًا. ووليَ الخلافةَ بعد جَدِّه عبد الله. قال ابن حزم: "كانت خلافتُه من المُستطرَف؛ لأنَّه كان شابًّا، وبالحَضرةِ جماعةٌ مِن أعمامه، وأعمامِ أبيه، فلم يعتَرِضْ معترِضٌ عليه. واستمَرَّ له الأمر وكان شهمًا صارِمًا ". نظر أهلُ الحَلِّ والعقدِ مَن يقومُ بأمرِ الإسلام، فما وجدوا في شبابِ بني أميَّةَ مَن يَصلُحُ للأمرِ إلَّا عبدُالرحمن بن محمد، فبايعوه، وطلب منهم المالَ فلم يَجِدْه، وطلب العُدَدَ فلم يجِدْها، فلم يزَل السَّعدُ يخدُمُه إلى أن سار بنَفسِه لابن حفصون، فوجده مجتازًا لوادي التُّفاح، ومعه أكثَرُ من عشرين ألف فارس, فهزمه وأفلت ابنُ حفصون في نفرٍ يسيرٍ، فتحصَّنَ بحِصن مبشر. ولم يزل عبدُ الرحمن يغزو حتى أقام العَوَج، ومهَّدَ البلاد، ووضع العدلَ، وكثُرَ الأمنُ، ثم بعث جيشًا إلى المغرب، فغزا سجلماسة، وجميعَ بلاد القبلة، وقتَلَ ابنَ حفصون. ولم تزَلْ كلمته نافذةً, وصارت الأندلسُ أقوى ما كانت وأحسَنَها حالًا، وصَفا وجهُه للروم، وشَنَّ الغاراتِ على العدُوِّ، وغزا بنَفسِه بلادَ الروم اثنتي عشرة غزوةً، ودوخَّهم، ووضع عليهم الخَراجَ، ودانت له ملوكُها، فكان فيما شرط عليهم اثنا عشر ألف رجلٍ يصنعون في بناء الزهراءِ التي أقامها لسُكناه على فرسخ من قُرطُبة. كلُّ مَن تقدَّمَ مِن آباءِ عبد الرحمن لم يتسَمَّ أحَدٌ منهم بإمرةِ المؤمنين، وإنما كانوا يُخاطَبونَ بالإمارة فقط، وفعل مِثلَهم عبدُ الرحمن إلى السَّنَةِ السابعة والعشرين مِن ولايته، وكان قد تلقَّبَ بأمير المؤمنين لما رأى مِن ضَعفِ الخلافةِ في بغداد, وظهورِ الشِّيعةِ العُبَيدية بالقيروان وادِّعائِهم لقبَ الخلافة، وما آلت إليه البلادُ مِن التفرُّقِ والتشَتُّت، فرأى أنَّه أحَقُّ بإمرةِ المؤمنين فتسمَّى بأمير المؤمنين وخليفةِ المُسلِمين سنة 316، ولم يزَلْ منذ وليَ الأندلسَ يستنزِلُ المتغلِّبينَ حتى صارت المملكةُ كُلُّها في طاعته، وأكثَرُ بلادِ العدوة، وأخاف ملوكَ الطوائف حوله. قال عبدُ الواحد المراكشي: " اتَّسَعت مملكة الناصر، وحَكَم على أقطار الأندلس، ومَلَك طنجةَ وسبتة وغيرَهما من بلاد العدوة، وكانت أيامُه كلُّها حروبًا, وعاش المسلمون في آثارِه الحميدة آمنينَ ". وقد ابتدأ الناصِرُ ببناء مدينة الزهراء في أوَّلِ سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، فكان يَقسِمُ دَخْلَ مملكتِه أثلاثًا: فثُلُثٌ يرصُدُه للجند، وثلُثٌ يدَّخِرُه في بيتِ المال، وثُلُثٌ ينفقه في الزهراء, وكان دخَلُ الأندلس خمسة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف وثمانين ألفًا، ومن السوق والمُستخلَص سبعمائة ألف دينار وخمسة وستون ألفًا. ويقال: إنَّ بناء الزهراء أُكمِلَ في اثنتي عشرة سنة، بألفِ بنَّاءٍ في اليومِ، مع البنَّاءِ اثنا عشر فاعلًا. حكى أبو الحسن الصفار: " أنَّ يوسف بن تاشفين مَلِكَ المغرب لَمَّا دخل الزهراء، وقد خَرِبَت بالنيران والهَدْمِ، من تسعين سنةً قبل دخولِه إليها، وقد نقل أكثَر ما فيها إلى قُرطُبة وإشبيليَّة، ونظر آثارًا تَشهَدُ على محاسنها، فقال: الذي بنى هذه كان سفيهًا. فقال أبو مروان بن سراج: كيف يكونُ سفيهًا وإحدى كرائمِه أخرجت مالًا في فداءِ أُسارى في أيَّامِه، فلم يوجَدْ ببلادِ الأندلسِ أسيرٌ يُفدَى ". وقد افتتح سبعينَ حِصنًا -رحمه الله. بدأ عبدَ الرَّحمنِ الناصرَ المرَضُ وبقي فترةً على ذلك، إلى أن توفِّيَ في هذه السنة في صدر رمضان، فكانت إمارتُه خمسين سنة وستة أشهر، ثم خَلَفه ابنُه الحكمُ الذي تلقَّبَ بالمُستنصِر.
لَمَّا فَرَغ عبدُ المؤمِنِ مِن فاس، سار إلى مراكشَ، وهي كرسيُّ مَملكةِ المُرابِطينَ، وهي مِن أكبَرِ المُدُنِ وأعظَمِها، وكان صاحِبُها حينئذ إسحاقَ بنَ عليِّ بنِ يوسف بن تاشفين، وهو صَبيٌّ، فنازلها، فضَرَب خيامَه في غَربيِّها على جَبَل صغيرٍ، وبنى عليه مدينةً له ولِعَسكَرِه، وبنى بها جامِعًا وبنى له بناءً عاليًا يُشرِفُ منه على المدينةِ، ويرى أحوالَ أهلِها وأحوالَ المُقاتِلينَ مِن أصحابِه، وقاتَلَها قِتالًا كثيرًا، وأقام عليها أحدَ عَشَرَ شَهرًا، فكان مَن بها من المُرابِطينَ يَخرُجونَ يُقاتِلونَهم بظاهرِ البلد، واشتد الجوعُ على أهلِه، وتعَذَّرَت الأقواتُ عِندَهم. ثمَّ زَحَف إليهم يومًا، وجعل لهم كمينًا، وقال لهم: إذا سَمِعتُم صوتَ الطَّبلِ فاخرُجوا. تقَدَّمَ عَسكَرُه، وقاتلوا، وصَبَروا، ثمَّ انهزموا لأهلِ مراكش لِيَتبَعوهم إلى الكمينِ الذي لهم، فتَبِعَهم المُلَثَّمونَ إلى أن وصلوا إلى مدينةِ عبد المؤمن، فهَدَموا أكثَرَ سُورِها، وصاحت المَصامِدة بعبدِ المؤمِنِ ليأمُرَ بضَربِ الطَّبلِ لِيَخرُجَ الكَمينُ، فقال لهم: اصبِروا حتى يَخرُجَ كُلُّ طامعٍ في البَلَدِ، فلمَّا خرج أكثَرُ أهلِه، أمر بالطَّبلِ فضُرِبَ وخَرَج الكمينُ عليهم، ورجَعَ المصامِدةُ المُنهَزمينَ إلى المُلَثَّمينَ، فقتلوا كيف شاؤوا، وعادت الهزيمةُ على المُلَثَّمين، فمات في زحمةِ الأبوابِ ما لا يُحصيه إلَّا اللهُ سُبحانَه. وكان شيوخُ المُلَثَّمين يُدَبِّرونَ دَولةَ إسحاقَ بنِ علي بن يوسف لصِغَرِ سِنِّه، فاتفق أنَّ إنسانًا مِن جملتهم يقال له عبدُ الله بن أبي بكر خرج إلى عبدِ المؤمِنِ مُستأمِنًا وأطلعه على عَوراتِهم وضَعْفِهم، فقَوِيَ الطمعُ فيهم، واشتَدَّ عليهم البلاءُ، ونُصِبَ عليهم المنجنيقاتُ والأبراجُ، وفَنِيَت أقواتُهم، وأكلوا دوابَّهم، ومات مِن العامَّةِ بالجوعِ ما يزيدُ على مئة ألف إنسان، فأنتن البَلَدُ مِن ريحِ الموتى. وكان بمراكش جيشٌ مِن الفرنج كان المرابِطونَ قد استنجدوا بهم، فجاؤوا إليهم نجدةً، فلمَّا طال عليهم الأمرُ، راسلوا عبد المؤمِنِ يسألونَ الأمانَ فأجابَهم إليه، ففَتَحوا له بابًا من أبواب البلدِ يقال له بابُ أغمات، فدخَلَت عساكِرُه بالسيف، وملكوا المدينةَ عَنوةً، وقَتَلوا مَن وجدوا، ووصلوا إلى دارِ أمير المُسلِمينَ، فأخرجوا الأميرَ إسحاقَ وجميعَ مَن معه من أمراء المرابطين فقُتِلوا، وجَعَل إسحاقُ يرتَعِدُ رَغبةً في البقاء، ويدعو لعبدِ المؤمِنِ ويبكي، فقام إليه سَيرُ بن الحاج، وكان إلى جانِبِه مكتوفًا فبَزَق في وجهِه، وقال: تبكي على أبيك وأمِّك؟ اصبِرْ صَبْرَ الرجالِ؛ فهذا رجلٌ لا يخافُ اللهَ ولا يَدينُ بدِينٍ. فقام الموحِّدونَ إلى ابنِ الحاجِّ بالخَشَبِ فضَرَبوه حتى قَتَلوه، وكان من الشُّجعانِ المعروفين بالشجاعة، وقُدِّمَ إسحاقُ على صِغَرِ سِنِّه، فضُرِبَت عُنُقُه سنة 542، وهو آخِرُ ملوكِ المرابطين، وبه انقَرَضَت دولتُهم، وكانت مُدَّةُ ملكِهم سبعين سَنة، ووَلِيَ منهم أربعةٌ: يوسف، وعلي، وتاشفين، وإسحاق. ولَمَّا فتَحَ عبدُ المؤمِنِ مراكش أقام بها، واستوطَنَها واستقَرَّ مُلكُه. قال ابنُ الأثير: "لَمَّا قَتَل عبدُ المؤمن مِن أهلِ مراكش فأكثَرَ فيهم القَتلَ، اختفى مِن أهلِها، فلَمَّا كان بعد سَبعةِ أيَّامٍ أمَرَ فنُودِيَ بأمانِ مَن بَقِيَ مِن أهلِها، فخَرَجوا، فأراد أصحابُه المَصامِدةُ قَتْلَهم، فمَنَعَهم، وقال: هؤلاء صُنَّاعٌ، وأهلُ الأسواقِ مَن ننتَفِعُ به، فتُرِكوا، وأمَرَ بإخراجِ القتلى مِن البَلَد، فأخرَجوهم، وبنى بالقَصرِ جامِعًا كبيرًا، وزخرَفَه فأحسَنَ عَمَلَه، وأمر بهَدمِ الجامع الذي بناه أميرُ المُسلِمينَ يوسُفُ بن تاشفين. ولقد أساء يوسُفُ بن تاشفين في فِعْلِه بالمُعتَمِد بنِ عَبَّاد صاحِبِ إشبيلية، وارتكَبَ بسَجنِه على أسوأِ حالةٍ وأقبَحِ مَركَبٍ، فلا جرَمَ سَلَّطَ الله عليه في عَقِبه مَن أربى في الأخذِ عليه وزاد، فتبارك الحيُّ الدائِمُ الملك، الذي لا يزولُ مُلكُه، وهذه سُنَّةُ الدنيا، فأُفٍّ لها، ثمَّ أُفٍّ، نسألُ اللهَ أن يَختِمَ أعمالَنا بالحُسنى.
هو الإمامُ العلَّامة المحدِّث، الحافظ الكبيرُ المفتي شيخ الإسلام، شرف المعمرين، أبو طاهرٍ أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم الأصبهاني، الجرواني السِّلَفي بكسر السين وفتح اللام. يلقب جَدُّه أحمد سِلفة- أي أشرم الشفة- وأصله بالفارسية سِّلبة، وكثيرًا ما يمزجون الباء بالفاء فسَمَّته الأعاجم لذلك السِّلَفي، والسَّلَفي -بفتحتين- وهو من كان على مذهَبِ السلف، وكان يلقب بصدر الدين، وكان شافعيَّ المذهب، ولد سنة 475، أو قبلها بسنة، قال السِّلَفي: "أنا أذكُرُ قتل الوزير نظام الملك وكان عمري نحو عشر سنين، قتل سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وقد كُتِبَ عني بأصبهان أول سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وأنا ابن سبع عشرة سنة أو أكثر، أو أقل بقليل، وما في وجهي شعرة، كالبخاري- يعني لَمَّا كتبوا عنه-". ورَدَ السِّلَفي بغداد وله أقل من عشرين سنة, واشتغل بها على الكيا الهراسي، وأخذ اللغةَ عن الخطيب أبي زكريا يحيى بن علي التبريزي. سمِعَ الحديث الكثير ورحل في طلبِه إلى الآفاق ثمَّ نزل ثغر الإسكندرية في سنة 511، وبنى له العادل أبو الحسن علي بن السلار وزير الظافر العبيدي مدرسةً، وفوَّضها إليه، وأما أماليه وكتبه وتعاليقه فكثيرة جدًّا، وبقي بالإسكندرية بضعًا وستين سنة, وهو ينشُرُ العلم، ويحَصِّل الكتب التي قلَّ ما اجتمع لعالمٍ مثلُها في الدنيا. ارتحل إليه خلق كثير جدًّا، ولا سيما لما زالت دولة الرَّفض العُبيدية الفاطمية عن مصر، وتملَّكَها عسكر الشام. ارتحل إلى السِّلَفي السُّلطانُ صلاح الدين وإخوته وأمراؤه، فسَمِعوا منه, وله تصانيفُ كثيرة، منها تخريج (الأربعين البلدية) التي لم يُسبَقْ إلى تخريجها، وقلَّ أن يتهيأ ذلك إلا لحافظ عُرِفَ باتساع الرحلة, وله (السفينة الأصبهانية) في جزء ضخم، و(السفينة البغدادية) في جزأين كبيرين، و(مقدمة معالم السنن)، و(الوجيز في المجاز والمجيز)، و(جزء شرط القراءة على الشيوخ)، و(مجلسان في فضل عاشوراء)، وكان يستحسن الشعر، ويَنظِمُه, وكان جيِّدَ الضبط، كثير البحث عما يُشكِلُ عليه. كان أوحد زمانه في علم الحديث، وأعرَفَهم بقوانين الرواية والتحديث، وكان عاليَ الإسناد؛ فقد روى عن الأجداد والأحفاد، وبذلك كان ينفرد عن أبناء جنسه. قال أبو سعد السمعاني: "السِّلَفي: ثقة، ورِع، متقن، متثبت، فَهِم، حافظ، له حظٌّ من العربية، كثير الحديث، حسن الفهم والبصيرة فيه". توفي في الإسكندرية عن عمر تجاوز المائة سنة.
هو أبو الفتوح الملك الصَّالح إسماعيلُ- صاحب حلب- بن نور الدين محمود بن الأتابك زنكي, وصى له والده محمود بمملكته وهو ابن إحدى عشرة سنة، فملَّكوه بدمشق، وحلفوا له بحلب، فأقبل صلاح الدين من مصر، وأخذ منه دمشق، فترحل إسماعيل إلى حلب، وكان شابًا ديِّنًا خَيِّرًا، عاقلًا بديع الجمال، محبَّبًا إلى الرعية وإلى الأمراء، ثم سار السلطان صلاح الدين، وحاصر حلب مُدَّةً، ثم ترحل عنها، ثم حاصرها، فصالحوه، وبذلوا له المعرَّةَ وغيرها، ثم نازل حلب ثالثًا، فبذل أهلُها الجهد في نصرة الملك الصالح، فلما ضَجِرَ السلطان، صالَحَهم وترحل، وأخرجوا إليه بنت نور الدين، فوَهَبها عزاز- بليدة قريبة من حلب- وكان تدبير مملكة حلب إلى أم الملك الصالح، وإلى شاذبخت الخادم وابن القيسراني. تعلل الملك الصالحُ بقولنج خمسة عشر يومًا، "فلما اشتد به المرض عَرَض عليه طبيبه خمرًا للتداوي، فأبى، وقال: قد قال نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إن الله لم يجعَلْ شفاءَ أمتي فيما حَرَّمَ عليها))، ولعلي أموتُ وهو في جوفي. ولما اشتد مرضُه أحضر الأمراء، وسائر الأجناد، ووصَّاهم بتسليم البلد إلى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، واستحلفهم على ذلك، فقال له بعضهم: إنَّ عماد الدين ابن عمك أيضًا، وهو زوجُ أختك، وكان والدُك يحِبُّه ويؤثره، وهو تولى تربيتَه، وليس له غير سنجار، فلو أعطيتَه البلد لكان أصلحَ، وعز الدين له من البلاد من نهر الفرات إلى همذان، ولا حاجة به إلى بلدك، فقال له: إن هذا لم يغِبْ عني، ولكن قد عَلِمتُم أن صلاح الدين قد تغلَّبَ على عامة بلاد الشام سوى ما بيدي، ومتى سَلَّمتُ حلب إلى عماد الدين يعجِزُ عن حفظها، وإن ملكها صلاحُ الدين لم يبق لأهلنا معه مقامٌ، وإنْ سَلَّمتُها إلى عز الدين أمكَنَه حِفظُها بكثرة عساكره وبلادِه، فاستحسنوا قوله، وعجبوا من جودة فطنته مع شِدَّةِ مَرَضِه وصِغَرِ سنه. توفي في رجب، وعمره نحو تسع عشرة سنة, ولما قضى نحبه أرسل الأمراء إلى أتابك عز الدين يستدعونه إلى حلب، فسار هو ومجاهد الدين قايماز إلى الفرات، وأرسل فأحضر الأمراءَ عنده من حلب، فحضروا وساروا جميعًا إلى حلب، ودخلها في العشرين من شعبان، وكان صلاح الدين حينئذ بمصر، فأقام أتابك عز الدين مسعود بحلب عدة شهور، ثم سار عنها إلى الرقَّة.
هي رضية الدين بنت السلطان شمس الدين ألتمش المؤسس الحقيقي لدولة المماليك بالهند، وقد اشتهر ألتمش بالعدل وتحقيق الأمن في دولته. وكان ألتمش يحب ابنته ويقدمها على إخوانها الذكور لما يتوسم فيها من النجابة والهمة العالية, كما أنها كانت غاية في الحسن والجمال وعذوبة المنطق؛ لذا كان يسند إليها بعض المهام، حتى إنه فكَّر في أن يجعلها وليَّة للعهد دون إخوانها الذكور الذين انشغلوا باللهو والملذات، فلما مات ألتمش خلفه ابنه ركن الدين فيروز، غير أنه كان منشغلًا عن مسئولية الحكم وتبعاته باللهو واللعب، تاركًا تصريف أمور دولته إلى أمِّه التي استبدَّت بالأمر وهو ما جعل الأحوال تزداد سوءًا، وتشتعل المعارضة ضده، وانتهت الأزمة بأن بايع كثير من الأمراء رضية الدين بنت ألتمش، وأجلسوها على عرش السلطنة. وقد تحقق ما كان يراه أبوها ولا يراه سواه ممن كانوا يعترضون عليه إيثاره لها. جلست رضية الدين على عرش سلطنة دلهي نحو أربع سنوات 634-637 (1236-1369م) بذلت ما في وسعها من طاقة لتنهض بالبلاد التي خوت خزائنها من المال لإسراف أخيها، وسارت على خطا أبيها في سياسته الحكيمة العادلة في بداية الأمر، لكنها اصطدمت بالعلماء وكبار أمراء الملوك الذين يشكلون جماعة الأربعين، ويستأثرون بالسلطة والنفوذ، وحاولت الملكة جاهدة أن تسوسهم، وتحتال على تفريق كلمتهم، وتعقُّب المتمردين والثائرين عليها، وكانت تظهر بمظهر الرجال، وتجلس على العرش والعباءة عليها، والقلنسوة على رأسها وتقود جيشها وهي تمتطي ظهر فيلِها. ولما استقرت أحوال مملكتها انصرفت إلى تنظيم شؤونها، فعينت وزيرًا جديدًا للبلاد، وفوَّضت أمر الجيش إلى واحد من أكفأ قادتها هو سيف الدين أيبك، ونجحت جيوشها في مهاجمة قلعة رنتهبور وإنقاذ المسلمين المحاصرين بها، وكان الهنود يحاصرون القلعة بعد وفاة أبيها السلطان التمش. غير أن هذه السياسة لم تلق ترحيبًا من مماليك سلطنتها الذين أنِفوا أن تحكمهم امرأة، وزاد من بغضهم لهذا الأمر أن السلطانة رضية أخذت تتمرد على قيم الدين الإسلامي وحاربت الناصحين لها خاصة من العلماء. كما قرَّبت إليها رجلًا حبشيًّا مملوكا يُدعى جمال الدين ياقوت، كان يشغل منصب قائد الفرسان، ولم تستطع السلطانة أن تُسكت حركات التمرد التي تقوم ضدها، كما كانت تفعل في كل مرة، فاجتمع عليها المماليك وأشعلوا الثورة ضدها، وحاولت أن تقمعها بكل شجاعة، لكنها هُزمت، وانتهى الأمر بقتلها في 25 ربيع الأول 637 (25 أكتوبر 1239م) وتولِّي أخيها السلطان معز الدين عرش البلاد.
لما كان يومُ الرابع والعشرين شعبان ركب الأتابكُ برقوق من الإسطبل السلطاني في حواشيه ومماليكه للتسير على عادته، وكان الأميرُ بركة الجوباني مسافرًا بالبحيرة للصيد، فلما بلغ إينال اليوسفي أمير سلاح ركوبُ برقوق من الإسطبل السلطاني، انتهز الفرصة لركوبِ برقوق وغَيبة بركة، وركب بمماليكِه وهجم الإسطبلَ السلطانيَّ ومَلَكَه، ومسَكَ الأميرَ جركس الخليلي، وكان مع إينال جماعةٌ من الأمراء ولما طلع إينال إلى باب السلسلة وملكها، أرسل الأميرَ قماري ليَنزِلَ بالسلطان الملك المنصور إلى الإسطبل، فأبى السلطانُ من نزوله ومنعه، ثم كبس إينال زردخاناه-خزانة السلاح- برقوق، وأخرج منها اللَّبوسَ وآلة الحرب، وأخذ مماليكَ برقوق الذين كانوا وافقوه وألبسهم السلاحَ وأوقفهم معه وأوعدهم بمالٍ كبير وإمريات، وبلغ برقوقًا الخبَرُ فعاد مسرعًا، وجاء إلى بيت الأمير أيتمش البجاسي بالقرب من باب الوزير وألبس مماليكَه هناك، وجاءه جماعةٌ من أصحابه، فطلع بالجميع إلى تحت القلعة وواقعوا إينال اليوسفي، وأرسل برقوقٌ الأميرَ قرط في جماعة إلى باب السلسلة الذي من جهةِ باب المدرج، فأحرَقَه، ثم تسَلَّقَ قرط من عند باب سر قلعة الجبل، ونزل ففتح لأصحابِه الباب المتَّصِلَ إلى الإسطبل السلطاني، فدخلت أصحابُ برقوق منه وقاتلت إينال، وصار برقوقٌ بمن معه يقاتل من الرميلة، فانكسَرَ إينال ونزل إلى بيته جريحًا من سَهمٍ أصابه في رقبَتِه من بعض مماليك برقوق، وطلع برقوقٌ إلى الإسطبل وملكه، وأرسل إلى إينال من أحضره، فلما حضَرَ قَبَض عليه وحَبَسه بالزردخاناه، وقَرَّره بالليل فأقَرَّ أنه ما كان قصده إلَّا مَسْكَ بركة لا غير، ثم إن برقوق مسك جماعةً من الأمراء وغيرِهم من أصحاب إينال اليوسفي، ما خلا سودون النوروزي، جمق الناصري وشَخصًا جنديًّا يسمى أزبك كان يدعي أنه من أقارب برقوق، ثمَّ حُمِلَ إينال في تلك الليلة إلى سجن الإسكندرية ومعه سودون جركس، ثمَّ أخذ برقوق في القبض على مماليك إينال اليوسفي، ونودِيَ عليهم بالقاهرة ومصر، ثم في الثامن والعشرين من شعبان حضر الأمير بركة من السرحة، فركب الأتابك برقوق وتلقَّاه من السحر وأعلمه بما وقع من إينال اليوسفي في حَقِّه، ثم اتفقا على طلب الأمير يلبغا الناصري من نيابة طرابلس، فحضر وأنعم عليه بإقطاع إينال اليوسفي ووظيفته إمرة سلاح، وكانت وظيفةُ يلبغا قبل إينال، وتولَّى مكانَه في نيابة طرابلس منكلي بغا الأحمدي البلدي، ثم استقَرَّ بلوط الصرغتمشي في نيابة الإسكندرية.
لما أخذ السلطان سليم الأول مصر ورأى غالبَ حكامِها من المماليك الذين وَرِثوها عن ساداتهم؛ رأى أنَّ بُعدَ الولايةِ عن مركز الدولة ربما أوجب خروجَ حاكِمِها عن الطاعة وتطَلُّبَه الاستقلال، فجعل حكومة مصر منقسمةً إلى ثلاثة أقسام، وجعل في كل قسم رئيسًا، وجعلهم جميعًا منقادين لكلمة واحدة هي كلمة وزير الديوان الكبير، وجعله مركَّبًا من الباشا الوالي من قِبَله، ومن بيكوات السبع وجاقات، وجعل للباشا مزيةَ توصيل أوامر السلطان إلى المجلس وحَفْظ البلاد وتوصيل الخَراج إلى القسطنطينية، ومنع كلًّا من الأعضاء العلو على صاحبه، وجعل لأعضاء المجلس مزيةَ نقضِ أوامر الباشا بأسبابٍ تبدو لهم وعزله إن رأوا ذلك، والتصديق على جميع الأوامر التي تصدر منه في الأمور الداخلية، وجعل حكَّام المديريات الأربع والعشرين من المماليك، وخَصَّهم بمزية جمع الخَراج في البلاد، وقَمْع العُربانَ وصَدهم عنها والمحافظة على ما في داخلها، وكل ذلك بأوامر تصدرُ لهم من المجلس، وجردَّهم عن التصرف من أنفسِهم، ولقب أحدَهم المقيم بالقاهرة بشيخ البلد، ثم رتب الخراج وقسَّمه أقسامًا ثلاثة، وجعل من القسم الأول ماهية عشرين ألف عسكري بالقطر من المشاة واثني عشر ألفا من الخيالة، والقسم الثاني يرسَل إلى المدينة المنورة ومكة المشرفة، والقسم الثالث يرسَل إلى خزينة الباب العالي، ولم يلتفت إلى راحة الأهالي بل تركها عُرضةً للمضارِّ كما كانت، ومن هذا الترتيب تمكَّنت الدولة العلية من إبقاء الديار المصرية تحت تصرفِها نحو مائتي سنة، ثم أهملت بعد ذلك هذه القوانينَ التي وضعها السلطانُ سليم من حين استيلائِه عليها، وكانت هي الأساس، ولم تلتفت الدولة لما كان يحصُلُ من المماليك من الأمور المخِلَّة بالنظام، فضعُفَت شوكة الدولة وهيبتُها التي كانت لها على مصر، وأخذ البكوات تُكثِرُ من المماليك وتتقَّوى بها، حتى فاقت بقوتها الدولة العثمانية في الديار المصرية، فآل الأمر والنهي لهم في الحكومةِ، وصارت الدولة صوريةً غيرَ حقيقية، وسبب ذلك إكثارُهم من شراء المماليك، ولو كانت الدولة العليَّة تنبهت لهذا الأمر ومنعت بيعَ الرقيقِ، لكانت الأمور باقيةً على ما وضعه السلطان سليم، ولكن غفَلَت عن هذا الأمر كما غفَلَت عن أمور كثيرة؛ ولذلك لحق الأهالي الذلُّ والإهانة، وهاجر كثيرٌ منهم إلى الديار الشامية والحجازية وغيرهما، وخربت البلاد، وتعطلت الزراعة من قلة المزارعين وعدم الاعتناء بتطهير الجداول والخلجان التي عليها مدار الخصب، ونتج من ذلك ومن خوف الدولة العليَّة مِن تمكُّن الباشا في الحكومة: أن تغلَّبَ البكواتُ وصارت كلمتُهم هي النافذةَ، وانفردوا بالتصَرُّف.
هو علي محمد ابن المرزا رضى البزَّاز الشيرازي الملقَّب بالباب مؤسِّس فرقة "البابية" وهي إحدى الفِرَق التي حرَّفت العقيدة الإسلامية، وهي أصلُ فرقة البهائية, وهو إيرانيُّ الأصل، ولِدَ بشيراز سنة 1235هـ، ومات أبوه وهو رضيعٌ، فرَبَّاه خاله المرزا سيد علي التاجر، ونشأ في أبي شهر فتعَلَّم مبادئَ القراءة بالعربية والفارسية، وتلقى شيئًا من علوم الدين، وتقشَّف، فكان يمكث في الشَّمسِ ساعات عديدة. وأثَّر ذلك في عَقلِه، ولَمَّا بلغ الخامسةَ والعشرين سنة 1260هـ جاهَرَ بعقيدة ظاهِرُها توحيد الأديان، وقِوامُها تلفيقُ دينٍ جديد. والبابيَّةُ فرقةٌ ضالةٌ كافرةٌ مَوطِنُها الأول إيران، وسمِّيت "بالبابية" نسبة لزعيمِها الأول، والذي لقَّب نفسَه بالباب. وإن كانت البابيةُ في أصلها بيضةً رافضيةً إلَّا أنها اتُّهِمَت بقضية تدرج مؤسسيها في الكذب، وأنها دُعِمَت مِن قِبَل الغرب الكافر. فقد ادعى مؤسِّسُها " علي محمد الشيرازي " عام 1260هـ لنفسه أنَّه الباب والوسيلة للوصولِ إلى الإمام المنتظر، ثم تحوَّل عن ذلك وزعَمَ أنَّه هو بعينه الإمام المنتظر عند الباطنية، ثم تجاوز ذلك وزعم أنَّه نبي مرسَلٌ وأنَّ له كتابًا أفضل من القرآن اسمه "البيان"، وبعد ذلك تطور به الأمرُ وزعم أن الإله حلَّ فيه -تعالى الله عما يقول علوًّا كبيرًا- وقد أوعزت اليهوديَّةُ العالمية إلى يهود إيران أن ينضمُّوا تحت لواء هذه الحركة بصورةٍ جماعية، ففي طهران دخل فيها (150) يهوديًّا، وفي همدان 100 يهودي، وفي كاشان 50 يهوديًّا، وفي منطقة كلبا كليا 85 يهوديًّا، كما دخل حبرانِ من أحبار اليهود إلى البابيَّة في همدان، وهما: الحبر الباهو، والحبر لازار. ودخول هذا العدد الكبيرِ مِن اليهود في مدَّةٍ قصيرة في هذه النِّحْلة يكشِفُ الحجم الكبير للتآمُرِ، والأهدافَ الخطيرة التي يسعى اليهودُ لتحقيقها من وراء دَعمِ هذه الحركات التي تُسعَّرُ ضِدَّ الإسلام والمسلمين. ولَمَّا خشيت حكومة إيران الفتنةَ بسبب دعوته سجَنَت بعض أصحابه. وانتقل هو إلى شيراز، ثم إلى أصبهان، فتلقى حاكمُها أمرًا بالقبض على الباب، فاعتُقل وسُجِنَ في قلعة "ماكو" بأذربيجان، ثم انتقل إلى قلعة "جهريق" على أثر فتنة بسببه، ومنها إلى تبريز، وحُكِم عليه فيها بالقتل وذلك بفتوى من العلماء بارتدادِه، فأُعدِمَ رميًا بالرصاص. وألقِيَ جسَدُه في خندق تبريز، فأخذه بعضُ مريديه إلى طهران. وفي حيفا (بفلسطين) قبر ضخمٌ للبهائية يقولون إنهم نقَلوا إليه جثَّةَ الباب خِلسةً, وله عدة مصنفات، منها كتاب "البيان" طُبِع بالعربية والفارسية.