كثُرَ فَسادُ العُربان بالوجه القبلي، وتعَدَّى شَرُّهم في قَطعِ الطَّريقِ إلى أن فَرَضوا على التجَّار وأرباب المعايش بأسيوط ومنفلوط فرائِضَ جَبَوها شبه الجماليَّة، واستخَفُّوا بالولاة ومنعوا الخراجَ، وتَسَمَّوا بأسماء الأمراء، وجعلوا لهم كبيرينِ أحدهما سَمَّوه بيبرس، والآخر سلار، ولبسوا الأسلحةَ وأخرجوا أهلَ السُّجونِ بأيديهم، فاستدعى الأمراءُ القُضاةَ والفُقَهاءَ، واستفتَوهم في قتالِهم، فأفتَوهم بجواز ذلك، فاتَّفَق الأمراء على الخروج لقتالِهم وأخْذِ الطرق عليهم، لئلا يمتَنِعوا بالجبالِ والمفاوزِ فيَفوتَ الغَرَضُ فيهم، فاستدعَوا الأمير ناصر محمد بن الشيخي متولي الجيزية, وغيرَه من ولاة العمل، وتقَدَّموا إليه بمنع الناسِ بأَسرِهم من السفر إلى الصعيدِ في البَرِّ والبحر، ومَن ظَهَر أنه سافر كانت أرواحُ الولاة قبالةَ ذلك، فاشتَدَّ حِرصُهم، وأشاع الأمراءُ أنَّهم يريدون السَّفَرَ إلى الشام، وكُتِبَت أوراق الأمراء المسافرين، وهم عشرونَ مُقَدَّمًا بمضافيهم، وعيَّنوا أربعة أقسام: قسمٌ يتوَجَّهُ في البر الغربي من النيلِ، وقِسمٌ في البَرِّ الشرقي، وقِسمٌ يركب النيل، وقِسمٌ يمضى في الطريق السالكةِ، وتوجه الأميرُ شمس الدين سنقر الأعسر إلى جهة ألواح في خمسةِ أمراء، وقرر أن يتأخَّرَ مع السلطان أربعةُ أمراء من المقَدَّمين، وتقَدَّمَ إلى كُلِّ مَن تعَيَّنَ لجهة أن يضَعَ السَّيفَ في الكبير والصَّغيرِ والجليل والحقير، ولا يُبقُوا شيخًا ولا صبيًّا، ويحتاطوا على سائِرِ الأموال، وسار الأميرُ سلار في رابع جمادى الآخرة ومعه جماعةٌ من الأمراء في البر الغربي، وسار الأميرُ بيبرس بمن معه في الحاجر في البر الغربي على طريق الواحات، وسار الأميرُ بكتاش أميرُ سلاحٍ بمن معه إلى الفيوم وسار الأميرُ بكتمر الجوكندار بمن معه في البرِّ الشرقي، وسار قتالُ السبع وبيبرس الدوادار وبلبان الغلشي وعرب الشرقية إلى السويس والطور، وسار الأميرُ قبجق ومن معه إلى عقبةِ السَّيل، وسار طقصبا والي قوص بعرب الطاعةِ وأخذ عليهم المفازاتِ، وضَرَبَ الأمراءُ على الوجه القبلي حلقةً كحلقةِ الصيدِ، وقد عُمِّيَت أخبارُهم على أهل الصعيد، فطَرَقوا البلادَ على حينِ غَفلةٍ مِن أهلها، ووضَعوا السيفَ في الجيزيَّة بالبر الغربيِّ والإطفيحية من الشرق، فلم يتركوا أحدًا حتى قَتَلوه، ووسطوا نحو عشرة آلاف رجلٍ، وما منهم إلَّا من أخذوا مالَه وسَبَوا حريمه، فإذا ادَّعى أحدٌ أنَّه حَضَريٌّ قيل له قل: دقيق، فإن قال بقاف العَرَبِ قُتِلَ، ووقع الرعبُ في قلوبِ العُربان حتى طَبَّق عليهم الأمراءُ، وأخَذوهم مِن كُلِّ جِهةٍ فَرُّوا إليها، وأخرَجوهم من مخابِئِهم حتى قَتَلوا مَن بجانبي النيلِ إلى قوص، وجافت الأرضُ بالقتلى، واختفى كثيرٌ منهم بمغائِرِ الجبالِ، فأُوقِدَت عليهم النيرانُ حتى هلكوا عن آخِرِهم، وأُسِرَ منهم نحوُ ألف وستمائة لهم فلاحات وزروع، وحَصَل من أموالهم شيءٌ عَظيمٌ جدًّا تفَرَّقَتْه الأيدي، وأُحضِرَ منه للديوان ستة عشر ألف رأسٍ من الغنم، من جملةِ ثمانين ألف رأسٍ ما بين ضأن وماعز، ونحو أربعةِ آلاف فرس واثنين وثلاثين ألف جمل، وثمانية آلاف رأس من البقر، غيرَ ما أُرصِدَ في المعاصر، ومن السِّلاحِ نحو مائتين وستين حملًا ما بين سيوف ورماح، ومن الأموالِ على بغالٍ مُحَمَّلة مائتين وثمانين بغلًا، ثم عاد العسكَرُ في سادس عشر رجب، وقد خلت البلادُ بحيث كان الرجلُ يمشي فلا يجِدُ في طريقه أحدًا، وينزِلُ بالقرية فلا يرى إلا النِّساءَ والصِّبيانَ والصِّغارَ، فأفرجوا عن المأسورينَ وأعادوهم لحِفظِ البلاد، وكان الزَّرعُ في هذه السنة بالوجه القبلي عظيمًا إلى الغاية، تحصَّلَ منه ما لم يُقدَرْ قَدرُه كَثرةً.
سار أبو طاهر سليمان القرمطيُّ إلى الهَبِير في عسكرٍ عظيم ليلقى الحاجَّ في رجوعِهم من مكَّة، فأوقع بقافلةٍ تقدَّمت معظمَ الحاجِّ، وكان فيها خلقٌ كثيرٌ مِن أهل بغدادَ وغيرهم، فنهَبَهم، واتَّصل الخبر بباقي الحاجِّ وهم بفَيد، فأقاموا بها حتَّى فني زادُهم، فارتحلوا مسرعينَ، وكان أبو الهيجاء بن حَمدان قد أشار عليهم بالعَودِ إلى وادي القُرى، وأنَّهم لا يقيمون بفَيد، فاستطالوا الطريقَ، ولم يَقبَلوا منه، فلمَّا فني زادُهم ساروا على طريقِ الكوفة، فأوقع بهم القرامِطة، وأخذوهم، وأسروا أبا الهيجاءِ، وأخذ أبو طاهر جِمال الحُجَّاج جميعها، وما أراد من الأمتعةِ والأموالِ والنِّساء والصِّبيان، وعاد إلى هَجَر، وترك الحاجَّ في مواضعهم، فمات أكثَرُهم جوعًا وعطشًا، ومن حرِّ الشمس، وكان عُمْرُ أبي طاهرٍ حينئذ سبعَ عشرة سنة، وانقلبت بغداد، واجتمع حُرَم المأخوذين إلى حُرَم المنكوبينَ الذين نكبهم ابن الفرات، وجعلن ينادين: القرمطيُّ الصغيرُ أبو طاهر قتل المسلمينَ في طريق مكَّة، والقرمطيُّ الكبير ابن الفرات قد قتل المسلمين ببغداد، وكانت صورة فظيعةً شنيعة، وكسر العامَّةُ منابِرَ الجوامع، وسوَّدوا المحاريبَ يوم الجمعة لستٍّ خلون من صفر، وتقدَّم المقتَدِر إلى ياقوت بالمسيرِ إلى الكوفة ليمنَعَها من القرامطة، فخرج في جمعٍ كثير، ومعه ولداه المظفَّر ومحمَّد، فأنفق على ذلك العسكرِ مالٌ عظيم، وورد الخبرُ بعود القرامطة، فعطل مسير ياقوت، ووصل مؤنسٌ المظفَّر إلى بغداد.
كان الأميرُ قودن صار في جملة الأمير قماج، فلما توفي قماج، والسلطان بمرو، فاستوحش قودن، وأظهر المرض، وتأخَّرَ بمروٍ بعد مسير السلطان بركيارق إلى العراق، وكان من جملة أمراء السلطان أمير اسمه اكنجي، وقد ولاه السلطان خوارزم، ولقَّبه خوارزمشاه، فجمع عساكِرَه وسار في عشرة آلاف فارس ليلحقَ السلطان، فسبق العسكر إلى مرو في ثلاثمائة فارس، وتشاغل بالشُّرب، فاتفق قودن وأمير آخر اسمه يارقطاش على قتله، فجمعا خمسمائة فارس وكبسوه وقتلوه، وساروا إلى خوارزم، وأظهروا أنَّ السلطان قد استعملهما عليها فتسلَّماها، وبلغ الخبر إلى السلطان، فأعاد أمير داذ حبشي بن التونتاق في جيش إلى خراسان لقتالهما، فسار إلى هراة، وأقام ينتظر اجتماعَ العساكر معه، فعاجلاه في خمسة عشر ألفًا، فعَلِمَ أمير داذ أنَّه لا طاقة له بهما، فعبَرَ جيحون، فسارا إليه، وتقدَّم يارقطاش ليلحقه قودن، فعاجله يارقطاش وحده وقاتله، فانهزم يارقطاش وأُخذ أسيرًا، وبلغ الخبر إلى قودن، فثار به عسكرُه، ونهبوا خزائنَه وما معه، فبقيَ في سبعة نفر، فهرب إلى بخارى، فقَبَض عليه صاحبُها، ثم أحسن إليه، وبقِيَ عنده، وسار من هناك إلى الملك سنجر ببلخ، فقَبِله أحسنَ قبول، وبذل له قودن أن يكفيَه أمورَه، ويقومَ بجمع العساكر على طاعته، فقُدِّرَ أنه مات عن قريبٍ، وأما يارقطاش فبقِيَ أسيرًا إلى أن قتل أمير داذ.
هو أبو منصورٍ موهوبُ بنُ أحمدَ بنِ محمَّدِ بنِ الحَسَن بن الخضر الجواليقي البغداديُّ النحويُّ اللُّغويُّ. إمامُ الخليفةِ المقتفي, وكان إمامًا في فُنونِ الأدب. وُلِدَ في ذي الحجة سنة 465, ونشأ بباب المراتِبِ، قرأ على أبي زكريَّا سبع عشرة سنة, فانتهى إليه عِلمُ اللغة فأقرأها، ودرَّسَ العربيَّةَ في النظاميَّةِ بعد أبي زكريَّا مُدَّةً، فلما وَلِيَ المُقتفي اختَصَّ بإمامتِه في الصَّلاةِ, وكان المقتفي يقرأُ عليه شيئًا من الكُتُبِ. كان الجواليقي دَيِّنًا، ثقةً، وَرِعًا، غزيرَ الفَضلِ، وافِرَ العَقلِ، مَليحَ الخَطِّ، كثيرَ الضَّبطِ. صَنَّف التصانيفَ وانتشرت عنه، وشاع ذِكْرُه. قال ابن الجوزي: "كان غزيرَ الفَضلِ مُتواضِعًا في مَلبَسِه ورياستِه، طويلَ الصَّمتِ لا يقولُ الشَّيءَ إلَّا بعدَ التَّحقيقِ والفِكرِ الطَّويلِ، وكثيرًا ما كان يقولُ: لا أدري، وكان مِن أهلِ السُّنَّةِ. سَمِعتُ منه كثيرًا مِن الحديثِ وغَريبِ الحديثِ، وقرأتُ عليه كتابَه المُعرب وغيرَه من تصانيفِه، وقطعةً مِن اللُّغةِ". توفِّي سَحرةَ يوم الأحد مُنتصَفَ مُحَرَّم، وحضر للصَّلاةِ عليه الأكابِرُ، كقاضي القضاة الزينبي، وهو الذي صلَّى عليه، وصاحِبُ المخزنِ، وجماعةُ أربابِ الدولةِ، والعُلَماءُ والفُقَهاءُ، ودُفِنَ بباب حرب عند والدِه, وقد توفِّيَ وله من العمر 74 عامًا, ومن أشهَرِ كتبه "المعرَّب من كلامِ العَجَم" و"شَرحُ أدبِ الكاتِبِ" و "كِتابُ العَروض" و "التَّكملة فيما تلحَنُ فيه العامَّةُ".
وصل التتر من بلاد ما وراء النهر إلى أذربيجان، وقد كان استقَرَّ مُلكُهم بما وراء النهر، وعادت بلادُ ما وراء النهر فانعمرت، وعمروا مدينة تقارب مدينة خوارزم، وبَقِيَت مدن خراسان خرابًا لا يجسر أحدٌ من المسلمين أن يسكُنَها، وأما التتر فكانت تَغيرُ كلَّ فترة طائفة منهم ينهبون ما يرونه بها، فالبلاد خاوية على عروشها، فلم يزالوا كذلك إلى أن ظهر منهم طائفةٌ سنة خمس وعشرين، فكان بينهم وبين جلال الدين ما كان، وبقُوا كذلك، فلما كان سنة سبع وعشرين وانهزم جلال الدين من علاء الدين كيقباذ ومن الأشرف، أرسل مقدَّم الإسماعيليَّة الملاحدة إلى التتر يُعَرِّفُهم ضعف جلال الدين بالهزيمة الكائنة عليه، ويحثُّهم على قَصدِه عَقيبَ الضعف، ويضمَنُ لهم الظفر به؛ للوهن الذي صار إليه، وكان جلال الدين سيئ السيرة، قبيح التدبير لملكه، لم يترك أحدًا من الملوك المجاورين له إلا عاداه، ونازعه الملك، وأساء مجاورته، فلما وصل كتاب مقدَّم الإسماعيلية إلى التتر يستدعيهم إلى قصد جلال الدين، بادر طائفة منهم فدخلوا بلاده واستولوا على الري وهمذان وما بينهما من البلاد، ثم قصدوا أذربيجان فخربوا ونهبوا وقتلوا من ظفروا به من أهلها، وجلال الدين لا يُقدِم على أن يلقاهم، ولا يقدر أن يمنعهم عن البلاد، قد ملئ رعبًا وخوفًا، وانضاف إلى ذلك أن عسكَرَه اختلفوا عليه، وخرج وزيرُه عن طاعته في طائفة كثيرة من العسكر، فبقي حيران لا يدري ما يصنع.
أخَّر متمَلِّكُ سيس الحملَ الجاريَ به العادة، فبعث إليه نائِبُ حلب أستاداره قشتمر الشمسي أحدَ مقدَّمي حلب على عسكرٍ نحو الألفين، وفيهم الأميرُ شمس الدين أقسنقر الفارسي والأميرُ فتح الدين صبرة المهمندار- الذي يتلقَّى الرسُلَ والمبعوثين- والأمير قشتمر النجيبي، وقشتمر المظفري، فشنوا الغاراتِ على بلاد سيس، ونهبوا وحَرَّقوا كثيرًا من الضياع، وسَبَوا النساءَ والأطفال في المحَرَّم، وكان قد وصل إلى سيس طائفةٌ من التتار في طلب المال، فركِبَ التتار مع صاحِبِ سيس، وملَكوا رأس الدربند، فركب العسكرُ لقتالهم وقد انحصروا، فرمى التتارُ عليهم بالنشاب والأرمن بالحجارة، فقُتِلَ جماعةٌ وأُسِرَ من الأمراءِ ابن صبرة، وقشتمر النجيبي، وقشتمر المظفري، في آخرينَ مِن أهل حلب، وخَلُصَ قشتمر مُقَدَّم العسكر، وآقسنقر الفارسي، وتوجَّه التتار بالأسرى إلى خربندا بالأردن، فرسم عليهم, وبلَغَ نائبَ حلب خبَرُ الكسرة، فكتب بذلك إلى السلطانِ الناصر والأمراء، فرسم بخروجِ الأمير بكتاش أمير سلاح، وبيبرس الدوادار وأقوش الموصلي فتال السبع، والدكن السلاح دار، فساروا من القاهرة في نصف شعبان على أربعة آلاف فارس، فبعث متمَلِّك سيس الحمل، واعتذر بأنَّ القتالَ لم يكن منه وإنما كان من التتر، ووعده بالتحَيُّل في إحضار الأمراء المأسورين، فرجع الأميرُ بكتاش بمن معه من غَزَّة.
بعد أن رجع الناصِرُ محمَّد إلى السلطنة وقَتَل المظَفَّر بيبرس الجاشنكيري، بقِيَ هناك الكثيرُ مِن الأمراء الذين كان يتخَوَّفُ منهم فبدأ بالقَبضِ عليهم فاستدعى من دمشقَ سبعةً من الأمراء واعتقَلَهم وحبَسَهم عنده، وفي مِصرَ قَبَض على أربعةَ عَشرَ أميرًا وحَبَسَهم، ومنهم من قُتِلَ وأُخِذَت إقطاعاته، وقُبض أيضًا على مماليك المظَفَّر بيبرس، ولكِنَّه تَرَكهم رحمة لهم، ثم إنَّه كان يهتَمُّ أكثَرَ شَيء ٍلأمرِ الأمير سيف الدين سلار المغولي الذي كان نائِبَ السلطان بيبرس الجاشنكيري، فهو الذي كان الآمِرَ الناهيَ في الدولة، وهو الذي حَرَّض بيبرسَ على كلِّ الأفعال التي صدرت منه وخاصةً مُصادرة أموال الناصر، وكان سلار قد هرب إلى الشوبك، ثمَّ إنَّه قَرَّر الحضورَ إلى السلطانِ النَّاصر، فلمَّا حضر حبَسَه وبقي محبوسًا شَهرًا حتى مات في سِجنِه جُوعًا وعَطَشًا، وقد استُخرِجَت منه كلُّ أمواله وإقطاعاته، فكانت كثيرة جدًّا بما لا يُحَدُّ ولا يوصَفُ من الذهب والفضَّة والجواهر الثمينة من الياقوت والزمُرُّد واللؤلؤ وغير ذلك من الأموال والأراضي والحيوانات الشيء المهول، ويُذكَرُ أنَّ سلار أصله من المماليك التتار الأويراتية، وصار إلى الملك الصالحِ عليِّ بن قلاوون، وبقِيَ بعد موته في خدمة الملك المنصورِ قلاوون حتى مات، ثم دخل في خدمةِ الملك الأشرف خليل بن قلاوون، وحَظِي عنده، فلما قُتِلَ حظي عند لاجين لمودَّة كانت بينهما، وترقى إلى أن صار نائِبَ السلطنة بديار مصرَ للسُّلطانِ المظَفَّر بيبرس.
هو الشَّيخُ الإمامُ العالم شهابُ الدين أبو العباس أحمد بن حمدان بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد الغني بن محمد بن أحمد بن سالم بن داود الأذرعي الشافعي، نزيلُ حَلَب، وُلِدَ سنة 707، وتفَقَّه بدمشق قليلًا، وناب في بعض النواحي في الحُكمِ بها، ثم تحوَّل إلى حلب فقَطَنَها، وناب في الحُكم بها، ثم ترك وأقبَلَ على الاشتغال والتصنيف والفتوى والتدريس، وجمع الكتبَ حتى اجتمع عنده منها ما لم يحصُلْ عند غيره، وظَفِرَ من النقولِ ما لم يحصُلْ لأهل عصره، وذلك بيِّنٌ في تصانيفه، وتعَقَّب "المهمات" للإسنوي بقدر حَجمِها، والذي بيَّضَه منها إلى النكاح في أربع مجلداتٍ، وهو ثَبْتٌ في النقل وسَطٌ في التصرفات، قاصِرٌ في غير الفقهِ، وأجاز له القاسم بن عساكر والحجَّار وغيرهما، وسمع من الكمال بن عبد وطائفة، وجمع له شهاب الدين بن حجي مشيخة، وتفقه بشيوخ عصره ومهر في الفن، وكان اشتغالُه على كِبَر، وكان عديمَ النَّظِير، فقيهًا عالِمًا، وسأل السبكي أسئلةً شهيرة اسمها الحلبية، وصنف شرحين على المنهاج، وجمع على الروضة كتابًا سماه التوسط والفتح بين الروضة والشرح، أكثَرَ فيه من النقولاتِ المفيدة، وانتهت إليه رئاسةُ العلم بحلب، مات بها في نصف جمادى الآخرة عن نيف وسبعين سنة بعد أن حصل له عَرَجٌ وقليلُ صَمَمٍ وضَعفُ بَصَر، وله شِعرٌ، فمنه ما حكاه ابنه عبد الرحمن عنه.
كان البابا بيوس الثاني ترأس اجتماع التحالف الذي عُقد في مدينة ريجنس بورغ في نيسان سنة 858 (1454م) بعد فتح محمد الفاتح القسطنطينية، وعاهدته على حرب العثمانيين ثلاثون دولة في أوربا وآسيا، ففي آسيا تحالفت دولة كرجستان جورجيا، ودولة الخرفان البيض آق قويونلو التركمانية المخالِفة للعثمانيين، والمسيطرة على إيران بزعامة حسن الطويل التتري أوزون حسن، ولكن محمد الفاتح لم يهتز لذلك التحالف، بل صمم على المواجهة، وعدم الخضوع للابتزاز، فبدأت الحرب الكبرى في سنة 867 (3 أبريل 1463م)، فهجم الفرنجة من الغرب مع بقية الأوربيين والبابوية، فتصدى للهجوم الأوربي الصدر الأعظم محمود باشا، ومات البابا في طريقه إلى الحرب سنة 867 (1464م) وخاض السلطان معارك عديدة ضد البندقية، وقاد الفاتح غزوة في صيف سنة 874 (1470م) اجتاح فيها قلاع ومواقع البندقية في بحر إيجة، وفتح جزيرة آغريبوز في بحر إيجة، وحرر الصدر الأعظم كديك أحمد باشا سواحل البحر الأبيض المتوسط التي كانت البندقية تسيطر عليها لمدة ستين ومائتين عامًا، وذلك بعد حصار استمر سبعة عشرة يومًا، وولَّد سقوط هذه الجزيرة أحزانًا كبيرة في أوربا لا تقل عن سقوط القسطنطينية؛ نظرًا لأن سيطرة العثمانيين عليها أتاحت لهم سيطرة كبيرة على سواحل البحر المتوسط؛ لذلك أعدَّت البندقية 14 مؤامرة لاغتيال السلطان حتى تموز سنة 883 (1479م) لكنها لم تنجح.
انعقد المؤتمر السوري واتخذ عدةَ قراراتٍ تاريخية تنصُّ على إعلان استقلال سوريا بحدودها الطبيعية استقلالًا تامًّا بما فيها فلسطين، ورفْض ادِّعاء الصهاينة في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وإنشاء حكومةٍ مسؤولة أمام المؤتمر السوري الذي هو مجلس نيابي، وكان يضم ممثِّلين انتخبهم الشعب في سوريا ولبنان وفلسطين. وتنصيب الأمير فيصل حسين ملكًا على سوريا الكبرى، فاستقبلت الجماهيرُ المحتشدة في ساحة الشهداء هذه القراراتِ بكل حماس بالغ وفرحةٍ طاغية باعتبارها محقِّقةً لآمالهم ونضالِهم من أجل التحرر والاستقلال. وتمَّ تشكيلُ الحكومة برئاسة رضا باشا الركابي، وضَمَّت سبعةً من الوزراء، من بينهم فارس الخوري، وساطع الحصري -فيلسوف القومية العربية ومنظِّرها- ولم يَعُد فيصل في هذا العهد الجديد المسؤولَ الأول عن السياسة، بل أصبح ذلك منوطًا بوزارة مسؤولة أمام المؤتمر السوري، وتشكَّلت لجنة لوضع الدستور برئاسة هاشم الأتاسي، فوضعت مشروعَ دستور من 148 مادة على غرار الدساتير العربية. لم يلقَ هذا استحسانَ وقبول الحلفاء، ورفضت الحكومتان: البريطانية والفرنسية قراراتِ المؤتمر في دمشق، واعتبرت فيصل أميرًا هاشميًّا لا يزال يدير البلاد بصفته قائدًا لجيوش الحلفاء في الشام، لا ملكًا على دولة. ودعته إلى السفر إلى أوروبا لعرض قضية بلاده؛ لأن تقريرَ مصير الأجزاء العربية لا يزال بيد مؤتمر السلم المنعقد في "سان ريمو" الإيطالية، والذي جاءت قراراته مخيِّبةً لآمال العرب.
بَقِيَت ألبانيا تحت الاحتلالِ الإيطالي نحو أربع سنوات، ثم وقَعَت تحت الاحتلال الألماني، لكِنَّها ما لبثت أن انسحبت منها بعد عام واحد، وكانت الهزائِمُ قد توالت عليها، ولم تجد مفرًّا من تَرْك ألبانيا؛ فتسَلَّم الحكمَ فيها جبهةُ التحرير القومية بقيادة الشيوعيين، وكانت هذه الجبهةُ قد تأسَّست في سنة 1360هـ / 1941م، وقادت حركةَ المقاومة ضِدَّ الغزو الإيطالي والألماني. ولما وضعت الحربُ أوزارَها، وعاد الهدوء إلى ألبانيا؛ أُجريت انتخاباتٌ في سنة 1365هـ أسفرت عن فوز "أنور خوجا" زعيم الحزب الشيوعي الألباني، وأُعلِنَت ألبانيا جمهوريةً شعبية. حكم خوجا بلادَه بالحديد والنار، وفَرَض عليها عزلةً صارمة. وحارب الأديانَ كُلَّها، وأصدر على مدارِ سنواتِ حُكمِه العديدَ من القرارات التي هدفت إلى تجريم ممارسة الشعائر الدينية، وإلى تحويل المساجِدِ إلى متاحفَ ومخازن ومتاجر ومراقِصَ!! وظل أنور خوجا يحكُمُ ألبانيا إحدى وأربعين سنة حتى تُوفي في 20 رجب 1405هـ / 11 إبريل 1985م، عن عمر يناهز السابعة والسبعين، وخلفه "رافر عليا" الذي قام بعددٍ من الإصلاحات، بعد أن هبَّت رياح الحرية في أوربا الشرقية، وشَمِلَت هذه الإصلاحات التي قام بها رفعَ القيود على ممارسة الألبان لشعائِرِهم الدينية، وإعادة فتحِ المساجدِ التي أُغلِقَت من قَبلُ، والموافقة على حرية السفر، والاعتراف بحقِّ كُلِّ مواطن في الحصول على جواز سفر. واتجهت ألبانيا بعد ذلك إلى الانفتاحِ على أوربا والتقارب مع دولها، ورفع القيود عن الاستعمار الأجنبي، وإنهاء الحظر على التعددية الحزبية.
يعتبَرُ أول مؤتمر قمة عربي عُقِدَ هو مؤتمر قمة أنشاص هذا العام من 29 إلى 30 يوليو، (وهو مؤتمر قمة غير عادي) عُقِدَت هذه القمَّةُ بدعوة من الملك فاروق في قصرِ أنشاص بالشرقية في مِصرَ، وضَمَّت الدولَ السبع المؤسِّسة للجامعة العربية (22 آذار 1945م)، وهي: مصر، وشرق الأردن، والسعودية، واليمن، والعراق، ولبنان، وسوريا، وطالب المجتَمِعون بالحفاظ على عروبة فلسطين، ووقْف الهجرة اليهودية إليها، ولم يَصدُرْ عن مؤتمر القمة بيانٌ ختامي، وإنما مجموعةٌ من القرارات أهمها: - مساعدة الشعوب العربية المستعمَرة على نيل استقلالها.- قضية فلسطين قلبُ القضايا القومية، باعتبارها قطرًا لا ينفصل عن باقي الأقطار العربية.- ضرورةُ الوقوف أمامَ الصهيونية باعتبارها خطرًا لا يداهمُ فلسطين وحسب، وإنما جميع البلاد العربية والإسلامية.- الدعوةُ إلى وقف الهجرة اليهودية وقفًا تامًّا، ومَنْع تسرب الأراضي العربية إلى أيدي الصهاينة، والعمل على تحقيق استقلال فلسطين.- اعتبارُ أي سياسة عدوانية موجَّهة ضد فلسطين تأخذُ بها حكومتا أمريكا وبريطانيا هي سياسة عدوانية تجاه كافة دول الجامعة العربية.- الدفاع عن كيان فلسطين في حالة الاعتداء عليه.- مساعدة عرب فلسطين بالمالِ وبكل الوسائل الممكنة.- ضرورة حصول طرابلس الغرب على الاستقلال.- العمل على إنهاض الشعوب العربية وترقية مستواها الثقافي والمادي؛ لتمكنها من مواجهة أي اعتداء صهيوني داهم!!
قَصَدت القرامِطةُ مدينةَ طَبَريَّة ليأخذوها من يدِ الإخشيدِ صاحِبِ مصرَ والشَّامِ، وطلبوا من سيفِ الدولة أن يُمِدَّهم بحديدٍ يتَّخِذونَ منه سلاحًا، فقلع لهم أبوابَ الرقَّة- وكانت من حديدٍ صامتٍ- وأخذ لهم من حديدِ النَّاسِ، حتى أخذ أواقيَ الباعةِ والأسواق، وأرسل بذلك كُلِّه إليهم، فأرسلوا إليه يقولون اكتَفَينا.
هبَّت بمصر ريحٌ شديدة تلاها رعد مرعب، ومطر غزير، وسقط مع ذلك بمدينة مصر خاصة برد بقدر البندقة كثير جدًّا، بحيث ألقي على أسطحة الدور منه قناطير، وأخرب عدة دور، فخزن الناس منه شيئًا كثيرًا وبِيعَ في الأسواق بعد ذلك كل رطل بستة دراهم، ولم يسقط منه بالقاهرة شيء البتة.
أُعلِن في بنغازي عن تأسيسِ "حزبِ التجمع الوطني من أجل العدالة والديمقراطية"، وذَكَر مؤسِّسوه أنهم يسعَون لتعبئةِ اللِّيبيِّين في سبيلِ إقامةِ مؤسَّساتِ دولةٍ مَدَنيَّة، تقوم على سيادةِ القانونِ والمُساواة. وأشارت مبادئُ وأهدافُ الحزبِ إلى أنَّه تجمُّعٌ لتحقيقِ العدالةِ والسَّعيِ إليها بين كلِّ الناس وكلِّ المدنِ والمناطِق.