بَعَث رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زيدَ بنَ حارِثةَ رَضي اللهُ عنه في سَريَّةٍ في سبعين ومئةِ راكِبٍ إلى العيصِ -اسمِ مَوضِعٍ قُربَ المدينةِ على ساحِلِ البحرِ- بهَدفِ اعتِراضِ عيرٍ لقُريشٍ أقبلَت مِن الشامِ بقيادةِ أبي العاصِ بنِ الرَّبيعِ، فأدرَكوها، فأخَذوها وما فيها، وأخَذوا يومئذٍ فِضَّةً كَثيرةً لصَفوانَ بنِ أُميَّةَ، وأسَروا ناسًا ممَّن كان في العيرِ، منهم: أبو العاصِ بنُ الرَّبيعِ، وقَدِموا بهم إلى المدينةِ. وكان أبو العاصِ من رجالِ مكة المعدودين تِجارةً ومالًا وأمانةً، وهو زوجُ زَينبَ بنتِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأمُّه هالةُ بِنتُ خويلدٍ أُختِ خَديجةَ رَضي اللهُ عنها. فأتى أبو العاصِ زينبَ رَضي اللهُ عنها في اللَّيلِ، وكانت زينبُ هاجَرَت قَبلَه وتَرَكَته على شِركِه فاستَجارَ بها فأجارَته، وأجازَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جِوارَها.
بعدَ نَجاح غَزوَة طَريف بن مالِك بَعَث موسى بن نُصَير مَولاهُ على طَنْجَة طارِقَ بن زِياد في سَبعةِ آلاف مُقاتِل فسار فنَزَل في جَبَل مُنِيف يُعرَف إلى اليومِ بِجَبَلِ طارِق، ثمَّ دَخَل الجَزيرَة الخَضْراء ثمَّ تابَع مَسيرِه ومعه يُولْيان يَدُلُّه على طُرُق الأَندَلُس, ولمَّا بَلَغ لُذْرِيق (رودريغو) غَزْو طارِق بِلاده عَظُمَ ذلك عليه، وكان غائِبًا في غَزاتِه، فرَجَع منها وطارِق قد دَخَل بلاده، فجَمَع له جَمْعًا يُقالُ بَلَغ مائةَ ألف، فلمَّا بَلَغ طارِقًا الخَبَرُ كَتَب إلى موسى يَسْتَمِدُّه ويُخْبِرُه بما فَتَح، وأنَّه زَحَف إليه مَلِكُ الأندَلُس بما لا طاقةَ له به. فبَعَث إليه بخمسةِ آلاف، فتَكامَل المسلمون اثني عَشر ألفًا، ومعهم يُولْيان يَدُلُّهم على عَوْرَةِ البِلادِ، ويَتَجَسَّس لهم الأَخبارَ. فأَتاهُم لُذْرِيق في جُنْدِه، فالْتَقوا على نَهرِ لَكَّة مِن أَعمالِ شَذُونَة لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتا مِن رَمضان سنة اثنتين وتِسعين، واتَّصَلت الحَرْبُ ثَمانِيَة أيَّام، فانْهَزموا وهَزَم اللهُ لُذْرِيق ومَن معه، وغَرِقَ لُذْرِيق في النَّهرِ، وسار طارِق إلى مَدينَة إسْتِجَة مُتَّبِعًا لهم، فلَقِيَه أَهلُها ومعهم مِن المُنهزِمين خَلْقٌ كَثيرٌ، فقاتَلوه قِتالًا شَديدًا، ثمَّ انْهَزَم أَهلُ الأندَلُس ولم يَلْقَ المسلمون بعدَها حَربًا مِثلَها. ونَزَل طارِق على عَيْن بينها وبين مَدينَة إسْتِجَة أَربعَة أَميال فسُمِّيَت عَيْن طارِق إلى الآن. لمَّا سَمِعَت القُوط بهاتين الهَزِيمَتَين قَذَف الله في قُلوبِهم الرُّعْبَ. فَرَّقَ طارِقُ بن زِياد جَيْشَه لِفَتْح المُدُن مِن مَدينَة إسْتِجَة، فبَعَث جَيْشًا إلى قُرْطُبَة، وجَيْشًا إلى غَرْناطَة، وجَيْشًا إلى مالَقَة، وجَيْشًا إلى تُدْمِير، وسار هو ومُعظَم الجَيْش إلى جَيَّان يُريدُ طُلَيْطُلَة، فلمَّا بَلَغَها وَجَدَها خالِيَة فَضَمَّ إليها اليَهودَ، وتَرَك معهم رِجالًا مِن أَصحابِه، ثمَّ مَضَى إلى مَدينَة ماية، فغَنِمَ منها ورَجَع إلى طُلَيْطُلة في سنة ثلاث وتِسعين. وقِيلَ: اقْتَحَم أَرضَ جِلِّيقِيَّة، فخَرَقَها حَتَّى انْتَهى إلى مَدينَة إِسْتَرْقَة، وانْصَرَف إلى طُلَيْطُلَة، ووافَتْهُ جُيوشُه التي وَجَّهَها مِن إسْتِجَة بعدَ فَراغِهم مِن فَتْحِ تلك المُدُن التي سَيَّرَهم إليها.
خرَج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومعه قُرابةُ ألفٍ وأربعمائةٍ مِن أصحابِه يُريدون العُمرةَ فلمَّا وصلوا إلى الحُديبيةِ - وهي تَبعُد عن مكَّةَ قُرابةَ 22 كم - وَصلَهُ الخبرُ أنَّ هناك مَن يُريدُ أن يُقاتِلَهُ، فقال: إنَّه لم يَجِئْ لقِتالٍ؛ بل جاء مُعتمِرًا. وأَرسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عُثمانَ بنَ عفَّانَ إلى مكَّةَ لِيُخبِرَهم بذلك، ثمَّ شاع الخبرُ أنَّ عُثمانَ قُتِلَ، فأمَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصَّحابةَ رضي الله عنهم أن يُبايِعوه على القِتالِ، فبايَعوهُ وهي بَيعةُ الرِّضوانِ، ثمَّ جاء المشركون إلى الحُديبيةِ وحَصَلت عِدَّةُ مُفاوضاتٍ بين رُؤساءٍ مِنَ المشركين وبين النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حتَّى جاء سُهيلُ بنُ عَمرٍو فصالَحهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على أن تُوضَعَ الحربُ عشرَ سنين يأمنُ فيها النَّاسُ، ويَكُفُّ بعضُهم عن بعضٍ، وعلى أنَّ مَن أتى رسولَ الله مِن أصحابِه مِن غيرِ إذنِ وَلِيِّهِ رَدَّهُ رسولُ الله عليهم، ومَن أتى قُريشًا مِن أصحابِه لم يَردُّوه، وأنَّ بينهم عَيْبَةً مَكفوفَةً، أي: لا غِشَّ فيها، وأنَّه لا إسْلالَ -يعني لا سَرِقةَ- ولا إغْلالَ -يعني لا خِيانةَ- وأن يَرجِعَ في عامِه هذا دون أن يَدخُلَ مكَّةَ وله ذلك في العامِ القابلِ، يَدخلُها ثلاثةَ أيَّامٍ معه سِلاحُ الرَّاكبِ لا يَدخلُها بغيرِ السُّيوف في القُرُبِ... ثمَّ أمَر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه أن يَنحَروا ويَحلِقوا؛ ولكنَّهم لم يفعلوا حتَّى أَشارت عليه أمُّ سَلمةَ رضي الله عنها أن يَقومَ هو بذلك دون أن يُكلِّمَ أحدًا فلمَّا رَأَوْهُ نَحَرَ تَواثَبوا إلى الهَدْيِ وفعلوا مِثلَ ما فعَل, ثم عاد النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة دون عُمرةٍ ودون قِتالٍ.
لَمَّا توفِّيَ السري أميرُ مصرَ للمأمونِ، وليَ بعدَه ابنُه عُبيدالله، ولَّاه الجُندُ وبايعوه، ثم حدَّثَته نفسُه الخروجَ عن طاعة المأمونِ وجَمَع وحَشَد، فبلغ المأمونَ ذلك وطلب عبدَ الله بنَ طاهرٍ لقتالِه وقتالِ الخوارج بمصرَ، فسار إليه ابنُ طاهر فتهَّيأ عُبيد الله بن السري لحَربِه وعبَّأ جيوشَه وحفَرَ خندقًا عليه، ثم تقدَّم بعساكِرِه إلى خارج مصرَ والتقى مع عبد اللهِ بنِ طاهر وتقاتلا قتالًا شديدًا، وثبت كلٌّ من الفريقينِ ساعةً كبيرةً حتى كانت الهزيمةُ على عُبيد الله بن السري أميرِ مصر، وانهزم إلى جهةِ مِصرَ، وتَبِعَه عبد الله بن طاهر بعساكِرِه فحاصره عبدُ الله بن طاهر وضيَّقَ عليه حتى أباده وأشرف على الهلاكِ، فطلب عُبيد الله بن السري الأمانَ مِن عبد الله بن طاهر بشُروطِه، فأمَّنَه عبدُ الله بن طاهر بعد أمورٍ صَدَرت، فخرج إليه عُبيد الله بن السري بالأمانِ، وبذل إليه أموالًا كثيرةً، وأذعن له وسلَّمَ إليه الأمرَ.
هو أبو عبدِ الله الزُّبيرُ بن العَوَّام بن خويلدِ بن أَسَدِ بن عبدِ العُزَّى بن قُصَيِّ بن كِلابٍ، أحدُ العشرةِ المُبَشَّرين بالجنَّةِ، أُمُّهُ صَفيَّةُ بنتُ عبدِ المُطَّلِب عَمَّةُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، كان مِن أوائلِ الذين أسلموا، هاجَر الهِجرتين إلى الحَبشةِ وإلى المدينةِ، آخَى النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بينه وبين سَلمةَ بن سَلامةَ بن وَقْشٍ، قال فيه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَواريًّا، وحَواريَّ الزُّبيرُ بن العَوَّام). أوَّلُ مَن سَلَّ سَيْفًا في سَبيلِ الله عزَّ وجلَّ، شهِد بدرًا مُعْتَجِرًا بعِمامةٍ صَفراءَ فنزَلت الملائكةُ على سِيماهُ، اشْتُهِرَ الزُّبيرُ بِبَسالَتِه في القِتالِ وشِدَّتِهِ وإقْدامِه حتَّى كأنَّه جيشٌ لوحده، ولم يَتَخلَّفْ عن غَزاةٍ غَزاها رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم, وقد قُتِلَ رحمه الله وهو ابن سبعٍ وسِتِّين، وقِيلَ: سِتٍّ وسِتِّين.
بعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رضِي الله تعالى عنه في ثلاثين رجلًا إلى عَجُزِ هَوازِنَ -مَحِلٌّ بينه وبين مكَّةَ أربعُ ليالٍ بطَريقِ صَنعاءَ يُقالُ له: تُرَبَةُ-. وأَرسلَ صلى الله عليه وسلم دليلًا مِن بني هِلالٍ فكان يَسيرُ اللَّيلَ ويَكْمُنُ النَّهارَ، فأتى الخبرُ لِهَوازنَ فهَربوا، فجاء عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضِي الله تعالى عنه مَحالَّهُم فلم يَجِدْ منهم أحدًا فانصرَف راجعًا إلى المدينةِ فلمَّا كان بِمَحِلٍّ بينه وبين المدينةِ سِتَّةُ أميالٍ قال له الدَّليلُ هل لك جَمْعٌ آخرُ مِن خَثْعَمَ؟ فقال له عُمَرُ رضِي الله تعالى عنه: لم يَأمُرْني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بهم، إنَّما أَمرَني بقِتالِ هَوازِنَ.
غزا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غزوةَ بدرٍ الأولَى حتى بَلَغ واديَ سَفَوانَ؛ حيث خَرَج رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على رأسِ ثلاثةَ عَشَرَ شهرًا من مُهاجَرِه يَطلُب كُرزَ بنَ جابِرٍ الفِهريَّ، وحَمَل لِواءَه عليُّ بنُ أبي طالِبٍ رَضي اللهُ عنه، وكان أبيضَ، واستَخلَفَ على المدينةِ زيدَ بنَ حارِثةَ، وكان كُرزٌ قد أغار على سَرحِ المدينةِ -الإبِلِ والمَواشي التي تَسرَحُ للرَّعيِ بالغَداةِ- فاستاقَه، وكان يَرعَى بالحِمَى، فطَلَبه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتى بَلَغ واديًا يُقالُ له: "سَفَوانُ" من ناحيةِ بَدرٍ، وفاتَه كُرزٌ ولم يَلحَقْه، فرَجَع إلى المَدينةِ.
هو السلطانُ علي دينار ابن السلطان زكريا بن محمد فضل الكيراوي. ولِدَ في قرية "شوية" بدارفور سنة 1856م، وهو آخر سلاطين الفور من السلالة الكيراوية في سلطنة دارفور بالسودان. أعلن توحيدَ جهود المسلمين ضِدَّ الغزو الصليبي الأوروبي في أفريقيا، ويعَدُّ السلطان علي دينار من أشهرِ السلاطين الذين حكَموا إقليم دارفور ووقفوا مع الثورة المهدية في دحر المستعمِر، كما قام السلطانُ بنشر الدعوة المهديَّة في عهد الخليفة عبد الله التعايشي خليفة مهدي السودان. أقام علي دينار في مدينة الفاشر عاصمة دارفور، وأقام مصنعًا لصناعة كسوة الكعبة، وظَلَّ طوال عشرين عامًا تقريبًا يرسِلُ كسوة الكعبة إلى مكة المكرمة، وينسب إليه حفرُ أبيار علي -ميقاتِ أهل المدينة للإحرام بالحج والعمرة- وتجديد مسجد ذي الحُليفة. اغتاله الإنجليز.
لَمَّا رأى أهلُ الأندلس فِعْلَ صِنهاجةَ غَبَطوهم، ورَغِبوا في الجهاد، وقالوا للمنصورِ بنِ أبي عامر: لقد نَشَّطَنا هؤلاء للغزو، فجمع الجيوش الكثيرةَ مِن سائر الأقطار، وخرج إلى الجهاد، إلى إليون ونازلها، واستمَدَّ أهلُها الفِرنجَ، فأمدُّوهم بجيوش كثيرة، واقتتلوا ليلًا ونهارًا، فكَثُر القتل فيهم، وصبَرَت صنهاجة صبرًا عظيمًا، ثم خرج قومص كبيرٌ مِن الفرنج لم يكُنْ لهم مثله، فجال بين الصفوفِ وطلب البرازَ، فبرز إليه جلالةُ بن زيري الصنهاجي فحمل كلُّ واحد منهما على صاحِبِه، فطعنه الفرنجيُّ فمال عن الطعنةِ وضَرَبه بالسيف على عاتِقِه فأبان عاتِقَه، فسقط الفرنجيُّ إلى الأرض، وحمل المسلمونَ على النصارى، فانهزموا إلى بلادِهم، وقُتِلَ منهم ما لا يحصى ومَلَك المدينةَ، وغَنِمَ ابن أبي عامر غنيمةً عظيمةً لم يُرَ مِثلُها، واجتمع من السبيِ ثلاثون ألفًا، وأمَرَ بالقتلى فنُضِدَت بعضها على بعض، وأمر مؤذِّنًا أذَّنَ فوق القتلى المَغرِبَ، وخرَّب مدينةَ قامونة، ورجع سالِمًا هو وعساكِرُه.
هو الإمامُ العلامة كمال الدين محمد ابن الشيخ همام الدين عبد الواحد ابن القاضي حميد الدين عبد الحميد ابن القاضي سعد الدين مسعود الحنفي السيرامي الأصل المصري المولد والدار والوفاة، المشهور بابن الهمام، ولد سنة 790 بالإسكندرية ومات أبوه وكان قاضي الإسكندرية وهو ابن عشر أو نحوها، فنشأ في كفالة جدته لأمه، وكانت مغربية خيِّرة تحفظ كثيرًا من القرآن وقدم بصحبتها القاهرة فأكمل بها القرآن عند الشهاب الهيثمي وتلاه تجويدًا على الزراتيتي، وبالإسكندرية على الزين عبد الرحمن الفكيري، وكان شيخه يصفه بالذكاء المفرط والعقل التام والسكون، وحَفِظَ مختصر القدوري والمنار والمفصَّل للزمخشري وألفية النحو، ثم عاد بصحبتها أيضًا إلى الإسكندرية فأخذ بها النحو عن قاضيها الجمال يوسف الحميدي الحنفي، وقرأ في الهداية على الزين السكندري، وفي المنطق على العز عبد السلام البغدادي والبساطي، وعنه أخذ أصول الدين وقرأ عليه شرح هداية الحكمة لملا زادة, ولم يبرح عن الاشتغال بالمعقول والمنقول حتى فاق في زمن يسير أقرانه, وأشير إليه بالفضل التام والفطرة المستقيمة، بحيث قال البرهان الأبناسي أحد رفقائه حين رام بعضهم المشي في الاستيحاش بينهما: "لو طلبت حجج الدين ما كان في بلدنا من يقوم بها غيره. ثم قال: وشيخنا البساطي وإن كان أعلم، فالكمال أحفظ منه وأطلق لسانًا، هذا مع وجود الأكابر إذ ذاك، بل أعلى من هذا أن البساطي لما رام المناظرة مع العلاء البخاري بسبب ابن الفارض ونحوه قيل له: من يحكم بينكما إذا تناظرتما، فقال: ابن الهمام لأنه يصلح أن يكون حَكَم العلماء" وقال يحيى بن العطار: "لم يزل يُضرَب به المثل في الجمال المفرد مع الصيانة وفي حسن النغمة مع الديانة، وفي الفصاحة واستقامة البحث مع الأدب" واستمر يترقى في درج الكمال حتى صار عالِمًا مفننًا علَّامة متقنًا، درَّس وأفتى وأفاد، وعكف الناس عليه، واشتهر أمره وعظُم ذِكرُه، قال شمس الدين السخاوي: "فقد كان إمامًا علامة عارفًا بأصول الديانات والتفسير والفقه وأصوله، والفرائض والحساب، والتصوف والنحو والصرف والمعاني والبيان، والبديع والمنطق والجدل والأدب والموسيقى، وجُل علم النقل والعقل، متفاوت المرتبة في ذلك, ومع قلة علمه في الحديث فهو عالم أهل الأرض ومحقِّق أولي العصر حُجة أعجوبة ذا حجج باهرة واختيارات كثيرة وترجيحات قوية, وقد تخرج به جماعة صاروا رؤساء في حياته، فمن الحنفية التقي الشمس والزين قاسم وسيف الدين، ومن الشافعية ابن خضر والمناوي. ومن المالكية عبادة وطاهر والقرافي, ومن الحنابلة الجمال بن هشام. وهو أنظَرُ من رأيناه من أهل الفنون ومن أجمعهم للعلوم وأحسنهم كلامًا في الأشياء الدقيقة وأجلدِهم على ذلك مع الغاية في الإتقان والرجوع إلى الحق في المباحث ولو على لسان آحاد الطلبة، كل ذلك مع ملاحة الترسل وحسن اللقاء والسمت والبِشر والبزَّة ونور الشيبة وكثرة الفكاهة والتودد والإنصاف وتعظيم العلماء، والإجلال لتقي الدين ابن تيمية وعدم الخوض فيما يخالف ذلك، وعلو الهمة وطيب الحديث ورقة الصوت وطراوة النغمة جدًّا, وسلامة الصدر وسرعة الانفعال والتغير والمحبة في الصالحين وكثرة الاعتقاد فيهم والتعهد لهم والانجماع عن التردد لبني الدنيا حتى الظاهر جقمق مع مزيد اختصاصه به، ولكنه كان يراسله هو ومن دونه فيما يسأل فيه" وقد حجَّ غير مرة وجاور بالحرمين مدة، وشرب ماء زمزم- كما قاله في شرحه للهداية- للاستقامة والوفاة على حقيقة الإسلام معها. ونشر في الحرمين علمًا جمًّا, وعاد في رمضان سنة ستين وهو متوعِّك فسُرَّ المسلمون بقدومِه وعكف عليه من شاء الله من طلبته وغيرهم أيامًا من الأسبوع إلى أن مات في يوم الجمعة سابع رمضان، ودفِنَ من يومه، وصُلِّيَ عليه عصرًا بمصلى المؤمني، وكانت جنازته مشهودة، شهده السلطانُ فمَن دونه، قدِمَ للصلاة عليه قاضي مذهبه ابن الديري، ودُفِنَ بالقرافة في تربة ابن عطاء الله، ولم يخلف بعده في مجموعه مثله. وله مصنفات أشهرها فتح القدير في الفقه الحنفي، وله التحرير في أصول فقه الأحناف، وغيرها من المصنفات.
هو أبو الخطاب عمر بن الحسن بن علي بن محمد بن فرج بن خلف بن قومس بن أحمد بن دحية بن خليفة الكلبي الحافظ، شيخ الديار المصرية في الحديث، ولد سنة 546. كان يذكر أنه من ولد دحية الكلبي، وأنه سبطُ أبي البسام الحسيني الفاطمي. كان بصيرًا بالحديث معتنيًا بتقييده، مكبًّا على سماعه، حسنَ الحَطِّ معروفًا بالضبط، له حظٌّ وافر من اللغة، ومشاركة في العربية وغيرها. وهو أول من باشر مشيخة دار الحديث الكامليَّة بها، وقد كان يتزيد في كلامه، فترك الناس الرواية عنه وكذَّبوه، وقد كان الكامِلُ مقبلًا عليه، فلما انكشف له حاله أخذ منه دار الحديث وأهانه، توفي بالقاهرة ودفن بقرافة مصر، قال ابن خلكان: وكان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء، متقنًا لعلم الحديث وما يتعلَّقُ به، عارفًا بالنحو واللغة وأيَّام العرب وأشعارها، اشتغل ببلادِ المغرِب، ثمَّ رحل إلى الشام ثم إلى العراق، واجتاز بإربل سنة 604، فوجد ملكها المعظم مظفر الدين بن زين الدين يعتني بالمولد النبوي، فعمل له كتاب " التنوير في مولد السراج المنير " وقرأه عليه بنفسه، فأجازه بألف دينار، ولي قضاء دانية مرتين، ثم صُرِف عن ذلك لسيرة نُعِتَت عليه، فرحل منها. روى عنه الدبيثي فقال: "كان له معرفة حسنة بالنحو واللغة، وأنسة بالحديث، فقيهًا على مذهب مالك، وكان يقول: إنه حفظ " صحيح مسلم " جميعه، وأنه قرأه على بعض شيوخ المغرب من حفظه، ويدعي أشياء كثيرة. قلت (الذهبي): كان صاحب فنون، وله يد طولي في اللغة، ومعرفة جيدة بالحديث على ضعف فيه. قرأت بخط الضياء الحافظ قال: لقيت الكلبيَّ بأصبهان، ولم أسمع منه شيئًا، ولم يعجبني حالُه، وكان كثير الوقيعة في الأئمة، وأخبرني إبراهيم السنهوري بأصبهان أنه دخل المغرب، وأن مشايخ المغرب كتبوا له جرحه وتضعيفَه. وقد رأيتُ منه أنا غير شيء ممَّا يدل على ذلك" قال ابن نقطة: "كان موصوفًا بالمعرفة والفضل، ولم أره إلَّا أنه كان يدعي أشياء لا حقيقة لها. ذكر لي أبو القاسم بن عبد السلام - ثقة - قال: نزل عندنا ابنُ دحية، فكان يقول: أحفظ " صحيح مسلم "، و" الترمذي "، قال: فأخذت خمسة أحاديث من " الترمذي "، وخمسة من " المسند " وخمسة من الموضوعات فجعلتها في جزء، ثم عرضتُ عليه حديثًا مِن " الترمذي "، فقال: ليس بصحيح، وآخر فقال: لا أعرفه. ولم يعرف منها شيئًا. قلت (الذهبي): ما أحسن الصدق، لقد أفسد هذا المرءُ نَفسَه". قال ابن كثير: وقد تكلَّمَ الناس فيه بأنواع من الكلام، ونسبه بعضهم إلى وضعِ حديثٍ في قَصرِ صلاة المغرب، ولابن دحية مصنفات منها: المطرب في أشعار أهل المغرب، ونهاية السول في خصائص الرسول، والنبراس في خلفاء بني العباس، وغيرها.
عَهِدَ أبو بكرٍ الصِّدِّيق رضِي الله عنه إلى زيدِ بن ثابتٍ بجَمْعِ نُصوصِ القُرآن وخاصّة بعدَ مَوت عددٍ كبيرٍ من حفظة القرآن في اليَمامةِ، وكان هذا الأمرُ غيرَ مقبول لدى الصَّحابة رضِي الله عنهم في البداية، ولكنَّ الله شرَح صُدورَهم له كما شرَح صدر أبي بكرٍ له، فكَلَّفَ أبو بكرٍ زيدَ بن ثابتٍ بمُهِمَّةِ الكِتابة، فقال لزيدٍ: إنَّك رجلٌ شابٌّ عاقل لا نَتَّهِمك, قد كُنتَ تكتبُ الوَحيَ لرسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم, فتَتَبَّعْ القُرآن فاجْمَعْهُ. فقلتُ: كيف تفعلون شيئًا لم يفعلْهُ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟! قال: هو -والله- خيرٌ. فلم يزل أبو بكرٍ يراجعني حتَّى شرَح الله صدري للذي شرَح له صدرَ أبي بكر وعُمرَ, فكنتُ أتتبَّعُ القُرآن أَجمعُه مِن الرِّقاع والأكتافِ والعُسُبِ وصُدورِ الرِّجالِ. وكان الأمْرُ شديدًا على زيدٍ لكنَّه قام بها خيرَ قِيامٍ، فكان هذا الأمْرُ أوَّلَ جمعٍ للقُرآن، وبَقِيَ المصحفُ عند أبي بكرٍ في خِلافتِه.
هو سنجر شاه بن غازي بن مودود بن زنكي بن آقسنقر، صاحب جزيرة ابن عمر، وهو ابن عم نور الدين، صاحب الموصل، قتله ابنه غازي، وسبب ذلك أن سنجر كان سيئَ السيرة غشومًا ظلومًا لرعيته وجندِه وحَرَمِه وولَدِه، كثيرَ القهر لهم والانتقام منهم، فاقِدَ الشفقة على بنيه حتى غرَّب ابنيه محمودًا ومودودًا إلى قلعة فرح من بلاد الزوزان لتوهُّمٍ توهَّمه فيهما, ثم أخرج ابنه غازي إلى دار بالمدينة, ووكل به فساءت حاله، وكانت الدار كثيرة الخشاش فضَجِرَ من حاله, فأعمل غازي الحيلة حتى نزل من الدار التي كان قد حبسه أبوه بها واختفى، ثمَّ إن غازي بن سنجر تسلَّقَ إلى دار أبيه، واختفى عند بعضِ سراريِّه، وعلم به أكثَرُ من بالدار، فسَتَرت عليه بغضًا لأبيه، وتوقعًا للخلاصِ منه لشِدَّتِه عليهن، فبقي كذلك، وترك أبوه الطَّلبَ له ظنًّا منه أنَّه بالشام، فاتفق أنَّ أباه، في بعض الأيام شرب الخمر بظاهرِ البلد مع نُدَمائه، فلم يزل كذلك إلى آخر النهار، وعاد إلى داره، فلما دخل الخلاءَ، دخل عليه ابنه غازي فضربه بالسكينِ أربع عشرةَ ضربةً، ثم ذبحَه، وتركه مُلقًى، فاتفق أن بعض الخدم الصغار خرج إلى البابِ وأعلم أستاذ دار سنجر الخبَرَ، فأحضر أعيان الدولة وعرَّفَهم ذلك، وأغلق الأبوابَ على غازي، واستحلف الناسَ لمحمود بن سنجر شاه، وأرسل إليه فأحضره من قلعةِ فرح ومعه أخوه مودود، فلما حلفَ الناس وسكنوا فتحوا باب الدارِ على غازي، ودخلوا عليه ليأخُذوه، فمانعهم عن نفسِه، فقتلوه وألقَوه على باب الدار، فأكلت الكلابُ بعضَ لحمه، ثم دُفِنَ باقيه، ووصل محمودٌ إلى البلد ومَلَكَه، ولُقِّبَ بمعز الدين، لَقَب أبيه، فلما استقَرَّ عمد الى الجواري اللواتي واطأنَ على قتل أبيه فغرَّقَهن في دجلةَ.
لَمَّا قُبِضَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ارتدَّت العَرَبُ، واشرأَبَّ النِّفاقُ، وعَظُمَ الخَطْبُ واشتدَّت الحالُ، وأنفذ الصِّديقُ جَيشَ أُسامةَ، فقَلَّ الجندُ عند الصِّدِّيقِ، فطمَعِتَ كثيرٌ من الأعرابِ في المدينةِ، وراموا أن يَهجُموا عليها، فجَعَل الصِّدِّيقُ على أنقابِ المدينةِ حُرَّاسًا يبَيتون بالجُيوشِ حولَها، وجعَلَت وفودُ العَرَبِ تَقدَمُ المدينةَ يُقِرُّونَ بالصَّلاةِ ويمتنعون من أداء الزكاةِ، ومنهم من امتَنَع مِن دَفْعِها إلى الصِّدِّيقِ، وقد تكلَّم الصَّحابةُ مع الصِّدِّيقِ في أن يترُكَهم وما هم عليه مِن مَنْعِ الزَّكاةِ ويتألَّفَهم حتى يتمكَّنَ الإيمانُ في قلوبِهم، ثم هُم بعد ذلك يزكُّونَ، فامتنع الصِّدِّيقُ من ذلك وأباه، فقال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ لأبي بكرٍ: علامَ تقاتِلُ النَّاسَ؟ وقد قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أُمِرتُ أن أقاتِلَ النَّاسَ حتى يَشهَدوا أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، فإذا قالوها عصَمَوا مني دِماءَهم وأموالَهم إلَّا بحَقِّها؟ فقال أبو بكرٍ: واللهِ لو منعوني عَناقًا -وفي روايٍة: عِقالًا- كانوا يؤدُّونه إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لأقاتِلَنَّهم على مَنْعِها؛ إنَّ الزكاةَ حقُّ المالِ، واللهِ لأقاتِلَنَّ مَن فَرَّق بين الصَّلاةِ والزكاةِ. قال عُمَرُ: فما هو إلَّا أن رأيتُ اللهَ قد شَرَح صَدْرَ أبي بكرٍ للقِتالِ، فعَرَفْتُ أنَّه الحَقُّ، وقاتلهم الصِّدِّيق رضي الله عنه حتى لم يَبْقَ بجزيرةِ العَرَبِ إلَّا أهلُ طاعةٍ لله ولرَسولِه، وأهلُ ذِمَّةٍ مِن الصِّدِّيقِ، كأهلِ نجرانَ وما جرى مجراهم، وعامَّةُ ما وقع من هذه الحروبِ كان في أواخِرِ سنةِ إحدى عَشْرةَ وأوائِلِ سنةِ اثنتي عَشْرةَ.