ثمَّ لمَّا وَلِيَ المُفَضَّل بن المُهَلَّب خُراسان غَزَا باذغيس ففَتَحَها وأصاب مَغنمًا فقَسَّمَه، فأصاب كُلُّ رَجُلٍ ثماني مائة. ثمَّ غَزَا آخرون وشومان فغَنِمَ وقَسَّمَ ما أصاب، ولم يكُن للمُفَضَّل بيتُ مَالٍ، كان يُعطِي النَّاس كُلمَّا جاء شيءٌ، وإن غَنِمَ شَيئًا قَسَّمَه بينهم.
غزا عبدالرحمن الداخل بلادَ الفرنج، فدَوَّخَها، وبلغ قلهرة، وفتح مدينةَ فكيرة، وهدمَ قلاعَ تلك الناحية، وسار إلى بلاد البشكنس، ونزل على حِصنِ مثمين الأقرع، فافتتحه، ثمَّ تقدم إلى ملدوثون بن أطلال، وحصر قلعتَه، وقصد الناسُ جَبَلَها، وقاتلهم فيها، فمَلَكَها عَنوةً وخرَّبَها ثم رجع إلى قُرطبة.
لَمَّا ثبت الفرنج في دمياط بثُّوا سراياهم في القرى يقتلون ويأسرون، فعظُم الخطب واشتدَّ البلاء، وندب السلطانُ الملك الكامل الناسَ وفَرَّقهم في الأرض، فخرجوا إلى الآفاق يستصرخون النَّاسَ لاستنقاذ أرض مصر من أيدي الفرنج، وشرع الكاملُ في بناء الحور –خيام من جلد أبيض- والفنادق والحمامات والأسواق بمنزلة المنصورةِ، وجهَّزَ الفرنج من حصل في أيديهم من أسارى المسلمين في البحرِ إلى عكا وبرزوا من مدينةِ دمياط يريدون أخذَ مصرَ والقاهرة، فنازلوا السلطان تجاه المنصورة، واجتمع الناسُ من أهل مصر وسائر النواحي ما بين أسوان إلى القاهرة، ونودِيَ بالنفير العام، وألَّا يبقى أحد, وذكروا أن مَلِكَ الفرنج قد أقطع ديارَ مصر لأصحابه, وأنزل الكامِلُ على ناحية شار مساح ألفي فارس، في آلاف من العربان، ليحولوا بين الفرنج وبين مرادِهم، وسارت الشواني- ومعها حراقة كبيرة- إلى رأس بحر المحلة، وعليها الأميرُ بدر الدين بن حسون، فانقطعت الميرةُ عن الفرنج من البر والبحر، وقَدِمَت النجدات للملك الكافي من بلاد الشام، وخرجت أمم الفرنج من داخل البحر تريد مدَدَ الفرنج على دمياط فوافى دمياط منهم طوائفُ لا يحصى لهم عدد فلما تكاملَ جمعُهم بدمياط خرجوا منها، وقد زُيِّنَ لهم سوءُ عمَلِهم أن يملكوا أرض مصر، ويستولوا منها على مماليكِ البسيطة كلها، فلما قدمت النجدات من المسلمين هال الفرنجَ ما رأوا، وكان قدومُ هذه النجدات في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة، وتتابع قدوم النجدات حتى بلغ عدد فرسان المسلمين نحو الأربعين ألفًا، فحاربوا الفرنج في البر والبحر، وأخذوا منهم ست شواني وجلاسة وبطسة- سفن حربية ضخمة- وأسروا منهم ألفين ومائتي رجل، ثم ظفروا أيضًا بثلاث قطائع فتضعضع الفرنجُ لذلك، وضاق بهم المقام، وبعثوا يسألون في الصُّلحِ.
استولى الحسَنُ بنُ عليِّ بنِ الحسن بن عمر بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب على طَبَرستان، وكان يلقَّبُ بالناصر، وكان الحسَنُ بن عليٍّ الأطروش قد دخل الديلم بعد قتل محمَّدِ بنِ زيد، وأقام بينهم نحو ثلاثَ عشرةَ سنة يدعوهم إلى الإسلامِ، ويقتَصِرُ منهم على العُشر، فأسلم منهم خلقٌ كثيرٌ، واجتمعوا عليه، وبنى في بلادِهم مساجِدَ، وكان للمُسلمين بإزائِهم ثغورٌ مثل: قزوين، وسالوس، وغيرهما، وكان بمدينة سالوس حِصنٌ مَنيعٌ قديم، فهَدَمه الأطروش حين أسلم الديلمُ والجيل، ثمَّ إنَّه جعل يدعوهم إلى الخروجِ معه إلى طبرستان، فلا يجيبونَه إلى ذلك لإحسانِ ابنِ نوح، فاتَّفق أنَّ الأمير أحمد عزل ابنَ نوحٍ عن طبرستان وولَّاها سَلامًا، فلم يُحسِنْ سياسةَ أهلها، وهاج عليه الديلمُ، فقاتَلَهم وهَزَمهم، واستقال عن ولايتِها، فعزله الأميرُ أحمد، وأعاد إليها ابنَ نوح، فصَلَحت البلادُ معه، ثمَّ إنَّه مات بها، واستُعمِلَ عليها أبو العبَّاس محمَّد بن إبراهيم صُعلوك، فغيَّرَ رسوم ابن نوح، وأساء السيرةَ، وقطع عن رؤساءِ الدَّيلم ما كان يهديه إليهم ابنُ نوح، فانتهز الحسنُ بن عليّ الفرصة، وهيَّجَ الديلم عليه ودعاهم إلى الخروجِ معه، فأجابوه وخرجوا معه، وقصَدَهم صُعلوك، فالتقوا بمكان يسمَّى نوروز، فانهزم ابن صُعلوك، وقُتِلَ مِن أصحابه نحوُ أربعة آلاف رجل، وحصر الأطروش الباقينَ ثمَّ أمَّنهم على أموالِهم وأنفُسِهم وأهليهم، فخرجوا إليه، فأمَّنَهم وعاد عنهم إلى آمِل، وانتهى إليهم الحسَنُ بنُ القاسم الداعي العلويُّ، وكان ختْنَ الأطروش، فقَتَلَهم عن آخرهم؛ لأنَّه لم يكن أمَّنهم ولا عاهدهم، واستولى الأطروش على طبرستان، وخرج صعلوك إلى الرَّيِّ، ثمَّ سار منها إلى بغداد، كان الأطروش قد أسلم على يدِه مِن الديلمِ الذين هم وراءَ أسفيدروذ إلى ناحية آمل، وهم يذهبونَ مَذهَبَ الشيعة، وكان الأطروش زيديَّ المذهَبِ، شاعرًا ظريفًا، علَّامةً إمامًا في الفِقهِ والدينِ، كثيرَ المُجونِ، حسَنَ النَّادرةِ. وكان سببُ صَمَمِه أنَّه ضُرِبَ على رأسه بسيفٍ في حرب محمَّد بن زيد فطَرِشَ.
اقتتل السُّلطانُ سنجر ومَلِك الغور علاءُ الدين الحسين بن الحسين أوَّلُ مُلوكِهم، فكَسَرَه سنجر وأسَرَه، ثم عَفا عنه وأطلَقَه إلى بلاده، ثمَّ إن علاء الدين قَصَدَ غزنةَ, ومَلِكُها حينئذ بهرام شاه بن إبراهيمَ بنِ مَسعودِ بنِ محمود بن سبكتكين فلم يَثبُتْ بها بين يدي علاءِ الدينِ الغوريِّ، بل فارَقَها إلى كرمان، وهي مدينةٌ بينَ غزنةَ والهندِ، وسُكَّانُها قَومٌ يُقالُ لهم أبغان، فلمَّا فارق بهرام شاه غزنةَ مَلَكَها علاء الدين، وأحسَنَ السيرةَ في أهلِها، واستعمَلَ عليهم أخاه سيف الدين سوري، وأجلسه على تخت المَملكةِ، وخَطَب لنَفسِه ولأخيه سيفِ الدِّينِ بَعْدَه، ثمَّ عاد علاءُ الدين إلى بلد الغور، وأمَرَ أخاه أن يخلَعَ على أعيانِ البَلَدِ خِلَعًا نفيسةً، ويَصِلَهم بصِلاتٍ سَنِيَّةٍ، ففَعَلَ ذلك وأحسنَ إليهم، فلمَّا جاء الشتاء ووقَعَ الثَّلجُ، وعَلِمَ أهل غزنة أنَّ الطَّريقَ قد انقطَعَ إليهم، كاتَبوا بهرام شاه الذي كان صاحِبَها، واستدعوه إليهم، فسار نحوَهم في عسكَرِه، فلما قارب البلَدَ ثار أهلُه على سيف الدين فأخذوه بغيرِ قتالٍ، وكان العلويُّونَ هم الذين تولَّوا أسْرَه، وانهزم الذين كانوا معه، فمنهم مَن نجا، ومنهم من أُخِذَ، ثمَّ إنَّهم سَوَّدوا وَجهَ سَيفِ الدين، وأركبوه بقرةً وطافوا به البلَدَ، ثمَّ صَلَبوه، وقالوا فيه أشعارًا يَهجُونَه بها وغنى بها حتى النِّساءُ، فلمَّا بلغ الخبَرُ إلى أخيه علاء الدين الحسين قال شعرًا معناه: إنْ لم أقلَعْ غزنةَ في مَرَّةٍ واحدة، فلَسْتُ الحسين بن الحسين؛ ثم توفِّيَ بهرام شاه ومَلَك بعده ابنُه خسروشاه، وتجهَّزَ علاء الدين الحُسَين وسار إلى غزنة سنة 550، فلمَّا بلغ الخبَرُ إلى خسروشاه سار عنها إلى لهاوور، ومَلَكَها علاء الدين، ونَهَبها ثلاثة أيام، وأقام بغزنةَ حتى أصلَحَها، ثم عاد إلى فيروزكوه، وتلَقَّبَ بالسُّلطانِ المُعَظَّم وحَمَلَ الجتر على عادةِ السلاطين السلجوقية، فكان خسروشاه آخِرَ مُلوك سبكتكين وبه انقَضَت دولتُهم التي دامت مائتين وثلاث عشرة سنةً تَقريبًا.
كانت غرناطة لعبد المؤمن، فأرسل أهلُها إلى الأمير إبراهيم بن همشك صهر ابن مردنيش فاستدعوه إليهم؛ ليسلموا إليه البلد؛ وكان قد وحَّدَ- صار من أتباع الموحدين- ومن أصحاب عبد المؤمن، وفي طاعته، وممن يحرِّضُه على قتل ابن مردنيش. ثم فارق طاعة عبد المؤمن وعاد إلى موافقة ابن مردنيش. فامتنعوا بحصنها، فبلغ الخبر أبا سعيد عثمان بن عبد المؤمن وهو بمدينة مالقة، فجمع الجيش الذي كان عنده وتوجَّه إلى غرناطة لنصرة من فيها من أصحابهم، فعلم بذلك إبراهيم بن همشك فاستنجد بن مردنيش، ملك البلاد بشرق الأندلس، فأرسل إليه ألفي فارس من أنجاد أصحابه ومن الفرنج الذين جندهم معه، فاجتمعوا بضواحي غرناطة، فالتقوا هم ومن بغرناطة من عسكر عبد المؤمن قبل وصول أبي سعيد إليهم، فاشتد القتال بينهم فانهزم عسكر عبد المؤمن، وقدم أبو سعيد، واقتتلوا أيضًا، فانهزم كثير من أصحابه، وثبت معه طائفة من الأعيان والفرسان المشهورين، والرجالة الأجلاد، حتى قُتلوا عن آخرهم، وانهزم حينئذ أبو سعيد ولحق بمالقة، وسمع عبد المؤمن الخبر، وكان قد سار إلى مدينة سلا، فسيَّرَ إليهم في الحال ابنَه أبا يعقوب يوسف في عشرين ألف مقاتل، فيهم جماعة من شيوخ الموحدين، فجدُّوا المسيرَ، فبلغ ذلك ابن مردنيش فسار بنفسه وجيشه إلى غرناطة ليُعين ابن همشك، فاجتمع منهم بغرناطة جمعٌ كثير، فنزل ابن مردنيش في الشريعة بظاهرها، ونزل العسكر الذي كان أمد به ابن همشك أولًا، وهم ألفا فارس، بظاهر القلعة الحمراء، ونزل ابن همشك بباطن القلعة الحمراء بمن معه، ووصل عسكر عبد المؤمن إلى جبل قريب من غرناطة، فأقاموا في سفحِه أيامًا، ثمَّ سَيَّروا سريةً أربعة آلاف فارس، فبيَّتوا العسكر الذي بظاهر القلعة الحمراء، وقاتلوهم من جهاتهم، فما لحقوا يركبون، فقتلوهم عن آخرهم، وأقبل عسكرُ عبد المؤمن بجملته، فنزلوا بضواحي غرناطة، فعَلِمَ ابن مردنيش وابن همشك أنَّهم لا طاقة لهم بهم، ففَرُّوا في الليلة الثانية، ولحقوا ببلادِهم، واستولى الموحِّدون على غرناطة, وعاد عبدُ المؤمن مِن مدينة سلا إلى مراكش.
هو السلطانُ المَلِكُ المعَظَّم: مظفر الدين أبو سعيد كوكبري بن علي بن بكتكين بن محمد التركماني، صاحب إربل، وابنُ صاحبها, وقد مصرَها الملك زين الدين علي كوجك. ثمَّ وهبها لأولاد مظفر الدين صاحب الموصل، وكان يوصَفُ بقوةٍ مُفرِطة، وطال عمره، وله أوقافٌ وبر ومدرسة بالموصل. ولد مظفر الدين في المحرم، 549، بإربل. تولى مظفَّرُ الدين إربل بعد وفاةِ أبيه وأقام بها مدَّةً وانتقل إلى الموصِلِ، ثمَّ دخل الشام واتصل بالملك الناصرِ صلاحِ الدين فأكرمه كثيرًا، وكانت له آثارٌ حسنة، وقد عمر الجامِعَ المظفري بسفحِ قاسيون، وكان قد هَمَّ بسياقة الماء إليه من ماء بذيرة، فمنعه المعظم من ذلك، واعتَلَّ بأنه قد يمُرُّ على مقابر المسلمين بالسفوح، وكان يهتَمُّ بعمل المولد الشريف اهتمامًا زائدًا حتى إنه كان يرقُصُ بنفسِه ويمارس هذه البدعةَ بنَفسِه، وقد صنَّف الشيخ أبو الخطاب ابن دحية له مجلدًا في المولد النبوي سماه " التنوير في مولد البشير النذير "، فأجازه على ذلك بألف دينار، وقد طالت مدته في الملك في زمان الدولة الصلاحية، وقد كان محاصِرًا عكا، وإلى هذه السنة محمود السيرة والسريرة، وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة، وكانت صدقاته في جميع القرب والطاعات على الحرمينِ وغيرهما. بنى أربع خوانك للزمنى- ذوو الأمراض المزمنة- والأضراء، وكان يأتيهم كل اثنين وخميس، ويسألُ كل واحد عن حاله، ويتفقده، ويباسطه ويمزح معه, وبنى دارًا للنساء، ودارًا للأيتام، ودارًا للُّقَطاء، ورتَّب بها المراضع, وكان يدورُ على مرضى البيمارستان, وله دار مضيف ينزلها كل وارد، ويعطى كل ما ينبغي له, وبنى مدرسة للشافعية والحنفية، وكان يمدُّ بها السماط، ويحضر السماعَ كثيرًا، لم يكن له لذَّةٌ في شيء غيره. وكان يمنع من دخول منكَر بلدَه، وبنى للصوفية رباطين، وكان ينزل إليهم لأجل السَّماعات, ويفتَكُّ من الفرنجِ في كلِّ سنةٍ خَلقًا من الأُسارى، حتى قيل: إن جملة من استفَكَّه من أيديهم ستون ألف أسير، مات ليلة الجمعة، رابع عشر رمضان, وكانت وفاته بقلعة إربل، وأوصى أن يُحمَل إلى مكة فلم يتَّفِقْ، فدفن بمشهد علي, وقد عاش اثنتين وثمانين سنة.
في شهر رجب ورد الخبر على السلطان بخروج الأمير إينال نائب صفد عن الطاعة، وكان سبب خروجه عن الطاعة أنه كان من جملة مماليك الملك الظاهر ططر، ربَّاه صغيرًا، ثم ولاه نيابة قلعة صفد بعد سلطنته، فلما قام الملك الأشرف برسباي بعد الملك الظاهر ططر بالأمر ولى إينال نيابة صفد، وبلغه خلع ابن أستاذه الملك الصالح محمد من السلطنة، فشَقَّ عليه ذلك، وأخذ في تدبيرِ أمره، واتَّفق مع جماعة على العصيان، وخرج عن الطاعة، وأفرج عمن كان محبوسًا بقلعة صفد، وهم: الأمير يشبك أنالي المؤيدي الأستادار، ثم رأس نوبة النوب، والأمير إينال الجكمي أمير سلاح ثم نائب حلب، والأمير جلبان أمير آخور أحد مقدَّمي الألوف، وقبض على من خالفه من أمراء صفد وأعيانها، ففي الحال كتب السلطان الملك الأشرف للأمير مقبل الحسامي الدوادار حاجب حجاب دمشق باستقراره في نيابة صفد، وأن يستمِرَّ إقطاع الحجوبية بيده حتى يتسلم صفد، ثم كتب إلى الأمير تنبك ميق نائب الشام أن يخرج بعسكر دمشق لقتال إينال، ثم ورد على السلطان الأشرف كتاب الأمير تنبك ميق نائب الشام بمجيء الأمير إينال الجكمي، ويشبك أنالي، وجلبان أمير آخور إليه من صفد طائعين للسلطان، وكان من خبر هؤلاء وإينال نائب صفد أنه لما قدم عليه الأمير مقبل الدوادار بعساكر دمشق انهزم إلى قلعة صفد إلى يوم الاثنين رابع شوال، فنزل إليه إينال بمن معه، بعد أن ترددت الرسل بينهم أيامًا كثيرة، فتسلم أعوان السلطان قلعةَ صفد في الحال، وعندما نزل إينال أمر الأمير مقبل أن تفاض عليه خلعة السلطان ليتوجه أميرًا بطرابلس، وكان قد وعد ذلك، لما ترددت الرسل بينهم وبينه مرارًا حتى استقرَّ الأمر على أن يكون إينال من جملة أمراء طرابلس، وكتب له السلطان أمانًا ونسخةَ يمين فانخدع الخمول ونزل من القلعة، فما هو إلا أن قام بلبس الخلعة وإذا هم أحاطوا به وقيَّدوه وعاقبوه أشد عقوبة على إظهار المال، ثم قتلوه وقتلوا معه مائة رجل ممن كان معه بالقلعة، وعلَّقوهم بأعلاها.
هو سليمان باشا الفرنساوي، أو الكولونيل سيف، اسمه "الكولونيل أوكتاف جوزيف انتلم سيف" ولِدَ عام 1788م في مدينة ليون بفرنسا وهو ضابطٌ فرنسي جاء إلى مصر مع الحملةِ الفرنسية، وبقي بها واعتنق الإسلامَ، وهو من بقايا حروب نابليون. عندما فكر محمد علي في بناء جيشٍ مصريٍّ حديث يحافِظُ على إنجازاته عَهِدَ إليه بتكوينِ النواة الأولى من الضباط، واختار له أسوانَ حتى يبتَعِدَ الطلاب عن القاهرة ومؤثِّراتها والمؤامَرات التي كانت تحاكُ فيها. وقد لاقى "الكولونيل سيف" متاعبَ جمةً خلال تدريب طلابِ هذه المدرسة، خاصةً وأنهم لم يعتادوا الطاعةَ المُطلقةَ لرؤسائهم, كما لم يتعودوا أن يتعَلَّموا فنون الحرب الحديثة، وكان "سليمان الفرنساوي" شديدَ الإعجاب بالجندي المصري، ويُؤثَرُ في ذلك قوله: "إن المصريين هم خيرُ من رأيتُهم من الجنود؛ فهم يجمعون بين النشاط والقناعة والجَلَد على المتاعب، مع انشراحِ النَّفسِ وتوطينها على احتمالِ صُنوف الحِرمان، وهم بقليلٍ مِن الخبز يسيرون طوالَ النهار يحدوهم الشَّدوُ والغناءُ. ولقد رأيتُهم في معركة "قونية بالشام" يبقون ساعاتٍ متوالية في خطِّ النار محتفظين بشجاعةٍ ورباطةِ جأشٍ تدعوان إلى الإعجابِ، دون أن تختلَّ صُفوفُهم، أو يسري إليهم المَلَل أو يبدو منهم تقصيرٌ في واجباتهم وحركاتهم الحربية". وظل سليمان باشا في خدمةِ الجيش المصري بعد وفاة محمد علي حتى صار القائِدَ العام للجيش المصري في عهد الخديوي عباس، واستمَرَّ في عمله أيامَ عباس الأول وسعيد باشا، وعاش بين المصريين وقام بمصاهرتِهم، فتزوَّج إحدى بناتِه "محمد شريف باشا" الذي يُطلَق عليه المصريون أبو الدستور، وأنجب منها فتاةً تزوجت من "عبد الرحيم صبري باشا" وأثمر هذا الزواجُ فتاةً أصبحت ملكةً على مصر وهي "الملكة نازلي" أم الملك الراحل" فاروق الأول". وتقديرًا من المصريين أقاموا لسليمان الفرنساوي تمثالًا في ميدان أطلق عليه اسمه، كما أطلقوا اسمه على أحد شوارع القاهرة الرئيسية حتى قامت ثورة يوليو فأطاحت بالتمثال، وغيَّرَت اسم الميدان والشارع، وأطلقت عليهما اسم "طلعت حرب" رجل الاقتصاد المصري الشهير. ومع ذلك لا يزالُ المصريون يفَضِّلون استعمال اسم (شارع سليمان) ربما وفاء منهم لذكرى رجل كانت له اليدُ الطولى في بناءِ أوَّلِ جَيشٍ مصريٍّ حديثٍ.
الحربُ السُّوفيتية في أفغانستانَ، أو الغزوُ السُّوفيتيُّ لأفغانستانَ؛ هو اسمٌ يُطلَق على حرْبٍ دامتْ عشْرَ سنواتٍ، كان هَدَف السُّوفيت المعلَنُ دعْمَ الحكومة الأفغانيةِ الصَّديقة للاتِّحاد السُّوفيتيِّ، والتي كانت تُعاني مِن هَجَمات الثوَّار المعارضِينَ للسُّوفيت، والذين حَصَلوا على دَعْمٍ مِن مجموعةٍ من الدول المناوئةِ للاتحادِ السُّوفيتي، مِن ضِمْنها الولاياتُ المتحدة الأمريكيةُ، والسُّعودية، وباكستانُ، والصِّين. أدخَلَ السُّوفيت قوَّاته في 25 ديسمبر 1979، وقد بدَأَ التدخل الرُّوسي -أو الاحتلال الرُّوسي- مع الرئيس الجديد بابرك كارمل الذي ما كان سِوى دُميةً يُحرِّكها الروسُ، بينما هم يَصُولون ويَجُولون في أفغانستان كما يَشاؤون.
دخَلَ كارمل أفغانستانَ مع القوات الرُّوسية على متن دبَّابة رُوسية من نوع (تي 72)، وكانوا قد سَبَقوه وهو ما يَزال في مُوسكو يُذِيع بَياناتِه على الشعبِ الأفغاني، فاجتازوا نهْرَ جَيحون ممارسينَ الإرهابَ بكلِّ صُوره وأشكالِه، ثم بدَأَ النقلُ الجويُّ الضخم؛ حيث وصَلَ أكثرُ من 300 طائرةِ نقْلٍ ضخمةٍ لنقْلِ الجنود والعَتادِ والمؤنِ إلى كابُلَ، وهاجمت القواتُ الرُّوسية قصرَ الأمانِ ومحطةَ الإذاعةِ، كما جرَّدت وَحدات الجيشِ الأفغاني من سِلاحِها، ثم تَلا ذلك إرسالُ الجيشِ الأربعين الرُّوسي، فتوزَّعت قوَّاته على العواصم الإقليميةِ، ثم نُوقِش مَوضوعُ هذا التدخُّل في هيئة الأُمَمِ، مع المطالَبةِ بالانسحابِ الفوريِّ وغيرِ المشروط، ولكنْ دُون جَدْوى؛ فكالعادةِ عندما يكونُ الأمرُ متعلِّقًا بدولةٍ إسلامية لا يُحرِّكون ساكنًا! واسْتنكَرَت الدولُ الإسلامية هذا التدخُّل السافرَ، ولكنَّ القوَّات الروسيةَ تابعَت تَزايُدَها، فوصَلَ عددُها إلى 75 ألفًا، وأخذَتْ تَستعمِل الغازاتِ السامةَ ضدَّ المجاهدين، وحتى ضدَّ السُّكَّان المحلِّيين، فكَثُرَ اللاجِئون إلى باكستانَ، ولم يَنْقَضِ عام 1400هـ حتى كان عددُ الضحايا المسلمينَ مليونَ شخصٍ، ثم وصَل عددُ القواتِ الروسيةِ بعدَ سنتينِ إلى 150 ألفًا، وتمَّ عقْدُ اتفاقيةٍ مع كابُلَ مُدَّتها خمسُ سنواتٍ، تعهَّدَت فيها موسكو بتأمينِ الخُبراءِ والمعدَّاتِ والتدريبِ؛ حيث لم تَنسحبِ القواتُ السُّوفيتيةُ التي بلَغ عددُها في أفغانستانَ 110 آلاف جُنديٍّ، إلا بمُوجِب اتفاقِ جِنيف الذي وُقِّع في 14 إبريل 1988م، وفي 15 فِبراير 1989م انسحَبَت كافَّة قُوَّات الرُّوس بعد أنْ فَقَدوا 15 ألفَ جُنديٍّ.
وصل مَلِكُ الرُّومِ إلى الشَّامِ وخافه النَّاسُ خَوفًا عظيمًا، وقصَدَ بزاعةَ فحَصَرها، وهي مدينةٌ قَريبةٌ مِن حَلَب، فمضى جماعةٌ مِن أعيانِ حَلَب إلى أتابك زنكي وهو يحاصِرُ حمص، فاستغاثوا به واستنصَروه، فسَيَّرَ معهم كثيرًا من العساكِرِ، فدخلوا إلى حَلَب ليَمنَعوها من الرُّومِ إن حَصَروها، ثمَّ إنَّ مَلِكَ الرومِ قاتل بزاعة، ونَصَب عليها منجنيقاتٍ، وضَيَّق على مَن بها فمَلَكَها بالأمانِ في الخامسِ والعشرينَ مِن رَجَب، ثم غدَرَ بأهلِها فقَتَل منهم وأسَرَ وسَبى، وكان عِدَّةُ مَن جُرِحَ فيها مِن أهلِها خَمسةُ آلافٍ وثمانمئة نفسٍ، وتنصَّرَ قاضيها وجماعةٌ مِن أعيانها نحو أربعمئة نفس؛ خوفًا مِن القَتلِ, فلِلَّهِ الأمرُ، وأقام الرومُ بعد مُلكِها عشرةَ أيَّامٍ يتطَلَّبونَ مَن اختَفى، فقيل لهم: إنَّ جَمعًا كثيرًا مِن أهلِ هذه الناحيةِ قد نزلوا إلى المغاراتِ، فدخنوا عليهم، وهَلَكوا في المغاوِرِ، "وبلغ خبَرُ احتلالِ الرومِ بزاعةَ، وقتْلِهم الذكورَ وسبْيِ النِّساءِ والصِّبيان، فاستنفر النَّاسُ السُّلطانَ للدِّفاعِ عن المُسلِمينَ في الشام، ومنعوا الخُطبةَ والخُطَباء ببغداد وقَلَعوا طوابيقَ الجوامِعِ
عَظُمَ أمرُ ابنِ بَكرانَ العَيَّار بالعراقِ، وكَثُرَ أتباعُه، وصار يَركَبُ ظاهِرًا في جمعٍ من المُفسِدينَ، وخافه الشَّريفُ أبو الكرم الوالي ببغدادَ، فأمر أبا القاسِمِ ابنَ أخيه حاميَ بابِ الأزجِ أن يشتَدَّ عليه ليأمَنَ شَرَّه، وكان ابنُ بكران يُكثِرُ المُقامَ بالسَّوادِ، ومعه رفيقٌ له يُعرَفُ بابن البزاز، فانتهى أمرُهما إلى أنَّهما أرادا أن يضرِبَا باسمِهما سكَّةً في الأنبارِ، فأرسل الشحنةُ والوزيرُ شَرَفُ الدين الزينبي إلى الوالي أبي الكرَمِ وقالا: إمَّا أن تَقتُلَ ابنَ بَكرانَ، وإمَّا أن نَقتُلَك، فأحضَرَ ابن أخيه وعَرَّفَه ما جرى، وقال له: إمَّا أن تختارَني ونَفسَك، وإمَّا أن تختارَ ابنَ بَكرانَ، فقال أنا أقتُلُه، وكان لابنِ بكران عادةٌ يجيءُ في بعضِ اللَّيالي إلى ابنِ أخي أبي الكرمِ، فيُقيمُ في دارِه ويَشرَبُ عنده، فلمَّا جاء على عادَتِه وشَرِبَ، أخذ أبو القاسِمِ سلاحَه ووثَبَ به فقتَلَه وأراح النَّاسَ مِن شَرِّه، ثمَّ أُخِذَ بَعدَه بيَسيرٍ رَفيقَه ابنَ البزازِ وصُلِبَ، وقُتِلَ معه جماعةٌ مِن الحراميَّة، فسَكَن النَّاسُ واطمأنُّوا وهدأت الفِتنةُ.
لما أخذ خوارزم شاه مدينة بلخ سار عنها إلى مدينة ترمذ مجِدًّا، وبها ولدُ عماد الدين صاحب بلخ، فأرسل إليه محمَّد بن علي بن بشير يقولُ له: إن أباك قد صار من أخصِّ أصحابي وأكابِرِ أمراء دولتي، وقد سَلَّمَ إليَّ بلخ، وإنما ظهَرَ لي منه ما أنكَرْتُه، فسَيَّرْتُه إلى خوارزم مُكرَمًا محترمًا، وأمَّا أنت فتكون عندي أخًا ووعَدَه، وأقطعه الكثيرَ، فخدعه محمد بن علي، فرأى صاحِبُها أنَّ خوارزم شاه قد حصره مِن جانبٍ والخطا قد حصره من جانبٍ آخر، وأصحابُه قد أسرهم الدز بغُزنة، فضَعُفَت نفسه، وأرسل من يستحلِفُ له خوارزم شاه، فحلَفَ له، وتسَلَّم منه ترمذ وسَلَّمَها إلى الخطا الكفار، فلقد اكتسَبَ بها خوارزم شاه سُبَّةً عظيمة، وذِكرًا قبيحًا في عاجِلِ الأمر، ثم ظهر للناس بعد ذلك أنَّه إنما سلمها إليهم ليتمكَّنَ بذلك مِن مُلكِ خراسان، ثم يعود إليهم فيأخُذُها وغيرَها منهم؛ لأنَّه لَمَّا مَلَكَ خراسان وقصد بلاد الخطا وأخَذَها وأفناهم؛ عَلِمَ النَّاسُ أنَّه فعل ذلك خديعةً ومكرًا.
هو الشَّيخُ العلَّامةُ الإمامُ الحافِظُ فَريدُ العَصرِ وشَيخُ الزَّمانِ، وإمامُ النُّحاةِ: أثيرُ الدين أبو حيَّان محمَّد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الغرناطي المغربي المالكيُّ ثمَّ الشافعيُّ شَيخُ البلاد المصريَّة، مَولِدُه بغرناطة في أُخريات شوال سنة 654. قرأ القرآنَ بالرِّوايات، واشتغَلَ وسَمِعَ الحديثَ بالأندلس وإفريقيَّة والإسكندريَّة والقاهرة والحجاز، وحصَّل الإجازاتِ من الشام والعراق، واجتهد في طَلَب العلم، حتى بَرَع في النحو والتصريفِ، وصار فيهما إمامَ عَصرِه، وشارَكَ في علوم كثيرة، وكان له اليَدُ الطولى في التفسيرِ والحديثِ، والشروط والفروع، وتراجم الناس وطبقاتهم وتواريخهم، خصوصًا المغاربةَ، وهو الذي جسَّرَ النَّاسَ على مُصَنَّفاتِ ابنِ مالك، ورَغَّبَهم في قراءتِها، وشَرَحَ لهم غوامِضَها، ومن أشهر مُصَنَّفاته: البحر المحيط وهو تفسيره للقرآن، ثم اختصره وسَمَّاه النهر، وله كتاب في التراجم اسمه مجاني العصر، وله تحفة الأريب في غريب القرآن، وله طبقات نحاة الأندلس، توفِّيَ في القاهرة عن 91 عامًا، وهو غيرُ أبي حيان التوحيدي الفيلسوف الصوفي المُلحِد الذي توفِّيَ سنة 414.
قُرئ مرسوم السلطان الأشرف برسباي بمكة المشرفة في الملأ بمنْعِ الباعة من بَسطِ البضائع أيام الموسم في المسجد الحرام، ومِن ضَرْبِ الناسِ الخيامَ بالمسجد الحرام على مصاطبه وأمامها، ومن تحويل المنبر في يوم الجمعة والعيدين من مكانه إلى جانب الكعبة حتى يُسنَدَ إليها، فأُمِرَ أن يُتركَ مكانَه مُسامتًا لمقام إبراهيم الخليل عليه السلام، ويَخطُبَ الخطيب عليه هناك، وأمر أن تُسَدَّ أبواب المسجد بعد انقضاء الموسم إلا أربعة أبواب، من كل جهة باب واحد، وأن تُسَدَّ الأبواب الشارعة من البيوت إلى سطح المسجد، فامتُثِلَ جميع ذلك؛ أما منع الباعة بالحرم فكان من أكبر المصالح والمعروف؛ فإنه كان يقوم الشخص في طوافه وعبادته وأُذنُه ملأى من صياح الباعة والغوغاء من كثرة ازدحام الشراة، وأما نَصبُ الخيام فكان من أكبر القبائحِ، فإنه قيل: إن بعض الناس كان إذا نصب خيامَه بالمسجد الحرام نصب به أيضًا بيت الراحة وحفر له حُفرةً بالحرم، وفي هذا كفاية! وأما تحويل المنبر فإنه قيل للسلطان إن المنبر في غاية ما يكون من الثِّقلِ، وأنه كلما أُلصق بالبيت الشريف انزعج منه وتصدع، فمُنِعَ بسبب ذلك.