كان مؤسِّسُ الدعوة السنوسية محمد بن علي المعروف باسم السنوسي الكبير في الجزائر حين دراستِه في فاس تأثَّر كثيرًا بالحركة الصوفية هناك، وخاصة أولئك الذين ينتَمون إلى الطريقة التيجانية، والتحَقَ فيما بعد بجماعاتٍ متعددة من المتصوَفِّة حين كان يدرُسُ في الحجاز على الشيخِ الإدريسي، وكان يحمِلُ أفكارًا إصلاحيَّةً وتجديدية، فقام بإيجاد طريقة صوفية خاصةٍ به حين كان في مكَّةَ، أطلق عليها اسمَ السنوسية، وكانت من دعوته مقاومةُ النفوذ الأجنبي، ووجد السنوسي أنَّ بلادَه الجزائر بدأت تسقُطُ في يد الفرنسيين، فاستقر به المقامُ في برقة؛ حيث أسَّس زاوية البيضاء، ثم أقيمت العديدُ مِن الزوايا والمراكز الدينية والتربوية على الطريقة السنوسية، ولاقت دعوته صدًى في سكان الصحراء من الشمال الأفريقي كله والسودان.
دعت الحُكومةُ الأندونيسيَّةُ إلى عقدِ مؤتمر للأديان في جاكرتا عام 1387هـ / 1967م فلبَّى الدعوةَ مَن وُجِّهت إليهم، وعُقِدَ المؤتمر في دار المجلس الاستشاري الأعلى ووجَّه فيه الرئيسُ سوهارتو نداءً إلى أتباع الأديان؛ كي يركِّزَ كُلٌّ منهم اهتمامَه التامَّ على مهمة تصعيد مستوى الوعيِ الدينيِّ في أبناء طائفته، وأن يحرصوا على الحيلولة دونَ أن تُحِسَّ طائفة من الطوائف أنَّها مُعَرَّضة لدعايات طائفة أخرى ومُستهدَفة لنشاطها، وقدَّم الجانبُ الإسلامي في المؤتمر أسلوبًا للتراضي، وقد صِيغَ في مشروع ميثاق بين الأديان ملبيًّا نداءَ الرئيس سوهارتو، ولكِنَّ الجانب النصراني -سواء كان الكاثوليكي أو البروتستانتي- قد قابل ذلك المشروعَ بالرَّفض التام، على الرغم من أنَّ النصارى أقلِّيَّة وقد سُوُّوا بالأكثرية المُطلَقة!
تُوفِّي بالسُّعودية الشَّيخُ الدكتور محمد روَّاس قلعجي السُّوريُّ الأصلُ، عن عُمر يناهز الـ(80) عامًا، قضى الكثيرَ منها في التأليفِ والفقهِ والتعليمِ، وفي البُحوث العلميَّة الإسلاميَّة. والدُّكتور محمد رواس قلعجي -رحمه الله- من مواليدِ مدينةِ حَلَب عامَ (1934م)، وحَصَل على الدكتوراه من جامعةِ الأزهرِ بمصرَ في عامَ (1975). وقد تأثَّر كثيرًا بمحدِّث حلبَ الشَّيخِ محمد راغب الطباخ -رحمه الله- كما تأثَّر بالشَّيخِ منتصر الكتاني في كلِّيَّة الشريعةِ بجامعة دِمَشق. تولَّى التفتيشَ في مديرية أوقافِ حلبَ، ثم تنقَّل بين الكُويت والسعودية أستاذًا جامِعيًّا وباحِثًا أكاديمِيًّا. وانشَغَل كثيرًا بجَمْع مَعاجمَ لفقهِ كبارِ الصَّحابة وكبارِ السَّلف، وجمع ذلك بلُغَة علميَّةٍ معاصِرَة.
ازداد مُعاويةُ بنُ أبي سفيانَ رَضِيَ اللهُ عنهما بعد التحكيمِ قُوَّةً، واختلف الناسُ بالعِراقِ على عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، ولم يَعُدْ له همٌّ إلَّا مِصرُ التي كان يخشاها وأهلَها؛ لقُربِهم منه، فأراد أن يَضُمَّها إليه ، فأرسل إلى مَنْ لم يبايعْ عليًّا ولم يأتَمِرْ بأمرِ نُوَّابِه يخبِرُهم بقُدومِ الجيشِ عليهم سريعًا، وكان واليها من قِبَلِ عليٍّ حينَئذٍ محمَّدَ بنَ أبي بكرٍ، وكان يواجِهُ اضطراباتٍ داخليَّةً بسَبَبِ مُعاويةَ بنِ خَديجٍ ومَسلَمةَ بنِ مُخَلَّدٍ ومَن اعتزلوا معهما؛ إذْ كان أمرُهم يزدادُ قُوَّةً يومًا بعد يومٍ، خاصَّةً بعد صِفِّين، فخرج معاويةُ بنُ خَديجٍ ومَن معه مطالِبينَ بدَمِ عُثمانَ رَضِيَ الله عنه، فلمَّا عَلِمَ أميرُ المؤمنينَ عليٌّ رضي الله عنه بذلك رأى أنَّ محمَّدًا لا تمكِنُه المقاوَمةُ، فولَّى على مصرَ الأشْتَرَ النَّخَعيَّ، فتُوُفِّي في الطَّريقِ، وشَقَّ على محمَّدِ بنِ أبي بكرٍ عَزْلُه، فأرسل إليه عليٌّ رَضِيَ الله عنه يُثبِّتُه عليها، ويأمُره بالصَّبرِ، فلمَّا كانت سنةُ ثمانٍ وثلاثينَ من الهِجرةِ أرسل مُعاويةُ عَمْرَو بنَ العاصِ في ستَّةِ آلافٍ، فسار بهم حتى نزل أدنى مِصرَ، فجاءه مَنْ خالفَ عَلِيًّا وطالب بدَمِ عُثمانَ رَضِيَ الله عنه في عَشرةِ آلافٍ، فكتب محمَّدٌ إلى عليٍّ بالخبَرِ واستمدَّه، فأرسل إليه أن يَضُمَّ شِيعتَه إليه، ويأمُرُه بالصَّبرِ ويَعِدُه بإنفاذِ الجيوشِ إليه، فقام محمَّدٌ في النَّاسِ وندَبَهم إلى الخروجِ معه، فقام معه قليلٌ لم يَصمُدوا أمامَ جُيوشِ الشَّامِ وانْهزموا، ودخل عمرُو بنُ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنه الفُسطاطَ، وهرب محمَّدٌ وخرج مُعاويةُ بنُ خَديجٍ يَطلُبُه حتى التقى به فقتَلَه.
عَبَر سَعيدُ خُذَيْنَة والي خُراسان النَّهْرَ وغَزا الصُّغْدَ، وكانوا قد نَقَضوا العَهْدَ وأعانوا التُّرْكَ على المسلمين، فقال النَّاسُ لسَعيدٍ: إنَّك قد ترَكتَ الغَزْوَ، وقد أغار التُّرْكُ، وكَفَرَ أَهلُ الصُّغْد. فقَطَع النَّهْرَ وقَصَد الصُّغْدَ، فلَقِيَه التُّرْكُ وطائِفَة مِن الصُّغْدِ فهَزَمهم المسلمون، فقال سَعيدٌ: لا تَتَّبِعوهم فإنَّ الصُّغْدَ بُستان أَميرِ المؤمنين وقد هَزَمتُموهم، أَفَتُريدون بَوارَهُم؟ وقد قاتَلْتُم يا أَهلَ العِراق الخُلَفاء غَيرَ مَرَّةٍ، فهل أَبادوكُم؟ وسار المسلمون فانْتَهوا إلى وادٍ بينهم وبين المَرَج، فقَطَعَه بَعضُهم وقد أَكْمَن لهم التُّرْكُ، فلمَّا جاءَهم المسلمون خَرجوا عليهم، فانْهزَم المسلمون حتَّى انْتَهوا إلى الوادي، فصَبَروا حتَّى انْكَشفوا لهم. وقيل: بل كان المُنْهَزِمون مَسْلَحَة المسلمين، فما شَعَروا إلَّا والتُّرْك قد خَرَجوا عليهم مِن غَيْضَةٍ وعلى الخَيْلِ شُعْبَة بن ظَهير، فأَعجَلَهم التُّرْك عن الرُّكوبِ، فقاتَلَهم شُعبةُ فقُتِلَ وقُتِلَ نَحو مِن خمسين رَجُلًا وانْهَزَم أَهلُ المَسْلَحَة، وأَتى المسلمين الخَبَرُ، فَرَكِبَ الخَليلُ بن أَوْس العَبْشَمِي -أَحَدُ بَنِي ظالِم- ونادَى: يا بَنِي تَميمٍ إِلَيَّ أنا الخَليلُ! فاجْتَمَع معه جَماعَةٌ، فحَمَل بهم على العَدُوِّ فكَفُّوهم حتَّى جاء الأَميرُ والنَّاسُ فانْهَزَم العَدُوُّ، فصار الخَليلُ على خَيْلِ بَنِي تَميمٍ حتَّى وَلِيَ نَصْرُ بن سِيار، ثمَّ صارت رِياسَتُهم لأَخيهِ الحَكَم بن أَوْسٍ، فلمَّا كان العام المُقبِل بَعَث رِجالًا مِن تَميمٍ إلى وَرَغْسَر فقالوا: لَيْتَنا نَلقَى العَدُوَّ فنُطارِدُهم. وكان سَعيد إذا بَعَث سَرِيَّةً فأصابوا أو غَنِموا وسَبَوْا رَدَّ السَّبْيَ وعاقَبَ السَّرِيَّة.
عاث أبو طاهرٍ سُلَيمانُ بنُ أبي سعيد الجَنابي القرمطي في الأرضِ فسادًا، وحاصَرَ الرحبةَ فدخلها قهرًا وقتل مِن أهلِها خَلقًا، وطلب منه أهلُ قرقيسيا الأمانَ فأمَّنَهم، وبعث سراياه إلى ما حولَها من الأعرابِ، فقتل منهم خلقًا، حتى صار الناسُ إذا سمعوا بذِكرِه يَهربونَ مِن سماع اسمه، وقدَّرَ على الأعرابِ إمارة يحملونَها إلى هجَرَ في كل سنة، عن كل رأسٍ ديناران، وعاث في نواحي الموصِل فسادًا، وفي سنجار ونواحيها، وخَرَّب تلك الديار وقتَلَ وسَلَب ونهب، فقصَدَه مؤنِسٌ الخادم فلم يتواجَها بل رجع إلى بلده هجَرَ فابتنى بها دارًا سَمَّاها دار الهجرة، ودعا إلى المهدي الذي ببلاد المغرب بمدينة المهدية، وتفاقم أمرُه وكثُرَ أتباعُه، فصاروا يكبِسونَ القرية من أرضِ السوادِ فيقتلون أهلَها وينهَبونَ أموالَها، ورام في نفسِه دخولَ الكوفة وأخْذَها فلم يُطِقْ ذلك، ولَمَّا رأى الوزيرُ عليُّ بن عيسى ما يفعَلُه هذا القرمطي في بلادِ الإسلام وليس له دافِعٌ، استعفى من الوزارةِ؛ لضَعفِ الخليفةِ وجَيشِه عنه، وعزل نفسَه منها، فسعى فيها عليُّ بن مقلة الكاتب المشهور، فوَلِيَها بسفارة نصر الحاجب، ثم جهَّزَ الخليفة جيشًا كثيفًا مع مؤنِسٍ الخادم فاقتتلوا مع القرامطةِ، فقتلوا من القرامطة خلقًا كثيرًا، وأسروا منهم طائفةً كثيرة من أشرافِهم، ودخل بهم مؤنِسٌ الخادم بغدادَ، ومعه أعلامٌ مِن أعلامهم مُنكَّسةٌ مكتوبٌ عليها (ونريدُ أن نمُنَّ على الذين استُضعِفوا في الأرض)، ففرح الناسُ بذلك فرحًا شديدًا، وطابت أنفُسُ البغداديَّة، وانكسر القرامطةُ الذين كانوا قد نشؤوا وفَشَوا بأرض العراق، وفوَّضَ القرامِطةُ أمرَهم إلى رجلٍ يقال له حريث بن مسعود، ودَعَوا إلى المهديِّ الذي ظهر ببلاد المغرب جَدِّ الفاطميين، وهم أدعياءُ كَذَبةٌ، كما قد ذكر ذلك غيرُ واحد من العُلَماء.
لَمَّا استقَرَّ المعِزُّ الفاطميُّ بالدِّيارِ المصرية وابتنى فيها القاهرةَ والقصرينِ وتأكَّدَ مُلكُه، سار إليه الحُسَين بن أحمد القرمطي من الأحساءِ في جمعٍ كثيفٍ مِن أصحابه، والتَفَّ معه أميرُ العرب ببلادِ الشَّامِ وهو حَسَّان بنُ الجراح الطائي، في عربِ الشَّامِ بكَمالِهم، فلمَّا سَمِعَ بهم المعِزُّ أُسقِطَ في يده لكَثرتِهم، وكتب إلى القرمطيِّ يَستَميلُه ويقولُ: إنَّما دعوةُ آبائك كانت إلى آبائي قديمًا، فدَعْوتُنا واحدةٌ، ويذكُرُ فيه فَضلَه وفَضل َآبائه، فردَّ عليه الجواب: وصل كتابُك الذي كثُرَ تفضيلُه وقَلَّ تَحصيلُه، ونحن سائِرونَ إليك على إثْرِه. والسَّلامُ، فلمَّا انتَهَوا إلى ديار مصرَ عاثُوا فيها قتلًا ونَهبًا وفسادًا، وحار المعِزُّ فيما يصنَعُ وضَعُفَ جَيشُه عن مقاومتِهم، فعدل إلى المَكيدةِ والخديعة، فراسَلَ حَسَّان بن الجرَّاحِ أميرَ العرب ووَعَده بمائةِ ألف دينارٍ إن هو خذَّلَ بين النَّاسِ، فبعث إليه حسَّان يقولُ: أنِ ابعَثْ إليَّ بما التزمْتَ وتعالَ بمَن معك، فإذا لَقِيتَنا انهَزَمْتُ بمن معي، فلا يبقى للقَرمطيِّ قُوَّةٌ، فتأخذُه كيف شِئتَ، فأرسل إليه بمائةِ ألفِ دينارٍ في أكياسِها، ولكِنَّ أكثَرَها زغلٌ ضَربُ النُّحاسِ وألبَسَه ذهبًا وجعَلَه في أسفَلِ الأكياسِ، وجعل في رؤوسِها الدنانيرَ الخالصةَ، ولَمَّا بعَثَها إليه رَكِبَ في إثرِها في جيشِه، فالتقى النَّاسُ فانهزم حسَّانُ بمن معه، فضَعُفَ جانِبُ القرمطي وقَوِيَ عليه الفاطميُّ فكَسَره، وانهزمت القرامطةُ ورجعوا إلى أذرِعاتٍ في أذَلِّ حالٍ وأرذَلِه، وبعث المعِزُّ في آثارهم القائِدَ أبا محمود بن إبراهيم في عشرةِ آلاف فارس، ليحسِمَ مادَّةَ القرامطة ويُطفِئَ نارَهم عنه.
سار خوارزم شاه إلى خراسانَ بعد أن هزم سنجر، فقصد سرخس، فلمَّا وصَلَ إليها لَقِيَه الإمامُ أبو محمد الزيادي، وكان قد جمَعَ بين الزُّهدِ والعلم، فأكرَمَه خوارزم شاه إكرامًا عظيمًا، ورحل مِن هناك إلى مَرْو الشاهجان، فقصده الإمامُ أحمد الباخرزي، وشَفِعَ في أهلِ مَروٍ، وسأل ألَّا يتعَرَّضَ لهم أحَدٌ من العسكَرِ، فأجابه إلى ذلك، ونزل بظاهرِ البلد، واستدعى أبا الفَضلِ الكرمانيَّ الفقيهَ وأعيان أهلَها، فثار عامَّةُ مرو وقتلوا بعضَ أهل خوارزم شاه، وأخرجوا أصحابَه من البلد، وأغلقُوا أبوابه، واستعَدُّوا للامتناع، فقاتَلَهم خوارزم شاه، ودخل مدينةَ مَرْوٍ سابِعَ عَشرَ ربيع الأول، وقتل كثيرًا من أهلِها، ثم سارَ في شوال إلى نيسابور، فخرج إليه جماعةٌ مِن فُقَهائِها وعلمائها وزهَّادها، وسألوه ألَّا يفعلَ بأهلِ نيسابور ما فعل بأهلِ مَرو، فأجابهم إلى ذلك لكِنَّه استقصى في البَحثِ عن أموالِ أصحاب السُّلطان فأخذها، وقطع خُطبةَ السُّلطان سنجر، أوَّلَ ذي القعدة، وخطبوا له؛ فلمَّا تَرَك الخطيبُ ذِكْرَ السُّلطانِ سنجر وذَكَرَ خوارزم شاه، صاح النَّاسُ وثاروا، وكادت الفِتنةُ تثور والشَّرُّ يعود جديدًا، وإنما منع النَّاسَ مِن ذلك ذوو الرأي والعَقلِ؛ نظرًا في العاقبةِ، فقُطِعَت إلى أوَّلِ المحرم سنةَ سَبعٍ وثلاثين ثم أعيدَت خطبة السُّلطانِ سنجر، ثمَّ سَيَّرَ خوارزم شاه جيشًا إلى أعمالِ بيهق، فأقاموا بها يُقاتِلونَ أهلَها خمسةَ أيام، ثمَّ سار عنها ذلك الجيشُ يَنهبونَ البلاد، وعَمِلوا بخراسان أعمالًا عظيمةً، ومنع السُّلطانُ سنجر من مقاتلة أتسز خوارزم شاه خوفًا من قوةِ الخطا بما وراءَ النَّهرِ، ومجاورتهم خوارزمَ وغيَرها من بلادِ خُراسان.
اجتمع القضاةُ بالشيخِ تقي الدين ابن تيميَّة في دار الأوحدي من قلعةِ الجبل بمصر، وطال بينهما الكلامُ ثمَّ تفَرَّقا قبل الصلاة، والشيخُ تقيُّ الدين مُصَمِّمٌ على عدم الخروجِ من السجن، فلما كان يومُ الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأوَّل جاء الأميرُ حسام الدين مهنا بن عيسى مَلِك العرب إلى السجنِ بنَفسِه وأقسم على الشيخِ تقي الدين ليخرجَنَّ إليه، فلما خرجَ أقسَمَ عليه ليأتيَنَّ معه إلى دار نائبِ السلطانِ الأميرِ سيف الدين سلار المغولي، فاجتمعَ به بعضُ الفقهاء بدار سلار وجَرَت بينهم بحوثٌ كثيرة، ثم فَرَّقَت بينهم الصلاة، ثم اجتمعوا إلى المغربِ وبات الشيخ تقي الدين عند سلار، ثم اجتمعوا يومَ الأحد بمرسومِ السلطان جميعَ النهار، ولم يحضُرْ أحدٌ من القضاة بل اجتمع من الفقهاءِ خلقٌ كثير، أكثَرُ من كل يوم، منهم الفقيه نجم الدين بن رفع، وعلاء الدين التاجي، وفخر الدين ابن بنت أبي سعد، وعز الدين النمراوي، وشمس الدين بن عدنان، وجماعة من الفقهاء، وطلبوا القضاةَ فاعتذروا بأعذار، بعضُهم بالمرض، وبعضُهم بغيره؛ لمعرفتهم بما ابنُ تيميَّة منطوٍ عليه من العلومِ والأدلَّةِ، وأنَّ أحدًا من الحاضرين لا يطيقُه، فقَبِلَ عذرَهم نائِبُ السلطنةِ ولم يكَلِّفْهم الحضورَ بعد أن رسم السلطانُ بحضورهم أو بفَصلِ المجلس على خير، وبات الشيخُ عند نائب السلطنة، وجاء الأميرُ حسام الدين مهنا يريد أن يستصحِبَ الشيخ تقي الدين معه إلى دمشق، فأشار سلار بإقامةِ الشيخِ بمصر عنده ليرى الناسُ فَضلَه وعِلمَه، وينتَفِعَ الناسُ به ويشتغلوا عليه، فكتب الشيخُ كتابًا إلى الشام يتضَمَّنُ ما وقع له من الأمورِ.
هو الأميرُ الإمامُ محمَّدُ بنُ سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان بن إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع بن ربيعة المريدي الدرعي العدناني، مؤسِّسُ الدولة السعودية الأولى، وكان الإمامُ محمد بن سعود آل مقرن قد انطلق من مدينة الدرعية (المنطقة الوسطى بجانب مدينة الرياض، العاصمة الحالية). وكان شجاعًا حازمًا، وقد التقى بالإمام محمد بن عبد الوهاب الذي كان يطلب حمايةَ الدعوة من الإمام محمد بن سعود. وتوافق الاثنان على كثيرٍ من الأمور واتفقا على إقامة دولة مسلِمة تطبِّق الإسلام وتعيدُه إلى أصولِه الصافية بعد ما دخله من الدَّجَل والكهانة, وتحمي الدعوةَ إليه؛ ولتأكيد الصلة بينهما تزوج ابنُ الإمام محمد بن سعود بابنةِ الإمام محمد بن عبد الوهاب, وانطلقت جيوشُ إمارة الدرعية لتوحيدِ الأجزاء المتفَرِّقة في نجدٍ، فضمت كل بلاد العارض (عدا الرياض) وأغلب منطقة الخرج والحاير والوشم والمحمل وسدير، ونشرت الدعوة فيها. وكانت إمارةُ الدرعية تسمي بدولةِ آل مقرن نسبةً إلى جدهم مقرن بن مرخان؛ لأن الناس لم يسمُّوا العائلة الحاكمة للدرعيَّة بآل سعود إلَّا في عهد الإمام الثالث سعود الكبير بن عبد العزيز بن محمد بن سعود. وقد خَلف الإمامُ محمد بعد وفاته ابنَه الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود, فبايعه الناسُ بالإمامة بعد أبيه, يقول ابن غنام: "كان الشيخُ محمد بن عبد الوهاب هو رأسَ النظام المُحْكم لعقده, فأسقط الإمامُ عبد العزيز جميع المظالم والمغارم، وارتفع الحق وأقبلت الدنيا على رعيته، وسارت بفتوحه الركبان, وطارت قلوب أهل الضلال فزعًا".
هو أبو عبدِ الله أحمدُ بنُ مُحمَّد بن حنبل بن هلال بن أسَدٍ الشَّيباني المروزي، نزيل بغداد، أحدُ الأئمَّة الأربعة المشهورينَ في الفقهِ، ثِقةٌ حافِظٌ، فقيهٌ حُجَّةٌ، وهو رأسُ الطَّبقة العاشرة، خرجت أمُّه من مرو وهي حامِلٌ به، فولدته في بغداد، في شهرِ ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة، وقيل: إنَّه وُلِدَ بمَروٍ وحُمِلَ إلى بغداد وهو رضيعٌ. نشأ وتعلَّمَ ببغداد. كان مخضوبًا، طُوالًا، أسمرَ شديدَ السُّمرةِ. توفِّيَ والِدُه وهو شابٌّ, وتزوَّجَ بعد الأربعينَ. ورحل كثيرًا. وعُنِيَ بطلب الحديث، تفَقَّه على الشافعي، وكان له اجتهادٌ حتى صار إمامًا في الحديث والعِلَل، إمامًا في الفِقهِ، كلُّ ذلك مع وَرَعٍ وزُهدٍ وتقَشُّف، وإليه تُنسَبُ الحنابلة، هو الذي وقَفَ وقفَتَه المشهورةَ في مسألةِ خَلقِ القرآن فأبى أن يجيبَهم على بدعتِهم، فضُرِبَ بالسِّياطِ أيَّامَ المعتَصِم والواثِقِ، وبَقِيَ قبلها تحت العذابِ قُرابةَ الأربع سنينَ، وكلُّ ذلك هو ثابتٌ بتثبيت الله له، ثمَّ في عهد الواثقِ مُنِعَ من الفُتيا، وأُمِرَ بلُزومِ بَيتِه كإقامةٍ جَبريَّةٍ، ولم ينفرِجْ أمرُه حتى جاء المتوكِّلُ ورفع هذه المحنةَ، بقي قرابةَ الأربع عشرة سنةً في هذه المحنةِ بين ضَربٍ وحَبسٍ وإقامةٍ جَبريَّة، فكان من الذين قال اللهُ فيهم: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، وكان الذين ثَبَتوا على الفتنةِ فلم يجيبوا بالكليَّة: خمسة: أحمدُ بن حنبل وهو رئيسهم، ومحمَّد بن نوح بن ميمون الجند النيسابوري- ومات في الطريقِ- ونُعَيم بن حماد الخزاعي- وقد مات في السِّجنِ- وأبو يعقوب البويطي- وقد مات في سِجنِ الواثقِ على القول بخلق القرآنِ، وكان مُثقلًا بالحديد- وأحمدُ بنُ نصر الخزاعي، قَتَلَه الواثق، قال يحيى بن معين: "كان في أحمدَ بنِ حَنبل خِصالٌ ما رأيتُها في عالم قَطُّ: كان مُحدِّثًا، وكان حافِظًا، وكان عالِمًا، وكان وَرِعًا، وكان زاهِدًا، وكان عاقِلًا" قال الشافعي: "خرجتُ من العراق فما تركت رجلًا أفضَلَ ولا أعلَمَ ولا أورَعَ ولا أتقى من أحمدَ بنِ حنبل" وقال المُزَني: أحمدُ بن حنبل يومَ المحنة، وأبو بكرٍ يومَ الرِّدَّة، وعُمَرُ يومَ السقيفة، وعُثمانُ يومَ الدار، وعليٌّ يومَ الجَمَلِ وصِفِّين"، وكان- رحمه الله- إمامًا في الحِفظِ، قال أبو زرعة: "كان أحمدُ بنُ حنبل يحفَظُ ألفَ ألف حديثٍ، فقيل: له وما يدريك، قال: ذاكرتُه فأخذت عليه الأبوابَ", وقيل لأبي زُرعةَ: من رأيتَ من المشايخ المحدِّثين أحفَظَ؟ فقال: أحمد بن حنبل، حَزَرتُ كُتُبَه اليومَ الذي مات فيه، فبلغت اثني عشر حِملًا وعِدلًا، ما كان على ظَهرِ كتابٍ منها حديثُ فلان، ولا في بطنِه حديثُ فلانٍ، وكلُّ ذلك كان يحفَظُه عن ظَهرِ قَلبِه", وقال إبراهيم الحربي: "رأيتُ أحمدَ بنَ حنبل كأنَّ اللهَ قد جمع له عِلمَ الأوَّلينَ والآخِرينَ مِن كلِّ صِنفٍ، يقولُ ما شاء، ويُمسِكُ ما شاء". له كتابُ المُسنَد المشهورُ، وله غيرُ ذلك في الجرحِ والتعديل والعِلَل، توفي في بغداد، وكانت جنازتُه مشهودةً, وقيل: لَمَّا مات الإمامُ أحمد صلَّى عليه ألفُ ألفٍ وسِتُّمائة ألف رجلٍ، وأسلم وراءَ نَعشِه أربعةُ آلافِ ذِمِّي مِن هَولِ ما رأَوا.، فرَحِمَه اللهُ تعالى، وجزاه الله خيرًا عن الإسلامِ والمسلمين.
جاء الخبرُ إلى الأمير بكتاش وهو على تل حمدون بأن واديًا تحت قلعة نجيمة وحميص قد امتلأ بالأرمن، وأنَّ أهل قلعة نجيمة تحميهم، فبعث طائفةً مِن العسكر إليهم فلم ينالوا غرَضًا، فسَيَّرَ طائفةً ثانيةً فعادت بغير طائل، فسار الأمراءُ في عِدَّة وافرة وقاتلوا أهلَ نجيمة حتى ردُّوهم إلى القلعة، وزحفوا على الوادي وقتَلوا وأسَروا مَن فيه، ونازلوا قلعةَ نجيمة ليلةً واحدة، وسار العسكَرُ إلى الوطأة، وبقي الأميرُ بكتاش والمَلِك المظفَّر في مقابلة مَن بالقلعة خشيةَ أن يخرُجَ أهل نجيمة فينالوا من أطرافِ العسكر، حتى صار العسكَرُ بالوطأة، ثم اجتمعوا بها، فقَدِمَ البريد من السلطان بمنازلةِ قلعة نجيمة حتى تُفتَح، فعادوا إلى حصارها، واختلف الأميرُ بكتاش والأمير سنجر الدواداري على قتالها، فقال الدواداري: متى نازلها الجيشُ بأسْرِه لا يُعلَمُ من قاتل ممَّن عجَز وتخاذلَ، والرأي أن يقاتِلَ كُلَّ يومٍ أميرٌ بألفه، وأخذ يُدِلُّ بشجاعتِه، ويصَغِّرُ شأن القلعة، وقال: أنا آخُذُها في حجري فسَلَّموا له واتَّفَقوا على تقديمه لقتالها قبل كلِّ أحد، فتقدم الدواداري إليها بألفِه حتى لاحف السور، فأصابه حجَرُ المنجنيقِ فقطع مشطَ رِجلِه، وسقط عن فَرَسِه إلى الأرض، وكاد الأرمن يأخذونَه، إلَّا أن الجماعة بادرت وحمَلَته على جنوبة إلى وطاقه، ولَزِمَ الفراش، فعاد إلى حلب، وسار منها إلى القاهرة، وقُتِلَ في هذه النوبة الأميرُ علم الدين سنجر طقصبا الناصري، وزحف في هذا اليومِ الأمير كرتاي ونَقَب سور القلعة وخَلَّصَ منه ثلاثة أحجار، واستُشهد معه ثلاثة عشر رجلًا، ثم زحف الأميرُ بكتاش وصاحِبُ حماة ببقية الجيش طائفة بعد طائفة، وكلٌّ منهم يُردِفُ الآخر حتى وصلوا إلى السورِ، وأخذوا في النَّقب وأقاموا الستائر، وتابعوا الحصار واحدًا وأربعين يومًا، وكان قد اجتمع بها من الفلَّاحين ونساءِ القرى وأولادِهم خلقٌ كثيرٌ، فلمَّا قلَّ الماءُ عندهم أخرجوا مرَّةً مائتي رجلٍ وثلاثَمائة امرأة ومائةً وخمسين صبيًّا، فقتَلَ العسكر الرجال واقتسموا النساءَ والصبيان، ثم أخرجوا مرَّةً أخرى مائة وخمسين رجلًا ومائتي امرأة وخمسة وسبعين صبيًّا، ففعلوا بهم مثلَ ما فعلوا بمن تقَدَّم، ثم أخرجوا مرةً ثالثة طائفة أخرى، فأتوا على جميعِهم بالقتلِ والسَّبي، حتى لم يتأخَّرْ بالقلعةِ إلَّا المقاتِلة، وقَلَّت المياه عندهم حتى اقتتلوا بالسيوفِ على الماء، فسألوا الأمانَ فأُمِّنوا، وأُخِذَت القلعة في ذي القعدة، وسار مَن فيها إلى حيث أراد، وأخذ أيضًا أحد عشر حصنًا من الأرمن، ومنها النقير، وحجر شغلان، وسرقندكار، وزنجفرة، وحميص، وسَلَّمَ ذلك كُلَّه الأميرُ بكتاش إلى الأميرِ سيف الدين أسندمر كرجي من أمراء دمشقَ، وعيَّنه نائبًا بها، فلم يزَلْ أسندمر بها حتى قَدِمَ التتارُ، فباع ما فيها من الحواصِلِ ونزح عنها، فأخذَها الأرمن، ولما تم هذا الفتحُ عادت العساكرُ إلى حلب وكان الشتاء شديدًا، فأقاموا بها، وبعث السلطانُ إليهم الأميرَ سيف الدين بكتمر السلاح دار، والأميرَ عز الدين طقطاي، والأميرَ مبارز الدين أوليا بن قرمان، والأميرَ علاء الدين أيدغدي شقير الحسامي، في ثلاثة آلاف فارسٍ مِن عساكر مصر، فدخلوا دمشقَ يوم الثلاثاء سابع عشر ذي القعدة، وساروا منها إلى حلب، وأقاموا بها مع العسكَرِ، وبعث متمَلِّكُ سيس إلى السلطانِ يسأل العفوَ.
ضَعُفَ أمرُ الخلافة جِدًّا، وبعث الراضي باللهِ إلى محمَّد بن رائق- وكان بواسط- يدعوه إليه ليولِّيَه إمرةَ الأمراءِ ببغداد، وأمْرَ الخراجِ والمغلِّ في جميع البلاد والدواوين، وأمر أن يَخطُبَ له على جميعِ المنابِرِ، وأنفذ إليه بالخِلَع، فقَدِمَ ابنُ رائق بغداد على ذلك كُلِّه، ومعه الأميرُ بجكم التركي غلامُ مرداويج، وهو الذي ساعد على قتل مرداويج، واستحوذ ابنُ رائق على أموالِ العراقِ بكَمالِه، ونقل أموالَ بيت المال إلى داره، ولم يَبقَ للوزيرِ تَصَرُّفٌ في شيء بالكلية، ووهى أمرُ الخلافة جدًّا، واستقَلَّ نوَّابُ الأطراف بالتصَرُّفِ فيها، ولم يبقَ للخليفةِ حُكمٌ في غيرِ بغداد ومعاملاتها، ومع هذا ليس له مع ابنِ رائقٍ نفوذٌ في شيءٍ ولا تفَرُّدٌ بشيءٍ، ولا كَلِمةٌ تطاع، وإنَّما يَحمِلُ إليه ابنُ رائق ما يحتاجُ إليه من الأموال والنَّفَقات وغيرها، وهكذا صار أمرُ مَن جاء بعده من أمراءِ الأكابِرِ، كانوا لا يرفعونَ رأسًا بالخليفة، وأمَّا بقية الأطراف فالبصرةُ مع ابن رائقٍ هذا، يولِّي فيها من شاء، وخوزستان إلى أبي عبد الله البريدي، وقد غلبَ ابنُ ياقوت على ما كان بيده من مملكةِ تستر وغيرها، واستحوذ على حواصِلِها وأموالِها، وأمر فارسَ إلى عماد الدولةِ بنِ بُوَيه ينازعه في ذلك وشمكيرُ أخو مرداويج، وكرمانُ بيدِ أبي علي محمَّدِ بن إلياس بن اليَسَع، وبلادُ الموصِلِ والجزيرة وديار بكر ومُضَر وربيعة مع بني حمدان، ومصرَ والشَّام في يدي محمد بن ظغج الإخشيدي، وبلاد إفريقيَّة والمغرب في يد القائمِ بأمر الله ابن المهدي الفاطمي، وقد تلقَّبَ بأمير المؤمنين، والأندلس في يد عبد الرحمن بن محمَّد، والملَقَّب بالناصر الأموي وقد لقَّبَ نفسَه كذلك بأمير المؤمنين، وخراسان وما وراء النهر في يد السعيد نصر بن أحمد الساماني، وطبرستان وجرجان في يد الديلم، والبحرين واليمامة وهَجَر في يد أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي القرمطي.
كان القاسِمُ بنُ حَمُّود بقُرطبةَ تَولَّى الحُكمَ بعد أخيه عليِّ بنِ حَمُّود, ثمَّ قام عليه ابنُ أخيه يحيى بنُ علي بن حمود بمالقةَ، فهرب القاسِمُ مِن قُرطبةَ بلا قتالٍ، وصار بأشبيليَّةَ، ثم عاد إليها مرَّةً أخرى، فبقي القاسِمُ بقُرطبةَ شُهورًا واضطَرَب أمرُه، وغَلَب ابنُ أخيه يحيى على المدينةِ المعروفةِ بالجزيرةِ الخضراءِ، وهي كانت مَعقِلَ القاسِمِ، وبها كانت امرأتُه وذخائِرُه، وغلب ابنُ أخيه الثاني إدريسُ بنُ علي صاحِبُ سبتةَ على طنجةَ، وهي كانت عُدَّةُ القاسِمِ يلجأُ إليها إن رأى ما يخافُه بالأندلس، ثمَّ إنَّ أهلَ قُرطبةَ زَحَفوا إلى البربرِ، فانهزم البربرُ عن القاسمِ وخَرَجوا من الأرباضِ كُلِّها في شعبان سنة 414، ولَحِقَت كلُّ طائفةٍ مِن البربرِ ببلَدٍ غَلَبَت عليه، وقصَدَ القاسِمُ أشبيليَّةَ وبها كان ابناه محمَّدٌ والحسن, فلمَّا عَرَفَ أهلُ أشبيليَّةَ خُروجَه عن قُرطُبة ومَجيئَه إليهم، طردوا ابنَيه ومن كان معهما مِن البربرِ وضَبَطوا البلَدَ وقَدَّموا على أنفُسِهم ثلاثةً مِن أكابِرِ البَلَدِ. لَحِقَ القاسِمُ بشَرِيش، واجتَمَعَ البَربرُ على تقديمِ ابنِ أخيه يحيى، فزَحَفوا إلى القاسِمِ فحاصروه حتى صار في قبضةِ ابنِ أخيه، وانفرَدَ ابنُ أخيه يحيى بولايةِ البربر. وبَقِيَ القاسِمُ أسيرًا عنده وعند أخيه إدريسَ بعده إلى أن مات إدريسُ، فقُتِلَ القاسمُ خَنقًا سنة 431، وحُمِلَ إلى ابنه محمَّدِ بنِ القاسم بالجزيرة، فدَفَنَه هناك. فكانت ولايةُ القاسِمِ منذ تسمَّى بالخلافةِ بقُرطبةَ إلى أن أسَرَه ابنُ أخيه سِتَّةَ أعوامٍ، ثم كان مقبوضًا عليه ستَّ عشرةَ سَنةً عند ابني أخيه يحيى وإدريس، إلى أن قُتِلَ. مات القاسِمُ وله ثمانون سنة، وله مِن الولد محمد والحسن، أمُّهما أميرةُ بنتُ الحَسَنِ بن قَنُّون بن إبراهيم بن محمد بن القاسم بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
كانت قريةٌ بحوران- وهي خاص لنائب الشام وهم حلبية يمن، ويقال لهم بنو لبسة وبنو ناشي- وهي حصينة منيعة يضوي إليها كلُّ مُفسدٍ وقاطع ومارق، ولجأ إليهم أحَدُ شياطين رويمن العشير، وهو عمر المعروف بالدنيط، فأعدوا عددًا كثيرة ونهبوا ليغنَموا العشير، وفي هذا الحين بدَرَهم والي الولاة المعروف بشنكل منكل، فجاء إليهم ليرُدَّهم ويهديهم، وطلب الوالي منهم تسليمَ عمر الدنيط، فأبوا عليه وراموا مقاتلَتَه، وهم جمع كثير وجَمٌّ غفير، فتأخَّرَ عنهم وكتب إلى نائب السلطنة ليمُدَّه بجيشٍ عونًا له عليهم وعلى أمثالهم، فجهَّزَ له جماعة من أمراء الطبلخانات والعشراوات ومائة من جند الحلقة الرماة، فلمَّا بغَتَهم في بلدهم تجمَّعوا لقتال العسكر ورموه بالحجارة والمقاليع، وحَجَزوا بينهم وبين البلد، فعند ذلك رمَتْهم الأتراك بالنبال من كل جانب، فقتلوا منهم فوق المائة، فَفَرُّوا على أعقابهم، وأَسَر منهم والي الولاة نحوًا من ستين رجلًا، وأمر بقطع رؤوس القتلى وتعليقها في أعناق هؤلاء الأَسرى، ونُهِبَت بيوت الفلَّاحين كلهم، وسُلِّمَت إلى مماليك نائب السلطنة، لم يفقَدْ منها ما يساوي ثلاثمائة درهم، وكرَّ راجِعًا إلى بصرى وشيوخ العشيرات معه، فأخبر ابن الأمير صلاح الدين ابن خاص ترك، وكان من جملةِ أمراء الطبلخانات الذين قاتلوهم بمبسوط ما يخصُّه، وأنه كان إذا أعيا بعض تلك الأسرى من الجرحى أمر المشاعلي بذبحِه وتعليق رأسِه على بقية الأسرى، وفعل هذا بهم غيرَ مَرَّة حتى إنه قطع رأس شاب منهم وعَلَّقَ رأسه على أبيه، شيخٍ كبير، حتى قَدِمَ بهم بصرى، فشنكل طائفة من أولئك المأسورين، وشنكل آخرين، وقتل الآخرين وحبس بعضهم في القلعة، وعلَّق الرؤوسَ على أخشابٍ نَصَبها حول قلعة بصرى، فحصل بذلك تنكيلٌ شديد لم يقع مثلُه في هذا الأوان بأهل حوران، وهذا كلُّه سُلِّطَ عليهم بما كسَبَت أيديهم، وما ربُّك بظَلَّامٍ للعبيدِ!