كتب المنصورُ إلى ابنه المهدي أن يغزوَ طبرستان، وأن يوجِّهَ أبا الخصيب وخازم بن خزيمة والجنودَ إلى الأصبهبذ، وكان الأصبهبذ يومئذٍ محاربًا للمصمغان، ملك دنباوند، فتحالفا ضدَّ المُسلمين، فانصرف الأصبهبذ إلى بلادِه فحارب المسلمين، فطالت تلك الحروبُ، فوجه المنصورُ عمرَ بن العلاء إلى طبرستان وكان عالِمًا ببلاد طبرستان، فأخذ الجنودَ وقصد الرويان وفتَحَها، وأخذ قلعةَ الطاق وما فيها، وطالت الحربُ، فألحَّ خازم على القتالِ، ففتح طبرستان وقتل منهم فأكثَرَ، وسار الأصبهبذ إلى قلعته فطلب الأمانَ على أن يسَلِّمَ القلعةَ بما فيها من الذخائرِ، وكتب المهدي بذلك إلى المنصورِ، فوجَّه المنصورُ صالحًا صاحِبَ المُصلى، فأحصوا ما في الحصن وانصرفوا، ودخل الأصبهبذ بلاد جيلان من الديلم فمات بها، وأُخِذَت ابنته وهي أم إبراهيم بن العباس بن محمد، وقصَدَت الجنود بلد المصمغان فظَفِروا به وبالبحترية، أم منصور بن المهدي.
كاتَبَ موسى بن أبي العافية- صاحبُ المغرب- الأميرَ الناصر، ورَغِبَ في موالاته، والدخولِ في طاعته، وأن يستميلَ له أهواءَ أهل المغرب المجاورينَ له، فتقبله أحسَنَ قَبولٍ، وأمَدَّه بالخِلَعِ والأموال، وقوَّى يده على ما كان يحاوِلُه من حربِ ابنِ أبي العيش وغيره. فظهر أمرُ موسى من ذلك الوقت في المغرب، وتجمَّعَ له كثيرٌ من قبائل البربر، وتغلَّب على مدينة جراوة، وأخرج عنها الحسَنَ بنَ أبي العيش بن إدريس العلوي؛ وجَرَت بينهما حروبٌ عظيمة، وافتتح الناصِرُ مدينة سبتة، فملأها بالرِّجال، وأتقَنَها بالبُنيان. وبنى سورها بالكذان، وألزم فيها من رَضِيَه من قوَّادِه وأجناده، وصارت مِفتاحًا للغَربِ والعدوة من الأندلس، وباب إليها كما هي الجزيرة وطريف مفتاح الأندلس من العدوة، وقامت الخطبةُ في سبتة باسم أميرِ المؤمنين الناصر، فكان هذا سيطرةً على مضيقِ جبل طارق، وشَكَّل بذلك نوعَ تهديدٍ على الدَّولةِ الفاطميَّة.
هو عُبيدُ الله بنُ الحسَنِ بنِ دلَّال بن دلهم، المعروفُ بأبي الحسَن الكَرخيِّ، أحدُ مشايخ الحنفيَّة المشهورين، ولد سنة 260 وسكن بغدادَ ودرَّسَ فِقهَ أبي حنيفة وانتَهَت إليه رئاسةُ أصحابه في البلاد، وكان متعبِّدًا صبورًا على الفقرِ عزوفًا عمَّا في أيدي الناس، ولكنه كان رأسًا في الاعتزالِ، وقد سمع الحديثَ مِن إسماعيلَ بنِ إسحاق القاضي، وروى عنه حَيوةُ وابنُ شاهين، وأصابه الفالج في آخر عمره، فاجتمع عنده بعضُ أصحابه وتشاوروا فيما بينهم أن يكتُبوا إلى سيفِ الدولة بن حمدان ليساعِدَه بشَيءٍ يستعينُ به في مرضه، فلمَّا عَلِمَ بذلك رفع رأسَه إلى السَّماءِ وقال: " اللهمَّ لا تجعَلْ رزقي إلَّا مِن حيثُ عَوَّدْتني ". فمات عَقِبَ ذلك قبل أن يصِلَ إليه ما أرسَلَ به سيفُ الدولة، وهو عشرةُ آلاف درهم، فتصَدَّقوا بها بعد وفاته، وقد توفِّيَ عن ثمانينَ سنة.
هو الحافِظُ الإمامُ المُجَوِّد العَلَّامة شيخُ الحرم: أبو ذر عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ بنِ مُحمَّد بن عبد الله بن غفير بن محمد، الأنصاريُّ الخُراساني الهَرَوي المالكي، صاحِبُ التصانيفِ، وراوي الصَّحيحِ عن الثلاثة: المستملي، والحَمَوي، والكشميهني. وُلِد سنة 355. سمع الكثيرَ ورحل إلى الأقاليم، وسكن مكَّة، ثمَّ تزوَّجَ في العرب، وكان يحُجُّ كلَّ سنة ويقيمُ بمكَّةَ أيَّام الموسم ويسمعُ النَّاس، ومنه أخذَ المغاربةُ مذهبَ الأشعريِّ عنه، وكان يقولُ إنَّه أخذ مذهَبَ مالكٍ عن الباقِلَّاني، كان حافِظًا، له تصانيفُ منها: تفسير القرآن، وله مُستدرَك على الصحيحين. قال أبو بكر الخطيب: "قَدِمَ أبو ذر بغداد، وحَدَّث بها وأنا غائب، وخرج إلى مكَّة، وجاور، ثم تزوَّجَ في العرب، وأقام بالسرواتِ، فكان يحُجُّ كل عام، ويحَدِّثُ، ثمَّ يرجع إلى أهله، وكان ثقةً ضابطًا دَيِّنًا، مات بمكَّةَ"
لَمَّا قطَعَ المُعِزُّ بنُ باديس الخطبةَ للفاطميِّينَ وخطَبَ للعباسيِّينَ، وأعلن بذلك انشقاقَه عن الفاطميِّينَ وولاءَه للعباسيِّينَ، كاد له المستنصِرُ الفاطميُّ حاكِمُ مِصرَ لَمَّا عجز عنه بنَفسِه وجَيشِه عن قَهرِه، أرسل إليه جموعًا مِن العرب الهلاليَّة مِن بني زغبة ورياح، وهم بطونُ بني عدي الأثبج، وكانوا يسكُنونَ على الضَّفَّة الشرقيَّة من صعيد مصر بعد قُدومِهم من نجد، وكان المستنصِرُ قد عقد لرؤسائِهم ورجالاتِهم على أمصارِ البلاد المغربيَّة وثُغورِها، وقلَّدَهم كثيرًا من الأعمال والولاياتِ؛ كلُّ ذلك انتقامًا مِن المعِزِّ بن باديس، فخرجت في هذه السَّنةِ أوَّلُ حملةٍ بنحوِ أربعمِئَة ألف شَخصٍ، فساروا حتى نزلوا بُرقةَ وأغاروا على طرابلس والقيروان ونَهَبوا وقطعوا الطريقَ، وصَدُّوا جميع الحَمَلاتِ التي سَيَّرَها المعِزُّ ضِدَّهم؛ مما اضطرَّ المعِزَّ للتحَوُّلِ إلى المهدية، ثم تلَتْها حَملاتٌ أخرى عُرِفَت في التاريخِ والقِصَص بتغريبةِ بني هلالٍ.
هو أبو المُظَفَّرِ مَنصورُ بن نِظامِ الدِّينِ نَصرِ بنِ نَصيرِ الدَّولةِ مَروانَ بنِ دوستك الكُرديُّ، صاحِبُ دِيارِ بَكرٍ، تَوَلَّى الحُكمَ بعدَ وَالدِه نِظامِ الدِّين في ذي الحجَّةِ سَنةَ 472هـ، ودَبَّرَ دَولتَهُ ابنُ الأَنبارِيِّ، ولم يَزَل في مُلكِه إلى أن انقَرَضَ أَمرُ بَنِي مَروانَ على يَدِ فَخرِ الدَّولةِ بنِ جَهيرٍ حين حارَبَهُ، وكان جكرمش قد قَبَضَ عليه بالجَزيرَةِ، وتَرَكَهُ عند رَجلٍ يَهوديٍّ، فمات في دارِه، وحَمَلَتهُ زَوجتُه إلى تُربَةِ آبائِه، فدَفَنَتهُ ثم حَجَّت، وعادَت إلى بَلدِ البَشْنَوِيَّة. قال ابنُ الأَثيرِ: " كان مَنصورٌ شُجاعًا، شَدِيدَ البُخْلِ، له في البُخْلِ حِكاياتٌ عَجيبَة، فتَعْسًا لِطالِبِ الدُّنيا، المُعرِض عن الآخِرَةِ، ألا يَنظُر إلى فِعلِها بأَبنائِها، بينما مَنصورٌ هذا مَلِكٌ مِن بَيتِ مَلِكٍ آلَ أَمرُه إلى أن ماتَ في بَيتِ يَهودِيٍّ، نَسألُ الله تعالى أن يُحسِن أَعمالَنا، ويُصلِح عاقِبَةَ أَمرِنا في الدنيا والآخرة، بمَنِّهِ وكَرَمِه".
هو الملك المنصور قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود بن عماد الدين زنكي، صاحب سنجار، وكان كريمًا، حسنَ السيرة في رعيته، حسَنَ المعاملة مع التجَّار، كثيرَ الإحسان إليهم، وأمَّا أصحابه فكانوا معه في أرغد عيش؛ يعُمُّهم بإحسانه، ولا يخافون أذاه، وكان عاجزًا عن حفظ بلده، مسلِّمًا الأمورَ إلى نوابه, ولما توفِّيَ قطب الدين مَلَك بعده ابنُه عماد الدين شاهنشاه، وركب الناسُ معه، وبقي مالكًا لسنجار عدةَ شهور، وسار إلى تل أعفر، وهي له، فدخل عليه أخوه عمر بن محمد بن زنكي، ومعه جماعة، فقتلوه، وملك أخوه عمر بعده فبَقيَ كذلك إلى أن سَلَّم سنجار إلى الملك الأشرف، ولم يمتَّع بملكه الذي قطع رحمه، وأراق الدم الحرام لأجله, ولَمَّا سلم سنجار أخذ عِوَضَها الرقَّةَ، ثم أُخِذَت منه عن قريب، وتوفِّيَ بعد أخذها منه بقليلٍ.
بلغ السُّلطانُ صاحِبُ مصر أنَّ الناصِرَ داود بن الملك المعظَّم صاحب الكرك قد وافق الصالحَ إسماعيل صاحب دمشق، والمنصور إبراهيم صاحب حمص، وأهل حلب، على محاربته، فسير السلطان كمال الدين بن شيخ الشيوخ على عسكر إلى الشام، فخرج إليه الناصرُ وقاتله ببلاد القدس، وأسَرَه في عدة من أصحابه، ثم أطلقهم وعادوا إلى القاهرة، وكان من خبر ذلك أنَّه في يوم الأربعاء ثاني عشر صفر، وقع عسكر الناصر داود على الأمير عز الدين أيبك صاحب صرخد، وقد نزل على الغوار، فكسره وأخذ الأثقالَ، وكان معه الأميرُ شمس الدين شرف- المعروف بالسبع مجانين- وشمس الدين أبو العلاء الكرديان، وشرف الدين بن الصارم صاحب بنين، وكان مقدَّم عسكر الناصر سيف الدين بن قلج، وجماعة من الأيوبية من عسكر مصر.
كان الأمير مانع المريدي الجدُّ الأعلى لأسرة آل سعود يقطُنُ ببلدة الدروع من أعمال القَطيف بشرق الجزيرة العربية، وكان يربطُه بابن درع رئيسِ حجر اليمامة صلةُ نسب، فدعا ابنُ درع مانعًا وأقطعه من أملاكه مرتَفعًا في وادي حنيفة يشتمل على قريتي المليبيد وغصيبة- تبعد 12 ميلًا عن الرياض- فاستقر مانع مع صحبِه وأهله في هذه المنطقة، وبنوا مساكنَهم وسَمَّوها الدرعية، على اسم بلدتهم الأولى في القطيف. كان ذلك في سنة 850هـ ثم توالى أبناءُ مانع وأحفادُه على إمارة الدرعية والقرى التي حولها, ولم يتجاوزوها إلى مناطقَ أخرى إلى أن آلت الإمارةُ إلى محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان سنة 1139هـ /1727م. وبعد أن تمَّت المعاهدة التاريخية بينه وبين الإمام محمد بن عبد الوهَّاب سنة 1157، وبدأت بذلك الدولةُ السعودية الأولى.
لما توفِّيَ الأمير أبو الحسن علي بن موسى بن راشد مختطُّ مدينة شفشاون في شمال المغرب، وبقِيَت بيد أولاده يتولَّون رياستها ولم يزالوا فيها بين سِلمٍ وحرب إلى أن حاصرهم بها الوزير أبو عبد الله محمد بن عبد القادر ابن السلطان محمد الشيخ السعدي بجيوشِ عَمِّه السلطان أبي محمد عبد الله الغالب بالله، وصاحب شفشاون يومئذ الأمير الفاضل أبو عبد الله محمد ابن الأمير أبي الحسن علي بن موسى بن راشد، فلمَّا اشتَدَّ عليه الحصارُ خرج فيمن إليه من أهله وولده وقرابته، وصعدوا الجبلَ المطِلَّ على شفشاون، وذلك ليلة الجمعة الثاني من صفر من هذه السنة، وساروا إلى ترغة، فركبوا منها البحر يوم الجمعة تاسِعَ من هذا الشهر واستقَرَّ الأمير أبو عبد الله بالمدينة النبوية إلى أن مات بها.
هو الشاه الصفوي عباس الكبير الأول بن محمد خدابنده بن طهماسب بن إسماعيل الأول. ولد عباس في مدينة حيرات الواقعة في أفغانستان في 27/1/1571م. تولى حكم الدولة الصفوية سنة 996 بعد أن تمرد على والده ثم نحاه عن الحكم؛ لأنه لم يستطع ضبط الاضطرابات التي عمت البلاد بسبب ضعف شخصيته, ويعتبر عباس هو رابع حكام الدولة الصفوية ومن أقوى وأشرس حكامها, وقد أعاد لها قوتها كما كانت عليه في عهد إسماعيل الأول, فتمكن من سحق الأكراد والأوزبكية السنَّة الذين يعتبرهم أعداءً للدولة، كما حقق انتصارات على العثمانيين، ودخل في تحالفات مع الدول الأوربية ضد الدولة العثمانية، واهتم بتنظيم الدولة إداريًّا وحضاريًّا، وقد كان سفاكًا للدماء متناقضًا في شخصيته بين التدين والفجور، والعدل والظلم! توفي بعد أن دام في الملك قرابة إحدى وأربعين سنة، ثم تولى بعده صفي بن صفي ميرزا بن عباس.
هو الأمير عبد العزيز بن متعب بن عبد الله العلي الرشيد مِن الجعفر من قبيلة شمر من أمراء آل رشيد أصحاب حائل وما حولها بنجد. وَلِيَها بعد وفاة عمه محمد بن عبد الله الرشيد سنة 1315هـ، كان من أشجع العرب في عصره، وأصلَبِهم عودًا. بدأ حكمه في ظل قبولٍ تامٍّ له من قِبَل الأهالي وأفراد أسرته، وكان ذا ميول عسكرية وتوسُّعية، فاهتمَّ كثيرًا بالشأنِ العسكريِّ وكوَّن جيشًا عَزَّز به جميعَ مناطق نفوذه. له وقائِعُ وغاراتٌ كثيرة مع مبارك بن صباح صاحب الكويت، والملك عبد العزيز بن سعود، وأمير المنتفق. وفي أيامه استرجع منه الملك عبد العزيز مدينةَ الرياض سنة 1319هـ، وظلَّ ابن رشيد يصاوِلُ خصومَه، ويقابِلُ الغارات بمثلها، إلى أن قُتِلَ في روضة المهنا بالقصيم. خَلَفَه في إمارة حائل بعد مقتله ابنُه متعب.
بعدَ فَتْحِ تُونُس اقْتَضَتْ الحاجَةُ لِبِناءِ مَسجِد للصَّلاة ونَشْر الدِّين الإسلاميِّ بين أهالي تُونُس، بَنَي أوَّلَ مَسجِد فيها الشَّيْخُ الأمينُ حَسَّان بن النُّعْمان الغَسَّانيُّ فاتِحُ تُونُس وقَرْطاجَنَّة، وسُمِّيَ بـ (جامِع الزَّيْتونَة) لأنَّ مَوْقِعَه كانت به شَجَرَة زَيْتون عندَ صَوْمَعَة كان يَتَعَبَّد فيها راهِبٌ نَصْرانيٌّ، وقِيلَ: إنَّ السَّبَب في تَسْمِيَتِه بهذا الاسم هو لِكَثْرَةِ شَجَر الزَّيْتون بالقُرْبِ مِن مَكان الجامِع عندَ بِنائِه، ثمَّ في سنة 116هـ قام والي أفريقيا الأميرُ عُبيدُ اللّه بن الحَبْحاب بِتَوْسِعَة وإِعْمار الجامِع، وأَحْكَم وَضْعَه على أساسٍ فَخْمٍ، وزاد في ضَخامَتِه. وفي سنة 250هـ بَنَى أبو إبراهيم أحمدُ الأَغْلَبِيُّ في عَهْدِ الخَليفَة المُسْتَعين باللّه قُبَّةَ الجامِع. وفي سنة 381هـ قام أبو الفَتْح المَنْصور بن أبي الفُتُوح يُوسُف بن زِيرِي ثاني مُلوك الصَّنْهاجِيِّين بِتَرْمِيم قُبَّةِ بَهْوِ الجامِع. وفي سنة 747هـ في أيَّام محمَّد المُسْتَنْصِر بن أبي زكريَّا زُوِّدَ الجامِع بالماءِ عن طَريقِ بِناء قَناطِر، وقام أُمَراءُ الشِّيعَة المَهْدِيَّة وبَنُو حَفْص سَلاطين تُونُس بالاهْتِمام بهذا الجامِع، وكان الانْتِهاء من العَمَل به في عَهْد الحاكِم الأغلبيِّ زِيادَة اللّه الثَّاني. وفي سنة 1312هـ /1894م بُنِيَت مِئْذَنَة الجامِع مَكانَ المِئْذَنَة القَديمَة مِن قِبَلِ المُهَنْدِس سُليمان النيقرو. وفي سنة 1357هـ /1939م حَصَل آخِرُ تَرْمِيم للجامِع.
تَراسَل أَهلُ قِنِّسرين مع أَهلِ حِمص وتَزمَّروا واجْتَمَعوا على أبي محمَّد السُّفياني، وهو أبو محمَّد زِيادُ بن عبدِ الله بن يَزيد بن مُعاوِيَة بن أبي سُفيان، فبايَعوه بالخِلافَة، وقام معه نحو مِن أربعين ألفًا فقَصَدهم عبدُ الله بن عَلِيٍّ فالْتقَوا بمَرْج الأخرم، فاقْتَتَلوا مع مُقدِّمَة السُّفياني وعليها أبو الوَرْدِ فاقْتَتَلوا قِتالًا شَديدًا وهَزَموا عبدَ الصَّمد وقُتِلَ مِن الفَريقين أُلوف، فتَقدَّم إليهم عبدُ الله بن عَلِيٍّ ومعه حُميدُ بن قَحْطَبَة فاقْتَتَلوا قِتالًا شديدًا جِدًّا، وجَعَل أصحابُ عبدِ الله يَفِرُّون وهو ثابتٌ هو وحُميد. وما زال حتَّى هُزِمَ أَصحابُ أبي الورد، وثَبت أبو الورد في خَمسمائة فارسٍ مِن أَهلِ بَيتِه وقَومِه، فقُتِلوا جميعًا وهَرَب أبو محمَّد السُّفياني ومَن معه حتَّى لَحِقوا بتَدمُر، وآمنَ عبدُ الله أَهلَ قِنِّسرين وسَوَّدوا وبايَعوه ورَجَعوا إلى الطَّاعة، ثمَّ كَرَّ عبدُ الله راجِعًا إلى دِمَشق وقد بَلغَه ما صَنَعوا، فلمَّا دَنا منها تَفرَّقوا عنها ولم يكُن منهم قِتالٌ فأَمَّنَهم ودَخَلوا في الطَّاعَة. وأمَّا أبو محمَّد السُّفياني فإنَّه ما زال مُضَيَّعًا ومُشَتَّتًا حتَّى لَحِقَ بأَرضِ الحِجاز فقاتَلَه نائِبُ أبي جَعفَر المَنصور في أيَّامِ المنصورِ فقَتلَه وبَعَث بِرَأسهِ وبِابْنَيْنِ له أَخذَهُما أَسِيرَيْنِ فأطْلَقَهُما المنصورُ في أيَّامِه.
وكان سببُ ذلك أنَّ يوسُفَ بنَ محمَّد- عامِلَ أرمينيَّةَ- لَمَّا سار إلى أرمينية خرج إليه بِطْريقٌ يقال له بقراط بن أشوط، ويقال له بِطريقُ البطارقة، يطلبُ الأمان، فأخذه يوسُفُ وابنُه نعمة، فسيَّرَهما إلى باب الخليفة، فاجتمع بطارقة أرمينية مع ابن أخي بقراط بن أشوط، وتحالفوا على قتلِ يوسُفَ، ووافقهم على ذلك موسى بن زرارة، وهو صِهرُ بقراط على ابنتِه، فأتى الخبَرُ يوسف، ونهاه أصحابُه عن المُقام بمكانه، فلم يقبَلْ، فلما جاء الشِّتاء، ونزل الثلج، مكثوا حتى سكنَ الثلج، ثم أتَوه وهو بمدينة طرون، فحصروه بها فخرج إليهم من المدينة فقاتَلَهم، فقتلوه وكلَّ مَن قاتل معه، وأمَّا من لم يقاتِلْ معه، فقالوا له: انزِعْ ثيابَك، وانجُ بنَفسِك عريانًا، ففعلوا ومَشَوا حفاةً عُراةً، فهلك أكثَرُهم من البرد، وسقطت أصابِعُ كثيرٍ منهم، ونجوا، وكان يوسُفُ قبل ذلك قد فَرَّق أصحابَه في رساتيق عمله، فوجَّه إلى كلِّ طائفة منهم طائفةً من البطارقة، فقتلوهم في يومٍ واحد، فلما بلغ المتوكِّلَ وجَّه بغا الكبير إليهم، طالبًا بدَمِ يوسُفَ، فسار إليهم على المَوصِل والجزيرة، فبدأ بأرزن، وبها موسى بن زرارة، فحمَلَ بغا موسى بنَ زرارة إلى المتوكل، وأباح قَتَلَة يوسف، فقتل منهم زُهاءَ ثلاثين ألفًا وسبى منهم خلقًا كثيرًا، فباعهم وسار إلى بلاد الباق، فأسَرَ أشوط بن حمزة أبا العباس.