أقبَلَت الفرنج في جحافِلَ كثيرة إلى الديار المصرية، وساعدهم المصريون فتصَرَّفوا في بعض البلاد، فبلغ ذلك أسدَ الدين شيركوه، فاستأذن الملك نور الدين محمود في العود إليها، وكان كثيرَ الحنق على الوزير شاوِر السعدي، فتجهَّزَ وسار في ربيع الآخر في جيشٍ قويٍّ، وسَيَّرَ معه نور الدين جماعة من الأمراء، فلما اجتمع معه عسكرُه سار إلى مصر على البَرِّ، وترك بلاد الفرنج على يمينه، فوصل الديار المصرية، فقصد أطفيح، وعبَرَ النيل عندها إلى الجانب الغربي، ونزل بالجيزة مقابِلَ مصر، وتصرَّفَ في البلاد الغربية، وحكم عليها، وأقام نيفًا وخمسين يومًا، وكان شاوِر لما بلغه مجيء أسد الدين إليهم قد أرسل إلى الفرنج يستنجِدُهم، فأتوه على الصَّعبِ والذَّلول؛ طمعًا في ملكها، وخوفًا أن يملكها أسد الدين، فلما وصلوا إلى مصر عبروا إلى الجانب الغربي، وكان أسد الدين وعساكره قد ساروا إلى الصعيد، فبلغ مكانًا يُعرَف بالبابين، وسارت العساكر المصرية والفرنج وراءه، فأدركوه بها في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة، وكان أرسل إلى المصريين والفرنج جواسيس، فعادوا إليه وأخبروه بكثرةِ عددهم وعُدَّتهم، وجِدِّهم في طلبه، فعزم على قتالهم، إلا أنه خاف من أصحابه أن تَضعُفَ نفوسُهم، فكلهم أشاروا عليه بعبور النيل إلى الجانب الشرقي والعود إلى الشام، فأشار أحدُهم بالقتال وشجَّعَهم عليه، فقال أسد الدين: هذا الرأي، وبه أعمَلُ، واجتمعت الكلمة على القتال، فأقام بمكانه حتى أدركه المصريون والفرنج وهو على تعبئة، فلما تقاتلت الطائفتان حمل الفرنج على القلب، فقاتلهم من به قتالًا يسيرًا، وانهزموا بين أيديهم غير متفرِّقين وتبعهم الفرنج، فحمل حينئذ أسدُ الدين فيمن معه على من تخلَّفَ عن الذين حمَلوا من المسلمين والفرنج الفارس والراجل، فهزمهم، ووضع السيفَ فيهم، فأثخن وأكثَرَ القتل والأسرَ، فلما عاد الفرنج من المنهزمين، رأوا عسكرَهم مهزومًا، والأرض منهم قَفرًا، فانهزموا أيضًا، فلما انهزم الفرنج والمصريونَ مِن أسد الدين بالبابين سار إلى ثغر الإسكندرية وجبى ما في القُرى على طريقه من الأموال، ووصلَ إلى الإسكندرية، فتسلَّمها بمساعدة من أهلِها سلَّموها إليه، فاستناب بها صلاح الدين بن أخيه، وعاد إلى الصعيد فملكه وجبى أمواله، وأقام به حتى صام رمضان، وأما المصريون والفرنج فإنهم عادوا واجتمعوا على القاهرة، وأصلحوا حالَ عساكرهم، وجمعوا وساروا إلى الإسكندرية، فحصروا صلاحَ الدين بها، واشتَدَّ الحصار، وقلَّ الطعام على من بها، فصبر أهلُها على ذلك، وسار أسد الدين من الصعيد إليهم، وكان شاوِر قد أفسد من معه من التركمان، فوصل رسل الفرنج والمصريين يطلبون الصلح، وبذلوا له خمسين ألف دينار سوى ما أخذه من البلاد، فأجابوا إلى ذلك وشَرَطَ على الفرنج ألَّا يقيموا بالبلاد ولا يتملَّكوا منها قرية واحدة، فأجابوا إلى ذلك، واصطلحوا وعاد إلى الشام، وتسلَّم المصريون الإسكندرية في نصف شوال، ووصل شيركوه إلى دمشق ثامن عشر ذي القعدة، وأما الفرنج فإنهم استقَرَّ بينهم وبين المصريين أن يكون لهم بالقاهرة شحنة، وتكون أبوابها بيد فرسانهم؛ ليمتنع نور الدين من إنفاذ عسكر إليهم، ويكون لهم من دخلِ مصرَ كل سنة مائة ألف دينار. وعاد الفرنج إلى بلادِهم بالساحل الشامي، وتركوا بمصر جماعةً من مشاهير فرسانهم.
أرسل هولاكو وهو نازلٌ على حلب جيشًا مع أميرٍ مِن كبار دولته يقال له كتبغانوين، فوردوا دمشقَ في آخر صفر فأخذوها سريعًا من غير ممانعة ولا مدافع، بل تلقَّاهم كبارها بالرَّحبِ والسعة، وقد كتب هولاكو أمانًا لأهل البلد، فقُرئ بالميدانِ الأخضر ونودي به في البلد، فأمِنَ الناس على وجَلٍ مِن الغدر، كما فعل بأهلِ حلب، هذا والقلعةُ ممتنعةٌ مستورة، وفي أعاليها المجانيقُ منصوبة والحالُ شديدة، فأحضر التتارُ منجنيقًا يُحمَلُ على عجل والخيولُ تجُرُّه، وهم راكبون على الخيلِ وأسلحتهم على أبقار كثيرة، فنصب المنجنيقَ على القلعة من غربيها، وخرَّبوا حيطانًا كثيرةً وأخذوا حجارتَها ورَموا بها القلعةَ رميًا متواترًا كالمطر المتدارك، فهدموا كثيرًا من أعاليها وشرفاتها وتداعت للسقوطِ فأجابهم متوليها في آخِرِ ذلك النهارِ للمصالحة، ففتحوها وخَرَّبوا كل بدنة فيها، وأعالي بروجِها، وذلك في نصف جمادى الأولى من هذه السنة، وقتلوا المتوليَ بها بدر الدين بن قراجا، ونقيبَها جمال الدين بن الصيرفي الحلبي، وسَلَّموا البلد والقلعة إلى أميرٍ منهم يقال له إبل سيان، وكان- لعنه الله- مُعظِّمًا لدين النصارى، فاجتمع به أساقفتُهم وقسوسهم، فعظَّمَهم جدًّا، وزار كنائِسَهم، فصارت لهم دولةٌ وصولة بسببه، وذهب طائفةٌ من النصارى إلى هولاكو وأخذوا معهم هدايا وتحفًا، وقَدِموا من عنده ومعهم أمانٌ مِن جهته، ودخلوا من بابِ توما ومعهم صليبٌ منصوب يحملونه على رؤوسِ النَّاسِ، وهم ينادون بشعارِهم ويقولون: ظهر الدين الصحيح دين المسيح، ويذمُّون دينَ الإسلام وأهله، ومعهم أوان فيها خمرٌ لا يمرون على باب مسجد إلا رشُّوا عنده خمرًا، وقماقم ملآنة خمرًا يرشون منها على وجوه الناس وثيابهم، ويأمرون كل من يجتازونَ به في الأزقَّة والأسواق أن يقوم لصليبِهم، ودخلوا من دربِ الحَجَر فوقفوا عند رباط الشيخِ أبي البيان، ورشوا عنده خمرًا، وكذلك على باب مسجدِ درب الحجر الصغير والكبير، واجتازوا في السوقِ حتى وصلوا درب الريحان أو قريبًا منه، فتكاثر عليهم المسلمونَ فردُّوهم إلى سوق كنيسة مريم، فوقف خطيبُهم إلى دكة دكان في عطفة السوق فمدح دينَ النصارى وذمَّ دين الإسلام وأهله، ثم دخلوا بعد ذلك إلى كنيسة مريمَ وكانت عامرة، ولكن هذا سببُ خرابها، وضربوا بالناقوسِ في كنيسة مريم ودخلوا إلى الجامع بخمرٍ وكان في نيَّتِهم إن طالت مدة التتار أن يخرِّبوا كثيرًا من المساجد وغيرها، ولما وقع هذا في البلد اجتمع قضاةُ المسلمين والشهود والفقهاء فدخلوا القلعةَ يشكون هذا الحالَ إلى متسِلِّمِها إبل سيان فأُهينوا وطُردوا، وقَدَّم كلامَ رؤساء النصارى عليهم، وهذا كان في أول هذه السَّنة وسلطان الشام الناصر بن العزيز مقيمٌ في وطأة برزة، ومعه جيوشٌ كثيرة من الأمراء وأبناء الملوك ليناجِزوا التتار إن قَدِموا عليهم، وكان في جملة من معه الأمير بيبرس البندقداري في جماعةٍ مِن البحرية، ولكِنَّ الكلمة بين الجيوش مختلفةٌ غير مؤتلفة، لِما يريدُه الله عزَّ وجلَّ، وقد عَزَمت طائفةٌ من الأمراء على خلعِ الناصر وسَجنِه ومبايعة أخيه وشقيقِه الملك الظاهِرِ علي، فلما عرف الناصِرُ ذلك هرب إلى القلعةِ وتفَرَّقت العساكر شذَرَ مَذَرَ، وساق الأمير ركن الدين بيبرس في أصحابِه إلى ناحية غزة، فاستدعاه الملك المظفَّر قطز إليه واستقدمه عليه، وأقطعه قليوبَ، وأنزله بدار الوزارة وعَظَّم شأنَه لديه.
كان المستنصِرُ بالله أبو القاسِمِ أحمَدُ بن أمير المؤمنين الظاهِر مُعتقَلًا ببغداد فأُطلِقَ، وكان مع جماعةِ الأعراب بأرض العراق، ثم قصَدَ الظاهر بيبرس حين بلغه تسلطُنَه بمصر، فقدم إليه بصحبته جماعةٌ مِن أمراء الأعراب عشرةٌ منهم الأمير ناصر الدين مهنا في ثامن رجب من هذه السنة، فخرج السلطانُ الظاهر ومعه الوزير والشهود والمؤذنون فتلَقَّوه وكان يومًا مشهودًا، وخرج أهلُ التوراة بتوراتهم، والنصارى بإنجيلهم، ودخل مِن باب النصر في أبهةٍ عظيمة، فلما كان يوم الاثنين ثالث عشر رجب جلس السلطان والخليفة بالإيوان بقلعةِ الجبل، والوزيرُ والقاضي والأمراء على طبقاتهم، وأثبت نَسَب الخليفة المستنصر بالله على الحاكِم تاج الدين بن الأعز، وهذا الخليفةُ هو أخو المستنصر باني المستنصريَّة، وعم المستعصِم بالله، فبويع بالخلافةِ بمصرَ، بايعه المَلِك الظاهر والقاضي والوزير والأمراء، وركب في دست الخلافةِ بديار مصر والأمراء بين يديه والناسُ حَولَه، وشَقَّ القاهرة في ذلك اليوم، وهو الخليفة الثامن والثلاثون من خلفاء بني العباس، بينه وبين العباس أربعة وعشرون أبًا، قال عز الدين بن عبد السلام: لما أخَذْنا في بيعة المستنصر باللهِ، قلت للملك الظاهر: بايِعْه، فقال: ما أُحسِنُ، لكن بايِعْه أنت أوَّلًا وأنا بعدك، فكان أوَّلَ من بايعه القاضي تاج الدين لما ثَبت نَسَبه، ثم السلطان ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثم الأمراء والدولة، وخطب له على المنابر، وضُرِبَ اسمُه على السكة وكان مَنصِبُ الخلافة قد شغر منذ ثلاثِ سنين ونصف؛ لأنَّ المستعصم بالله قُتِلَ في أول سنة ست وخمسين وستمائة، وبويع هذا في يوم الاثنين في ثالث عشر رجب من هذه السنة، وقد أُنزل الخليفةُ المستنصر بالله وحَشَمُه في البرج الكبير بقلعة الجبل، فلما كان يوم سابع رجب ركب في السواد وجاء إلى الجامِعِ بالقلعة فصَعِدَ المنبر وخطب خطبةً ذكر فيها شَرَفَ بني العباس، ثم استفتح فقرأ صدرًا من سورة الأنعام، ثم صلى على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم ترضى عن الصحابةِ ودعا للسلطان الظاهر، ثم نزل فصلى بالنَّاسِ فاستحسنوا ذلك منه، وكان وقتًا حسنًا ويومًا مشهودًا، ثم لما كان يوم الاثنين الرابع من شعبان، ركب الخليفةُ والسلطان والوزير والقضاة والأمراء وأهل الحَل والعَقدِ إلى خيمة عظيمةٍ قد ضُرِبَت ظاهِرَ القاهرةِ فجلسوا فيها، فأُلبِسَ الخليفةُ السلطان بيده خلعةً سوداء، وطوقًا في عنقه، وقيدًا في رجليه وهما من ذهب، ثمَّ إن الخليفة طلب من السلطان أن يجَهِّزَه إلى بغداد، فرتَّبَ السلطان له جندًا هائلة وأقام له من كل ما ينبغي للخلفاء والملوك، ثم سار السلطانُ بصحبته قاصدين دمشق فدخلوا دمشقَ يوم الاثنين سابع ذي القعدة، وكان يومًا مشهودًا، وصلَّيَا الجمعة بجامع دمشق، وكان دخولُ الخليفة من باب البريد، ودخل السلطانُ من باب الزيارة، وكان يومًا مشهودًا أيضًا، ثم جهَّزَ السلطان بيبرس الخليفةَ المستنصر بالله إلى بغداد ومعه أولاد صاحِبِ الموصل, وأنفق عليه وعليهم وعلى من استقَلَّ معه من الجيش الذين يَرِدونَ عنه من الذَّهَب العين ألف ألف دينار، وأطلق له وزاده، فجزاه الله خيرًا.
في نصف المحرَّمِ اتَّفَق أنَّه كان للنصارى مجتَمَعٌ بالكنيسة المعَلَّقة بمصر، واستعاروا من قناديلِ الجامِعِ العتيق جملةً، فقام في إنكارِ ذلك الشيخ نور الدين علي بن عبد الوارث البكري (وهو من أعداء شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّة الذين كانوا قد سَعَوا في أذاه، مع أنَّ شيخَ الإسلام شَفَع فيه أيضًا لما طُلب من جهته)، وجمَعَ مِن البكريَّة وغيرِهم خلائِقَ، وتوجَّه إلى المعلقة وهَجَم على النصارى وهم في مجتَمَعِهم وقناديلُهم وشموعُهم تُزهِرُ، فأخرقَ بهم وأطفأ الشموعَ وأنزل القناديلَ، وعاد البكريُّ إلى الجامع، وقصد القومةَ، وجمع البكريُّ الناسَ معه على ذلك، وقصد الإخراقَ بالخطيب، فاختفى منه وتوجَّه إلى الفخر ناظِرِ الجيش وعَرَّفه بما وقع، وأنَّ كريمَ الدين أكرم هو الذي أشار بعاريَّة القناديلِ، فلم يَسَعْه إلَّا موافقَتُه، فلمَّا كان الغَدُ عرَّفَ الفَخرُ السلطانَ بما كان، وعَلِمَ البكري أنَّ ذلك قد كان بإشارة كريم الدين، فسار بجَمعِه إلى القلعة واجتمع بالنائِبِ وأكابر الأمراء، وشَنَّع في القول وبالغَ في الإنكار، وطلب الاجتماعَ بالسلطان، فأحضر السُّلطانُ القضاة والفُقهاءَ وطلب البكريَّ، فذكر البكريُّ من الآيات والأحاديث التي تتضَمَّنُ معاداة النَّصارى، وأخذ يحُطُّ عليهم، ثم أشار إلى السلطانِ بكلامٍ فيه جفاءٌ وغِلظةٌ حتى غَضِبَ منه عند قولِه: أفضَلُ المعروفِ كَلِمةُ حَقٍّ عند سلطان جائر، وأنت وَلَّيت القبطَ المسالمةَ، وحَكَّمْتَهم في دولتك وفي المسلمين، وأضعْتَ أموال المسلمين في العمائِرِ والإطلاقاتِ التي لا تجوز، إلى غير ذلك، فقال السلطانُ له: ويلك! أنا جائِرٌ؟ فقال: نعم! أنت سَلَّطتَ الأقباط على المسلمين، وقَوَّيت دينَهم، فلم يتملَّكِ السلطانُ نفسَه عند ذلك، وأخذ السَّيفَ وهَمَّ بضربه، فأمسك الأميرُ طغاى يده، فالتَفَت السلطان إلى قاضي القضاة زين الدين بن مخلوف، وقال: هكذا يا قاضي يتجَرَّأُ عليَّ؟ أيش يجبُ أفعل به؟ قل لي!، وصاح به، فقال له ابن مخلوف: ما قال شيئًا يُنكَرُ عليه فيه، ولا يجِبُ عليه شيء، فإنه نقل حديثًا صحيحًا، فصرخ السلطانُ فيه وقال: قمْ عني!، فقام مِن فَورِه وخرج، فقال صدر الدين بن المرحل- وكان حاضرًا- لقاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعي: يا مولانا! هذا الرجل تجرَّأ على السلطانِ، وقد قال الله تعالى آمرًا لموسى وهارون حين بعَثَهما إلى فرعون {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} فقال ابن جماعة للسلطان: قد تجرَّأَ ولم تبقَ إلَّا مَراحِمُ مولانا السُّلطان، فانزعج السلطانُ انزعاجًا عظيمًا، ونهض عن الكرسي، وقَصَد ضربَ البكريِّ بالسَّيف، فتقدَّم إليه طغاي وأرغون في بقية الأمراء، وما زالوا به حتى أمسك عنه، وأمر بقَطعِ لسانه، فأخرج البكريُّ إلى الرحبة، وطُرِحَ إلى الأرض، والأميرُ طغاي يشير إليه أن يستغيثَ، فصرخ البكريُّ وقال: أنا في جيرةِ رسول الله، وكررها مرارًا حتى رقَّ له الأمراء، فأشار إليهم طغاي بالشَّفاعة فيه، فنهضوا بأجمَعِهم وما زالوا بالسلطانِ حتى رسم بإطلاقِه وخروجِه مِن مصر، وأنكر الأميرُ أيدمر الخطيري كونَ البكري قوى نفسَه أولًا في مخاطبة السلطان، ثمَّ إنَّه ذل بعد ذلك، ونسب إلى أنَّه لم يكن قيامُه خالصًا لله.
انشغل السُّلطانُ المَلِكُ الكامِلُ شَعبان بملذَّاته وملاهيه وأعرض عن تدبيرِ الأمور، فتمَرَّدَت المماليكُ، وأخذوا حرم النَّاسِ، وقطعوا الطريقَ، وفَسَدت عِدَّةٌ من الجواري، وكَثُرَت الفِتَنُ بسَبَبِ ذلك حتى بلغ السلطانَ، فلم يعبأ بهذا، وقال: " خلُّوا كُلَّ أحد يعمَلُ ما يريدُ!!"، وقد تظاهر الناسُ بكلِّ قَبيحٍ، فاشتَدَّ الأمرُ على الناس بديار مصر وبلاد الشام، وكَثُرَ دعاؤهم لما هم فيه من السُّخر والمغارم، وتنكَّرت قلوب الأمراء، وكَثُرت الإشاعة بتنكُّر السلطان على الأميرِ يلبغا اليحياوي نائِبِ الشام، وأنه يريد مَسْكَه حتى بلغه ذلك فاحتَرَز على نفسه وبلغ الأمير يلبغا اليحياوي قَتْلُ يوسف أخي السلطان، وقُوَّة عزم السلطان على سَفَر الحجاز موافقةً لأغراض نسائه، فجمَعَ يلبغا أمراء دمشق، وحَلَّفَهم على القيام معه، وبرز إلى ظاهِرِ دمشق في نصف جمادى الأولى وأقام هناك وحَضَر إليه الأميرُ طرنطاي البشمقدار نائبُ حمص، والأمير أراق الفتاح نائب صفد، والأمير أستدمر نائب حماة، والأمير بيدمر البدري نائب طرابلس، فاجتمعوا جميعًا ظاهِرَ دمشق مع عسكرها، وكتبوا بخَلعِ الملك الكامل، وظاهروا بالخروجِ عن طاعته، وكتب الأميرُ يلبغا اليحياوي نائِبُ الشام إلى السلطان: " إني أحَدُ الأوصياء عليك، وإن ممَّا قاله الشهيد رحمه الله لي وللأمراء في وصيته: إذا أقمتم أحدًا من أولادي ولم ترتَضوا سيرتَه جُرُّوه برِجْلِه، وأخرِجوه وأقيموا غيره، وأنت أفسَدْتَ المملكة، وأفقَرْت الأمراء والأجناد، وقَتَلْت أخاك، وقبَضْتَ على أكابر أمراء السلطان الشهيدِ، واشتغَلْت عن المُلْك، والتهيتَ بالنساء وشُربِ الخمر، وصِرْتَ تبيع أخيارَ الأجناد بالفِضَّة " وذكر الأميرُ يلبغا اليحياوي له أمورًا فاحِشةً عَمِلَها، فقَدِمَ كتابه في يوم الجمعة العشرين من جمادى الأولى، فلمَّا قرأه السلطان الكامل تغيَّرَ تغيرًا زائدًا، وكتب الكامِلُ الجوابَ يتضَمَّنُ التلطُّفَ في القول، وأخرجَ الأميرَ منجك على البريد إلى الأمير يلبغا اليحياوي في الثاني عشر، ليَرجِعَه عمَّا عزم عليه، فكَثُرَت القالةُ بين الناس بخروجِ نائِبِ الشَّامِ عن الطاعةِ حتى بلغ الأمراءَ والمماليكَ، فطلب الأمراءَ إلى القلعة وأخَذَ رأيَهم، فوقع الاتفاقُ على خروج العسكر إلى الشامِ مع الأمير أرقطاي، وقَدِمَ كتاب نائب الشامِ أيضًا، وفيه خطُّ أمير مسعود بن خطير، وأمير علي بن قراسنقر، وقلاوون، وحسام الدين البقشمدار- يتضمن: "أنك لا تصلُحُ للمُلكِ، وأنَّك إنما أخَذْتَه بالغَلَبة من غير رضا الأمراء"، وعَدَّد ما فعله، ثم قال: "ونحن ما بَقِينا نَصلُحُ لك، وأنت فما تصلُحُ لنا، والمصلحةُ أن تَعزِلَ نَفسَك"، فاستدعى السلطان الكامل الأمراءَ، وحَلَّفهم على طاعته، ثم أمَرَهم بالسفر إلى الشام، فخرجوا من الغد، ثم إنَّ منجك ساعةَ وصولِه دمشق قَبَضَ عليه يلبغا اليحياوي نائِبُ الشام، وسَجَنه بالقلعة، فبعث السلطانُ الطواشي سرور الزينى لإحضارِ أخويه حاجي وأمير حسين، فاعتذرا بوَعْكِهما، وبعثت أمهاتُهما إلى الأمير أرغون العلائي والأمير الحجازي يسألانِهما في التلطُّفِ مع السلطانِ في أمرهما، ثم عرف الأمير أرغون العلائي والأمير ملكتمر الحجازي بما جرى للسلطانِ من تخوُّفِه منهما فتوحَّشَ خاطِرُ كُلٍّ منهما، وانقطع العلائي عن الخدمة وتعَلَّل، وأخَذَت المماليكُ أيضًا في التنكُّر على السلطان، وكاتَبَ بَعضُهم الأمير يبلغا اليحياوي نائِبَ الشام، واتَّفقوا بأجمعهم حتى اشتَهَر أمْرُهم وتحَدَّثَت به العامة، ووافقهم الأميرُ قراسنقر.
خرجت اليابانُ مِن هذه الحرب بملايين القتلى والجرحى من شَعبِها، واقتصاد مدمَّر كلِّيًّا، وسيطرة كاملة على أراضيها مِن قِبَل القوات الأمريكية؛ فمن هو المسؤول عن إشراك اليابان في هذه الحرب المدمِّرة، وتعرُّض الشعب إلى الكوارث بسببها؟ يرى البعضُ أن الإمبراطور هيروهيتو غيرُ مسؤول؛ لأن الحكومة والجيش الياباني ذا التوجُّهات القومية المتطرِّفة والنزعة التوسعية يعملون خلال السنوات الأخيرة منذ عهد الإمبراطور السابق يوشيهيتوا على إحكامِ سيطرتهم على مقدَّرات البلاد، وأنه بعد وفاته واعتلاء ابنِه هيروهيتو العرش لم ترغب الحكومةُ ولا الجيشُ في إعادة السلطات والامتيازات التي حصلوا عليها خلالَ سنوات حُكمِ أبيه الأخيرة لهيروهيتو؛ ليحكموا باسمه أمام الشعب الياباني. بالإضافة إلى أن الإمبراطور هيروهيتو كان يبدي معارضته وامتعاضه منذ بدايةِ تنفيذ قادة الجيش والحكومة اليابانية لخطَّتِهم التوسعية في قارة آسيا وغزوهم الصين والمذابح التي ارتكبوها هناك قبل الحرب الثانية، وحاول حثَّ الحكومة اليابانية على حَلِّ خلافاتها مع الحكومة الأمريكية عن طريق الحوارِ؛ لأنه كان يريد السلامَ، لكِنَّهم لم يُصغُوا إليه ولا لتوسلاته. بينما يرى البعضُ الآخر أن الإمبراطور هيروهيتو هو سبب رئيس في دخول بلادِه الحرب؛ ولذا كان من الواجب أن يحاكَمَ دوليًّا لدوره في الحربِ؛ فقد حضر جميعَ الاجتماعات الخاصة بحكومته وقادة جيشه، وأنه كان يناقش ويحاور، وكان لا يوقِّع على أي مرسوم أو قرار حتى يفهَمَه ويعرف الغرض منه، كما أنَّ أحد أفراد العائلة المالكة ومن المقرَّبين إلى الإمبراطور ناشده هو وبعض مستشاري الإمبراطور في السنة الأخيرة من الحرب بوقف الحربِ والدخول في محادثات مع الحلفاء، فرفض مشيرًا إلى أنه اجتمع مع قوَّادِ جيشِه وأمرهم بفِعلِ كُلِّ ما يستطيعون لتحقيقِ بعض الانتصارات السريعة على القوات الأمريكية؛ لحفظ ماء وجه الإمبراطورية، وأنه في الشهور الأخيرة من الحرب أمر بالتعبئة الشعبية العامة؛ وذلك لإيجاد دروعٍ بشرية تواجِهُ أي إنزال بحري محتَمَل لقوات الحلفاء على السواحل اليابانية؛ حيث أدى هذا التعَنُّت في إيقاف الحرب إلى فقد مليون ونصف مليون ياباني حياتَهم خاصةً بعد إلقاء قنبلتي هيروشيما وناجازاكي، وأمَّا السبب في عدم محاكمة الإمبراطور هيروهيتو كمُجرمِ حَربٍ مثل بعض المسؤولين في الحكومة والجيش الياباني فهو أنه بعد إعلان اليابان استسلامَها ودخول طلائع قوات التحالف إلى الأراضي اليابانية، خَشِيَ قائد تلك القوات والمفوَّض بإدارة اليابان الجنرال الأمريكي دوغلاس مكارثر أن يواجِهَ هو وقواته مقاومةً عنيفة من الشعب الياباني خاصةً مع ورود تقارير تفيد بأن مجموعات كبيرة من السكان تنوى القيامَ بعمليات انتحارية ضِدَّ قوات التحالف إذا دخلت مُدُنَهم وقراهم؛ لذلك عقد مكارثر اتفاقًا مع الإمبراطور هيروهيتو ينصُّ على منح الإمبراطور هيروهيتو حصانةً من أن يحاكَمَ كمُجرم حرب أمام أي محكمة دولية، وأعطاه وعدًا بأن تقوم الولايات المتحدة بمساعدته في إعادة إعمار اليابان شريطةَ أن يدعَمَ وجود القوات الأجنبية في بلادِه، فتم الاتفاق وسارت الأمور كما أراد مكارثر، وقام الأمريكيون وحلفاؤهم بحملةٍ دعائية ترويجية عالَمية تبين أن هيروهيتو لم يكن له يدٌ فيما قام به الجيش الياباني خلال الحرب العالمية الثانية من غزوٍ ومذابح، وكان مغلوبًا على أمره أمام السيطرة الكلية لقادة جيشِه وأعضاء حكومته المتشَدِّدة.
هو الشيخ الإمام العالم المحدِّث المفنن، عمدة المؤرخين، ورأس المحدثين: تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن تميم بن عبد الصمد البعلبكي الأصل, المصري المولد والوفاة، المقريزي الحنفي ثم الشافعي، ولد في القاهرة 764 نشأ بالقاهرة، وتفقه على مذهب الحنفية، وهو مذهب جده العلامة شمس الدين محمد بن الصائغ، ثم تحول شافعيًّا بعد مدة طويلة. تفقه وبرع، وصنف التصانيف المفيدة النافعة الجامعة لكل علم، وكان ضابطًا مؤرخًا، مفننًا، محدِّثًا، معظَّمًا في الدول. وَلِيَ حسبة القاهرة غيرَ مرة، أوَّلُ ولاياته مِن قِبَل السلطان برقوق في الحادي والعشرين رجب سنة 801 عوضًا عن شمس الدين محمد النجانسي، وولي عدة وظائف دينية، مثل القضاء والحِسبة، وعُرِضَ عليه قضاء دمشق في أوائل الدولة الناصرية، فرَدَّ وأبى أن يَقبَل ذلك، وكان إمامًا مفننًا، كتب الكثير بخطه، وانتقى أشياء، وحصَّل الفوائد، واشتهر ذكره في حياته وبعد موته في التاريخ وغيره، حتى صار به يُضرَبُ المَثَل، وكان له محاسن شتى، ومحاضرة جيدة إلى الغاية لا سيما في ذكر السلف من العلماء والملوك وغير ذلك، وكان منقطعًا في داره، ملازمًا للعبادة والخلوة، قلَّ أن يتردد إلى أحد إلا لضرورة، قال ابن تغري بردي الحنفي: "قرأت عليه كثيرًا من مصنَّفاته، وكان يرجِعُ إلى قولي فيما أذكره له من الصواب، ويغيِّرُ ما كتبه أولًا في مصنفاته، وأجاز لي جميع ما يجوز له وعنه روايته من إجازة وتصنيف وغير ذلك، وسمعت عليه كتاب فضل الخيل للحافظ شرف الدين الدمياطي بكماله في عدة مجالس". وقال عنه ابن تغري في كتابه النجوم الزاهرة: "أملى علي نسبَ المقريزي الناصري محمد ابن أخيه بعد وفاته، إلى أن رفعه إلى علي بن أبي طالب من طريق الخلفاء الفاطميين". وهذا يفسِّرُ سِرَّ الدفاع الشديد من المقريزي عن نسب الفاطميين ويصحِّحُ نَسَبَهم, قال ابن حجر العسقلاني: "والعجب أن صاحبنا المقريزي كان يُفرِطُ في تعظيم ابن خلدون؛ لكونه كان يجزم بصحة نسب بني عُبيد -الذين كانوا خلفاء بمصر، وشُهِروا بالفاطميين- إلى عليٍّ، ويخالف غيرَه في ذلك، ويدفع ما نقل عن الأئمة في الطعن في نَسَبِهم، ويقول: إنما كتبوا ذلك المحضرَ مراعاة للخليفة العباسي. وكان المقريزي ينتمي إلى الفاطميين فأحبَّ ابن خلدون؛ لكونه أثبت نِسبَتَهم، وغفل عن مراد ابن خلدون؛ فإنه كان لانحرافه عن آل علي يُثبِتُ نسبة الفاطميين إليهم، لما اشتهر من سوء معتقد الفاطميين، وكون بعضهم نُسِب إلى الزندقة، وادعى الألوهية كالحاكم، وبعضُهم في الغاية من التعصب لمذهب الرفض، حتى قُتِلَ في زمانهم جمعٌ من أهل السنة, وكانوا يصرِّحون بسب الصحابة في جوامعهم ومجامعهم، فإذا كانوا بهذه المثابة وصحَّ أنهم من آل علي حقيقة، التصق بآل عليٍّ العيبُ، وكان ذلك من أسباب النفرة عنهم، والله المستعان". له عدة مصنفات في التاريخ، أشهرها: السلوك في معرفة دول الملوك, وله كتاب الخطط المشهور، واسمه المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار، يَذكُرُ فيه ما بمصر من الآثار، وله كتاب اتعاظ الحنفاء في تاريخ الفاطميين الخلفاء، وله الدرر المضيئة في التاريخ، وله إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأحوال والحفدة والمتاع، وغيرها من الكتب. كانت وفاته في يوم الخميس السادس عشر رمضان، ودفن من الغد بمقابر الصوفية خارج باب النصر.
غَزَا قُتيبةُ بن مُسلِم كاشْغَر, وهي أَدْنَى مَدائِن الصِّين، وحَمَل مع النَّاسِ عِيالَهُم لِيَضَعَهُم في سَمَرْقَنْد فلمَّا بَلَغ النَّهْرَ اسْتَعمَل رَجُلًا مِن مَوالِيه يُقالُ له الخَوارِزْمي على مَقْطَع النَّهْر، وقال: لا يَجُوزَنَّ أَحَدٌ إلَّا بِجَوازٍ منه، ومَضَى إلى فَرْغانَة، وأَرسَل مَن يُسَهِّل له الطَّريقَ إلى كاشْغَر، وبَعَث جَيْشًا مع كَبيرِ بن فُلان إلى كاشْغَر، فغَنِمَ وسَبَى سَبْيًا، فخَتَمَ أَعْناقَهُم، وأَوْغَل حتَّى بَلَغ قَرِيبَ الصِّين، ثمَّ بَعَث قُتيبةُ إلى مَلِك الصِّين رُسُلًا يَتَهَدَّدُه ويَتَوَعَّدُه ويُقْسِم بالله لا يَرجِع حَتَّى يَطَأَ بِلادَه ويَخْتِم مُلوكَهُم وأَشْرافَهُم، ويَأخُذ الجِزْيَةَ منهم أو يَدخُلوا في الإسلام. فكَتَب إليه مَلِكُ الصِّين: أن ابْعَث إِلَيَّ رَجُلًا شَريفًا يُخْبِرُني عنكم وعن دِينِكُم. فانْتَخَب قُتيبةُ عَشرةً لهم جَمالٌ وأَلْسُن وبَأْسٌ وعَقْلٌ وصَلاحٌ، فأَمَر لهم بِعُدَّةٍ حَسَنَة، ومَتاعٍ حَسَن مِن الخَزِّ والوَشْي وغَيرِ ذلك، وخُيولٍ حَسَنَة، وكان منهم هُبيرَةُ بن مُشَمْرِج الكِلابي، فقال لهم: إذا دَخَلْتُم عليه فأَعْلِموه أَنِّي قد حَلَفْتُ أَنِّي لا أَنْصَرِف حَتَّى أَطَأَ بِلادَهم، وأَخْتِم مُلوكَهُم وأَجْبِي خَراجَهُم. سار الوَفْدُ وعليهم هُبيرَة، فلمَّا دَخَلوا على المَلِك وَجَدوا مَمْلَكَة عَظِيمَة حَصِينَة ذاتَ أَنهارٍ وأَسواقٍ وحُسْنٍ وبَهاءٍ، فدَخَلوا عليه في قَلْعَة عَظِيمَة حَصِينَة، بِقَدْرِ مَدينَةٍ كَبيرَة، فقال المَلِكُ لِتُرْجُمانِه: قُل لهم: ما أنتم؟ وما تُريدون؟ فقالوا: نحن رُسُل قُتيبةَ بن مُسلِم، وهو يَدعوك إلى الإسلامِ، فإن لم تَفعَل فالجِزْيَة، فإن لم تَفعَل فالحَرْب, فأَعطَى الجِزْيَة فقَبِلَها منه قُتيبةُ.
وَجَّهَ محمَّدُ بن عَلِيِّ بن عبدِ الله بن عَبَّاس الدُّعاة في الآفاق، وكان سَبَب ذلك أنَّ أبا هاشِم عبدَ الله بن محمَّد بن الحَنَفِيَّة سار للشَّام إلى سُليمان بن عبدِ الملك، فلمَّا أَكرَمَه وقَضَى حَوائِجَه، ورَأَى مِن عِلْمِه وفَصاحَتِه ما حَسَدهُ عليه وخافه، فلمَّا أَحَسَّ أبو هاشِم بالشَّرِّ قَصَدَ الحُمَيْمَة مِن أَرضِ الشَّراةِ بالأردن، وبها محمَّدُ بن عَلِيِّ بن عبدِ الله بن عَبَّاس، فنَزَل عليه وأَعْلَمَه أنَّ هذا الأَمْرَ صائِرٌ إلى وَلَدِه، وعَرَّفَه ما يَعمَل، وكان محمَّدُ بن عَلِيٍّ رَجُلًا طَموحًا، فحَمَل فِكْرَةَ إِزالَة مُلْكِ بني أُمَيَّة، وبَدَأ يَعمَل على تَنفيذِها. كان أبو هاشِم عبدُ الله بن محمَّد بن الحَنَفِيَّة قد أَعلَم شِيعَتَه مِن أَهلِ خُراسان والعِراق عند تَرَدُّدِهِم إليه أنَّ الأمرَ صائِرٌ إلى وَلَدِ محمَّد بن عَلِيِّ بن عبدِ الله بن عَبَّاس، وأَمَرَهم بِقَصْدِه بَعدَهُ. فلمَّا مات أبو هاشِم قَصَدوا محمَّدًا وبايَعوهُ، وعادوا فدَعوا النَّاسَ إليه، فأَجابوهُم, وكان الذين سَيَّرَهُم إلى الآفاق جَماعةً، وأَمَرَهُم بالدُّعاء إليه وإلى أَهلِ بَيتِه، فلَقوا مَن لَقوا، ثمَّ انْصَرفوا بكُتُبِ مَن اسْتَجاب لهم إلى محمَّد بن عَلِيٍّ، فدَفَعوها إلى مَيْسَرة، فبَعَثَ بها مَيسَرةُ إلى محمَّدِ بن عَلِيِّ بن عبدِ الله بن عَبَّاس، فاخْتار أبو محمَّد الصَّادِق لِمحمَّدِ بن عَلِيٍّ اثْنَي عَشَر رَجُلًا نُقَباء، واخْتَار سَبعين رَجُلًا، وكَتَب إليهم محمَّدُ بن عَلِيٍّ كِتابًا ليكون لهم مِثالًا وسِيرَةً يَسِيرون بها.
كتب المعتزُّ لعلي بن الحسين بن شبل بولاية كرمان، وكتبَ إلى يعقوبَ بن الليث بولايتها أيضًا يلتمِسُ إغراءَ كُلِّ واحدٍ منهما بصاحبه؛ ليُسقِطَ مؤونةَ الهالكِ عنه، وينفرِدَ بالآخر، وكان كلُّ واحد منهما يُظهِرُ طاعةً لا حقيقةَ لها، والمعتز يعلم ذلك منهما. أرسل عليُّ بن الحسين طوقَ بن المغلس إلى كرمان، وسار يعقوبُ إليها فسَبَقه طوقٌ واستولى عليها وأقبل يعقوبُ حتى بقيَ بينه وبين كرمان مرحلةٌ، فأقام بها شهرينِ لا يتقَدَّمُ إلى طوق، ولا طوقٌ يخرج إليه، فلما طال ذلك عليه أظهَرَ الارتحال إلى سجستان، فارتحل مرحلتينِ، وبلغ طوقًا ارتحالُه فظَنَّ أنَّه قد بدا له في حربه، وترك كرمان، فوضع آلةَ الحربِ، وقعد للأكلِ والشُّرب والملاهي، وبلغ يعقوبُ إقبالَ طوقٍ على الشرب، فكرَّ راجعًا فطوى المرحلتينِ في يومٍ واحد، فلم يشعُرْ طوقٌ إلا بغبرةِ عَسكرِ يعقوب، فأحاط به وبأصحابه، فذهب أصحابُه يريدون المناهضةَ والدفعَ عن أنفُسِهم، فقال يعقوبُ لأصحابه: أفرِجوا للقَومِ، فمرُّوا هاربينَ، وخَلَّوا كلَّ ما لهم، وأسَر يعقوبُ طَوقًا، وكان علي بن الحسين قد سَيَّرَ مع طوقٍ في صناديقَ قيودًا ليقَيد بها من يأخُذُه من أصحابِ يعقوب، وفي صناديقَ أطوِقةٌ وأسورة ليعطيَها أهلَ البلاء من أصحابِ نفسِه، فلما غنِمَ يعقوب عسكَرَهم رأى ذلك، فقال: ما هذا يا طوقُ؟ فأخبره، فأخذ الأطوِقةَ والأسورة فأعطاها أصحابَه، وأخذ القيودَ والأغلال فقيَّدَ بها أصحابَ عليٍّ، ثم دخل كرمان وملكَها مع سجستان.
هو أبو طاهرٍ سُلَيمانُ بنُ أبي سعيد الحسن الجَنّابي الهَجري القرمطيُّ، رئيس القرامطة- قبَّحه الله- كان أبوه يحِبُّه ويرجِّحُه للأمرِ مِن بعده، وأوصى: إن حَدَث به موتٌ، فالأمرُ إلى ابنِه سعيدٍ إلى أن يكبَرَ أبو طاهر، فيُعيد سعيدٌ إليه الأمر. فلما كان في سنةِ خمس وثلاثمائة سلَّمَ سعيدٌ الأمرَ إلى أخيه أبي طاهر، فاستجاب لأبي طاهرٍ خَلقٌ وافتتنوا به؛ بسبب أنَّه دلَّهم على كنوزٍ كان والده أطلَعَه عليها وحده، فوقَعَ لهم أنَّه عِلمُ غَيْبٍ، وقد استباح البصرةَ، وأخذ الحجيجَ، وفعَلَ العظائم، وأرعَبَ الخلائِقَ وكُثُرَت جموعُه، وتزلزل له الخليفةُ. وزعم بعضُ أصحابه أنه إلهٌ، ومنهم من زعم أنَّه المسيح، ومنهم مَن قالَ هو نبيٌّ. وقيل: هو المهديُّ، وقيل: هو الممهِّدُ للمهديِّ. وقد هَزَمَ جيشَ الخليفة المقتدي غيرَ مرَّة، ثمّ إنَّه قصد بغداد ليأخذها، فدفَعَ اللهُ شَرَّه. وقتل الحجيجَ حولَ الكعبة وفي جوفِها، وسَلَبَها كسوتَها، وأخذ بابَها وحِليَتَها، واقتلع الحجرَ الأسودَ مِن مَوضِعِه وأخذه معه إلى بلَدِه هَجَر، فمكث عنده من سنة 319 ثم مات- قبَّحه الله ولعَنَه- وهو عندَهم, ولم يردُّوه إلَّا سنة 339، ولَمَّا مات هذا القرمطي قام بالأمرِ مِن بعده إخوتُه الثلاثة، وهم أبو العباس الفضل، وأبو القاسم سعيد، وأبو يعقوب يوسف، بنو أبي سعيد الجنابي، وكان أبو العبَّاسِ ضعيفَ البدن مُقبِلًا على قراءة الكتب، وكان أبو يعقوبَ مُقبِلًا على اللهو واللعب، ومع هذا كانت كلمةُ الثلاثة واحدةً، لا يختلفون في شيءٍ وكان لهم سبعةٌ من الوزراء متَّفِقونَ أيضًا.
هو الوَزيرُ الكَبيرُ، أبو غالبٍ مُحمَّدُ بنُ عليِّ بنِ خَلَفِ بنِ الصيرفيِّ الشِّيعيِّ، المُلَقَّبُ فَخر الملك، وزيرُ بهاءِ الدَّولة أبي نصرِ بنِ عضُدِ الدَّولة بن بُوَيه، وبعد وفاتِه وَزَرَ لِوَلَدِه سُلطانِ الدَّولةِ أبي شُجاعٍ فناخِسرو. أصلُه مِن واسِط، وكان أبوه صيرفيًّا، وباسمِه صَنَّفَ كتاب "الفخري" في الجبرِ والمُقابلة. كان صدرًا مُعظَّمًا، جوادًا مُمَدَّحًا، مِن رجالِ الدَّهرِ، وكان مِن صِباه يتعانى المكارِمَ والأفضالَ، ويلَقِّبونَه بالوزيرِ الصَّغيرِ، وكان من أعظَمِ وُزراءِ آلِ بُوَيه على الإطلاقِ بعدَ أبي الفَضلِ مُحَمَّدِ بنِ العَميد والصَّاحِبِ بنِ عَبَّاد، وكان واسِعَ النِّعمةِ، فسيحَ مجالِ الهمَّة، جَمَّ الفضائِلِ، جَزيلَ العَطايا والنَّوال، وكان شَهمًا كافيًا، خبيرًا بالتصَرُّفِ، سديدَ التَّوقيعِ، طَلْقَ المُحَيَّا، يكاتِبُ مُلوكَ النواحي، ويهاديهم، وفيه عَدلٌ في الجُملةِ، عَمَرَت العراقُ في أيَّامِه، أنشأ بيَمارستانًا، ودارًا عَظيميَنِ ببَغداد, وكان من أثَرِ تَشَيُّعِه أنَّه أعاد اللَّطمَ يومَ عاشوراءَ، فثارت الفِتَنُ لذلك سنة406. كانت جوائِزُه متواترةً على العُلَماء والصُّلَحاء والشُّعَراء. وَلِيَ بعضَ الأعمال، وتنَقَّلَت به الأحوالُ إلى أن وَلِيَ ديوانَ واسط، ثم وزَرَ وناب للسُّلطانِ بهاءِ الدَّولة بفارِس، وافتتَحَ قِلاعًا، ثمَّ وَلِيَ العِراقَ بعد عميدِ الجيوش. لم يزَلْ فَخرُ الملك في عِزِّه وجاهِه وحُرمَتِه إلى أنْ نَقَم عليه سُلطانُ الدَّولة، فحَبَسَه ثمَّ قتلَه بسَفحِ جَبَلٍ قريبٍ مِن الأهواز لثلاثٍ بَقِينَ مِن شهرِ ربيع الأول سنة 407, وعاش ثلاثًا وخمسينَ سنةً.
كانت عسقلان للفاطميين المصريين، ثم إنَّ حاكِمَ مصر الفاطمي الآمر بأحكام الله استعمل عليها إنسانًا يُعرَف بشمس الخلافة، فراسل بغدوين ملك الفرنج بالشام وهادنه، وأدَّى إليه مالًا وعروضًا، فامتنع به من أحكام المصريين عليه إلا فيما يريد من غير مجاهدة بذلك، فوصلت الأخبارُ بذلك إلى الآمر صاحب مصر، وإلى وزيره الأفضل، أمير الجيوش، فعَظُم الأمر عليهما، وجهَّزا عسكرًا وسيَّراه إلى عسقلان مع قائد كبير من قوَّاده، وأظهرا أنه يريد الغزاة، ونفذا إلى القائد سرًّا أن يقبض على شمس الخلافة إذا حضر عندهم، ويقيم هو عِوَضَه بعسقلان أميرًا. فسار العسكر، فعرف شمس الخلافة الحال فامتنع من الحضور عند العسكر المصري، وجاهر بالعصيان وأخرج من كان عنده من عسكر مصر؛ خوفًا منهم، فلما عرف الأفضل ذلك خاف أن يُسَلِّمَ عسقلان إلى الفرنج، فأرسل إليه وطيَّب قلبه وسكَّنه، وأقرَّه على عمله، وأعاد عليه إقطاعَه بمصر، ثم إن شمس الخلافة خاف أهل عسقلان فأحضر جماعة من الأرمن واتخذهم جندًا، ولم يزل على هذه الحال إلى آخر سنة أربع وخمسمائة، فأنكر الأمرَ أهلُ البلد، فوثب به قومٌ من أعيانه وهو راكب، فجرجروه فانهزم منهم إلى داره، فتبعوه وقتلوه، ونهبوا داره وجميع ما فيها، ونهبوا بعض دور غيره من أرباب الأموال بهذه الحُجَّة، وأرسلوا إلى مصر بجَليَّة الحال إلى الآمر والأفضل، فسُرَّا بذلك، وأحسَنا إلى الواصِلين بالبشارة، وأرسلا إليه واليًا يقيم به، ويستعمل مع أهل البلد الإحسان وحُسنَ السيرة، فتَمَّ ذلك وزال ما كانوا يخافونه.
حصر ابن ردمير الفرنجي مدينةَ أفراغة من شرق الأندلس، وكان الأمير يوسف بن تاشفين بن علي بن يوسف بمدينة قرطبة، فجهَّز الزبير بن عمرو اللمتوني والي قرطبة ومعه ألفا فارس، وسير معه ميرة كثيرة إلى أفراغة، وكان يحيى بن غانية، الأمير المشهور، أمير مرسية وبلنسية من شرق الأندلس، ووالي أمرها لأمير المسلمين علي بن يوسف، فتجهَّز في خمسمائة فارس، وكان عبد الله بن عياض صاحب مدينة لاردة، فتجهز في مائتي فارس، فاجتمعوا وحملوا الميرة وساروا حتى أشرفوا على مدينة أفراغة، وكان ابن ردمير في اثني عشر ألف فارس، وأدركه العجب، ونفذ قطعة كبيرة من جيشه. فلما قربوا من المسلمين حمل عليهم بعضُهم وكسَرَهم، وردَّ بعضَهم على بعض، وقتل فيهم، والتحم القتال، وجاء ابن ردمير بنفسه وعساكره جميعها مدلين بكثرتهم وشجاعتهم، وعظم القتال، فكثُرَ القتل في الفرنج، فانهزم ابن ردمير وولى هاربًا، واستولى القتل على جميع عسكرِه، فلم يسلم منهم إلا القليل، ولحق ابن ردمير بمدينة سرقسطة، فلما رأى ما قُتِل من أصحابه مات مفجوعًا بعد عشرين يومًا من الهزيمة، وكان أشدَّ ملوك الفرنج بأسًا، وأكثرهم تجردًا لحرب المسلمين، وأعظمهم صبرًا، كان ينام على طارقته بغير وطاءٍ، وقيل له: هلا تسرَّيت من بنات أكابر المسلمين اللاتي سَبَيتَ؟ فقال: الرجلُ المحارب ينبغي أن يعاشِرَ الرجال لا النساء، وأراح اللهُ منه وكفى المسلمين شَرَّه.
لَمَّا ملك صلاح الدين بيروت وجبيل وغيرهما، سار نحو عسقلان، واجتمع بأخيه العادل ومن معه مِن عساكرِ مِصرَ، ونازلوها يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة، وكان صلاحُ الدين قد أحضر مَلِكَ الفرنج ومُقَدَّم الداوية إليه مِن دمشق، وقال لهما: إن سَلَّمتُما البلادَ إليَّ فلكما الأمانُ، فأرسلا إلى من بعسقلان من الفرنجِ يأمرانِهم بتسليم البلد، فلم يَسمَعوا أمرَهما وردُّوا عليهما أقبَحَ رَدٍّ وأجابوهما بما يسوءُهما، فلما رأى السلطانُ ذلك جَدَّ في قتال المدينة ونَصَب المجانيقَ عليها، وزحَفَ مَرَّةً بعد أخرى، وتقدم النقَّابون إلى السور، فنالوا منه شيئًا. هذا ومَلِكُهم يكَرِّرُ المراسلات إليهم بالتسليم، ويشيرُ عليهم، ويَعِدُهم أنَّه إذا أُطلِقَ مِن الأسر أضرم البلادَ على المسلمين نارًا، واستنجد الفرنجَ مِن البحر، وأجلَبَ الخَيلَ والرَّجِل إليهم من أقاصي بلاد الفرنج وأدانيها، وهم لا يُجيبونَ إلى ما يقولُ ولا يسمعون ما يشير به، ولَمَّا رأوا أنهم كل يوم يزدادون ضعفًا ووهنًا، وإذا قُتِلَ منهم الرجلُ لا يجدون له عِوَضًا، ولا لهم نجدةٌ ينتَظِرونَها، راسلوا مَلِكَهم المأسور في تسليمِ البلد على شروطٍ اقترحوها، فأجابهم صلاحُ الدين إليها، وكانوا قَتَلوا في الحصار أميرًا كبيرًا من المهرانيَّة، فخافوا عند مفارقةِ البلد أنَّ عَشيرتَه يَقتُلونَ منهم بثأره، فاحتاطوا فيما اشتَرَطوا لأنفسهم، فأُجيبوا إلى ذلك جميعِه، وسَلَّموا المدينة آخر جمادى الآخرة، وكانت مدة الحصار أربعةَ عشر يومًا، وسيَّرَهم صلاح الدين ونساءَهم وأموالَهم وأولادهم إلى بيت المقدس، ووفى لهم بالأمانِ.