لَمَّا انهَزَم البربر عن قُرطُبةَ مع أبي القاسِمِ، اتَّفَق رأيُ أهل قُرطُبة على رَدِّ الأمرِ إلى بني أميَّة، فاختاروا منهم ثلاثةً، وهم: عبدُ الرَّحمنِ بنُ هِشامِ بنِ عبد الجبَّار بن عبد الرَّحمن الناصر أخو المهديِّ، وسُليمانُ بنُ المرتضى، ومحمَّدُ بنُ عبد الرحمن بن هشام بن سليمان القائمُ على المهدي بن الناصر، ثم استقَرَّ الأمر لعبدِ الرَّحمنِ بن هشامِ بنِ عبد الجبَّار، فبويع بالخلافةِ لثلاثَ عَشرةَ ليلةً خلت لرمضان سنة 414هـ، وله اثنتان وعشرون سنةً، وتلَقَّبَ بالمُستَظهر، ثم قام عليه أبو عبدِ الرَّحمنِ مُحمَّدُ بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر مع طائفةٍ مِن أراذِلِ العَوامِّ فقُتِلَ عبدُ الرَّحمنِ بنُ هشام، وذلك لثلاثٍ بَقِينَ مِن ذي القَعدةِ سَنةَ 414هـ، وتلَقَّب محمَّدُ بنُ عبد الرحمن هذا بالمُستكفي، وبويعَ له بالخِلافةِ.
لَمَّا انقَطَعَت دعوةُ يحيى بنِ عليٍّ الفاطميِّ عن قُرطُبةَ، أجمَعَ رأيُ أهلِ قُرطبةَ على ردِّ الأمرِ إلى بني أمَيَّة، وكان عَميدُهم في ذلك والذي تولَّى مُعظَمَه وسعى في تمامِه الوَزير أبا الحَزمِ جهور بنَ مُحمَّد بن جهور بن عبيد الله بن محمَّد بن الغمر بن يحيى بن عبد الغافر بن أبي عبدة، وقد كان ذهَبَ كُلُّ مَن يُنافِسُ في الرِّياسةِ في الفِتنةِ بقُرطُبةَ، فراسَلَ جهور من كان معه على رأيِه مِن أهلِ الثُّغورِ والمتَغَلِّبينَ هنالك على الأمورِ وداخلهم في هذا الأمرِ، فاتَّفَقوا بعد مُدَّةٍ طويلةٍ على تقديمِ أبي بكر هِشامِ بنِ مُحَمَّد بنِ عبد الملك بنِ عبدِ الرَّحمنِ الناصر، وهو أخو المرتضى، وكان هِشامٌ هذا مقيمًا بحِصنٍ في الثُّغورِ يُدعى ألبنت تحتَ إمرةِ أبي عبدِ اللهِ مُحَمَّد بن عبد الله بن قاسم القائِد المتغَلِّب بها، فبايعوه وتلَقَّبَ بالمعتَدِّ بالله.
هو عبدُ الرَّشيد بن محمود بن سُبُكْتِكِين، مِن مُلوكِ الدَّولة الغَزْنويَّة، كان ابنُ أخيهِ مَوْدودُ بن مسعود قد حَبسَهُ في قَلعةِ ميدين، ولما تُوفِّي مَودود سنة 441هـ خَلَفَهُ وَلدٌ له، فبَقِيَ خَمسةَ أيَّامٍ ثم قَصدَ بعضُ النَّاسِ القَلعةَ وأَخرَجوا عبدَ الرَّشييد وبايعوه ودَخلوا معه غَزنَة، ولَقَّبوهُ شَمسَ دِين الله، وكان ضَعيفًا قَليلَ الحِيلَة، فلم يَطُل عَهدُه, فقد قَتلَهُ حاجبٌ لِمَودود اسمهُ طُغْرُل، وكان مَودود قد قَدَّمَهُ، ونَوَّه باسمِه، وزَوَّجَهُ أُختَه، فلمَّا تُوفِّي مَودود ومَلَكَ عبدُ الرَّشيد أَجرَى طُغرُل على عادتِه في تَقدُّمِه، وجَعلهُ حاجبَ حُجَّابِه، فأشار عليه طُغرُل بِقَصدِ الغُزِّ وإجلائهِم مِن خُراسان، فسَيَّرَهُ إليها، فقَوِيَ أَمرُ طُغرُل هذا إلى أن حَدَّثَتهُ نَفسُه بِمُلْكِ غَزْنَة بدل عبدِ الرَّشيد، فأَعمَل الحِيلةَ وعاد بالجُيوش التي كانت معه، وقَتَلَ عبدَ الرَّشيد وتَزوَّج أُختَه كُرْهًا ومَلَكَ البَلدَ.
سَيَّرَ تَميمٌ، صاحبُ إفريقية، عَسكرًا كَثيفًا إلى مَدينةِ قابس، وبها أحمدُ بن خُراسان قد أَظهرَ عليه الخِلافُ، وسَببُ ذلك أنَّ المُعِزَّ بن باديس، أبا تَميمٍ، لمَّا فارَقَ القَيروانَ والمَنصوريَّةَ ورَحلَ إلى المَهديَّة، استَخلفَ على القَيروان وعلى قابس قائدَ بنَ مَيمونٍ الصنهاجيَّ، وأَقامَ بها ثلاثَ سنين، ثم غَلبَتهُ هوارةُ عليها، فسَلَّمَها إليهم وخَرجَ إلى المَهدِيَّة، فلمَّا وَلِيَ المُلْكَ تَميمُ بن المُعِزِّ بعدَ أَبيهِ رَدَّهُ إلى قائدِ بنِ ميمونٍ، وأَقامَ عليها، ثم أَظهرَ الخِلافُ على تَميمٍ والْتَجأَ إلى طَاعةِ الناصرِ بن علناس بن حمَّادٍ، فسَيَّرَ إليه تَميمٌ عَسكرًا كَثيرًا، فلمَّا سَمِعَ بهم قائدُ بن مَيمونٍ عَلِمَ أنَّه لا طَاقةَ له بهم، فتَركَ القَيروانَ وسار إلى الناصرِ، فدَخلَ عَسكرُ تَميمٍ القَيروانَ، وخَرَّبوا دُورَ قائدٍ، وسار العَسكرُ إلى قابس، وبها ابنُ خُراسان، فحَصَروهُ بها سَنةً وشَهرينِ، ثم أَطاعَ ابنُ خُراسان تَميمًا وصالَحهُ.
لما فرغ الفرنج من طرابلس سار طنكري، صاحب أنطاكية، إلى بانياس وحَصَرها وافتتحها، وأمَّن أهلها، ونزل مدينة جبيل، وفيها فخر الملك بن عمار الذي كان صاحب طرابلس، وكان القوت فيها قليلًا، فقاتلها إلى أن ملكها في الثاني والعشرين من ذي الحجة من السنة بالأمان، وخرج فخر الملك بن عمار سالِمًا، ووصل عَقيبَ ملك طرابلس الأسطولُ المصري بالرجال والمال والغلال وغيرها ما يكفيهم سنة، فوصل إلى صور بعد أخذ طرابلس بثمانية أيام، وفُرِّقت الغلال التي فيه والذخائِرُ في الجهات المنفذة إليها صور وصيدا وبيروت، وأما فخر الملك بن عمار فإنه قصد شيزر، فأكرمَه صاحبها الأمير سلطان بن علي بن منقذ الكناني، واحترمه، وسأله أن يقيم عنده، فلم يفعل، وسار إلى دمشق، فأنزله طغتكين صاحبها، وأجزل له في الحمل والعطية، وأقطعه أعمال الزبداني، وهو عمل كبير من أعمال دمشق.
لَمَّا مات السُّلطان مسعود، قال خاص بك لملكشاه: "سأقبِضُ عليك صُورةً، وأطلُبُ أخاك محمَّدًا لأُمَلِّكَه، فإذا جاء أمسَكْناه، وتستَقِلَّ أنت. قال: فافعَلْ. فما نَفَقَ خُبثُه على محمَّدٍ، وجاء إلى همذان، فبادر العَسكَرُ إليه، فقال: كلامُكم مع خاص بك فهو الوالِدُ، فوصل هذا القَولُ إلى خاص بك، فاطمَأَنَّ، وتلَقَّاه، وقَدَّمَ له تُحَفًا، ثمَّ قُتِلَ خاص بك، وخَلَّفَ أموالًا جزيلةً مِن بعضِها سبعون ألفَ ثوب أطلس. قال المؤيَّدُ: بَدَرَه السُّلطانُ مُحمَّد ثاني يوم مِن قُدومِه، وقتَلَه"، وقَتَلَ معه زنكي الجاندار، وألقى برأسَيهما، فتفَرَّقَ أصحابُهما، ولم ينتَطِحْ فيهما عَنزانِ، وأخذ مُحمَّدٌ مِن أموالِ خاص بك شيئًا كثيرًا واستقَرَّ مُحمَّدٌ في السلطنة وتمكَّنَ، وبَقِيَ خاص بك مُلقًى حتى أكلَتْه الكِلابُ، وكان صبيًّا تُركمانيًّا اتصل بالسُّلطانِ مَسعود، فتقَدَّمَ على سائر الأمراءِ، وكانت هذه خاتِمةَ أمْرِه.
لمَّا حَصرَ أهالي أفريقية المَهدِيَّة سَيَّرَ إليها صاحِبُ صِقِلِّية عِشرينَ شِينِيًّا –سُفن كبيرة- فيها الرِّجالُ والطَّعامُ والسِّلاحُ، فدَخَلوا البلدَ، وأَرسَلوا إلى العَربِ وبَذَلوا لهم مالًا لِيَنهَزِموا، وخَرَجوا من الغَدِ، فاقتَتَلوا هُم وأَهلُ زَوِيلةَ، فانهَزَمَت العَربُ، وبَقِيَ أَهلُ زَوِيلةَ وأَهلُ صفاقس يُقاتِلون الفِرنجَ بِظَاهِرِ البلدِ، وأَحاطَ بهم الفِرنجُ، فانهَزَم أَهلُ صفاقس ورَكِبوا في البَحرِ فنَجوا، وبَقِيَ أَهلُ زَوِيلةَ، فحَمَلَ عليهم الفِرنجُ فانهَزَموا إلى زَويلةَ، فوَجَدوا أَبوابَها مُغلَّقَة فقاتَلوا تحتَ السُّورِ، وصَبَروا حتى قُتِلَ أَكثرُهم ولم يَنجُ إلا القليلُ فتَفَرَّقوا، ومَضَى بَعضُهم إلى عبدِ المؤمنِ، فلمَّا قُتِلُوا هَرَبَ مَن بها مِن الحُرَمِ والصِّبيانِ والشُّيوخِ في البَرِّ، ولم يُعرِّجوا على شيءٍ مِن أَموالِهم، ودَخلَ الفِرنجُ زَوِيلةَ وقَتَلوا مَن وَجَدوا فيها من النِّساءِ والأَطفالِ، ونَهَبوا الأَموالَ، واستَقَرَّ الفِرنجُ بالمَهدِيَّة إلى أن أَخَذَها عبدُ المؤمن منهم.
لما مات نورُ الدين محمود زنكي، صاحِبُ الشام، اجتمعت الفرنجُ وساروا إلى قلعة بانياس من أعمال دمشق فحصروها، فجمع شمسُ الدين محمد بن المقدم الوصيُّ على الملك الصالح بن نور الدين محمود العسكرَ عنده بدمشق، فخرج عنها، فراسَلَهم، ولاطَفَهم، ثم أغلظ لهم بالقول، وقال لهم: إن أنتم صالحتُمونا وعدتُم عن بانياس، فنحن على ما كنَّا عليه، وإلا فنُرسِلُ إلى سيف الدين، صاحِبِ الموصل، ونصالِحُه، ونستنجده، ونرسِلُ إلى صلاح الدين بمصر فنستنجِدُه، ونقصِدُ بلادكم من جهاتها كُلِّها، فعَلِموا صِدقَه، فصالحوه على شيءٍ مِن المال أخذوه وأسرى أُطلِقوا كانوا عند المسلمينَ وتقَرَّرت الهُدنة، فلما سَمِعَ صلاح الدين بذلك أنكره واستعظمه، وكتب إلى الملك الصالح والأمراء الذين معه يُقَبِّحُ لهم ما فعلوه ويبذُلُ مِن نفسه قصْدَ بلاد الفرنج ومقارعتهم وإزعاجُهم عن قصدِ شَيءٍ مِن بلاد الملك الصالح.
لَمَّا سار صلاح الدين عن الموصل إلى سنجار، سيَّرَ مجاهد الدين قايماز إليها عسكرًا قوةً لها ونجدةً، فسمِعَ بهم صلاح الدين، فمَنَعَهم من الوصول إليها، وأوقع بهم، وأخذ سلاحَهم ودوابَّهم وسار إليها ونازلها، وكان بها شرفُ الدين أمير أميران هندوا أخو عز الدين بن مسعود، صاحِبِ الموصل، في عسكر معه، فحَصَر البلد وضايقه، وألحَّ في قتاله، فكاتبه أحدُ أمراء الأكراد الذين به من الزرزارية، وخامر معه، وأشار بقَصدِه من الناحية التي هو بها لِيُسَلِّمَ إليه البلد، فطرقه صلاحُ الدين ليلًا، فسَلَّمَ إليه ناحيتَه، فلما سمع شرف الدين بن مسعود الخبَرَ استكان وخضع، وطلب الأمان، فأُمِّن، ومَلَك صلاحُ الدين البلد، وسار شرفُ الدين ومن معه إلى الموصل، واستقَرَّ جميع ما ملكه صلاح الدين بمِلكِ سنجار، فلما مَلَك سنجارَ صارت على الجميعِ كالسور، واستناب بها سعدَ الدين بن معين الدين أنر.
لَمَّا وصَلَ صَلاحُ الدين إلى دمشقَ مِن مصر أقام بها أيامًا يريحُ ويَستريح هو وجندُه، ثم سار إلى بلاد الفرنج في ربيع الأول، فقصد طبريَّةَ، فنزل بالقرب منها، وخيَّمَ في الأقحوانة من الأردن، وجاءت الفرنجُ بجموعِها فنزلت في طبريَّة، فسيَّرَ صلاح الدين فرخشاه إلى بيسان، فدخَلَها قهرًا، وغَنِمَ ما فيها، وقتل وسبى، وجحف الغورَ غارةً شعواءَ، فعَمَّ أهلَه قتلًا وأسرًا، وجاءت العرب فأغارت على جنين واللجون وتلك الولاية، حتى قاربوا مرج عكا، وسار الفرنجُ مِن طبرية، فنزلوا تحت جبل كوكب، فتقدم صلاحُ الدين إليهم، وأرسل العساكرَ عليهم يرمونهم بالنشاب، فلم يَبرَحوا، ولم يتحَرَّكوا للقتال، فأمَرَ ابني أخيه تقي الدين عمر وعز الدين فرخشاه، فحملا على الفرنجِ فيمن معهما، فقاتلوا قتالًا شديدًا، ثم إنَّ الفرنج انحازوا على حاميتهم، فنزلوا غفربلا، فلما رأى صلاح الدين ما قد أثخَنَ فيهم وفي بلادهم عاد عنهم إلى دمشق.
لَمَّا فَرَغ صلاحُ الدين من طبريَّة سار عنها يوم الثلاثاء ووصَلَ إلى عكا يومَ الأربعاء، وقد صَعِدَ أهلُها على سورها يُظهِرونَ الامتناعَ والحِفظَ، وركب يوم الخميس، وقد صَمَّمَ على الزحف إلى البلَدِ وقِتالِه، فبينما هو ينظُرُ مِن أين يزحَفُ ويقاتِلُ إذ خرج كثيرٌ مِن أهلها يَضرَعونَ، ويطلبون الأمانَ، فأجابهم إلى ذلك، وأمَّنَهم على أنفُسِهم وأموالهم، وخيَّرَهم بين الإقامة والظَّعنِ، فاختاروا الرحيلَ؛ خوفًا من المسلمينَ، وساروا عنها متفَرِّقين، وحَمَلوا ما أمكَنَهم حَملُه من أموالهم، وتركوا الباقيَ على حالِه، ودخل المسلمونَ إليها يومَ الجمعة مستهَلَّ جمادى الأولى، وصَلَّوا بها الجمعةَ في جامعٍ كان للمسلمينَ قديمًا، ثمَّ جعله الفرنجُ بِيعةً، ثمَّ جعله صلاحُ الدين جامعًا، وهذه الجمعةُ أوَّلُ جمعة أُقيمَت بالساحل الشامي بعد أن مَلَكه الفرنجُ، وسلم البلد إلى ولده الأفضل، وأقام صلاحُ الدين بعكَّا عدة أيام لإصلاحِ حالِها وتقريرِ قواعِدِها.
قام البابا أنوسنت الثالث بالدعوة لحرب صليبية رابعة فاستجاب لدعوتِه عدَدٌ مِن أمراء أوربا أغلَبُهم من فرنسا، وكانت هذه الحملة حملةَ أمراء كاثوليك، وقد قرروا أن تكون وجهةُ هذه الحملة إلى مصرَ، ومنها إلى بيت المقدس، لكن الحملة تحوَّلَت إلى القسطنطينية، فلما وصلوها احتلُّوها احتلالَ المنتقم لما بين الأرثوذكس والكاثوليك من العداء، فقتلوا النساءَ والأطفال والرجال وأكثَروا النَّهبَ والسَّلبَ حتى الكنائس لم تَسلَمْ منهم فنَهَبوها حتى كنيسة أيا صوفيا، وحتى جوامِع المسلمين التي أشعلوا فيها النيرانَ، ثم إنهم اختاروا مِن بينهم أميرًا هو بودوان التاسع أمير فلاندر إمبراطورًا على الدولة البيزنطية، واختاروا راهبًا هو توماس مورسيني لرئاسة الكنيسة الأرثوذكسية في القسطنطينية، ووافق البابا أنوسنت الثالث على الاتحاد بين الكنيستين اليونانية واللاتينية، لكِنَّ هذه الحملة لم تُحَقِّقْ غايَتَها حيث عاد مُعظَمُ أفرادها إلى أوطانِهم بالغنائم التي أخذوها، ولم يصل منهم إلى فلسطين إلَّا شرذمة قليلةٌ لم تفعَلْ شَيئًا.
أمر الخليفة الناصر لدين الله الشريف معدًّا، متولي بلاد واسط، أن يسير إلى قتال بني معروف، فتجهز وجمع معه من الرجَّالة من تكريت، وهيت، والحديثة، والأنبار، والحلة، والكوفة، وواسط، والبصرة، وغيرها، خلقًا كثيرًا، وسار إليهم، ومُقَدَّمهم حينئذ معلى بن معروف، وهم قوم من ربيعة, وكانت بيوتهم غربي الفرات، تحت سوراء، وما يتَّصل بذلك من البطائح، وكثُرَ فسادهم وأذاهم لما يقاربهم من القرى، وقطعوا الطريقَ، وأفسدوا في النواحي المقارِبة لبطيحة العراق، فشكا أهلُ تلك البلاد إلى الديوان منهم، فأمر معدًّا أن يسير إليهم في الجموع، فسار إليهم، فاستعد بنو معروف لقتاله، فاقتتلوا بموضعٍ يعرف بالمقبر، وهو تل كبير بالبطيحة بقرب العراق، وكثر القتل بينهم، ثم انهزم بنو معروف، وكثُرَ القتل فيهم، والأسر والغرق، وأُخِذَت أموالهم، وحُمِلَت رؤوس كثيرة من القتلى إلى بغداد في ذي الحجة من السنة.
كان حسام الدين صاحب مدينة أرزن الروم من ديار بكر لم يزل مصاحبًا للملك الأشرف، مشاهدًا جميع حروبه وحوادثه، وينفِقُ أمواله في طاعته، ويبذل نفسَه وعساكره في مساعدته، فهو يعادي أعداءه، ويوالي أولياءه، ومن جملة موافقته أنه كان في خلاط لَمَّا حصرها جلال الدين، فأسره جلالُ الدين، وأراد أن يأخذ منه مدينة أرزن، فقيل له: إن هذا من بيت قديمٍ عريق في الملك، وإنه ورث أرزن هذه من أسلافِه، وكان لهم سواها من البلاد فخرج الجميعُ من أيديهم، فعطف عليه ورقَّ له، وأبقى عليه مدينة أرزن، وأخذ عليه العهودَ والمواثيق أنه لا يقاتِلُه، فلما جاء الملك الأشرف وعلاء الدين محاربين لجلال الدين لم يحضُرْ معهم في الحرب، فلما انهزم جلال الدين سار شهاب الدين غازي بن الملك العادل، وهو أخو الأشرف، وله مدينة ميافارقين، ومدينة حاني، وهو بمدينة أرزن، فحصره بها، ثم ملكها صلحًا، وعوَّضَه عنها بمدينة حاني من ديار بكر.
ورد الخَبَرُ باستيلاء الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل على سنجار ونصيبين والخابور، وقدم رسول الخليفة بمالٍ إلى الملك الكامل، ليستخدِمَ به عسكرًا للخليفة، فإنَّه بلغه توجه التتر إلى بغداد، فقام الملك الكامل لَمَّا سلم إليه كتاب الخليفة، ووضعه على رأسه، وكان جملةُ ما حضر من المال مائة ألف دينار مصرية، فأمرَ الملك الكامل أن يخرج من بيت المال مائتا ألف دينار، ليستخدم بها العساكر، وأن يجرَّد من عساكر مصر والشام عشرة آلاف، نجدةً للخليفة، وأن يكون مُقَدَّم العساكر الناصر داود بن الملك المعظم، وألا يُصرَف مما حضر من المال شيء، بل يعاد بكمالِه إلى خزانة الخليفة، فتولى استخدامَ الأجناد الأميران ركن الدين الهيجاوي، وعمادُ الدين بن موسك، وأن يكونا مع الناصِرِ داود في خدمته، فاستخدم الناصرُ العسكر، وسار إلى بغداد، وهم نحو ثلاثة آلاف فارس.