كان الأمير تنم الحسني قد تغلَّب على دمشق أيام موت السلطان الظاهر برقوق، ثم إن السلطان الناصر فرج بن برقوق أقرَّه وأعطاه نيابة دمشق، وأجيز بإخراج من أراد من السجون، فأخرج عدة أمراء من السجون، وزاد أمره فأراد تملُّك أكثر من دمشق، كحلب وحمص وطرابلس وغيرها، ثم إن أيتمش لما هرب في الفتنة التي حصلت بينه وبين يشبك -في شهر صفر من هذه السنة- جاء إلى دمشق الأمير تنم هو ومن معه من الأمراء في خامس ربيع الآخر، فخرج الأمير تنم إلى لقائه، وبالغ في إكرامه وإكرام من معه، وعَظُم شأن الأمير تنم بقدوم أيتمش عليه، وأطاعه من خالف عليه، وفي ثامنه قَدِمَ عليه كتابُ الملك الناصر بمَسكِ أيتمش ومن معه وقدومه إلى مصر، فأحضر الكتاب وحامله إلى عند أيتمش، وأعلمه بذلك، ثم جهَّز أيتمش وتغري بردي قصادهما إلى نائب حماة، ونائب حلب، بدعواهما إلى ما هم عليه، فأجابا بالسمع والطاعة في خامس عشر جمادى الأولى، ورُدَّ الخبر بخروج الأمير تنم نائب الشام، وأيتمش، بمن معهما من دمشق إلى جهة غزة، فرسم السلطان فرج بالتجهيز للسفر؛ ففي السابع عشر اجتمع الأمراء والمماليك بمجلس السلطان، فحثَّهم على السفر في أول جمادى الآخرة، وأن يخرج ثمانية أمراء من الألوف بألف وخمسمائة من المماليك المشتراوات وخمسمائة من المستخدمين، فاختلف الرأي؛ فمنهم من أجاب، ومنهم من قال: لا بدَّ من سفر السلطان، وانفضُّوا على غير شيء، ونفوسُهم متغيرةٌ من بعضهم على بعض، ثم في شهر رجب في رابعه يوم الجمعة: نزل السلطان من القلعة إلى الريدانية ليتوجه إلى قتال أيتمش ونائب الشام، فأقام بمخيَّمه، وتلاحق به الأمراء والعساكر والخليفة وقضاة القضاة، وفي ثامنه: رحل السلطان ببقية العسكر، وعِدَّةُ من سار أولًا وثانيًا نحو سبعة آلاف فارس، وأما الأمير تنم نائب الشام فإنه وجَّه نائب حلب بعسكره إلى جهة مصر في ثامنه، وخرج في تاسعه ومعه الأمير أيتمش وبقية العساكر، ومن انضَمَّ إليهم من التركمان، وخيَّم على قبة يلبغا خارج دمشق، حتى لحقه بقية العسكر ومن سار معه من القضاة، وعمل الأمير جركس أبو تنم نائب الغيبة، وفي الحادي عشر رحل الأمير تنم من ظاهر دمشق، وتبعه ابن الطبلاوي في الثاني عشر، وسار نائب طرابلس بعسكره ساقة، ثم إن الأمير تنم نزل على الرملة بمن معه، وكان لما قدم عليه من انكسر من عَسكرِه على غزة شَقَّ عليه ذلك، وأراد أن يقبِضَ على بتخاص والمنقار، ففارقاه ولحقا بالسلطان، وأن السلطان بعث إليه من غزة بقاضي القضاة صدر الدين المناوي في يوم الثلاثاء التاسع عشر، ومعه ناصر الدين محمد الرماح أمير أخور، وطغاي تمر مُقدَّم البريدية، وكتب له أمانًا، وأنَّه باق على كفالته بالشام إن أراد ذلك، وكتب الأمراء إلى الأمير تنم يقولون له: أنت أبونا وأخونا، وأنت أستاذنا، فإن أردتَ الشام فهي لك، وإن أردت مصر كنَّا مماليكك وغلمانك، فصُنِ الدماء. وكان الأمراء والعسكر في غاية الخوف منه؛ لقوَّتِه وكثرة عدده، وتفرُّقِهم واختلافِهم، فسار إليه القاضي وحَدَّثه في الصلح ووعظه، وحذَّره الشقاق والخروج عن طاعة السلطان، فقال الأمير تنم: ليس لي مع السلطان كلام، ولكن يرسل إلى الأمير يشبك وسودون طاز وجركس المصارع، وجماعة عَيَّنهم، ويعود الأمير أيتمش كما كان هو وجميع الأمراء الذين معه، فإن فعل ذلك وإلا فما بيني وبينهم إلا السيف، وثبت على ذلك، فقام القاضي ليخرجَ، فخرج الأمير تنم معه بنفسِه إلى خارج الخيمة، وأركبه فرسًا في غاية الحُسنِ، وعضده لما ركب، فقدم القاضي يوم الخميس الحادي والعشرين منه ومعه أحد خاصكية السلطان ممن كان عند الأمير تنم، وعوقه نحو أربعة أشهر عن الحضور، وأعاد الجواب فاتفق الجميعُ على محاربته، فلما كان يوم السبت الثالث والعشرين منه: ورد الخبر أن الأمير تنم ركب ممن معه يريد الحرب، فسار السلطان بعساكره من غزة إلى أن أشرف على الجينين قريب الظهر، فعاين الأمير تنم قد صفَّ عساكره، ويقال إنهم خمسة آلاف فارس وستة آلاف راجل، فتقدمت عساكر السلطان إليهم وقاتلوهم، فلم يكن غير يسير حتى انهزمت عساكِرُ الأمير تنم، ووقع في الأسر الأميرُ تنم نائب الشام، وأقبغا نائب حلب، ويونس نائب طرابلس، وأحمد ابن الشيخ علي، وفارس حاجب الحُجَّاب وبيغوت، وشادي خجا، وبيرم رأس نوبة أيتمش، وجلبان نائب حلب، ومن أمراء الطبلخاناه والعشرات ما ينيف على مائة أمير، وفرَّ أيتمش، وتغري بردي، ويعقوب شاه، وأرغون شاه، وطيفور، في ثلاثة آلاف إلى دمشق ليملِكوها، وعندما قُبِضَ على الأمير تنم كتب إلى دمشق بالنصرة ومَسْك تنم، فوصل البريدُ بذلك يوم الثلاثاء السادس والعشرين منه على نائب الغيبة بدمشق، فنودي بذلك, ثم قدم الأمير أيتمش إلى دمشق يوم الأربعاء السابع والعشرين منه، فقبض عليه، وعلى تغري بردي، وطيفور، وأقبغا اللكاش، وحُبسوا بدار السعادة، ثم مُسِك بعد يومين أرغون شاه، ويعقوب شاه، وتقدم القاضي سعد الدين إبراهيم بن غراب إلى دمشق، فقدمها في يوم السبت آخره، دخل السلطان بأمرائه وعساكره إلى قلعة دمشق، فكان يومًا مشهودًا وسُرَّ الناس به سرورًا كبيرًا, وفي ليلة الخميس رابع رمضان قُتِل الأمير تنم نائب الشام، والأمير يونس الرماح نائب طرابلس بقلعة دمشق خنقًا بعد أن استصفيت أموالهما، ولم يبقَ لهما شيء، ثم سُلِّما إلى أهلهما، فدُفِن الأمير تنم بتربته بميدان الحصى خارج دمشق، ودُفِن يونس بالصالحية، فكانت مدة ولاية الأمير تنم نيابة الشام سبع سنين وستة أشهر ونصفًا، وولاية يونس طرابلس نحو ست سنين.
هو العلَّامةُ العِزُّ مجد الدين عبد السلام بن أحمد بن عبد المنعم بن أحمد بن محمد بن كيدوم بن عمر بن أبي الخير سعيد الحسيني القيلوي البغدادي ثم القاهري الحنبلي ثم الحنفي. ولدَ تقريبًا بعد سنة 770 والقيلوي نسبة لقرية بالجانب الشرقي من بغداد يقال لها قيلويه نشأ بها العز. قرأ القرآنَ لعاصم وحَفِظَ كتبًا جمة في فنون كثيرة، وبحث في غالب العلوم على مشايخ بغداد والعجم والروم، حتى إنه بحث في مذهبي الشافعي وأحمد وبرع فيهما وصار يقرأ كتبَهما ولازم الرحلةَ في العلم إلى أن صار أحدَ أركانه، وأدمن الاشتغال والأشغال بحيث بقي أوحدَ زمانه، ومن شيوخه في فقه الحنفية الضياء محمد الهروي أخذ عنه المجمع بعد أن حفظه، وسمع غالب الهداية على عبد الرحمن التشلاقي أو القشلاغي، وسمع عليه أصولَ الحنفية، وفي فقه الحنابلة محمد بن الحادي، وسمع عليه البخاري، وتزايد اشتغاله بالمذهب الحنبلي لكون والده كان حنبليًّا، وفي فقه الشافعية ناصر الدين محمد المعروف بأيادي الأبهري ولازمه مدة طويلة أخذ عنه فيها النحو والصرف، ولم يتسير له البحث في فقه المالكية، وقصد ذلك فما قدر، وأخذ أصول الدين وآداب البحث عن السراج الزنجاني، وأصول الفقه عن أحمد الدواليبي، وحضر بحث المختصر الأصلي لابن الحاجب والعضد وكثيرًا من شروح التلخيص في المعاني، وكثيرًا من الكشَّاف على ميرك الصيرامي أحد تلامذة التفتازاني، وبحث بعض الكشاف أيضًا والمعاني والبيان على عبد الرحمن ابن أخت أحمد الجندي، وجميع الشاطبية بعد حفظها على الشريف محمد القمني، والنحو عن أحمد بن المقداد وعبد القادر الواسطي، وبحث عليه الأشنهية في الفرائض بخلوة الغزالي من المدرسة النظامية ببغداد، وانتفع به في غير ذلك, وعُنِيَ بالطب والمعاني والبيان بعد حفظه للتلخيص عن المجد محمد المشيرقي السلطاني الشافعي, والمنطق بعد حفظه الشمسية عن القاضي غياث الدين محمد الخراساني الشافعي، كذا بحث عليه علم الجدل والطب عن موفق الدين الهمذاني، وسمع على موسى باش الرومي علم الموسيقى بحثًا، وارتحل إلى تبريز فأخذ بها عن الضياء التبريزي النحو وأصول الفقه، وعن الجلال محمد القلندشي فقه الشافعية وأصولهم، وحضر المعاني والبيان وبعض الكشاف عند حيدر، ثم ارتحل إلى أرزنجان من بلاد الروم فأخذ علم التصوف عن يارغلي السيواسي، ثم عاد من بلاد الروم بعد أن جال الآفاق وقاسى شدة مع تيمورلنك بحيث كانوا يقطعون الرؤوس ويحمِّلونه إياها إلى البلاد الشامية في سنة 810, ولقي بحلب مَن شاء الله من العلماء، وناظر في الشام الجمالَ الطيماني واجتمع في القدس بالشهاب بن الهائم فعظَّمه كثيرًا وارتحل إلى القاهرة بعد هذا كله, فأشير إليه في الصرف والنحو والمعاني والبيان والمنطق والجدل وآداب البحث والأصلين، والطب والعروض، والفقه والتفسير والقراءات، والتصوف وغيرها، فنزل بالجمالية وقرر في صوفيتها وأقبل الناس عليه فأخذوا عنه، وزوَّجه الشيخ مصطفى المقصاتي ابنته وتدرب به في عمل المقصات، وتكسب بها وقتًا مع اشتهاره بالفضيلة التامة حتى إنه لما تمت عمارة الجامع المؤيدي وحضر السلطان عند مدرسيه ومنهم البدر الأقصرائي الحنفي كان من جملة الحاضرين فلم يتكلم معه غيره، بحيث عظُمَ في عين السلطان، وأشار لما تم الدرس ورام المدرس الدعاء بنفسه مبالغة في تعظيم السلطان القيلوي أن يفعل ففعل، وأعلمه البدر بن مزهر وذلك قبل أن يلي كتابة السر بأنه رجل عالم يتكسب بعمل المقصات، فوعد ببناء مدرسة من أجله يكون هو شيخًا فما تيسر، وربما أقرأه ولده إبراهيم بل رام المؤيد الاجتماع به في محل خلوة للقراءة عليه، فما وافق العز خوفًا من إلصاق كثير مما يصدر عن السلطان به، وعُدَّ ذلك من وفور عقله، واستمر العز ملازمًا للإشغال غير مفتقر للاستفادة من أحد إلا في علم الحديث دراية ورواية؛ فإنه أخذ علوم الحديث جميعًا لابن الصلاح عن الولي العراقي بعد قراءته وسائره سماعًا، وسمع المنظومة في غريب القرآن، ومن أول السيرة الألفية إلى ذكر أزواجه والكثير من النكت على ابن الصلاح، وقرأ منها جميع الألفية الحديثية رواية، والمورد الهني، ومن غيرها الكثير من الأصول الكبار وغيرها، قال شمس الدين السخاوي: " قرأ العز عبد السلام على شيخنا الكمال الشمني صحيح البخاري والنخبة له، واختص به كثيرًا، وكان أحد الطلبة العشرة عنده بالجمالية، وحضر دروسه وأماليه، ورأيت بخط شيخنا بتصنيفه النخبة كتبها برسمه قال في آخرها ما صورته: علقها مختصرها تذكرةً للعلامة مجد الدين عبد السلام نفع الله به آمين، وتمت في صبيحة الأربعاء ثاني عشر شوال سنة أربع عشرة، وقال في أولها ما نصه: رواية صاحبها العلامة الأوحد المفنن مجد الدين عبد السلام البغدادي، وكتب له عليها أنه قرأها قراءة بحث وإتقان وتقرير وبيان، فأفاد أضعاف ما استفاد، وحقق ودقق ما أراد، وبنى بيت المجد لفكره الصحيح وأشاد، ثم قال: وأذن له أن يُقرئها لمن يرى ويرويها لمن درى، والله يسلمه حضرًا وسفرًا، ويجمع له الخيرات زُمَرًا" وأما الرواية فإنه سمع وقرأ على غير واحد وطلبها بنفسه فأكثر وكتب الطباق، وضبط الناس ورافق المتميزين، صار غالب فضلاء الديار المصرية من تلامذة العز عبد السلام، كل ذلك مع الخير والديانة والأمانة والزهد والعفة، وحب الخمول والتقشف في مسكنه وملبسه ومأكله، والانعزال عن بني الدنيا والشهامة عليهم وعدم مداهنتهم، والتواضع مع الفقراء والفتوة والإطعام وكرم النفس والرياضة الزائدة، والصبر على الاشتغال واحتمال جفاء الطلبة والتصدي لهم طول النهار، والتقنع بزراعات يزرعها في الأرياف ومقاساة أمر المزارعين، والإكثار من تأمل معاني كتاب الله عز وجل وتدبره، مع كونه لم يستظهر جميعه ويعتذر عن ذلك بكونه لا يحب قراءته بدون تأمل وتدبر، والمحاسن الجمة بحيث سمعت عن بعض علماء العصر أنه قال: لم نعلم من قَدِمَ مصر في هذه الأزمان مثل العز عبد السلام البغدادي, ولقد تجملت هي وأهلها به, وكان ربما جاءه الصغير لتصحيح لوحه ونحوه من الفقراء المبتدئين لقراءة درسه وعنده من يقرأ من الرؤساء، فيأمرهم بقطع قراءتهم حتى ينتهي تصحيح ذاك الصغير أو قراءة ذاك الفقير لدرسه، ويقول: أرجو بذلك القربة وترغيبهم وأن أندرج في الربانيين ولا يعكس، ولم يحصل له إنصاف من رؤساء الزمان في أمر الدنيا ولا أُعطي وظيفة مناسبة لمقامه، وكان فصيح اللسان مفوهًا طلْقَ العبارة قوي الحافظة سريع النظم جدًّا. مات في ليلة الاثنين الخامس العشر رمضان سنة تسع وخمسين، وصلى عليه من الغد بمصلى باب النصر، ودُفن بتربة الأمير بورى خارج باب الوزير تحت التنكزية، ولم يخلَّف بعده في مجموعِه مثله.
كان الكنزُ أمير العرب بنواحي أسوان، وهو من الشيعة العَلَوية بمصر، فعصى الكنز الدولةَ واجتمَعَ إليه العرب والسودان، وطالت أيَّامُه واشتهر منذ أيام صلاح الدين، وفي هذا العام كثُرَ فسادُ أولاد الكنز وطائفة العكارمة بأسوان وسواكن، ومَنَعوا التجارَ وغَيرَهم من السفر؛ لِقَطعِهم الطريق، وأخْذِهم أموالَ الناس، وأنَّ أولاد الكنز قد غلبوا على ثغر أسوان، وصحراء عيذاب وبرية الواحات الداخلة، وصاهَروا ملوك النوبةِ، وأمراء العكارمة، واشتَدَّت شوكتُهم، ثم قَدِمَ ركن الدين كرنبس من أمراء النوبةِ، والحاج ياقوت ترجمانُ النوبة، وأرغون مملوك فارس الدين، برسالة متملك دنقلة بأن ابنَ أخته خرج عن طاعته، واستنجد ببني جعد من العرب، وقصدوا دنقلةَ فاقتتلا قتالًا كثيرًا، قُتِلَ فيه الملك وانهزم أصحابُه، ثم أقاموا عِوَضَه في المملكة أخاه، وامتَنَعوا بقلعة الدو فيما بين دنقلة وأسوان، فأخذ ابنُ أخت المقتول دنقلةَ، وجلس على سرير المملكة، وعمل وليمةً جمع فيها أمراء بني جعد وكبارَهم، وقد أعَدَّ لهم جماعةً مِن ثقاته ليفتِكوا بهم، وأمر فأُخلِيَت الدور التي حول دارِ مُضَيِّفِهم، وملأها حَطَبًا، فلما أكَلوا وشَرِبوا، خرجت جماعةٌ بأسلِحَتِهم، وقاموا على باب الدار، وأضرم آخرونَ النَّارَ في الحطب، فلما اشتعلت بادر العُربان بالخروج من الدار، فأوقع القومُ بهم، وقتلوا منهم تسعةَ عشر أميرًا في عِدَّةٍ مِن أكابرهم، ثم ركب إلى عَسكَرِهم، فقَتَل منهم مقتلةً كبيرة، وانهزم باقيهم، فأخذ جميعَ ما كان معهم واستخرج ذخائِرَ دنقلة وأموالها، وأخلاها من أهلِها، ومضى إلى قلعة الدو، وسألا أن ينجِدَهما السلطان على العَرَب، حتى يستردُّوا مُلكَهما، والتزما بحَملِ مال في كل سنة إلى مصر، فرسم السُّلطانُ بنجدتهم وأخَذَ في تجهيز العسكر من سادس عشر شهر ربيع الأول، وساروا في الرابعِ والعشرين، وهم نحوُ الثلاثة آلاف فارس، فأقاموا بمدينةِ قوص ستة أيام، واستدعوا أمراءَ أولاد الكنز من ثغر أسوان ورغَّبوهم في الطاعة، وخَوَّفوهم عاقِبةَ المعصية، وأمَّنوهم، ثم ساروا من قوص، فأتَتْهم أمراء الكنوز طائعينَ عند عقبة أدفو، فخلع عليهم الأميرُ أَقتمر عبد الغني وبالغَ في إكرامهم، ومضى بهم إلى أسوان، وسارت العساكِرُ تريدُ النوبة على محاذاتها في البَرِّ يومًا واحدًا، وإذا برُسُل متمَلِّك النوبة قد لاقَتْهم، وأخبروهم بأنَّ العَرَب قد نازلوا المَلِكَ وحصروه بقلعة الدو، فبادر الأمير أقتمر عبد الغني لانتقاء العسكر، وسار في طائفةٍ منهم جريدة، وترك البقيَّةَ مع الأثقال، وجَدَّ في سيره حتى نزل بقلعة أبريم، وبات بها ليلَتَه، وقد اجتمع بمَلِك النوبة وعرب العكارمة، وبقية أولاد الكنز، ووافاه بقية العسكر فدَبَّرَ مع مَلِكِ النوبة على أولاد الكنز، وأمراء العكارمة، وأمسكهم جميعًا، ورَكِبَ مُتَمَلِّك النوبة في الحالِ، ومعه طائفةٌ من المماليك، ومضى في البَرِّ الشَّرقيِّ إلى جزيرة ميكائيل؛ حيث إقامة العكارمة، وسار الأمير خليل بن قوصون في الجانب الغربي ومعه طائفة، فأحاطوا جميعًا بجزيرة ميكائيل عند طلوع الشمس، وأسَرُوا من بها من العكارمة، وقَتَلوا منهم عِدَّةً بالنشَّاب والنفط، وفَرَّ جماعة نجا بعضُهم وتعلق بالجبال وغرق أكثرهم، وساق ابن قوصون النساء والأولاد والأسرى والغنائم إلى عند الأمير أَقتمر، ففَرَّقَ عِدَّة من السَّبيِ في الأمراء، وأطلق عِدَّةً، وعين طائفةً للسُّلطانِ، ووقع الاتفاقُ على أن يكون كرسي ملك النوبة بقلعة الدو؛ لخراب دنقلة، ولأنَّه يخافُ من عرب بني جعد أيضًا إن نزل المَلِك بدنقلة أن يأخذوه، فكتب الأمير أقتمر عبد الغني محضرًا برضاء مَلِك النوبة بإقامته بقلعةِ الدو، واستغنائه عن النجدة، وأنَّه أذِنَ للعسكر في العود إلى مصر، ثم ألبَسَه التشريف السلطاني، وأجلسه على سرير الملك بقلعة الدو، وأقام ابنَ أخته بقلعة أبريم، فلمَّا تَمَّ ذلك جَهَّزَ مَلِكُ النوبة هديةً للسلطان، وهديةً للأمير يَلْبُغا الأتابك، ما بين خيل وهجن ورقيقٍ وتُحَف، وعاد العسكَرُ ومعهم أمراء الكنز، وأمراء العكارمة في الحديد، فأقاموا بأسوان سبعة أيام، ونودي فيها بالأمانِ والإنصاف من أولاد الكنز، فرُفِعَت عليهم عِدَّةُ مُرافعات، فقُبِضَ على عدة مِن عبيدهم وقُتلوا، ورحل العسكَرُ من أسوان، ومرُّوا إلى القاهرة، فقَدِموا في ثاني شهر رجب، ومعهم الأسرى، فعُرِضوا على السُّلطانِ، وقُيِّدوا إلى السجن، وخُلِعَ على الأمير عبد الغني، وقُبِلَت الهديَّةُ.
بدأت اضطرابات محدودة من قِبَل المسلمين في جبل البشرات تمكَّن جنود مركيز مندخار (الحاكم العسكري) من إنهائها بسرعة, ومكَّن الهدوء النسبي الذي لحق ذلك بدء انتقال أعداد من شبان مدينة غرناطة إلى الجبال سرًّا للتدرُّب على استخدام السلاح. وفي الثالث والعشرين من ديسمبر اعتقد الثوارُ أن عددهم كان كافيًا للقيام بالخطوة التالية فشنُّوا هجومًا مباغتًا على مدينة غرناطة فيما كانت حاميتها تستعد للاحتفال بعيد الميلاد. وتمكَّن الثوار بقيادة فراس بن فراس من التوغل في المدينة والاشتباك مع جنود مركيز مندخار إلا أنهم لم يتمكنوا من أخذ المدينة، فانسحبوا وعادوا إلى البشرات بعد إيقاع خسائر كبيرة بجنود الحامية، وبدؤوا بإزالة كل أشكال السلطة والكنيسة القشتالية في المراكز المحررة. وحيال هذا التطور أصدر ملك أسبانيا فيليب الثاني أوامره إلى مركيز مندخار بإخماد ثورة البشرات، فقاد جيشًا من حوالي أربعة آلاف جندي إلى الجبال إلا أنه لم يشتبك معهم، وبدأ بدلًا من ذلك مفاوضات لوقف الثورة آخذًا على عاتقه محاولة إقناع الملك فيليب الثاني برفع الضغوط عن الأندلسيين. وأوقف الأندلسيون العمليات العسكرية فيما بدأ المركيز اتصالاته لإقناع الملك بإعطاء الثوار فرصة، إلا أن فيليب رفض الفكرة وأمر المركيز بقمع الثورة وضرب زعمائها ليكونوا عبرة لغيرهم ليس فقط في الجنوب وإنما في ممالكه الأخرى قاطبة. وفي هذه الأثناء أقدم بعضُ جنود المركيز على مذبحة في مدينة جبيل راح ضحيتها عدد من الأندلسيين، وتعرضت مدينة لورة إلى هجمات مماثلة، وفقد المركيز السيطرةَ على جنوده فأخذ هؤلاء يمارسون أعمال القتل بلا حساب فتحرَّك الأندلسيون بسرعة وبسطوا سيطرتَهم على البشرات. وفي غرناطة نفسها وصلت إلى الحامية إشاعات عن قيام الثوار الأندلسيين بقتل 90 قسيسًا و1500 قشتالي، فهاجم الجنود سجن البيازين وذبحوا مئة وعشرة أندلسيين كانوا فيه. وأمام انفلات الوضع أقرَّ مركيز مندخار بعجزه عن السيطرة على الوضع، ووضع نفسه تحت إمرة فيليب الثاني. وكانت نار الثورة بدأت تستعر بسرعة وتنتشر في مناطق جديدة في الجنوب عندما بدأ الملك تدارُس الوضع مع مستشاريه العسكريين. وفي هذه الأثناء بدأ العثمانيون يحققون الانتصار تلو الآخر في البحر الأبيض المتوسط، وراحوا يهددون شواطئ ممالكه هناك. وفي تلك السنة أيضًا اندلعت الثورة في قطالونيا وقطعت أساطيل البروتستانت الطرق البحرية إلى خليج بسقاية، وخشي فيليب الثاني أن يستفحِلَ خطر الثورة ويستغل العثمانيون استمرارها لمهاجمة صقلية والجزائر الشرقية وربما الجنوب الأندلسي، فاختار لمهمة القضاء على الثورة أخاه دون خوان النمسوي، وأوصى فيليب الثاني دون خوان بضرورة اتخاذ قرارات المجلس بالإجماع، وإذا لم يتحقق هذا يجب عليه العودة إليه لاتخاذ القرار النهائي. وكان على دون خوان التحرُّك بسرعة للقضاء على الثورة خوفًا من انتقالها إلى الأندلسيين في أرغون. ولما عرض دون خوان على أعضاء المجلس هذا الرأي أخذوا به، لكنَّ مركيز مندخار عارضه وأعرب عن اعتقاده أن التفاوض وليس الحرب هو طريق إنهاء الأزمة. وأمام هذا الموقف نشد المجلس موافقة فيليب الثاني، فكتب إليه دون خوان رسالة مُطوَّلة أوصى فيها بالحزم في التعامل مع الثوار، وتعهَّد لأخيه بالقضاء على الثورة سريعًا إن أعطاه الصلاحيات وأطلق يديه. لكنه تردد ولم يجبه، فاستغل الأندلسيون تردُّد الملك فالتحق بالثوار عدد كبير من المتطوعين حتى صار قوامهم نحو عشرة آلاف مقاتل، وبدؤوا يشنون الهجمات على مواقع القوات القشتالية، فامتلكوا عددًا منها، ثم نقلوا الحرب إلى مناطق قريبة من مدينة غرناطة ودارت معارك بينهم وبين القشتاليين قرب الأسوار. وسرت في القشتاليين المخاوفُ من انقلاب الأندلسيين الغرناطيين عليهم فتشدَّدوا في معاملتهم؛ مما أدى إلى فرار بعضهم من المدينة والالتحاق بمعاقل الثوار. وخلال فترة قصيرة اتسعت الرقعة التي بسط عليها الثوار نفوذَهم حتى شملت معظم المناطق المحيطة بمدينة غرناطة. ووصلت أخيرًا أوامر فيليب الثاني آخذًا في الاعتبار معظم توصيات أخيه، لكنَّه أمر بشطر القوات التي تجمَّعت شطرين أسند قيادة الأول إلى مركيز مندخار، والثاني إلى منافسه مركيز بلش مالقه، لكنه حظر في الوقت نفسِه على دون خوان الاشتراك في أي عمليات عسكرية. واعتبر باقي أعضاء المجلس هذا التكليف تشكيكًا من الملك بمركيز مندخار فانهزَّت الثقة به وخضعت قراراته للمساءلة وتصرفاته للمراقبة!
لم يزلْ أفتكين الشَّرابيُّ مولى مُعِزِّ الدولة بن بُوَيه طُولَ مُقامِه بدمشق يكاتِبُ القَرامِطةَ ويكاتِبونَه بأنَّهم سائرون إلى الشام، إلى أن وافَوا دمشق بعد موتِ المعِزِّ الفاطمي في هذه السنة، وكان الذي وافى منهم: إسحاقُ، وكِسرى، وجعفر، فنزلوا على ظاهرِ دمشق، ومعهم كثيرٌ مِن العجم أصحابِ أفتكين الذين تشَتَّتوا في البلاد وقتَ وَقعتِه مع الديلم، فلَقُوهم بالكوفة في الموقعات، فأركبوهم الإبِلَ، وساروا بهم إلى دمشق، فكساهم أفتكين؛ فقَوِيَ عسكَرُه بهم وتلَقَّى أفتكين القرامِطةَ وحَمَل إليهم وأكرَمَهم وفَرِحَ بهم، وأمِنَ مِن الخوف، فأقاموا على دمشق أيامًا ثم ساروا إلى الرملةِ وبها أبو محمود إبراهيم بن جعفر فالتجأ إلى يافا، ونزل القرامطةُ الرملة، ونصبوا القتالَ على يافا حتى مَلَّ كُلٌّ مِن الفريقين القِتالَ، وصار يُحَدِّثُ بَعضُهم بعضًا. وجبى القرامطةُ المال فأمِنَ أفتكين من مصرَ، وظَنَّ أن القرامِطةَ قد كَفَوه ذلك الوجهَ، وعمِلَ على أخذ الساحل، فسار بمن اجتمَعَ إليه، ونزل على صيدا، وبها ابنُ الشيخ، ورؤساءُ المغاربة، ومعهم ظالم بن موهوب العقيلي، فقاتلوه قتالًا شديدًا، فانهزم عنهم أميالًا، فخرجوا إليه، فواقعهم وهَزَمهم وقتل منهم، وصار ظالمُ إلى صُور، فيقال إنَّه قتل يومئذٍ أربعة آلافٍ مِن عساكِرِ المغاربة، قُطِعَت أيمانُهم وحُمِلَت إلى دمشق، فطِيفَ بها. ونزل أفتكين على عكَّا، وبها جمَعَ مِن المغاربة، فقاتلوه، فسيَّرَ العزيز بالله القائِدَ جَوهرًا بخزائن السلاح والأموال إلى بلاد الشام في عسكرٍ عظيمٍ لم يَخرُجْ قَبلَه مثلُه إلى الشام، من كثرة الكراعِ والسِّلاح والمال والرجال، بلَغَت عِدَّتُهم عشرين ألفًا بين فارسٍ وراجل، فبلغ ذلك أفتكين وهو على عكَّا، والقرامطة بالرملة، فسار أفتكين مِن عكَّا ونزل طبَريَّة، وخرج القرامِطةُ مِن الرملة، ونزلها جوهرٌ. وسار إسحاق وكسرى مِن القرامطة بمن معهم إلى الأحساءِ؛ لقِلَّةِ مَن معهم من الرجالِ الذين يلقَونَ بها جوهرًا، وتأخَّرَ جعفر من القرامطة فلَحِقَ بأفتكين وهو بطبرية، وقد بعث في جمعٍ في حوران والبثنية، وسار جوهر من الرملة يريدُ طَبَريَّة، فرحل أفتكين، واستحَثَّ النَّاسَ في حَملِ الغَلَّة من حوران والبثنية إلى دمشقَ، وصار أفتكين إلى دمشقَ، ومعه جعفر القرمطي، فنزل جوهرٌ على دمشق لثمانٍ بَقِينَ مِن ذي القعدة فيما بين داريا والشماسية، فجمَعَ أفتكين أحداثَ البلد، وأمَّنَ مَن كان قد فزع منه، فاجتمع حُمَّال السِّلاح والذعار إليه، ورئيسُهم قسام التراب. وأخذ جوهرٌ في حفر خندقٍ عظيمٍ على عسكره، وجعل له أبوابًا، وكان ظالمُ بنُ موهوب معه، فأنزله بعسكَرِه خارج الخندق، وصار أفتكين فيمن جمعَ مِن الذعار، وأجرى لكبيرِهم قسَّام رِزقًا. ووقع النفيُ على قُبَّة الجامع والمنابر، وساروا فجرى بينهم وبين جوهرٍ وقائِعُ وحُروبٌ شديدة وقتالٌ عظيم، وقُتِلَ بينهم خلقٌ كثيرٌ مِن يوم عرفةَ، فجرى بينهم اثنتا عشرة وقيعةً إلى آخر ذي الحجة. ولم يزل إلى الحادي عشر من ربيع الأول سنة 367 فكانت بين الفريقينِ وقعةٌ عظيمة، انهزم فيها أفتكين بمَن معه، وهَمَّ بالهرب إلى أنطاكية، ثم إنَّه استظهر. ورأى جوهرٌ أنَّ الأموال قد تَلِفَت، والرجالَ قد قُتِلَت والشِّتاءَ قد هجم، فأرسل في الصُّلح،ِ فلم يُجِب أفتكين، وذلك أنَّ الحُسَين بن أحمد الأعصم القرمطيَّ بعَثَ إلى ابنِ عَمِّه جعفر المقيم عند أفتكين بدمشقَ: إنِّي سائِرٌ إلى الشام، وبلغ ذلك جوهرًا، فتردَّدَت الرسل بينه وبين أفتكين حتى تقرَّرَ الأمرُ أنَّ جوهرًا يرحل، ولا يتبَعُ عَسكَرَه أحد، فسُرَّ أفتكين بذلك، وبعَثَ إلى جوهرٍ بجِمالٍ ليَحمِلَ عليها ثِقْلَه؛ لقِلَّة الظهر عنده، وبقي من السلاح والخزائنِ ما لم يَقدِرْ جَوهرٌ على حَملِه، فأحرقه، ورحل عن دمشق في ثالث جمادى الأولى. وقَدِمَ البشيرُ مِن الحسن بن أحمد القرمطي إلى عمِّه جعفر بمجيئه، وبلغ ذلك جوهرًا، فجَدَّ في السَّيرَ، وكان قد هلك من عسكرِه ناسٌ كثير من الثَّلجِ، فأسرع بالمسيرِ مِن طبرية، ووافى الحسَنُ بنُ أحمد من البريَّة إلى طبرية، فوجد جوهرًا قد سار عنها، فبعث خلْفَه سريَّةً أدركَتْه، فقابلهم جوهرٌ، وقتل منهم جماعةً، وسار فنزل ظاهِرَ الرملة، وتَبِعَه القرمطي، وقد لَحِقَه أفتكين، فسارا إلى الرملة، ودخل جوهرٌ زيتون الرملة، فتحصَّنَ به، فلما نزل الحسنُ بنُ أحمد القرمطي الرملةَ هلك فيها، وقامَ مِن بعده بأمرِ القرامطةِ ابنُ عَمِّه أبو جعفر، فكانت بينه وبين جوهرٍ حروب كثيرة. ثم إنَّ أفتكين فسَدَ ما بينه وبين أبي جعفرٍ القرمطيِّ، فرجع عنه إلى الأحساءِ، وكان حسَّانُ بنُ علي بن مفرج بن دغفل بن الجراح الطائي أيضًا مع أفتكين على محاربةِ جَوهرٍ، فلم يرَ منه ما يحِبُّ، وراسله العزيزُ فانصرف عن أفتكين، وقَدِمَ القاهرة على العزيز، واشتدَّ الأمر على جوهر، وخاف على رجالِه، فسار يريدُ عسقلان، فتَبِعَه أفتكين. واستولى قَسَّام التراب على دمشقَ وخطَبَ للعزيز، فسار أبو تغلِبَ بنُ حمدان إلى دمشق، فقاتله قسَّام ومنعه، فسارَ إلى طبرية. وأدرك أفتكين جوهرًا، فكانت بينهما وقعةٌ امتدت ثلاثة أيام انهزم في آخرها جوهَرٌ، وأخذ أصحابَه السَّيفُ، فجَلوا عما معهم، والتحَقوا بعسقلان، فظَفِرَ أفتكين من عسكرِ جوهرٍ بما يَعظُمُ قَدرُه، واستغنى به ناسٌ كثيرون. ونزل أفتكين على عسقلانَ، فجَدَّ جوهرٌ حتى بلغ من الضُّرِّ والجَهدِ مَبلغًا عظيما، وغَلَت عنده الأسعارُ، فبلغ قفيزُ القمح أربعين دينارًا، وأخذت كتامة تسُبُّ جوهرًا وتنتَقِصُه، وكانوا قد كايَدوه في قتالهم، فراسل أفتكين يسألُه: ماذا يريدُ بهذا الحصار، فبعث إليه: لا يزولُ هذا الحصارُ إلا بمالٍ تؤدِّيه إليَّ عن أنفُسِكم. فأجابه إلى ذلك، وكان المالُ قد بقي منه شيءٌ يسير، فجمع من كان معه من كتامة، وجمع منهم مالًا، وبعث إليه أفتكين يقول: إذا أمَّنتُكم لابدَّ أن تخرجوا من هذا الحِصنِ مِن تحت السيفِ، وأمَّنَهم وعَلَّقَ السَّيفَ على باب عسقلان، فخرجوا من تحتِه. وسار جوهر إلى مصر، فكان مدَّة قتالهم على الزيتون وقَفلتِهم إلى عسقلان حتى خرجوا منها نحوًا من سبعة عشر شهرًا بقية سنة 366 إلى أن دنا خروجُ سنة 367. وقدم جوهرٌ على العزيز، فأخبره بتخاذُلِ كتامةَ، فغَضِبَ غضبًا شديدًا، وعذر جوهر في باطنه، وأظهر التنكير له، وعزَلَه عن الوزارة، وولَّى يعقوبَ بنَ كلس عوضَه في المحرم سنة 368.
هو الإمامُ الأَوحدُ، البَحرُ، ذو الفُنونِ والمَعارِف، العَلَّامَةُ أبو مُحمدٍ عليُّ بن أحمدَ بن سَعيدِ بن حَزْمِ بن غالبِ بن صالحِ بن خَلَفِ بن معد بن سُفيانَ بن يَزيدَ (مَولى يَزيدَ بن أبي سُفيانَ) الأُمَويُّ الفَقيهُ الحافظُ، المُتَكَلِّمُ، الأَديبُ، الوَزيرُ، الظَّاهريُّ، صاحبُ التَّصانيفِ. أَصلُ جَدِّهِ يَزيدَ من فارس، وهو أَوَّلُ مَن أَسلَم من أَجدادِه، وجَدُّهُ خَلَفٌ أَوَّلُ مَن دَخَلَ بِلادَ المَغرِب من آبائهِ زَمنَ عبدِالرحمن الدَّاخِل، وكانت بَلدُهم قُرطبةَ، ووُلِدَ ابنُ حَزمٍ بها في رمضان، سنة 384هـ، وكان والِدُه من كُبَراءِ أَهلِ قُرطُبة؛ عَمِلَ في الوِزارةِ للدَّولةِ العامِريَّة، فنَشأَ ابنُ حَزمٍ في تَنَعُّمٍ ورَفاهِيَةٍ، ورُزِقَ ذَكاءً مُفرِطًا، وذِهْنًا سَيَّالًا. فقَرأَ القُرآنَ واشتَغَلَ بالعُلومِ النَّافِعَةِ الشَّرعيَّةِ، وبَرَزَ فيها وَفاقَ أَهلَ زَمانِه. كان حافِظًا عالِمًا بعُلومِ الحَديثِ وفِقْهِهِ، مُستَنبِطًا للأَحكامِ من الكِتابِ والسُّنَّةِ بعدَ أن كان شافِعيَّ المَذهبِ، انتَقلَ إلى مَذهبِ أَهلِ الظَّاهرِ، وكان مُتَفَنِّنًا في عُلومٍ جَمَّةٍ، عامِلًا بِعِلمِه، زاهِدًا في الدُّنيا بعدَ الرِّياسَةِ التي كانت له ولأَبيهِ مِن قَبلِه في الوزارةِ وتَدبيرِ المَمالِكِ، مُتواضِعًا ذا فَضائلَ جَمَّةٍ. قال الذَّهبيُّ: "كان قد مَهَرَ أوَّلًا في الأَدبِ والأَخبارِ والشِّعْرِ، وفي المَنطِقِ وأَجزاءِ الفَلسفَةِ، فأَثَّرَت فيه تَأثيرًا لَيْتَهُ سَلِمَ من ذلك، ولقد وَقفتُ له على تَأليفٍ يَحُضُّ فيه على الاعتِناءِ بالمَنطِقِ، ويُقَدِّمُه على العُلومِ، فتَألَّمتُ له، فإنَّه رَأسٌ في عُلومِ الإسلامِ، مُتَبَحِّرٌ في النَّقْلِ، عَديمُ النَّظيرِ على يُبْسٍ فيه، وفَرْطِ ظاهِريَّةٍ في الفُروعِ لا الأُصولِ". وله تَصانيفُ وكُتُبٌ مَشهورةٌ كَثيرةٌ أَهَمُّها ((المُحَلَّى))، و((الفَصلُ في المِلَل والنِّحَل)). ويُقال: إنَّه صَنَّفَ أربعمائةَ مُجَلَّدٍ في قَريبٍ من ثمانين ألف وَرَقَةٍ. وكان أَديبًا طَبيبًا شاعِرًا فَصيحًا، له في الطِبِّ والمَنطِقِ كُتُبٌ، كان مُصاحِبًا للشَيخِ أبي عُمرَ بن عبدِ البَرِّ النمري، ومُناوِئًا للشيخِ أبي الوليدِ سُليمانَ بن خَلفٍ الباجيِّ، وقد جَرَت بينهما مُناظراتٌ كَثيرةٌ، وكان ابنُ حَزمٍ كَثيرَ الوَقيعةِ في العُلماءِ بِلِسانِه وقَلَمِه لا يَكادُ يَسلَمُ أَحَدٌ من لِسانِه من العُلماءِ المُتقَدِّمين والمُتأخِّرين، حتى قيلَ: "كان لِسانُ ابنِ حَزمٍ وسَيفُ الحَجَّاجِ بن يوسفَ شَقِيقَينِ, لكَثرةِ وُقوعِه في الأئمةِ" فنَفَرَت عنه القُلوبُ،، فتَمالَأَ العُلماءُ على بُغضِه ورَدُّوا قَولَه واجمَعوا على تَضليلِه وشَنَّعُوا عليه, وحَذَّروا السَّلاطِينَ من فِتنَتهِ, ونَهوا عَوامَّهُم عن الدُّنُوِّ إليه والأَخذِ منه, فأَورَثَهُ ذلك حِقدًا في قُلوبِ أَهلِ زَمانِه، وما زالوا به حتى بَغَّضوهُ إلى مُلوكِهم، فطَردوهُ عن بلادِه حتى تَشَرَّدَ في الباديةِ ومع ذلك لم يرجِع عن أَقوالِه وأَفعالِه. كان ظاهِريًّا لا يقولُ بشيءٍ من القِياسِ لا الجَلِيِّ ولا غَيرِه، وهذا الذي وَضَعهُ عند العُلماءِ، وأَدخَلَ عليه خَطأً كَبيرًا في نَظَرِه وتَصرُّفِه وكان مع هذا مِن أَشَدِّ الناسِ تَأويلًا في باب الأُصولِ، وآياتِ الصِّفاتِ وأحاديثِ الصِّفاتِ، لأنَّه كان أَوَّلًا قد تَضَلَّع من عِلْمِ المَنطِق، أَخذَهُ عن محمدِ بن الحسنِ المُذحجيِّ الكِناني القُرطُبي، ففَسَدَ بذلك حالُه في بابِ الصِّفاتِ، قال الذَّهبيُّ: "قيلَ: إنَّه تَفَقَّهَ أوَّلًا للشافعيِّ، ثم أَدَّاهُ اجتِهادُه إلى القَوْلِ بنَفْيِ القِياسِ كُلِّهِ جَلِيِّهِ وخَفِيِّهِ، والأَخْذِ بظاهرِ النَّصِّ وعُمومِ الكتابِ والحديثِ، والقَولِ بالبَراءةِ الأصليَّة، واستِصحابِ الحالِ، وصَنَّفَ في ذلك كُتُبًا كَثيرةً، وناظَرَ عليه، وبَسَطَ لِسانَه وقَلَمَه، ولم يَتأَدَّب مع الأئمةِ في الخِطابِ، بل فَجَّجَ العِبارةَ، وسَبَّ وجَدَّعَ، فكان جَزاؤُه من جِنْسِ فِعْلِه، بحيث إنَّه أَعرَض عن تَصانيفِه جَماعةٌ من الأئمةِ، وهَجرُوها، ونَفَروا منها، وأُحرِقَت في وَقتٍ، واعتَنَى بها آخرون من العُلماءِ، وفَتَّشُوها انتِقادًا واستِفادةً، وأَخْذًا ومُؤاخَذةً، ورَأوا فيها الدُّرَّ الثَّمينَ مَمْزوجًا في الرَّصْفِ بالخَرزِ المهينِ، فتارةً يطربون، ومَرَّةً يعجبون، ومِن تَفَرُّدِه يَهزَؤون. وفي الجُملةِ فالكمالُ عَزيزٌ، وكلُّ أَحَدٍ يُؤخذُ من قَولِه ويُتركُ، إلَّا رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم, وكان يَنهضُ بِعُلومٍ جَمَّةٍ، ويُجيدُ النَّقْلِ، ويُحسِن النَّظْمَ والنَثْرَ. وفيه دِينٌ وخَيْرٌ، ومَقاصِدُه جَميلةٌ، ومُصنَّفاتُه مُفيدةٌ، وقد زَهِدَ في الرِّئاسَةِ، ولَزِمَ مَنزِلَه مُكِبًّا على العِلْمِ، فلا نَغلُو فيه، ولا نَجفُو عنه، وقد أَثنَى عليه قَبلَنا الكِبارُ. قال أبو حامد الغزالي: "وجدتُ في أَسماءِ الله تعالى كِتابًا أَلَّفَهُ ابنُ حَزمٍ يَدُلُّ على عِظَمِ حِفظِه وسَيَلانِ ذِهْنِهِ". وقال الإمامُ أبو القاسمِ صاعدُ بن أحمدَ: "كان ابنُ حَزمٍ أَجْمَعَ أَهلِ الأندَلُسِ قاطِبةً لِعُلومِ الإسلامِ، وأَوْسَعَهُم مَعرِفَةً مع تَوَسُّعِهِ في عِلْمِ اللِّسانِ، ووُفورِ حَظِّهِ من البَلاغةِ والشِّعْرِ، والمَعرِفَةِ بالسِّيَرِ والأَخبارِ". قال الحافظُ أبو عبدِ الله محمدُ بن فتوح الحُميدي: "ما رأينا مِثلَه فيما اجتَمَع له من الذَّكاءِ وسُرعَةِ الحِفظِ وكَرَمِ النَّفْسِ والتَّدَيُّنِ، وما رأيتُ مَن يقولُ الشِّعْرَ على البَديهةِ أَسرعَ منه". قال أبو القاسمِ صاعدٌ: "كان أَبوهُ مِن وُزَراءِ المَنصورِ محمدِ بن أبي عامرٍ، ثم وَزَرَ للمُظَفَّرِ، ووَزَرَ أبو محمدٍ للمُسْتَظْهِر عبدِ الرحمن بن هشامٍ، ثم نَبَذَ هذه الطَّريقَة، وأَقبلَ على العُلومِ الشَّرعيَّة، وعَنِيَ بِعِلْمِ المَنطِقِ وبَرَعَ فيه، ثم أَعرَض عنه". قُلتُ (الذهبي): "ما أَعرَض عنه حتى زَرَعَ في باطِنِه أُمورًا وانحِرافًا عن السُّنَّةِ". وقد حَطَّ أبو بكر بن العربي على أبي محمدٍ وعلى الظاهريَّةِ في كِتابِ القَواصِم والعَواصِم، فقال: "هي أُمَّةٌ سَخِيفةٌ، تَسَوَّرَت على مَرتَبةٍ ليست لها، وتَكلَّمَت بكَلامٍ لم تفهَمهُ". قلتُ (الذهبي): "لم يُنصِف القاضي أبو بكرٍ شَيْخَ أَبيهِ في العِلْمِ، ولا تَكلَّم فيه بالقِسْطِ، وبالَغَ في الاستِخفافِ به، وأبو بكرٍ فعَلَى عَظَمَتِه في العِلْمِ لا يَبلُغ رُتْبَةَ أبي محمدٍ، ولا يَكادُ، فرَحِمَهُما الله وغَفَرَ لهُما". ثم قال (الذهبي): "وَلِي أنا مَيْلٌ إلى أبي محمدٍ لِمَحَبَّتِهِ في الحَديثِ الصَّحيحِ، ومَعرِفَتِه به، وإن كنتُ لا أُوافِقُه في كَثيرٍ مما يَقولُه في الرِّجالِ والعِلَلِ، والمَسائِلِ البَشِعَةِ في الأُصولِ والفُروعِ، وأَقطعُ بخَطَئِه في غيرِ ما مَسألةٍ، ولكن لا أُكَفِّرُه، ولا أُضَلِّلُه، وأرجو له العَفْوَ والمُسامَحةَ وللمسلمين. وأَخضَعُ لِفَرْطِ ذَكائِه وسِعَةِ عُلومِه، ورَأيتُه قد ذَكَرَ – أي ابن حزم- قولَ مَن يقول: أَجَلُّ المُصنَّفاتِ (المُوطَّأ). فقال: بل أولى الكُتُبِ بالتَّعظيمِ (صَحيحا) البُخاريِّ ومُسلمٍ" وكانت وَفاتُه شَريدًا في البادِيَةِ بعدَ أن أَقْصَتْهُ المُلوكُ وشَرَّدَتْهُ عن بِلادِه حتى انتهى إلى بادِيَةِ لبلة فتُوفِّي بها آخرَ نهارِ الأحدِ للَيلتينِ بَقِيَتا من شعبان، وقيلَ: إنَّه تُوفِّي في منت ليشم، وهي قَريةٌ له، وقد جاوَزَ التِّسعين.
رحل السلطانُ بيبرس إلى قريبِ عيونِ الأساور من وادي عارة وعرعرة، فلما كان بعد عشاءِ الآخرِ أمر العسكَرَ كُلَّه فلبسوا آلة الحرب، وركِبَ آخِرَ الليل وساق إلى قيسارية، فوافاها بكرةَ نهار الخميس تاسع جمادى الأولى على حين غفلةٍ مِن أهلها، وضرب عليها بعساكِرِه، وللوقت ألقى الناسُ أنفُسَهم في خندقها، وأخذوا سكك الحديدِ التي برسم الخيولِ مع المقاود والشبح، وتعلَّقوا فيها من كل جانبٍ حتى صعدوا، وقد نُصِبَت المجانيق ورمي بها، فحرقوا أبوابَ المدينة واقتحموها، فَفَرَّ أهلها إلى قلعتها، وكانت من أحصَنِ القلاع وأحسَنِها وتعرف بالخضراء، وكان قد حمل عليها الفرنجُ العُمُدَ الصوان، وأتقنوها بتصليبِ العُمُدِ في بنيانها، حتى لا تُعمَلَ فيها النقوبُ ولا تقَعُ إذا علقت، فاستمر الزحف والقتال عليها بالمجانيق والدبابات والزحَّافات ورمي النشَّاب، وخرجت جريدة- خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- من عسكر السلطان إلى بيسان مع الأمير شهاب الدين القيمري، فسَيَّرَ جماعة من التركمان والعربان إلى أبوابِ عكا، فأسروا جماعةً مِن الفرنج، هذا والقتال ملِحٌّ على قلعة قيسارية، والسلطانُ مقيمٌ بأعلى كنيسةٍ تجاه القلعة ليمنَعَ الفرنج من الصعودِ إلى علو القلعةِ، وتارة يركَبُ في بعضِ الدبَّابات ذوات العجل التي تجري حتى يصل إلى السور ليرى النقوبَ بنَفسِه، وأخذ السلطانُ في يده يومًا من الأيامِ تُرسًا وقاتل، فلم يرجِعْ إلَّا وفي ترسِه عِدَّةُ سِهامٍ، فلما كان في ليلةِ الخميس النصف من جمادى الأولى: سلَّم الفرنجُ القلعةَ بما فيها، فتسلق المسلمونَ من الأسوار، وحرقوا الأبواب ودخلوها من أعلاها وأسفَلِها، وأذِّنَ بالصبحِ عليها، وطلع السلطانُ ومعه الأمراء إليها، وقسَّمَ المدينة على الأمراء والمماليك والحلقة، وشرع في الهدمِ ونزل وأخذ بيَدِه قطاعةً وهدَمَ بنَفسِه، فلما قارب الفراغَ مِن هدم قيسارية بعث السلطانُ الأمير سنقر الرومي والأمير سيف الدين المستعرب في جماعة، فهدموا قلعةً كانت للفرنج عند الملوحة قريب دمشق، وكانت عاتية حتى دكُّوها دكًّا، وفي السادس عشر: سار السلطانُ جريدة إلى عثليث، وسير الأمير سنقرًا السلاح دار، والأمير عز الدين الحموي، والأمير سنقرًا الألفي إلى حيفا، فوصلوا إليها، ففر الفرنجُ إلى المراكب وتركوا قلعَتَها، فدخلها الأمراءُ بعد ما قتلوا عِدَّةً من الفرنج وبعد ما أسروا كثيرًا، وخربوا المدينة والقلعة وأحرقوا أبوابها في يومٍ واحد، وعادوا بالأسرى والرؤوس والغنائم سالمين، ووصل السلطانُ إلى عثليث فأمر بتشعيثِها وقطْع أشجارها، فقُطِعَت كلُّها وخربت أبنيتها في يوم واحد، وعاد إلى الدهليز بقيسارية، وكمَّل هَدْمَها حتى لم يدَعْ لها أثرًا، وقدمت منجنيقات من الصبيبة وزرد خاناه من دمشق، وورد عِدَّة من الفرنج للخدمة، فأكرَمَهم السلطان وأقطعهم الإقطاعات، وفي التاسع عشر: رحل السلطان من قيسارية، وسار من غير أن يَعرِفَ أحدٌ قَصْدَه فنزل على أرسوف مستهلَّ جمادى الآخرة، ونقل إليها من الأحطاب ما صارت حولَ المدينة كالجبال الشاهقة وعَمَل منها ستائر، وحفر سربين من خندق المدينة إلى خندق القلعةِ وسَقَفَه بالأخشاب، وعمل السلطان طريقًا من الخندقين إلى القلعة، وردمت الأحطابُ في الخندق، فتحَيَّل الفرنجُ وأحرقوها كلَّها، فأمر السلطان بالحفر من باب السربين إلى البحرِ، وعمل سروبًا تحت الأرض يكون حائطُ خندق العدو ساترًا لها، وعمل في الحائط أبوابًا يرمي التراب منها وينزل في السروب حتى تساوي أرضُها أرض الخندق، وأحضر المهندسين حتى تقَرَّر ذلك، وولي أمرَه للأمير عز الدين أيبك الفخري، فاستمر العمل، والسلطان بنفسِه ملازم العمل بيده في الحفرِ وفي جر المنجنيقات ورمي الترابِ ونَقلِ الأحجار، أسوةً لغيره من الناس، وكان يمشي بمفرده وفي يده ترسٍ، تارة في السَّرَب وتارة في الأبوابِ التي تفتح، وتارة على حافةِ البحر يرامي مراكِبَ الفرنج، وكان يجرُّ في المجانيق، ويطلع فوق الستائر يرمي من فوقها، ورمى في يوم واحد ثلاثمائة سهم بيده، وحضر في يومٍ إلى السرب وقُدَّ في رأسه خلف طاقة يرمي منها، فخرج الفرنج بالرماح وفيها خطاطيف ليجبذوه فقام وقاتلهم يدًا بيد وكان معه الأميرُ سنقر الرومي، والأمير بيسري، والأمير بدر الدين الخازندار، فكان سنقر يناوله الحجارةَ حتى قتل فارسين من الفرنج، ورجعوا على أسوأ حال، وكان يطوفُ بين العساكر في الحصار بمفردِه، ولا يجسِرُ أحد ينظر إليه ولا يشير إليه بإصبُعِه، بل كان الناسُ فيها سواءً في العمل، حتى أثرت المجانيق في هدمِ الأسوار، وفُرِغَ من عمل الأسربة التي بجانبي الخندق، وفتحت فيها أبواب متسعة، فلما تهيأ ذلك وقع الزحفُ على أرسوف في يوم الخميس ثامن رجب، ففتحها الله في ذلك اليوم عندما وقَعَت الباشورة – الباشورة حائط ظاهر الحصن يختفي وراءه الجند عند القتال- فلم يشعر الفرنج إلا بالمسلمين قد تسلقوا وطلعوا القلعة، ورفعت الأعلام الإسلامية على الباشورة، وحَفَّت بها المقاتلة وطُرِحَت النيران في أبوابها، هذا والفرنجُ تقاتل، فدفع السُّلطانُ سنجقه للأميرِ سنقر الرومي وأمَرَه أن يؤمِّنَ الفرنج من القتل، فلما رآه الفرنجُ تركوا القتالَ، وسلَّمَ السنجق للأمير علم الدين سنجر المسروري المعروف بالخياط الحاجب، ودُلِّيَت له الحبال من القلعة فربطها في وسطِه والسنجق معه، ورفع إليها فدخَلَها وأخذ جميعَ سيوف الفرنج وربَطَهم بالحبال وساقهم إلى السلطانِ والأمراء صفوف وهم ألوف، وأباح السلطانُ القلعة للناس، وكان بها من الغِلالِ والذخائر والمال شيءٌ كثير، وكان فيها جملةٌ من الخيول والبغال لم يتعرض السلطان لشيءٍ منه، إلا ما اشتراه ممَّن أخذه بالمال ووجد فيها عِدَّةً من أسرى المسلمين في القيود فأُطلِقوا، وقَيَّد الفرنجَ بقيودهم، وعيَّنَ السلطانُ جماعةً مع الأسرى من الفرنج ليسيروا بهم، وقسَّم أبراج أرسوف على الأمراء، وأمر أن يكون أسرى الفرنجِ يتولون هدم السورِ، فهُدِمَت بأيديهم، وأمرَ السلطان بكشف بلاد قيسارية وعمَل متحَصَّلِها، فعُمِلَت بذلك أوراقٌ، وطَلَبَ قاضي دمشق وعدوله ووكيل بيت المال، وتقدم بأن يملك الأمراءُ المجاهدون من البلاد التي فتحها الله عليه، وكتبت تواقيع كل منهم من غير أن يطَّلعوا على ذلك، فلما فرغت التواقيعُ فُرِّقَت على أربابها، وكتب بذلك مكتوبٌ جامع بالتمليك ورحل السلطانُ من أرسوف بعد استكمال هدمِها في يوم الثلاثاء الثالث عشر شهر رجب إلى غزة وسار منها إلى مصر ودخل السلطان من القاهرة في يوم الخميس حادي عشر شعبان والأسرى بين يديه.
أمرت الجمهوريةُ الفرنسيَّةُ بونابرت بالمسيرِ إلى مصر لفتحِها بغير إعلانِ حربٍ على الدولة العليَّة، وأوصَتْه بكتمانِ الأمر حتى لا تعلَمَ به إنكلترا فتسعى في إحباطِه، وكان القصدُ من الحملة منعَ مرور تجارة الإنجليز من مصرَ إلى الهند, كانت تلك الحملةُ صدًى للثورة الفرنسية المتأثِّرة بأفكارِها الثوريَّة الماسونية اليهودية، ورَفْع شعاراتها (الحرية, العدل, المساواة). فجهَّز جيشًا من 36 ألف مقاتل وعشرة آلاف بحري، وأضاف إلى جيشه 122 عالِمًا على اختلافِ العلوم والمعارف لدراسةِ القُطر المصري والبحث عما يلزم لإصلاحِه واستغلاله, وكان هذا العددُ من العلماء يزيدُ عن أضعاف العدد الذي اعتاد بونابرت أن يصحَبَه في حملاته الأوروبية، وقد تأثَّر فكرُ هؤلاء العلماء في الغالب بالدَّورِ الفرنسي الذي يسعى لإصلاحِ الكنيسة الكاثوليكية، ويعادي حركاتِ الإصلاح البروتستانتية، كما أنَّهم قد تأثَّروا بأفكار روسو وفولتير ومونتسكيو: أبرز مفكِّري الثورة الفرنسية والمعروفين بانتمائِهم للمحافل الماسونية اليهودية، مِن خلال ما رفعوه من شعاراتِ (الحرية، الإخاء، المساواة)، وكانت أهداف الحملةِ خليطًا من أهدافٍ اقتصادية وتوسعيَّة وسياسية ودينية، أو بالأحرى غزو عسكري فكري. في 19 مايو سنة 1798 رحل بونابرت بهذا الجيش بدون أن يُعلِم أحدًا بوجهتِه، فوصل جزيرة مالطة واحتلها بعد أن دافعَ عنها رهبان القديس يوحنا، وفي 17 محرم سنة 1213. وصل بونابرت مدينة الإسكندرية فدخلها عَنوةً، ثم ترك بها القائِدَ كليبر وسار هو للقاهرةِ، فقابله مراد بيك بشرذمة من المماليكِ عند مدينة شبراخيت بالبحيرة في 29 محرم، فهزمه بونابرت وواصل السير حتى وصل إلى مدينة إنبابة مقابل القاهرة، وحصلت بينه وبين إبراهيم بيك ومراد بيك من أمراء المماليك واقعةُ الأهرام الشهيرة في 7 صفر التي أظهر فيها المماليكُ من الشجاعة ما أدهش الفرنسيين، لكنهم تقهقروا أمام المدافِعِ الفرنسية، فدخل بونابرت وجيوشُه مدينة القاهرة، وأصدرت الحملة نداءً إلى الشعبِ بالاستكانة والتعاون، زاعمةً أن نابليون قد اعتنق الإسلامَ وأصبح صديقًا وحاميًا للإسلامِ، وأنَّه لم يأتِ لفتح مصر، بل إنَّه حليفٌ للباب العالي، أتى لتوطيد سُلطتِه ومحاربة المماليك العاصين لأوامِرِ الخليفة العثماني, ووجَّه نابليون بونابرت رسالةً إلى الشعب المصري يحثُّهم فيها على الطاعة وعدمِ المعصية، وأنَّه إنما جاء ليخَلِّصَهم من ظلم المماليك, ثم وجَّه بونابرت فرقةً احتلت مدينة القصير على البحر الأحمر، فصارت مصر في قبضة نابليون، لكِنْ لم يلبث أن وصلَه خبر واقعة أبي قير البحرية التي دمَّرَ فيها نلسن أمير البحر الإنجليزي جميعَ المراكِبِ والسفنِ الحربية الفرنسية, وقطَعَ الإنجليزُ في البحر المتوسط المواصلاتِ بينه وبين فرنسا, ولَمَّا علمت الدولة العلية باحتلال الفرنسيين لمصرَ، أخذت في الاستعدادِ لمحاربتِهم، لا سيما وأنَّها كانت مطمئنةً مِن جهة النمسا وروسيا اللتين كانتا مشتغلتين بمحاربةِ فرنسا خوفًا من امتداد مبادئها الحرَّة إلى بلادهما، ومن جهة أخرى عرض الإنجليزُ على الدولة العثمانية مساعدتَها على إخراج فرنسا من مصرَ، لا رغبةً في حفظ أملاكِ الدولة بل خوفًا على طريق الهند من أن يكونَ في قبضة دولة قوية كفرنسا, فقَبِلت الدولة العلية مساعدتَها، وكذلك عَرَضت عليها روسيا إمدادَها بمراكبها الحربية. أعلنت الدولةُ العثمانية الحربَ رسميًّا على فرنسا في 21 ربيع الأول سنة 1213هـ / 2 سبتمبر 1798م واجتمعت الجيوشُ بمدينة دمشق وجزيرة رودس لإرسالها إلى مصرَ, وفي 22 أغسطس غادر نابليون بونابرت قائدُ الحملة الفرنسية الإسكندريةَ قاصدًا فرنسا خفيةً مع بعض قوَّادِه حتى لا يضبِطَه الإنجليز بعد أن بلَغَه خبر تغلُّب النمسا على فرنسا ووقوع الفوضى في داخل فرنسا، فأراد بونابرت الرجوعَ إليها لاستمالةِ الخواطر إليه وتأليفِ حِزبٍ يعضِّدُه في الوصولِ إلى غرضِه، وهو أن يعيَّن رئيسًا للجمهورية الفرنسية, فغادر مصرَ تاركا القائد كليبر وكيلًا عنه، ويقال: إنه أذِنَ له بإخلاءِ مصر لو رأى تغلُّب القوى الخارجية عليه؛ لعدم إمكان مساعدته بالمال أو الرجالِ نظرًا لوجود السفن الإنجليزية في البحر الأبيض طولًا وعرضًا. بقي الجيشُ الفرنسي بمصر بدون مراكِبَ تحميه من الإنجليز والعثمانيين؛ ولذلك اتَّفَق كليبر مع الباب العالي والأميرال سدني سميث على أن تنسَحِبَ العساكر الفرنسية بسلاحِها ومدافعِها وترجع فرنسا على مراكب إنجليزية، لكن الإنجليز لم يقبلوا بهذا الاتفاقِ إلَّا إذا ألقى الفرنسيون سلاحَهم بين أيادي الإنجليز، فاغتاظ كليبر لذلك وسار لمحاربةِ الجيش التركي الذي أتى إلى مصرَ تحت قيادة الوزير يوسف باشا لتسلُّمِها من الفرنسيين، فتقابل الجيشان عند المطرية في 23 شوال 1214هـ وبعد قتالٍ عنيفٍ انتصر كليبر وعاد إلى القاهرة فوجدها في قبضةِ إبراهيم بيك أحد الأمراء المصريين، وكان دخلها حالَ اشتغال الفرنسيين بالحرب، فأطلق كليبر القنابِلَ على القاهرة وخرب منها جزءًا عظيمًا، واستمَرَّت الحرب في شوارعها نحو عشرة أيام، وبعد ذلك ساد الأمنُ بالقاهرة, وفي 21 محرم سنة 1215هـ / 14 يونيه سنة 1800م قَتَل شخصٌ اسمه سليمان الحلبي القائِدَ كليبر, وبعد كليبر عُيِّن مكانه الجنرال مينو، وكان قد أظهر أنه اعتنق الدين الاسلاميَّ وتسمى عبد الله مينو. لَمَّا علم الإنجليز والعثمانيون بموت كليبر وخروج بونابرت من مصر، أنزلوا بأبي قير 30 ألف مقاتل, وتمكَّنوا من هزيمة القائد الفرنسي مينو الذي عاد إلى الإسكندرية وتحصَّن بها, ثم سار الإنجليز والأتراك إلى القاهرة، وحصروا من بَقِيَ فيها من الفرنسيين حتى أخلوا القاهرة في 28 صفر سنة 1216هـ, وخرجو منها بجميع أسلحتهم ومدافعهم. أما القائدُ مينو فبقي محصورًا في الإسكندرية ولم يقبَلْ بالتسليم إلا في 22 ربيع الآخر سنة 1216هـ / 1 سبتمبر سنة 1801م فخرج منها إلى بلادِه على مراكب الإنجليز، وبذلك انتهت الحملة الفرنسية، ورجعت البلاد إلى حُكمِ الدولة العثمانية بعد أن وطئَ هامتَها الأجنبيُّ, وارتكب الفرنسيُّون فيها فظائع شنيعة، فكم من القُرى أُحرِقَت، وكم من الدُّورِ والأموال قد سُرِقت، وكم من أعراضِ النساء الحرائر انتُهِكت, وكم من الأُسَرِ قد شُرِّدت على يد فرنسا زعيمةِ الحرية والإخاءِ والمساواةِ والإنسانية؟!
ثورةُ رشيد عالي الكيلاني هي سلسلةُ الأحداث الدستورية التي تصاعدت بسببِ تضارُبِ مدارس الحُكم الملكي في العراق وتياراتِه ما بين التيارِ الوطني الثوري التحرري، والتيار الليبرالي الميَّال لممالأة الإنجليز، في وقت كان العراقُ يمثِّل زعامةً ومدرسةً سياسيةً يُعتَدُّ بها في المنطقة العربية، فلما تفاقمت الأمورُ في الحكومة العراقية وتأزَّمت بسبب موقِفِ العراق من الحرب العالمية الثانية وموقِفِها من الدول المتحارِبة، وكذلك بسبب رفض إنجلترا تسليحَ العراق، شعرت إنجلترا بما يُساوِرُ نفوس العراقيين وما يختَلِجُها من الاستياء من سياستها في العراق، وكرههم للحكومة العراقية الموالية للمحتَلِّ ودورانها في فلَكِها، فأرادت بريطانيا أن تُخفِّفَ من وطأة هذه الكراهية عليها وعلى أعوانها، ورأت أن تُسلِّمَ الحُكمَ للمعارضة، وقد برز بين رجال المعارَضة رشيد عالي الكيلاني -المعروف بوطنيته وعدم ارتياحه للإنجليز- وأن تعمَلَ ما في وُسعِها ليدورَ في فلَكِها، وربما يحدِثُ هذا فيما إذا قرَّبه أعوانُها، وأظهرت رضاها عن ذلك، ولَمَّا لم تستطع تنفيذَ خططها بجَلبِه إلى دائرة سياستها أبرزت كيفيةَ تسلُّم الكيلاني الحكم، وأنه قد تمَّ عن ترشيح أصدقائها. وتبعًا لهذا فقد رشَّحه نوري السعيد والوصي معًا لتسلُّم السلطة، غير أن رشيد الكيلاني لم يعتَمِدْ على هذا الترشيح، وإنما كان يرتكِزُ على قاعدة قوية؛ فالشعبُ يَدعَمُه، والجيش يُؤيِّدُه، وإضافةً إلى هذا فقد أخذ تعهدًا من رجال السياسة سواء الذين يناوِئونه؛ أمثال نوري السعيد، وتوفيق السويدي، وعلي جودت الأيوبي، وجميل المدفعي، أم الذين يؤيدونَه؛ أمثال ناجي شوكت، وناجي السويدي. ورُفِعَ هذا التعهُّد إلى الوصي فأيَّده، وبذا كانت الأرضُ التي يقف عليها رشيد عالي الكيلاني صلبةً، وخاب فألُ إنجلترا من كل النواحي؛ فمن ناحية ابتهج الشعب به، وضَمِنَ سلامة الخط، فأبدى الكيلاني مُعارضتَه للسياسة البريطانية، وأخذ يُصرِّح بذلك، ومن ناحية ثانية لم تستطع إنجلترا جرَّ رشيد عالي الكيلاني إلى سياستها، بل أبدى قوَّةً في الشخصية، وأظهر استقلاليَّتَه؛ حيث رفض قطْعَ العلاقة مع إيطاليا التي أعلنت الحربَ ضِدَّ إنجلترا وفرنسا، وهذا ما أغضب إنجلترا أشَدَّ الغضب؛ إذ أحسَّت أن العراقَ ليست تحت نفوذها، ولا تسيرُ برأيها، غيرَ أنَّه من الجانب الآخر قد ألهب هذا التصرُّفُ الشعبَ في العراق حماسةً لموقِفِ حكومته، وهذا ما زاده مُعارضةً للسياسة الإنجليزية. وانهارت فرنسا أمام الألمان، فطار الشعبُ فرحًا ليس حبًّا بالألمان، ولكن كرهًا لفرنسا ولسياستها الاستعمارية، وفي الواقع فقد زادت الدعايةُ لدول المحور في العراق رغبةً في هزيمة الحلفاء، ولم تُقصِّر المفوضية الإيطالية بذلك، وحتى توقعت إنجلترا أن تستأنِفَ العراق عَلاقتها مع ألمانيا، وهذا ما خَشِيَته أشدَّ الخشية، واستشاطت إنجلترا غضبًا وأخذت تعمل للتخلُّص من حكومة رشيد عالي الكيلاني، وكان لها ما أرادت؛ إذ أوعزت إنجلترا لأعوانها بالانسحاب من الوزارة، فكان عليها أن تستقيلَ وتُفسِحَ المجالَ لحكومة جديدة وأرادت إنجلترا أن تخرُجَ من المأزق الذي وقَعَت فيه بتسليم رشيد الكيلاني الحكم، وأرادت أن تخرجَ من المأزق بهدوءٍ ولا تعطي السلطةَ لأحدِ أعوانها؛ فقد يؤدى إلى مظاهرات وربما تندلع ثورة، وبمجرد أن طلب الوصيُّ من الكيلاني أن يقَدِّمَ استقالة حكومته حتى اهتَزَّ الوضع وتحرَّك الجيشُ وقامت مظاهراتٌ تطالب بتحقيق رأي الكيلاني بحَلِّ المجلس النيابي، وإجراء انتخابات جديدة، وتشَكَّلت وزارة طه الهاشمي، وهو قريب من المعارضة، وفي الخامس من ربيع الأول 1360هـ اجتمع في معسكر الرشيد رشيد علي الكيلاني: رئيس الحكومة، واللواء أمين زكي: رئيس الأركان، وبعض الضباط، وأعلنوا الاستنفارَ بالمعسكر وقرَّروا القيام بانقلابٍ إذا رفضت حكومةُ طه الهاشمي الاستقالةَ، وهي الحكومة التي ترضى عنها بريطانيا ويؤيِّدُها الوصيُّ على الملك عبد الإله بن علي، ثمَّ طلبوا منه التفاهُمَ مع الكيلاني لتشكيل وزارة جديدة، فأبى ثم أُجبِرَ على الاستقالة، ولما أُعلِمَ الوصي بذلك هرب متسللًا ودعا طه أعضاء وزارته للاجتماع به، وكان الجيش قد دخل المدينةَ وسيطر على المداخل الرئيسة وحاصر قصر الوصي الذي هرب منه، ثم في صباح 6 من ربيع الأول ذهب رشيد الكيلاني إلى دار طه لإقناعه بالانضمام لحركتِهم فوجدوا الوزارةَ ما زالت مجتَمِعةً، فجرى نقاشٌ حادٌّ ثم اجتمع الرأي على إبقاء الوزارة في الحكمِ، وألا يتدخَّل الجيش في السياسة، ويتعهد المدنيون والعسكريون على السواء بأن يقبَلوا بما يتم الاتفاق عليه، ويُطلَب من الوصي العودة للعاصمة، الذي كان قد انتقل إلى البصرة، ثم عاد رشيد الكيلاني والضباط فسَحَبوا الثقة من حكومة طه، وقرَّر الجيش تحمُّل المسؤولية في هذه المرحلة الحَرِجة, وقام رشيد باستدعاء المستشار الإنجليزي بوزارة الداخلية، وأعلمه أن حكومة طه الهاشمي استقالت والوصي غائب، وبذلك فالجيش هو مصدرُ السلطة، وقد أوكل الجيشُ لرشيد الأمرَ وهرب الوصي ومن معه إلى فلسطين، وتمَّ عَزلُ الوصي عبد الإله، وتعيين وصي جديد هو الشريف شرف الذي قَبِلَ استقالة حكومة طه الهاشمي، وسُرَّ الشعب بحركة رشيد عالي الكيلاني، وأما إنجلترا فقد عَدَّت هذا عملًا غير مشروع فقررت التخلُّصَ من حركته بالقوة، فطلبت من الهند إرسالَ قوات فنزلت رغم أنف الحكومة الجديدة، وحاصر الجيشُ العراقي قاعدةَ الحبانية الجوية، وفي 5 ربيع ثاني وزَّعت السفارة البريطانية منشورًا تتهم فيه الكيلاني وقادةَ الجيش أنهم باعوا أنفسهم للألمان والطليان، وأنها خوَّلت سفيرها اتخاذ ما يراه مناسِبًا، وفي الغد صباح 6 ربيع الثاني بدأ الهجومُ الجوي الإنجليزي وضَرْب المواقع العراقية وقصَفَت معسكر الرشيد، وأعلن المفتي الفلسطيني الجهادَ، وجاءت قواتٌ ألمانية تُعِين العراقيين بحكم عدائها لبريطانيا ضِمنَ الحرب العالمية الثانية إلَّا أنَّ قَصْفَها ليس جادًّا بالنسبة لَمَّا عُرٍف عن السلاح الجوي الألماني، ثم تدخَّلت قوات برية إنجليزية من الأردن، فقام رشيد الكيلاني بتشكيلِ لجنة الأمن الداخلي واتصل بالسياسيين لوقف القتال، وفي 6 جمادى الأولى رحل رشيد الكيلاني ومفتي فلسطين وغيرهم إلى طهران، وفي 7 جمادى الأولى وافق أمينُ العاصمة أرشد العمري على شروطِ هدنة قاسية على العراقيين؛ لأنَّهم لم يعودوا قادرين على مقاومة الإنجليز، فلم يكن لهم خيارٌ غير القبول بالهدنة، وعاد الوصي عبد الإله ونوري السعيد ومن معهما من أعوان الإنجليز إلى بغداد على متن طائرة بريطانية، وبهذا انتهت حركةُ رشيد عالي الكيلاني التي تعلَّقَت بها آمال العراقيين في التخَلُّص من الاستعمار البريطاني بمساعدة أعداء بريطانيا المتمَثِّل في الألمان والطليان.
في هذه السنة عمَّ البلاء وعظُمَ العزاء بجنكيزخان المسمى بتموجين وقيل (تمرجين) لعنه الله تعالى، ومن معه من التتر قبَّحهم الله أجمعين، واستفحل أمرُهم واشتد إفسادُهم من أقصى بلاد الصين إلى أن وصلوا بلاد العراق وما حولها حتى انتهوا إلى إربل وأعمالها، فمَلَكوا في سنة واحدة وهي هذه السنة سائر الممالك المشرق، وقهروا جميع الطوائفِ التي بتلك النواحي الخوارزمية والقفجاق والكرج واللان والخزر وغيرهم، وقتلوا في هذه السنة من طوائف المسلمين وغيرهم في بلدان متعددة ما لا يحَدُّ ولا يُوصَفُ، وبالجملة فلم يدخُلوا بلدًا إلا قتلوا جميعَ من فيه من المقاتلة والرجال، وكثيرًا من النساء والأطفال، وأتلفوا ما فيه بالنَّهبِ إن احتاجوا إليه، وبالحريق إن لم يحتاجوا إليه، حتى إنهم كانوا يجمعون الحريرَ الكثير الذي يعجزون عن حمله فيطلقون فيه النار وهم ينظرون إليه، ويخربون المنازل، وما عَجَزوا عن تخريبه يحرقونه، وأكثر ما يحرقون المساجد والجوامع، وكانوا يأخذون الأسارى من المسلمين فيقاتِلون بهم ويحاصِرون بهم، وإن لم ينصحوا في القتال قَتَلوهم. وقد بسط ابن الأثير في كامله خبرهم في هذه السنة بسطًا حسنًا مفصلًا، فقال: "لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلًا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهونُ عليه ذكرُ ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيًا منسيًّا، إلا أنني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيتُ أنَّ تَرْك ذلك لا يجدي نفعًا، فنقول: هذا فصلٌ يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الليالي والأيام عن مثلِها، عمت الخلائقَ وخَصَّت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالمَ منذ خلق الله آدمَ وإلى الآن، لم يُبتَلوا بمثلها لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا يدانيها، ومن أعظم ما يذكرون من الحوادثِ ما فعل بختنصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب بيت المقدس، وما بيتُ المقدس بالنسبة إلى ما خرَّب هؤلاء الملاعين من البلاد؟ ولعلَّ الخلائق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقَرِضَ العالم، وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجَّال فإنه يبقي على من اتَّبَعه، ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يُبقُوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشَقُّوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنَّة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح، فإنَّ قومًا خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاساغون، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند وبخارى وغيرهما، فيملكونها، ويفعلون بأهلها الأفاعيل، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكًا، وتخريبًا وقتلًا ونهبًا، ثم يجاوزونَها إلى الري وهمذان وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق، ثم يقصِدون بلاد أذربيجان وأرانية ويخربونه، ويقتلون أكثَرَ أهلها ولم ينجُ منهم إلا الشريد النادر في أقل من سنة، هذا ما لم يسمع بمثله، ثم ساروا إلى دربند شروان فملكوا مدنَه، ولم يسلَمْ غير قلعته التي بها مُلكُهم، وعبَروا عندها إلى بلد اللان، واللكز ومن في ذلك الصقع من الأمم المختلفة، فأوسعوهم قتلًا ونهبًا وتخريبًا، ثم قصدوا بلاد قفجاق، وهم من أكثر الترك عددًا، فقتلوا كل من وقف لهم وهرب الباقون إلى الغياض وملكوا عليهم بلادهم، وسارت طائفة أخرى إلى غزنة وأعمالها، وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان، ففعلوا فيها مثل أفعال هؤلاء وأشد، هذا ما لم يطرق الأسماعَ مثلُه، فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملِكْها في سنة واحدة، إنما ملَكَها في نحو عشر سنين، ولم يقتل أحدًا، بل رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأطيبه وأحسنه عمارة، وأكثره أهلًا وأعدلهم أخلاقًا وسيرة في نحو سنة، ولم يتَّفِق لأحد من أهل البلاد التي لم يطرقوها بقاء إلا وهو خائف مترقِّب وصولهم إليه. ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم، فإنهم معهم الأغنام، والبقر، والخيل، وغير ذلك من الدواب، يأكلون لحومَها لا غير، وأما دوابهم التي يركبونها فإنها تحفِرُ الأرض بحوافرها، وتأكل عروقَ النبات لا تعرفُ الشعير، فهم إذا نزلوا منزلًا لا يحتاجون إلى شيءٍ مِن خارجه. وأمَّا ديانتهم، فإنهم يسجدون للشمسِ عند طلوعها، ولا يحرمون شيئًا، فإنهم يأكلون جميعَ الدواب، حتى الكلاب، والخنازير، وغيرها، ولا يعرفون نكاحًا بل المرأة يأتيها غيرُ واحد من الرجال، فإذا جاء الولدُ لا يَعرِف أباه. وإنما استقام لهم هذا الأمرُ لعدم المانع؛ لأن السلطان خوارزم شاه محمدًا كان قد قتل الملوك من سائر الممالك، واستقَرَّ في الأمور، فلما انهزم من التتر في العام الماضي وضَعُف عنهم وساقوا وراءه فهرب فلا يدرى أين ذهب، وهلك في بعض جزائر البحر، خلت البلادُ ولم يبق لها من يحميها؛ {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 44] وإلى الله تُرجَع الأمور."
لَمَّا خُلِعَ السلطانُ الناصِرُ تحصَّن بالكركِ، فرَسَم السلطانُ الصَّالِحُ إسماعيلُ بإحضار المجرَّدين إلى الكرك وعيَّنَ عِوَضَهم تجريدةً أخرى إلى الكرك، وهي التجريدةُ السابعة، فيها الأميرُ بيبرس الأحمدي، والأمير كوكاي، وعشرون أمير طبلخاناه، وستة عشر أمير عشرة، وكتب بخروج عسكرٍ أيضًا من دمشق ومعهم المنجنيق والزحَّافات، وأرسل أيضًا مع الأحمدي أربعةَ آلاف دينار لِمن عساه ينزِلُ إليه من قلعة الكركِ طائعًا، وجهَّزَ معه تشاريفَ كثيرةً، وعُيِّنَت لهم الإقاماتُ، وكان الوقتُ شِتاءً، فقاسَوا من الأمطار مشقاتٍ كثيرة، وأقاموا نحو شهرين، فاستعَدَّ لهم المَلِكُ الناصر، وجمع الرجالَ وأنفق فيهم مالًا كثيرًا، وفَرَّق فيهم الأسلحةَ المُرصَدة بقلعة الكرك، ورَكِبَ المنجنيق الذي بها، ووقَعَ بينهم القتالُ والحصارُ، واشتَدَّ الحصارُ على المَلِك الناصر بالكرك، وضاقت عليه هو ومن معه لقِلَّة القوت، وتخلَّى عنه أهل الكرك، وضَجِروا من طولِ الحصار، ووعَدوا الأمراءَ بالمساعدة عليه، فحُمِلَت إليهم الخِلَع ومبلغَ ثمانين ألف درهم، هذا وقد استهَلَّ السلطان في أول سنة 745 بتجريدةٍ ثامنة إلى الكرك، وعيَّنَ فيها الأمير منكلي بغا الفخري والأميرَ قماري والأمير طشتمر طلليه؛ ولم يجِد السلطانُ في بيت المال ما ينفِقُه عليهم، فأخذ مالًا من تجارِ العَجَم ومن بنت الأمير بكتمر الساقي على سبيل القَرضِ، وأنفق فيهم، وخرج المجرَّدون في يوم الثلاثاء حادي عشر المحرم سنة 745، وهؤلاء نجدة لمن توجَّه قبلهم خوفًا أن يمَلَّ مَن كان توجَّه من القتال، فيجِدَ النَّاصِرُ فرجًا بعَودِهم عنه، وقُطِعَت الميرة عن الملك الناصر، ونَفِدَت أموالُه من كثرة نفقاته، فوقع الطَّمَعُ فيه، وأخَذَ بالغ- وكان أجَلَّ ثقات الناصر- في العمل عليه، وكاتَبَ الأمراء ووعدهم بأنه يُسَلِّمَ إليهم الكرك، وسأل الأمانَ، فكُتِب إليه من السلطانِ أمانٌ، وقَدِمَ إلى القاهرة ومعه مسعودٌ وابن أبي الليث، وهما أعيانُ مشايخ الكرك، فأكرمهم السلطان وأنعم عليهم، وكتب لهم مناشيرَ بجميع ما طلبوه من الإقطاعاتِ والأراضي، وكان من جملة ما طلبه بالِغ وحده نحو أربعمائة وخمسين ألف درهم في السنة، وكذلك أصحابُه، ثم أعيدوا إلى الكركِ بعدما حلفوا، ثم ركب العسكر للحرب، وخرج الكركيون فلم يكن غيرُ ساعة حتى انهزموا منهم إلى داخِلِ المدينة، فدخل العسكر أفواجًا واستوطنوها، وجَدُّوا في قتال أهل القلعةِ عِدَّة أيام، والناسُ تَنزِلُ إليهم منها شيئًا بعد شيءٍ حتى لم يبقَ عند الملك الناصر أحمد بقلعةِ الكرك سوى عشرة أنفُس، فأقام يرمي بهم على العسكر وهو يجِدُّ في القتال ويرمي بنفسِه، وكان قويَّ الرميِ شُجاعًا، إلى أن جُرِحَ في ثلاثة مواضع، وتمكَّنَت النقابة من البرج وعَلَّقوه وأضرموا النار تحته، حتى وقع، وكان الأميرُ سنجر الجاولي قد بالغ أشَدَّ مبالغة في الحصار، وبذل فيه مالًا كثيرًا، ثم هجم العسكرُ على القلعة في يوم الاثنين الثاني والعشرين من صفر سنة 745 فوجدوا الناصِرَ قد خرج من موضِعٍ وعليه زردية، وقد تنكَّب قَوسَه وشَهَر سَيفَه، فوقفوا وسَلَّموا عليه، فردَّ عليهم وهو متجَهِّم، وفي وجهِه جرحٌ وكَتِفُه أيضًا يسيلُ دمًا، فتقَدَّم إليه الأمير أرقطاي والأمير قماري في آخرين، وأخذوه ومَضَوا به إلى دهليز الموضِعِ الذي كان به وأجلَسوه، وطَيَّبوا قلبه وهو ساكِتٌ لا يجيبهم، فقَيَّدوه ووكَلوا به جماعة، ورتَّبوا له طعامًا، فأقام يومَه وليلته، ومن باكِرِ الغد يُقَدَّمُ إليه الطعام فلا يتناوَلُ منه شيئًا إلى أن سألوه أن يأكُلَ، فأبى أن يأكُلَ حتى يأتوه بشابٍّ يقال له عثمان، كان يهواه، فأتوَه به فأكل عند ذلك، وخرج الأميرُ ابن بيبغا حارس طير بالبشارةِ إلى السلطانِ الملك الصالح، وعلى يَدِه كتب الأمراء، فقَدِمَ قلعة الجبل في يوم السبت ثامن عشرين صفر، فدُقَّت البشائِرُ سبعة أيام، وأخرج السلطانُ منجك اليوسفي الناصريَّ السلاح دار ليلًا من القاهرة لقَتلِ الملك الناصر أحمد من غير مشاورةِ الأمراء في ذلك، فوصل إلى الكرك وأُدخِلَ على الملك الناصر وأخرَجَ الشابَّ مِن عنده، ثم خنَقَه في ليلة رابع شهر ربيع الأول، وقَطَع رأسه، وسار من ليلته ولم يَعلَمِ الأمراءُ ولا العسكَرُ بشيء من ذلك، حتى أصبحوا وقد قطع منجك مسافة بعيدةً، وقدم منجك بعد ثلاثةِ أيام قلعة الجبل ليلًا، وقَدَّم الرأسَ بين يدي السلطان- وكان ضخمًا مهولًا له شعر طويل- فاقشعَرَّ السلطان عند رؤيته وبات مرجوفًا، وطلب الأمير قبلاي الحاجب، ورسم له أن يتوجَّهَ لحفظ الكرك إلى أن يأتيَه نائبٌ لها، وكتب السلطانُ بعود الأمراء والعساكر المجردين إلى الكرك، فكانت مُدَّةُ حصار الملك الناصر بالكرك سنتين وشَهرًا وثلاثةَ أيام.
حاول الحلفاءُ إبقاءَ الدولة العثمانية على الحياد بإغرائِها بالقروض المالية، وإلغاء الامتيازات الأجنبية التي كانت قائمةً والتي كانت سببًا في كثير من المشكلات الداخلية، والسماح للبحَّارة الألمان بالعودة إلى ألمانيا، غيرَ أنَّ حكومة الاتحاد والترقي رفضت هذا كلَّه، وألغت الامتيازاتِ الأجنبيةَ بنفسها، وقدَّمت مذكِّرةً للحلفاء تطلب منهم إلغاء الامتيازات الأجنبية، وخروج إنجلترا من مصر، وإعادة الجُزُر في بحر إيجة للدولة العثمانية، ومنع روسيا من التدخُّل في الشؤون الداخلية للدولة العثمانية.
حاول الحلفاء التأخرَ في رد الجواب، وانقطعت العلاقاتُ. وكانت ألمانيا قد تقدَّمت في الأراضي الفرنسية، ولكنها توقَّفت عند نهر المارن أحد روافد نهر السين الذي يمرُّ من العاصمة باريس، فرأى الألمان يومذاك أن يضغطوا على الدولة العثمانية كي تشتركَ في الحرب إلى جانِبِهم، فعرضوا على الاتحاديين قرضًا ماليًّا بمبلغ خمسة ملايين ليرة ذهبية عثمانية مقابِلَ دخولهم إلى جانبهم، فأمر وزيرُ الحربية أنور باشا الأسطولَ العثماني بالتحَرُّك إلى البحر الأسود وضَرْب مرافئ روسيا على البحر الأسود، فلم يوافِقْ وزير البحرية جمال باشا، وكاد الخلافُ يقع بينهما إلا أن جمال عاد وامتثل لرأي أنور، وخاصةً أن القرض الألماني كان من أهم المغريات له. أعلنت الدولةُ العثمانية دخولَها الحربَ وانضمامَها إلى دول المحور ضِدَّ الحلفاء.كانت السيطرةُ على مقاليد الحكم في الدولة بيد الاتحاديين منذ عزل السلطان عبد الحميد الثاني؛ لذلك كان السلطان العثماني محمد الخامس رشاد ضِدَّ الحرب، ولكِنْ ليس له من الأمر شيءٌ، وأُجبر السلطانُ على قبول الأمر، وأعلن الجهاد الإسلامي ضد دول الحلفاء، لكن هذا الإعلان لم يجد صدًى عند المسلمين لعِلمِهم أنَّ الألمان نصارى مثل أعدائِهم من الحُلُفاء، فكُلُّهم كفَّار، فلم الخوض وإراقةُ دماء المسلمين في خصومةٍ بين الكُفَّار!! واشتعلت نارُ الحرب بين الحلفاء والدولة العثمانية على عِدَّةِ جبهات وقد جمعت الدولة بعد التعبئة نصف مليون جندي تحت السلاح وربع مليون تحت التدريب، والاحتفاظ بمائتي ألف جندي حول العاصمة والدردنيل، وأُرسل إلى فلسطين أربعون ألفًا وأكثر من مئة ألف على شكل قطعات موزعة في سوريا والقوقاز، وهاجم العثمانيون الروسَ مِن ناحية القوقاز لتخفيفِ الضغط عن الألمان غيرَ أنهم فَشِلوا وتراجعوا إلى أرضورم، أما على الجبهة المصرية فأرادت الدولةُ قطع قناة السويس عن إنجلترا، ولكِنْ تأخَّر مسيرُهم إليها بسبب فرار كثيرٍ مِن الجيش الشامي، فاضطر أن يستبدل به آخر من الأناضول؛ ولصعوبة إيصال المدافع إلى سيناء، ولإبقاء قطعات على سواحل الشام للخَوفِ من النصارى الكاثوليك التابعين لفرنسا، وأكثرهم في بيروت، ومن النصارى الأرثوذكس التابعين للروس، وهم متوزِّعون في بلاد الشام، ثم وصلت القوات العثمانية إلى القناة التي كان يحميها الهنودُ، ونَفِدَت الذخيرة العثمانية ولم تستطِعْ فعل شيء، فرجعت لقواعدها في غزة ومعان، وبعد شهرين جرت محاولةٌ أخرى للهجوم، وقاد الألمان العملياتِ ولكِنَّهم فشلوا أيضًا وأُعيدت الكَرَّة بعد ثلاثة أشهر وأيضًا فَشِلت، وأما على صعيد اليمن فكان الهدفُ هو قطع الطريق على الإنجليز إلى الهند ولم تنجح أيضًا، وعلى جبهة الدردنيل فقد كانت محصنةً من البر والبحر، وكانت قواتُ الحلفاء قريبةً من المضيق وقامت القوات العثمانية بالهجومِ عليها، لكنهم فشلوا أيضًا، وأما الإنجليز الذين استطاعوا جرَّ العرب لهم فتحركوا وهاجموا العثمانيين في سيناء وجبل الدروز وبعلبك، وتراجع الجيش العثماني وأصيب بالمجاعة أيضًا، وتقدَّم الإنجليز في فلسطين بقيادة الجنرال اللنبي ودخلوا القدس وأعلن يومها اللنبي صليبيته، فقال: الآن انتهت الحروب الصليبية، ثم قام الإنجليز بالهجوم على نابلس فتراجع الألمان والعثمانيون، ووصل الفيلق العربي بقيادة فيصل بن الحسين بمساعده لورانس الإنجليزي ودخلوا معان ودمشق، فأصبحت بلاد الشام في قبضة فيصل والإنجليز، وأما المعارك على مضيق الدردنيل فكانت متوازيةً، فلم ترجح كفَّة أيٍّ من المعسكرين على الآخر مع بدء ظهور مصطفى كمال ولمعان نجمه في هذه المعارك، ومع انسحاب العثمانيين من الشام والعراق بدأ الضعفُ يظهر عليهم وعلى حلفائهم الألمان إلى أن التقى المسؤولون العثمانيون مع الإنجليز على ظهر الباخرة الإنجليزية أغامنون، ووُضِعَت شروط هدنة مودروس، وأعلنت الدولة استسلامَها، فكان الاتحاديون في أثناء حكمهم القصير قد أضاعوا كلَّ أجزاء الدولة في أوربا؛ حيث استقلت بلغاريا، واحتَلَّت النمسا البوسنةَ والهرسك، وأخذ اليونانيون جزيرةَ كريت، واحتلت إيطاليا بعض جزر البحر المتوسط، وهكذا ضَعُفت الدولة العثمانية، وأصبحت على شفا الهاوية، وازداد ضعفها على ما كانت عليه.
كُتِبَ بتَجريدِ عَسكَرِ دمشق وطرابلس وحماة وحلب، ونواب الثغور وتركمان الطاعة وأكرادها، إلى جهة التركمان العصاة بالبلاد السيسية، كالصارم بن رمضان نائب أدنه وبني أوزر، وابن برناص من طائفة الأجقية؛ لمقاتلتهم على تعديهم طريقَهم، وقطْعِهم الطرقات، ونهْبِهم حُجَّاج الروم، ولاتفاقهم مع الأمير علاء الدين علي بك بن قرمان صاحب لارندة على اقتلاع بلاد سيس، فتأهَّبت العساكِرُ لذلك ووافت حلب، فتقَدَّمها الأميرُ يلبغا الناصري نائب حلب، وركب من حَلَب في ثاني ذي القعدة يريد العُمقَ، وكتب إلى بني أوزر وبقية التركمان العصاة، ينذرهم ويحذرهم التخَلُّفَ عن الحضور إلى الطاعة، ويخَوِّفهم بأس العساكر، وإنَّهم إن أذعنوا وأطاعوا كانوا آمنينَ على أنفُسِهم وأموالِهم، ومن تخَلَّف كان غنيمةً للعساكرِ، وسار حتى نزل تحتَ عُقبة بغِراسٍ، فعرض العساكِرَ، وتَرَك الثِّقلَ وتوجَّه مُخِفًّا، وجاوز عقبةَ بغراس، وترك بها نائبي عينتاب وبغراس بخيَّالتهما ورجالهما؛ حِفظًا للدربند إلى أن تصل العساكِرُ الشاميَّة، ثم ركب في الثلث الأول من ليلة الأحد الخامس عشر وسار مجِدًّا، فوصل المصيصة عصرَ نهار الأحد فوجد الأميرين قد ملكا الجسرَ بعد أنْ هدم التركمانُ بَعضَه، وقطعوا منه جانبًا لا يمنع الاجتيازَ، وتوقَّدَت بينهم نارُ الحرب، وعَدت العساكر نهر جاهان إلى جانِبِ بلاد سيس، واقتَفَوا آثار من كان بالمصيصة من التركمان، فأدركوا بعض البيوت فانتهبوها، فتعلق الرِّجالُ بشعف الجبال، ثم حضرت قصاد التركمان على اختلاف طوائفِهم يسألون الأمان، فأجاب الأميرُ يلبغا الناصري سؤالَهم، وكتب لهم أمانًا، ولما أحس الصارمُ بن رمضان بالعساكر، ترك أذنة وفَرَّ إلى الجبال التي لا تُسلَك، ووصلت الأطلابُ والثقل إلى المصيصة في السابع عشر، فقَدِمَ من الغد الثامن عشر قاصد الأمير طَشبغا العزي نائب سيس بخبر وصول ابن رمضان إلى أطراف البلاد السيسية، وأنه ركب في أثَرِه ومعه طائفةٌ من التركمان القرمانيين، فأدركوا بيوتَه فانتهبوها، وأمسكوا أولادَه وحريمه ونجا بنفسه، ولَحِقَ بالتركمان البياضية مستجيرًا بهم، فأجمعت الآراءُ على التوجه بالعساكر إلى جهتهم وإمساكِه، فقَدِمَ الخبر من نائب سيس في آخر النهار بأنه استمَرَّ في طلب ابن رمضان إلى أن أدركه وأمسَكَه، وأمسك معه أخاه قرا محمد وأولاده وأمه وجماعته وعاد إلى سيس، فسُرَّت العساكر بذلك سرورًا زائدًا، ورحلت في التاسع عشر تريد سيس، وأحاطت بطائفةٍ من التراكمين اليراكية، فانتهبت كثيرًا من خيل ومتاع وأثاث، ثم أمنوهم بسؤالهم ذلك وتفَرَّقت جموع التركمان بالجبال، ومرت العساكر إلى جهة سيس، وأُحضِرَ ابنُ رمضان وأخوه قرا محمد ومن أُمسِك معهما، فوُسِّطوا، وعاد العسكرُ يريد المصيصة، وركبَ الأمير يلبغا الناصري بعسكرِ حلب وسَلَبِهم جَبلًا يُسَمَّى صاروجا شام، وهو مكانٌ ضَيِّقٌ حَرَجٌ وَعْرٌ به جبالٌ شوامخ وأودية عِظام، مُغَلَّقة بالأشجار والمياه والأوحال، وبه دربندات خطرة، لا يكادُ الراجل يسلُكُه، فكيف بالفارِسِ وفَرَسِه الموفرين حملًا باللَّبوس؟! وإذا هم بطائفةٍ مِن التركمان اليراكية، فجرى بينهم القتال الشديد، فقُتِلَ بين الفريقين جماعةٌ، وفُقِدَ الأمير يلبغا الناصري وجماعة من أمراء حلب، وإذا بهم قد تاهوا في تلك الأودية، ثم تراجع الناسُ وقد فُقِدَ منهم طائفة، ووصل الخبر بأن التركمان قد أحاطوا بدربند باب الملك، فالتجؤوا إلى مدينة إياس، ثم قَدِمَ يلبغا الناصري إلى إياس بعد انقطاع خبره، فتباشروا بقدومِه، وأقاموا عليها أيامًا ثم رحلوا، فلقيهم التركمان في جمع كبير، فكانت بينهم وقعةٌ لم يمُرَّ لهم مثلُها، قُتِلَ فيها خلق كثير، وانجَلَت عن كسرة التركمان بعد ما أبلى فيها الناصريُّ بلاء عظيمًا، وارتحل العسكرُ يوم عيد الأضحى إلى جهة بإياس، فما ضُرِبَت خيامهم بها حتى أحاط بهم التركمان وأنفذوا فرقةً منهم إلى باب الملك، فوقَفوا على دربندة ومنعوا عنهم الميرة، فعَزَّت الأقوات عند العسكر، وجاعت الخيولُ، وكَثُرَ الخوف وأشرفوا على الهلاك، إلَّا أن الله تداركهم بخَفِيِّ لُطفِه؛ فقَدِمَ عليهم الخبر بوصول الأمير سودن المظفري حاجِبِ الحجَّاب بحلب في عِدَّة من الأمراء، وقد استخدم من أهل حَلَبٍ ألفَ راجلٍ من شبان بانقوسا، ودفعوا لكل واحد منهم مائة درهم، وخرج العُلَماء والصلحاء وغالِبُ الناس، وقد بلغهم ما نزل بالعسكر، ونودي بالنفيرِ العام، فتَبِعَهم كثير من الرجَّالة والخيَّالة والأكراد ببلد القصير والجبل الأقرع وغيره من أعمال حلب، فقام بمؤنتهم الحاجِبُ ومن معه من الأمراء، وهجموا على باب الملك، فمَلَكوه وقتلوا طائفةً ممن كان به من التركمان، وهزموا بقيَّتَهم، ففرح العسكرُ بذلك فرحًا كبيرًا، وساروا إلى باب الملك حتى جاوزوا دربنده ونزلوا بغراس، ثم رحلوا إلى أنطاكية وقدموا حلب، فكانت سفرةً شديدةَ المشقةِ؛ بُلُوا فيها من كثرةِ تتابع الأمطار الغزيرة، وتوالي هبوب الرياح العاصفة، وكثرة الخوف، ومقاساة آلام الجوع- ما لا يمكِنُ وَصفُه.
بعد أن خرج الظاهِرُ برقوق السلطانُ المخلوعُ مِن سجن الكرك واجتمَعَ له أهلُ الكرك ونصروه، وما زال أمرُه في ظهور حتى العُربان اجتمعت عليه، وأخلاطُ أهل مدينة الكرك، فخرج من الكرك يريد الشَّامَ فأقام بالثنية خارج الكرك يومين، ورحل في الثامِنِ والعشرين من شوال، وسار بهم يريد دمشقَ، وبها الأمير جَنتمُر أخو طاز، متولِّي نيابتها وقد وصل إليه الأمير ألطنبغا الحلبي الدوادار من مصر نائبًا على حلب بحُكم عصيان كمشبغا الحموي، فاستعَدَّا لقتال الظاهر، وتوجَّه إليهما الأميرُ حسام الدين حسين بن باكيش نائب غزة بعساكرها وعشيرها، وأقبل الظاهِرُ بمن معه، فخرجوا إليه وقاتلوه بشقحب قريبًا من دمشق قتالًا شديدًا، كسَروه فيه غيرَ مرة، وهو يعودُ إليهم ويقاتِلُهم، إلى أن كسرهم وانهزموا منه إلى دمشق، وقَتَل منهم ما ينيفُ على الألف، فيهم خمسةَ عشر أميرًا، وقُتِلَ من أصحابه نحو الستين، ومن أمرائِه سَبعةٌ، وركب أقفيةَ المنهزمين، فامتنع جَنتمر بالقلعة، وتوجَّه بالقلعة وتوجَّهَ من أمراء دمشق ستة وثلاثون أميرًا، ومعهم نحو الثلاثمائة وخمسين فارسًا، قد أُثخِنوا بالجراحات، وأخَذوا نائِبَ صفد، وقَصَدوا ديار مصر، فلم يمضِ غيرُ يوم واحد حتى وصل ابنُ باكيش بجمائعه، فقاتله الظاهِرُ وهَزَمَه، وأخذ جميعَ ما كان معه، فقَوِيَ به قوة كبيرة، وأتاه عِدَّةٌ من مماليكه، ومن أمراء الشام، فصار في عسكرٍ كبير، وأقبل إليه الأميرُ جبرائيل حاجِبُ الحجاب بدمشق، وأمير علي بن أسندمر الزيني، وجَقمَق، ومقبل الرومي، طائعين له، فصاروا في جملته، ونزل السلطان برقوق على قبة يلبغا ظاهر دمشق، وقد امتنع أهلُها بها، وبالغوا في تحصينِها، فحصرها وأحرق القبيبات وخربها، وأهلك في الحريق خلقًا كثيرًا، وجَدَّ أهل المدينة في قتالِه، وأفحشوا في سَبِّه، وهو لا يفتُرُ عن قتالهم، فأمَدَّه الأمير كمشبغا من حلب بثمانين فارسًا من المماليك الظاهريَّة، فأخرج إليهم الأمير جَنتمر خمسمائة فارس من دمشق، ليَحُولوا بينهم وبين الظاهر، فقاتلوهم فكسَرَهم الظاهرية، واستولوا على جميعِ ما معهم، وأتَوا إلى الظاهر فأقبل الأمير نعير بعُربانه يريدُ محاربته، فحاربه وكَسَرَه فانهزم عنه، وتقوى ممَّا صار إليه في هذه الوقائع، واستمَرَّ الظاهرُ برقوق على حصار دمشق وقتال أهلها، فورد الخبَرُ بذلك إلى منطاش في خامس عشر ذي القعدة، فتقَدَّم في السابع عشر منه إلى الصاحب موفق الدين أبي الفرج بتجهيز المَلِك المنصور حاجي للسَّفَر، فلم يجِدْ في الخزائن ما يجَهِّزُه به، فأخذ أموال اليتامى التي في الخزائِنِ وأخذ كذلك من اليهود والنصارى أموالًا، واستصدر فتوى بحلِّ قَتلِ الظَّاهِرِ برقوق بسَبَبِ ما قام به من خَلعِ الخليفة والسلطان السابق وغيرها من الأمور، ثمَّ جُهِّزَت العساكر من مصر للسير لقتال الظاهر برقوق، ففي ثاني محرم من سنة 792 وصل السلطانُ الملك المنصور إلى مدينة غزَّةَ بعساكرِ مِصرَ، وبلغ ذلك المَلِكَ الظاهر فترك قتالَ أهل دمشق، وأقبل نحوَهم، فنزل العسكَرُ المصري على قرية المليحة، وهي تبعد عن شقحب بنحو بريدٍ، وأقاموا بها يومَهم، وبعثوا كشافَتَهم، فوجدوا الظاهِرَ برقوق على شقحب، فكان اللقاءُ يوم الأحد الرابع عشر، وقد وافاهم الظاهِرُ برقوق، فوقف الأمير منطاش في الميمنةِ وحمل على ميسرة الظاهر، فحمل أصحابُ ميمنة الظاهر على ميسرة المنصور، وبذل كلٌّ من الفريقين جُهدَه، وكانت حروبًا شديدة، انهزمت فيها ميمنةُ الظاهر وميسرتُه، وتَبِعَهم منطاش بمن معه، وثبت الظاهرُ في القلب، وقد انقطع عنه خبَرُ أصحابه، وأيقَنَ بالهلاك، ثم حمل على المنصورِ بمن بقي معه، فأخذ المنصورَ والخليفةَ المتوكِّلَ والقُضاة والخزائِنَ، ومالت الطائفةُ التي ثبتت معه على الأثقال، فأخَذَتْها عن آخرها، وكانت شيئًا يخرُجُ عن الحَدِّ في الكثرة، ووقع الأميرُ قجماس ابن عم الظاهر في قبضةِ منطاش، ومَرَّ في أثر المنهزمين حتى وصل إلى دمشق، وأما الظاهر وأصحابه، فإن الأمير كمشبغا نائب حلب كان ممن انهزم على شَقْحب، فتَمَّ في الهزيمة إلى حلب، وتَبِعَه الأمير حسام الدين حسن الكجكني نائب الكرك، ومن بَقِي من عساكر حلب، فاستولى عليها، وانهزم أهلُ الكرك إليها، فلم يَصِلوا حتى مرَّت بهم شدائد، ولم يتأخَّرْ مع الظاهر إلا نحو الثلاثين، وقد تمَزَّقت عساكره وعساكِرُ مصر، فلم يقصِدْ إلا المنصور، فأخذه بمن معه فصار السلطانُ حاجي والخليفةُ المتوكل في قبضة الظاهر، ثم في يوم الاثنين أقبل منطاش في عالمٍ كبير من عوام دمشقَ وعساكرها ومن كان معه، فدارت بينه وبين الظاهِرِ في هذا اليوم منذ شروق الشمسِ إلى آخره حروبٌ لم يُعهَدْ بمصر والشام في هذه الأعصُرِ مِثلُها، وبعث الله ريحًا ومطرًا في وجهِ منطاش ومن معه، فكانت من أكبَرِ أسبابِ خِذلانه، ولم تغرُب الشمس حتى فَنِيَ من الفريقين خلقٌ كثير من الفرسان والعامة، وانهزم منطاش إلى دمشق، وعاد الظاهِرُ إلى منزلته فأقام بها سبعة أيام، وعَزَّت عنده الأقواتُ، وفي أثناء إقامته أمر الظاهر فجَمَع كُلَّ من معه من الأعيان، وأشهد على المنصور حاجي أنَّه خلع نفسه، وحَكم بذلك القضاة، ثم بويع الظاهِرُ، وأثبت القضاةُ بَيعَتَه، فولَّى الظَّاهِرُ الأميرَ فخر الدين إياس الجرجاوي نيابة صفد، والأمير سيف الدين قديد القَمطاي الكرك، والأمير علاء الدين أقبغا الصغير غزة، ورحل الظاهِرُ فأتاه عند رحيله منطاش بعَسكرِ الشام، ووقف على بُعدٍ فاستعد الظاهر إلى لقائه، فولى عنه وعاد إلى دمشق، وسار الملك الظاهِرُ ومن معه يريدُ ديار مصر، وبعث إلى غزة يأمرُ منصور الحاجب بالقبضِ على حسام الدين حسن بن باكيش، فقُبِض عليه واستولى على غزة، وبعث بابن باكيش إلى السلطان الظاهر برقوق فضربه بالمقارع وهو بالرملة، وسار الظاهر إلى غزة فضربه بها ضربًا مبَرِّحًا يوم دخلها مستهَلَّ صفر، ثم في بكرة نهار يوم الثلاثاء رابع عشر صفر نزل الملك الظاهر بالريدانية خارج القاهرة، فخرج إلى لقائِه الأشرفُ مع السيد علي نقيب الأشراف، وخرجت طوائِفُ الفقراء بصناجِقِها، وخرجت العساكِرُ بلبوسِها الحربية، وكانت العساكِرُ منذ خرج بطا وأصحابه لابسةً السلاح ليلًا ونهارًا، وخرجت اليهودُ بالتوراة، والنصارى بالإنجيل، ومعهم شموعٌ كثيرةٌ مُشعَلة، وخرج من عامةِ الناس رجالُهم ونساؤهم ما لا يحصيه إلا الله، وعندهم من الفَرَحِ والسرور شيءٌ زائد، وهم يضجُّون بالدعاء للسلطان، حتى لَقُوه وأحاطوا به، وقد فُرِشَت الشُّقَق الحريرُ من الترب إلى باب السلسة، فلما وصل إليها تنحى بفَرَسِه عنها، وقَدَّمَ المَلِكَ المنصور حاجي بن الأشرف حتى مشى بفَرَسِه عليها، ومشى بجانِبِه، فصار كأنَّ الموكِبَ للمنصور، فوقع هذا من الناسِ مَوقعًا عظيمًا، ورفعوا أصواتَهم بالدعاء والابتهال له؛ لتواضعه مع المنصور في حال غَلَبتِه وقَهْرِه له، وأنَّه معه أسيرٌ! وعُدَّ هذا من فضائله، واستَدعى الخليفةَ وشيخَ الإسلام وقضاة القضاة وأهل الدولة، وهو بالإسطبل، وجدد عقد السلطنة وتجديد التفويض الخليفتية، فشهد بذلك القضاةُ على الخليفة ثانيًا، وأُفيضَت التشاريف الخليفتيَّة على السلطان، ثم أُفيضَت التشاريف السلطانية على الخليفة، وركب السلطانُ مِن الإسطبل وصَعِدَ القلعة، وتسَلَّمَ قُصوره، وقد عاد إليها حَرَمُه وجواريه، فحقت البشائرُ.
لَمَّا كان في مستهَلِّ شَهرِ ربيع الآخر نزل السلطانُ من قلعة الجبل وعَدَّى إلى بر الجيزة ليتوجه إلى الصيدِ بالبحيرة، بعد أن ألزم الأمراءَ أن يجعلوا- في الشواني التي نجز عملها برسم الغُزاة- العِدَد والسلاحَ والرجالَ على هيئة القِتالِ؛ لِيَنظُرَ السلطان والنَّاس، ثم سار السلطان والأتابك يلبغا بالعساكِرِ مِن بر الجيزة يريدون البحيرةَ حتى نزلوا في ليلة الأربعاء سادسَ شهر ربيع الآخر بالطرانة وباتوا بها، وكانت مماليكُ يلبغا قد نَفِرَت قلوبُهم منه؛ لكثرةِ ظُلمِه وعَسفِه وتنوُّعِه في العذاب لهم على أدنى جُرمٍ، فاتفق جماعةٌ من مماليك يلبغا تلك الليلة على قَتْلِه من غير أن يُعلِموا المَلِكَ الأشرفَ هذا بشَيءٍ مِن ذلك، وركبوا عليه نِصفَ الليل، ورؤوسُهم من الأمراء: آقبغا الأحمدي الجلب، وأسندمر الناصري، وقجماس الطازي، وتغري برمش العلائي، وآقبغا جاركس أمير سلاح، وقرابغا الصرغتمشي، في جماعةٍ مِن أعيان اليلبغاوية، ولَبِسوا آلة الحرب وكبَسوا في الليل على يلبغا بخيمتِه بغتةً وأرادوا قتله، فأحسَّ بهم قبل وصولِهم إليه، فركِبَ فَرَس النوبةِ بخواصِّه من مماليكه، وهرب تحت الليل، وعَدَّى النيل إلى القاهرة، ومنع سائرَ المراكب أن يعدُّوا بأحد، واجتمع عنده من الأمراء طيبغا حاجِبُ الحجَّاب، وأيبك البدري أمير آخور، وجماعة الأمراء المقيمين بالقاهرة، وأمَّا مماليك يلبغا فإنَّهم لَمَّا عَلِموا بأن أستاذهم نجا بنَفسِه وهرب، اشتدَّ تخَوُّفُهم من أنَّه إذا ظَفِرَ بهم بعد ذلك لا يُبقي منهم أحدًا، فاجتمع الجميعُ بمن انضاف إليهم من الأمراءِ وغيرِهم وجاؤوا إلى المَلِك الأشرَفِ شعبان وهو بمُخَيَّمِه أيضًا بمَنزِلِه بالطرانة وكَلَّموه في مُوافَقَتِهم على قتالِ يلبغا فامتنع قليلًا ثم أجاب لِما في نفسه من الحزازةِ مِن حَجْرِ يلبغا عليه، وعدم تصَرُّفه في المملكة، وركِبَ السلطان بمماليك يلبغا وخاصكيَّته، فأخذوه وعادوا به إلى جهة القاهرة، وقد اجتمع عليه خلائِقُ من مماليك يلبغا وعساكر مصر، وساروا حتى وصلوا إلى ساحِلِ النيل ببولاق التكروري تجاه بولاق والجزيرة الوسطى، فأقام المَلِكُ الأشرف ببولاق التكروري يوم الأربعاء ويوم الخميس ويوم الجمعة، فلم يجدوا مراكِبَ يعدون فيها، وأما يلبغا فإنَّه لما علم أن الملك الأشرف طاوع مماليكَه وقَرَّبهم، أنزل من قلعة الجبل آنوك ابنَ الملك الأمجد حسين أخي الملك الأشرف شعبان وسَلْطَنَه ولَقَّبَه بالملك المنصور، وذلك بمُخَيَّمِه بجزيرة أروى المعروفة بالجزيرة الوسطانيَّة تجاه بولاق التكروري، حيث الملك الأشرف نازلٌ بمماليك يلبغا بالبر الشرقي والأشرف بالبر الغربي، فسَمَّتْه العوامُ سُلطان الجزيرة، ثمَّ في يوم الجمعة حضر عند الأتابك يلبغا الأمير طغيتمر النظامي والأمير أرغون ططر، فإنهما كانا يتصَيَّدان بالعباسة وانضافا بمن معهما إلى يلبغا فقَوِيَ أمره بهما، وعَدَّى إليه أيضًا جماعة من عند الملك الأشرف، وهم: الأمير قرابغا البدري، والأمير يعقوب شاه، والأمير بيبغا العلائي الدوادار، والأمير خليل بن قوصون، وجماعة من مماليك يلبغا الذين أمَّرَهم مثل: آقبغا الجوهري، وكمشبغا الحموي، ويلبغا شقير، في آخرين، واستمَرَّ الأتابك يلبغا وآنوك بجزيرة الوسطى، والملك الأشرف ومماليك يلبغا ببولاق التكروري، إلى أن حضر إلى الأشرفِ شَخصٌ يُعرَفُ بمحمد ابن بنت لبطة رئيس شواني السلطان، وجَهَّز للسلطانِ مِن الغربان التي عَمَّرَها برسم الغزاة نحو ثلاثينَ غُرابًا برجالها وكَسَر بروقها، وجعلها مثل الفلاةِ لأجلِ التَّعدية، فنزل فيها جماعةٌ مِن الأمراء ومن مماليك يلبغا ليعَدُّوا فيها إلى الجزيرة، فرمى عليهم يلبغا بمكاحِلِ النفط، وصار هؤلاء يرمون على يلبغا بالسهام فيردونَهم على أعقابِهم، وأخذ يلبغا ومن معه يرمون أيضًا النِّفطَ والنشاب، والأشرفيَّة لا يلتفتون إلى ذلك، بل يزيدونَ في سب يلبغا ولَعْنه وقتاله، وأقاموا على ذلك إلى عَصرِ يوم السبت، وقد قَوِيَ أمر الملك الأشرف وضَعُفَ أمر يلبغا، ثم اتفق رأيُ عساكر الملك الأشرف على تعدية المَلِك الأشرف من الورَّاق، فعدى وقتَ العَصرِ من الوراق إلى جزيرة الفيل وتتابعَتْه عساكره، فلما صاروا الجميعُ في بر القاهرة، وبلغ ذلك يلبغا، هرب الأمراءُ الذين كانوا مع يلبغا بأجمعهم وجاؤوا إلى الملك الأشرف وقَبَّلوا الأرض بين يديه، فلمَّا رأى يلبغا ذلك رجع إلى جهة القاهرة، ووقف بسوقِ الخيل من تحت قلعة الجبل، ولم يبقَ معه غير طيبغا حاجِبِ الحجَّاب الذي كان أولًا أستاداره، فوقف يلبغا ساعةً ورأى أمْرَه في إدبار، فنزل عن فَرَسِه بسوق الخيل تجاه باب الميدان، وصلَّى العصر، وحلَّ سَيْفَه وأعطاه للأميرِ طيبغا الحاجب، ثم نزل وقصَدَ بَيتَه بالكبش فرجمته العوامُّ مِن رأس سويقة منعم إلى أن وصل حيثُ اتجه، وسار الملك الأشرف شعبان بعساكره، حتى طلع إلى قلعةِ الجَبَلِ في آخر نهار السبت، وأرسل جماعةً منِ الأمراء إلى يلبغا، فأخذوه من بيتِه ومعه طيبغا الحاجِبُ، وطلعوا به إلى القلعةِ بعد المغرب، فسُجِنَ بها إلى بعدِ عشاء الآخرة، فلما أُذِّنَ للعشاء جاء جماعةٌ من مماليك يلبغا مع بعض الأمراء، وأخذوا يلبغا من سجنه وأنزلوه من القلعةِ، فلما صار بحدرة القلعة أحضروا له فَرَسًا ليركَبَه، فلما أراد الركوب ضَرَبه مملوكٌ مِن مماليكه يسمَّى قراتمر فأرمى رأسَه، ثم نزلوا عليه بالسيوفِ حتى هَبَروه تهبيرًا، وأخذوا رأسَه وجعلوها في مِشعَلِ النار إلى أن انقَطَع الدم، فلما رآه بعضُهم أنكره وقال: أخفيتُموه، وهذه رأسُ غَيرِه فرفعوه من المِشعَل، ومَسَحوه ليُعَرِّفوه أنَّه رأس يلبغا بسلعةٍ كانت خلفَ أذنه، فعند ذلك تحقَّقَ كُلُّ أحد بقتله، وأخذوا جثَّتَه فغَيَّبوها بين العروستين، فجاء الأميرُ طشتمر الدوادار فأخذ الرأسَ منهم في الليل، واستقصى على الجثَّةِ حتى أخذها، وحَطَّ الرأس على الجثة، وغَسَّلها وكفَّنَها وصلى عليه في الليل، ودفنه بتربتِه التي أنشأها بالصحراء بالقربِ مِن تربة خوند طغاى أم آنوك زوجة الناصر محمد بن قلاوون.